مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٦

لكنه أيضاً لا وجه له ، كما لا يخفي [١].

( مسألة ١٨ ) : لا فرق ـ في كون الدين مانعاً من وجوب الحج ـ بين أن يكون سابقاً على حصول المال بقدر الاستطاعة أولا [٢] ، كما إذا استطاع للحج ، ثمَّ عرض عليه دين ، بأن أتلف مال الغير ـ مثلاً ـ على وجه الضمان من دون تعمد [٣] ، قبل خروج الرفقة ، أو بعده قبل أن يخرج هو ، أو بعد خروجه قبل الشروع في الأعمال. فحاله حال تلف المال من دون دين ، فإنه يكشف عن عدم كونه مستطيعاً.

( مسألة ١٩ ) : إذا كان عليه خمس أو زكاة ، وكان عنده مقدار ما يكفيه للحج لولاهما ، فحالهما حال الدين مع المطالبة ، لأن المستحقين لهما مطالبون ، فيجب صرفه فيهما ولا يكون مستطيعاً. وإن كان الحج مستقراً عليه سابقاً تجي‌ء الوجوه المذكورة ، من التخيير ، أو تقديم حق الناس ، أو تقدم الأسبق. هذا إذا كان الخمس أو الزكاة في ذمته ، وأما‌

______________________________________________________

الناس. وكذا الحال في وفاء الدين إذا توقف على ذلك.

[١] كما عرفت سابقاً : من أن التقدم الزماني لا يوجب الترجيح في مقام الامتثال.

[٢] فان المعتبر في الوجوب الاستطاعة حدوثاً وبقاءً ، وكما أن الدين السابق مانع عن الاستطاعة حدوثاً. كذلك الدين اللاحق ، فإنه مانع عنها بقاء ، فيوجب نفي التكليف على كل حال.

[٣] أما مع التعمد فلا يسقط الوجوب ، لتحقق الاستطاعة ، وسيأتي الكلام فيه.

١٠١

إذا كانا في عين ماله فلا إشكال في تقديمهما على الحج ، سواء كان مستقراً عليه أولا [١]. كما أنهما يقدمان على ديون الناس أيضاً [٢]. ولو حصلت الاستطاعة والدين والخمس والزكاة معاً فكما لو سبق الدين [٣].

( مسألة ٢٠ ) : إذا كان عليه دين مؤجل بأجل طويل جداً كما بعد خمسين سنة ـ فالظاهر عدم منعه عن الاستطاعة [٤] وكذا إذا كان الديان مسامحاً في أصله ، كما في مهور نساء أهل الهند ، فإنهم يجعلون المهر ما لا يقدر الزوج على أدائه ـ كمائة ألف روبية ، أو خمسين ألف ـ لإظهار الجلالة ، وليسوا مقيدين بالإعطاء والأخذ ، فمثل ذلك لا يمنع من الاستطاعة ووجوب‌

______________________________________________________

[١] لأن التعلق بالعين مانع عن التصرف فيها على خلاف مقتضى الحق ، وكما لا يسوغ التصرف في العين المعصوبة لا يجوز التصرف في موضوع الحق. ووجوب الحج مهما كان له أهمية في نظر الشارع فلا يستوجب الولاية على مال الغير. نعم إذا كان الحج مستقراً في ذمته تقع المزاحمة بين وجوبه وحرمة التصرف في مال الغير ، والظاهر أنه لا إشكال عندهم في تقديم الحرمة على الوجوب في مثله. هذا إذا كان الحج مستقراً في ذمة المكلف ، أما إذا لم يكن كذلك فالحرمة رافعة للاستطاعة ، فيرتفع الوجوب.

[٢] لعين ما ذكر ، فان وجوب وفاء الدين لا يشرع التصرف في مال الغير.

[٣] فإنهما يرفعان الاستطاعة ويمنعان عنها كما لو سبقا بمناط واحد. ولأجل ذلك لا يحسن التعبير بحصول الاستطاعة والدين ، ولكن المراد معلوم.

[٤] لعدم الاعتداد به عند العرف.

١٠٢

الحج. وكالدين ممن بناؤه على الإبراء ، إذا لم يتمكن المديون من الأداء ، أو واعده بالإبراء ، بعد ذلك [١].

( مسألة ٢١ ) : إذا شك في مقدار ماله وأنه وصل الى حد الاستطاعة أو لا ، هل يجب عليه الفحص أو لا؟ وجهان ، أحوطهما ذلك [٢] ، وكذا إذا علم مقداره وشك في مقدار مصرف الحج ، وأنه يكفيه أولا.

______________________________________________________

[١] هذا يناسب مبنى المصنف (ره) في المسألة ، من أن الوثوق بالتمكن من الوفاء كاف في تحقق الاستطاعة. وعليه لا بد أن يكون الوعد بالإبراء بنحو يوجب الوثوق بالوفاء بالوعد. لكن عرفت إشكال المبني ، وأن هذا المقدار لا يوجب صدق السعة واليسر. نعم إذا كان الوثوق بلغ حداً يوجب عدم الاعتداد بالدين ، فلا يبعد حينئذ تحقق اليسر والسعة.

[٢] من المعلوم أن الشبهة في المقام موضوعية ، وقد اشتهر عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية كلية ، لإطلاق أدلة الأصول الشرعية كاستصحاب العدم ، وأصالة الحل ، ونحوهما مما يقتضي نفي التكليف. وكذا البراءة العقلية ، بناء على عمومها للشك في التكليف إذا كان بتقصير المكلف بأن يكون المراد من عدم البيان ـ المأخوذ موضوعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ ما هو أعم مما كان بترك الفحص وطلب البيان ، كما هو الظاهر. نعم بناء على أن المراد منه عدم البيان لا من قبل المكلف لم تجر القاعدة إذا كان عدم البيان لعدم الفحص. لكن في الأصول الشرعية كفاية في اقتضاء عدم وجوب الفحص في المقام ونحوه ، كباب الشك في تحقق النصاب في الزكاة ، والشك في تحقق الربح في الخمس.

لكن ذهب جماعة إلى وجوب الفحص في الأبواب المذكورة ، بل الظاهر أنه المشهور مع الشك في تحقق النصاب. ولعله هناك في محله لرواية‌

١٠٣

( مسألة ٢٢ ) : لو كان بيده مقدار نفقة الذهاب والإياب ، وكان له مال غائب لو كان باقياً يكفيه في رواج أمره بعد العود ، لكن لا يعلم بقائه أو عدم بقائه ، فالظاهر وجوب الحج بهذا الذي بيده ، استصحاباً لبقاء الغائب [١]. فهو كما لو شك في أن أمواله الحاضرة تبقى إلى ما بعد العود أولا فلا يعد من الأصل المثبت [٢].

______________________________________________________

زيد الصائغ ، المتضمنة لوجوب تصفية الدراهم المغشوشة مع الشك في مقدارها‌ (١). وموردها وإن كان صورة الشك في قدر الواجب مع العلم بوجود النصاب ، لكن يمكن استفادة الحكم منها في غيرها من الصور. لكن التعدي عن الزكاة إلى الخمس ـ فضلا عن المقام ـ غير ظاهر.

وقد يستدل عليه : بأنه لو لا الفحص لزمت المخالفة القطعية الكثيرة ، التي يعلم من الشارع المقدس كراهتها ، المستلزم لوجوب الاحتياط. وفيه : أن لزوم المخالفة الكثيرة غير بعيد ، لكن كونها مكروهة على وجه تقتضي كراهتها وجوب الاحتياط غير ظاهر ، بل هو مصادرة.

[١] هذا من الاستصحاب الجاري لإثبات البقاء في الزمان المستقبل ، وقد تعرضنا له في كتاب الحيض في مسألة : ما لو شك في بقاء الدم ثلاثة أيام وذكرنا هناك : أن ظاهر بعض أن من المسلمات عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين الأزمنة السابقة والمستقبلة. نعم يشكل الاستصحاب المذكور باعتبار أن المال الغائب لو بقي على عينه لم يجد في تحقق الاستطاعة فلا بد من إحراز حضوره بعد رجوعه ، وحضور المال المذكور خلاف الأصل ، فلا بد أن يكون المعيار الوثوق بالحضور بعد الرجوع. فلاحظ.

[٢] إذا الأصل المثبت ما لم يكن مجراه حكماً شرعياً ، ولا موضوعاً‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٧ من أبواب زكاة الذهب والفضة حديث : ١.

١٠٤

( مسألة ٢٣ ) : إذا حصل عنده مقدار ما يكفيه للحج ، يجوز له ـ قبل أن يتمكن من المسير ـ أن يتصرف فيه بما يخرجه عن الاستطاعة ، وأما بعد التمكن منه فلا يجوز ، وإن كان قبل خروج الرفقة [١]. ولو تصرف بما يخرجه عنها بقيت‌

______________________________________________________

لحكم شرعي. وفي المقام مجرى الأصل المذكور موضوع للحكم الشرعي ، وهو وجوب الحج ، لأنه على من كان له مال بعد الحج ، فاذا ثبت بالاستصحاب أن له مالاً بعد الحج ، ترتب الحكم عليه.

[١] المذكور في كلام الجماعة : أن المدار في المنع حضور وقت السفر قال في المنتهى : « لو كان له مال فباعه قبل وقت الحج مؤجلاً إلى بعد فواته سقط الحج ، لأنه غير مستطيع. وهذه حيلة يتصور ثبوتها في إسقاط فرض الحج على الموسر. وكذا لو كان له مال فوهبه قبل الوقت أو أنفقه ، فلما جاء وقت الخروج كان فقيراً لم يجب عليه ، وجرى مجرى من أتلف ماله قبل حلول الحول .. ». وفي التذكرة : « لو كان له مال فباعه نسية ، عند قرب وقت الخروج ، إلى أجل متأخر عنه سقط الفور في تلك السنة عنه ، لأن المال إنما يعتبر وقت خروج الناس. وقد يتوسل المحتال بهذا إلى دفع الحج .. ». وفي الدروس : « ولا ينفع الفرار بهبة المال أو إتلافه ، أو بيعه مؤجلاً إذا كان عند سير الوفد .. ». وفي مجمع البرهان ـ في شرح قول ماتنه : « ولا يجوز صرف المال في النكاح وإن شق » ـ : « وأعلم : أن الظاهر أن المراد بذلك وجوب الحج ، وتقديمه على النكاح ، وعدم استثناء مئونته من الاستطاعة ، وكون ذلك في زمان وجوبه وخروج القافلة وتهيؤ أسبابه ، وإن كان قبله يجوز .. » وفي المدارك : « ولا يخفي أن تحريم صرف المال في النكاح إنما يتحقق مع توجه الخطاب بالحج وتوقفه على المال ، فلو صرفه فيه قبل سفر الوفد ـ الذي‌

١٠٥

______________________________________________________

يجب الخروج معه ـ أو أمكنه الحج بدونه انتفى التحريم .. ». ونحوه ما في كشف اللثام والذخيرة والجواهر وغيرها.

وبالجملة : يظهر من كلماتهم : التسالم على جواز إذهاب الاستطاعة قبل خروج الرفقة. والمصنف (ره) جعل المدار التمكن من المسير ، فاذا تمكن من المسير لم يجز له إتلاف الاستطاعة ، وإن لم يخرج الرفقة. وفي بعض الحواشي : أضاف إلى ذلك ـ أعني : التمكن من المسير ـ أن يكون قبل أشهر الحج ، فبعد دخول أشهر الحج لا يجوز إذهاب الاستطاعة ، وإن لم يتمكن من المسير حينئذ ولم تخرج الرفقة ، فيكون الشرط في جواز إذهاب الاستطاعة أمرين ، ينتفي الجواز بانتفاء أحدهما.

هذا ومقتضى كون الاستطاعة شرطاً للوجوب حدوثاً وبقاء ، وأن الوجوب المشروط لا يقتضي حفظ شرطه ، أن لا يكون وجوب الحج مانعاً عن إذهاب الاستطاعة بعد حدوثها ، كما لا يكون مانعاً عن ذلك قبل حدوثها فهو لا يقتضي وجوب تحصيلها حدوثاً ، ولا وجوب حصولها بقاء. وكما لا يمنع الوجوب من دفع الاستطاعة لا يمنع من رفعها. وعليه فالمنع من إذهاب الاستطاعة لا بد أن يكون لدليل.

اللهم إلا أن يقال : قوله تعالى : ( مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً .. ) (١). ظاهر في أن الاستطاعة آنا ما موجبة لتحقق الوجوب ، نظير قوله : « من أفطر وجب عليه الكفارة ». نعم لو كانت عبارة التشريع هكذا : « المستطيع يجب عليه الحج » كانت ظاهرة في إناطة الحكم بالوصف حدوثاً وبقاءً. وكذلك الحكم في أمثاله ، فإذا قيل : « إذا سافر وجب عليه القصر » أجزأ في ترتب الحكم تحقق السفر آنا ما ، فيبقى الحكم وإن زال السفر ، فيكون الحكم منوطاً بالوصف حدوثاً لا بقاء. وإذا قيل : « المسافر يجب.

__________________

(١) آل عمران : ٩٧‌

١٠٦

______________________________________________________

عليه القصر » لم يجزه في بقاء الحكم حدوث السفر آنا ما ، بل لا بد من بقاء السفر. فيكون الحكم منوطاً بالسفر حدوثاً وبقاءً. وعلى هذا يكفي في إطلاق الوجوب ـ حدوثاً وبقاء ـ تحقق الاستطاعة آنا ما. غاية الأمر : أن استطاعة السبيل إلى البيت الشريف لا تتحقق آنا ما إلا إذا كانت مقدمات الوجود حاصلة في الواقع كل منها في محله ، فاذا كان المكلف في علم الله تعالى ممن يبقى ماله وراحلته وصحته الى أن يصل الى البيت الشريف ، ولا مانع يمنعه عن ذلك يكون مستطيعاً من أول الأمر ويجب عليه الحج ، فاذا عجز نفسه ـ بإذهاب ماله ، أو غيره من المقدمات ـ كان مخالفاً للوجوب المذكور.

ومن ذلك يظهر : أنه لا مجال لدعوى كون الاستطاعة شرطاً للوجوب حدوثاً وبقاء ، من جهة : أن الزاد والراحلة لو سرقا في الطريق انتفى الوجوب ، وكذا لو حدث مانع من السفر ـ من سيل ، أو عدو ، أو مرض أو غيرها ـ فان ذلك يوجب انتفاء الوجوب. وجه الاشكال عليها. أن حدوث الأمور المذكورة كاشف عن عدم الاستطاعة من أول الأمر ، فلا وجوب حدوثاً ولا بقاءَ ، بخلاف ما لو ألقى زاده في البحر ، أو قتل راحلته ، أو مرض نفسه فان ذلك لا يكشف عن عدم الاستطاعة من أول الأمر ، بل هو مستطيع لكنه عجز نفسه. فاذا كان مستطيعاً كان التكليف ثابتاً في حقه ، فيكون تعجيز نفسه مخالفة منه للتكليف الثابت عليه ، فيكون حراماً.

ومن ذلك يظهر : أن ما ذكره المصنف (ره) ، من أن المعيار في حرمة التعجيز التمكن من المسير ، في محله ، لأنه مع التمكن من المسير يكون مستطيعاً ، فيتوجه اليه التكليف ، فيكون تعجيز نفسه مخالفة له.

وأما ما ذكره الأصحاب : من أن المعيار خروج الرفقة ـ على اختلاف عباراتهم المتقدمة ـ فغير ظاهر. إلا أن يرجع إلى ما ذكره المصنف (ره)

١٠٧

______________________________________________________

بأن يكون مرادهم من خروج الرفقة التمكن من المسير. وإلا فقد عرفت : أنه مع تمكنه من المسير قبل خروج الرفقة يكون مستطيعاً ، فيجب عليه الحج ، فيكون تعجيز نفسه مخالفة منه للتكليف ومعصية له.

ومثله في الاشكال : ما ذكره بعض الأعاظم (ره) في حاشيته : من أنه لا يجوز إذهاب المال في أشهر الحج وإن لم يتمكن من المسير ، فإنه إذا دخل شوال ولم يتمكن من المسير لم يكن مستطيعاً. فلم يجب عليه الحج ، فلم يجب عليه حفظ مقدماته.

هذا كله بناء على ما يظهر من الأدلة : من أن القدرة العقلية ـ المقيدة في الاستطاعة ـ القدرة الفعلية ، كما قد يفهم من جعل الصحة في البدن والتخلية في السرب في سياق الزاد والراحلة. فكما يعتبر في الاستطاعة : الملك للزاد والراحلة فعلا ، يعتبر فيها الصحة في البدن وتخلية السرب فعلاً بحيث لا يكفي في تحقق الاستطاعة الملك للزاد والراحلة ، مع المرض ووجود المانع من السفر ، وإن كانا زائلين بعد ذلك قبل وقت الحج. أما إذا جعل المدار في الاستطاعة ملك الزاد والراحلة فقط ، وما زاد على ذلك لا يعتبر وجوده فعلا ـ فاذا ملك الزاد والراحلة وكان مريضاً لا يقدر على السفر ، أو كانت الحكومة قد منعت عنه فعلا ، فهو مستطيع إذا كان يشفي بعد ذلك ، والحكومة تأذن فيه ـ فتقريب ما في المتن على النحو الذي ذكرنا غير مفيد في إثباته ، لأنه مع ملك الزاد والراحلة يكون مستطيعاً ، فلا يجوز له تعجيز نفسه من جهتهما ، وإن كان عاجزاً فعلا من الجهات الأخرى ، لمرض أو مانع من السفر. وعلى هذا لا فرق في عدم جواز التعجيز بين وقت وآخر ، ما دام قد ملك الزاد والراحلة. فلا فرق بين أشهر الحج وغيرها ، ولا بين وقت السفر وغيره ولا بين أول السنة وآخرها ، بل لا فرق ـ على هذا ـ بين سنة الحج وما قبلها ، لاشتراك الجميع في مناط حرمة التعجيز.

١٠٨

ذمته مشغولة به. والظاهر صحة التصرف ـ مثل الهبة ، والعتق ـ وإن كان فعل حراماً ، لأن النهي متعلق بأمر خارج [١]. نعم لو كان قصده في ذلك التصرف الفرار من الحج لا لغرض شرعي ، أمكن أن يقال بعدم الصحة [٢]. والظاهر أن المناط في عدم جواز التصرف المخرج هو التمكن في تلك السنة ، فلو‌

______________________________________________________

[١] قد تحقق في الأصول أن النهي عن المعاملة لا يقتضي الفساد ، سواء تعلق بالسبب أم المسبب. وما يدعي : من أنه إذا تعلق بالمسبب اقتضى الفساد ، لامتناع اعتبار ما هو مبغوض للمعتبر. ضعيف جداً كما حرر في محله.

ثمَّ إن التفصيل بين تعلق النهي بالداخل والخارج إنما يعرف في النهي في العبادات ، فان تعلق بالداخل اقتضى الفساد ، وإلا لم يقتضه. وأما في المعاملات فلم يعرف التفصيل بين تعلق النهي بالأمر الداخل وتعلقه بالأمر الخارج ، وإنما يعرف التفصيل بين تعلق النهي بالسبب وتعلقه بالمسبب ، فان كان المراد من الداخل من المسبب ومن الخارج السبب ، كان في التعليل المذكور إشارة إلى التفصيل المذكور. لكن لم يتضح الوجه في عدم تعلق النهي في المقام بالأمر الداخل على هذا المعنى ، فإن النهي إنما تعلق بالتعجيز فيقتضي النهي عن المسبب ، لأنه الذي يتوقف عليه التعجيز لا السبب ، كما لعله ظاهر.

[٢] هذا أيضاً غير ظاهر ، لأن قصد التوصل الى الحرام بالفعل وإن كان يقتضي تحريمه ، لكن لا يخرج عن كونه نهياً عن الأمر الخارج ، ولا يكون نهياً عن الأمر الداخل. فلاحظ. كما أن التفصيل بين قصد التوصل بالمقدمة إلى الحرام وغيره إنما يكون في المقدمات إذا لم تكن الغاية توليدية بل كانت فعلا اختيارياً ، أما إذا كانت توليدية فيكفي في التحريم العلم بالترتب ، وإن لم يقصد التوصل إلى الغاية.

١٠٩

لم يتمكن فيها ، ولكن يتمكن في السنة الأخرى لم يمنع عن جواز التصرف [١] ، فلا يجب إبقاء المال إلى العام القابل إذا كان له مانع في هذه السنة ، فليس حاله حال من يكون بلده بعيداً عن مكة بمسافة سنتين.

( مسألة ٢٤ ) : إذا كان له مال غائب بقدر الاستطاعة ـ وحده ، أو منضماً إلى ماله الحاضر ـ وتمكن من التصرف في ذلك المال الغائب ، يكون مستطيعاً ويجب عليه الحج. وإن لم يكن متمكناً من التصرف فيه ـ ولو بتوكيل من يبيعه هناك ـ فلا يكون مستطيعاً إلا بعد التمكن منه أو الوصول في يده [٢]. وعلى هذا فلو تلف في الصورة الأولى بقي وجوب الحج مستقراً عليه ، إن كان التمكن في حال تحقق سائر الشرائط [٣]

______________________________________________________

[١] قد عرفت أن مقتضى القاعدة التي ذكرناها عدم الفرق بين السنين ، فكأن المستند في الفرق : الإجماع.

[٢] ضرورة أن المستفاد من النصوص : أن الزاد والراحلة ـ المعتبرين في حصول الاستطاعة ـ يجب أن يكونا مما يمكن صرفهما في سبيل الحج ، كما يستفاد من قولهم (ع) : « أن يكون له ما يحج به » ‌، « وأن يكون عنده » ‌، وأمثال ذلك من العبارات ـ المذكورة في النصوص ، الواردة في تفسير الاستطاعة ـ (١) ولا يكفي في حصولها ملك المال الذي لا يمكن أن يحج به. فلو كان له ملك حاضر ، ولم يتمكن أن يستعين به في سبيل الحج لم يكن مستطيعاً.

[٣] يعني : إذا كان تلفه بتقصير منه ، وإلا فتلفه لا بتقصير منه‌

__________________

(١) تقدمت الإشارة إلى مصادرها في المسألة : ١٧ من هذا الفصل.

١١٠

ولو تلف في الصورة الثانية لم يستقر. وكذا إذا مات مورثه وهو في بلد آخر ، وتمكن من التصرف في حصته أو لم يتمكن ، فإنه على الأول يكون مستطيعاً ، بخلافه على الثاني.

( مسألة ٢٥ ) : إذا وصل ماله إلى حد الاستطاعة ، لكنه كان جاهلاً به ، أو كان غافلا عن وجوب الحج عليه ثمَّ تذكر بعد أن تلف ذلك المال [١] ، فالظاهر استقرار وجوب الحج عليه إذا كان واجداً لسائر الشرائط حين وجوده والجهل والغفلة لا يمنعان عن الاستطاعة [٢] غاية الأمر : أنه معذور في ترك ما وجب عليه. وحينئذ فإذا مات ـ قبل التلف أو بعده ـ وجب الاستيجار عنه إن كانت له تركة بمقداره ، وكذا إذا نقل ذلك المال الى غيره ـ بهبة أو صلح ـ ثمَّ علم‌

______________________________________________________

يكون كاشفاً عن عدم الاستطاعة.

[١] يعني : إذا كان تلفه بتقصيره وإلا فلا ريب في عدم كونه مستطيعاً.

[٢] لعدم تعرض النصوص لاعتبار العلم والالتفات في حصول الاستطاعة فإطلاق أدلة الوجوب على من ملك الزاد والراحلة محكم. وكأن الوجه الذي دعا القمي (ره) إلى نفي الاستطاعة ما تضمن من النصوص : من أن من ترك الحج ولم يكن له شغل يعذره الله به فقد ترك فريضة من فرائض الإسلام‌ (١) ، مما يدل على أن وجود العذر ناف للاستطاعة. وفيه : أن المفهوم من النصوص العذر الواقعي الذي لا يشمل قصور المكلف ، من جهة غلطه ، وجهله ، واشتباهه ، بل يختص بالأمر الواقعي الذي يكون معلوماً تارة ، ومجهولا أخرى.

__________________

(١) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ١ ، ٣ وغيرهما من أحاديث الباب.

١١١

بعد ذلك أنه كان بقدر الاستطاعة. فلا وجه لما ذكره المحقق القمي في أجوبة مسائله : من عدم الوجوب ، لأنه لجهله لم يصر مورداً ، وبعد النقل والتذكر ليس عنده ما يكفيه ، فلم يستقر عليه. لأن عدم التمكن ـ من جهة الجهل والغفلة ـ لا ينافي الوجوب الواقعي ، والقدرة التي هي شرط في التكاليف القدرة من حيث هي ، وهي موجودة ، والعلم شرط في التنجز لا في أصل التكليف.

( مسألة ٢٦ ) : إذا اعتقد أنه غير مستطيع فحج ندباً ، فان قصد امتثال الأمر المتعلق به فعلاً ، وتخيل أنه الأمر الندبي أجزأ عن حجة الإسلام ، لأنه حينئذ من باب الاشتباه في التطبيق [١]. وإن قصد الأمر الندبي على وجه للتقييد لم يجز عنها ، وإن كان حجه صحيحاً [٢] ، وكذا الحال إذا علم باستطاعة ثمَّ غفل عن ذلك [٣]. وأما لو علم بذلك وتخيل‌

______________________________________________________

[١] لا يخفى أن الاشكال في أمثال هذا المورد ليس في مجرد قصد الأمر الندبي مع أن المتوجه اليه قصد الأمر الوجوبي ، بل في قصد غير المأمور به ، فكيف يجزي عن المأمور به ، بناء على ما يأتي : من أن الحج الإسلامي غير الحج الندبي؟ وحينئذ لا مجال للحكم بالأجزاء ، إلا إذا كان الاشتباه في التطبيق بالنسبة إلى الأمر والمأمور به معاً. وقد تقدم في المسألة التاسعة ، ما له نفع في المقام.

[٢] يأتي الإشكال في صحة الحج من المستطيع إذا كان نائباً عن غيره أو متطوعاً عن نفسه. إلا أن يختص بغير المقام ، كما سيأتي.

[٣] يعني : فحج ندباً.

١١٢

عدم فوريتها فقصد الأمر الندبي فلا يجزي ، لأنه يرجع الى التقييد.

( مسألة ٢٧ ) : هل تكفي في الاستطاعة الملكية المتزلزلة للزاد والراحلة وغيرهما كما إذا صالحه شخص ما يكفيه للحج بشرط الخيار له إلى مدة معينة ، أو باعه محاباةً كذلك ـ؟ وجهان ، أقواهما العدم ، لأنها في معرض الزوال [١] ، إلا إذا كان واثقاً بأنه لا يفسخ. وكذا لو وهبه وأقبضه إذا لم‌

______________________________________________________

[١] هذا إنما يصلح تعليلا للحكم إذا كانت الاستطاعة لا تقبل التزلزل أما إذا كانت تقبله ـ ضرورة أن كل شي‌ء موجود في معرض الزوال ، وكل وجود في معرض الانتهاء ـ فلا يصلح كون الملكية في معرض الزوال لنفي الاستطاعة ، واللازم البناء على تحقق الاستطاعة واقعاً إذا لم يفسخ ذو الخيار. كما أنه لو فرض عدم الخيار لم يكن مستطيعاً إذا طرأ ما يوجب الخيار ففسخ ، فالمدار يقتضي أن يكون على الواقع ، والتزلزل والوثوق بعدم الفسخ لا دخل لهما في حصول الاستطاعة وعدمها ، فاذا لم يحج في الحال المذكورة فانكشف أنه لم يفسخ ذو الخيار انكشف أنه مستطيع واقعاً نظير ما لو كان عنده مقدار الاستطاعة ، ولم يمكنه الفحص عنه فلم يحج ثمَّ انكشف أنه مستطيع. هذا في مقام الواقع. وأما في مقام الظاهر فيحتمل الرجوع إلى أصالة عدم الفسخ ، فيثبت ظاهراً أنه مستطيع ، ويحتمل اعتبار الوثوق بعدم الفسخ. لكن الأول أوفق بالقواعد. واعتبار الوثوق في العمل بالأصل لا دليل عليه. اللهم إلا أن يقال : إذا لم يكن واثقاً بعدم الفسخ يكون تكليفه بصرف المال ـ المؤدي إلى ضمانه عند الفسخ ـ تعريضاً إلى الخسران. وفيه : أن ذلك لا يمنع عن العمل بالأصول. وسيأتي في‌

١١٣

يكن رحماً ، فإنه ما دامت العين موجودة له الرجوع. ويمكن أن يقال بالوجوب هنا [١] ، حيث أن له التصرف في الموهوب ، فتلزم الهبة.

( مسألة ٢٨ ) : يشترط في وجوب الحج ـ بعد حصول الزاد والراحلة ـ بقاء المال إلى تمام الأعمال [٢] ، فلو تلف بعد ذلك [٣] ـ ولو في أثناء الطريق ـ كشف عن عدم الاستطاعة. وكذا لو حصل عليه دين قهراً ، كما إذا أتلف مال غيره خطأ. وأما لو أتلفه عمداً فالظاهر كونه كإتلاف الزاد والراحلة عمداً في عدم زوال استقرار الحج [٤].

______________________________________________________

مبحث البذل ماله نفع في المقام.

[١] قد يشكل : بأن التزلزل إذا كان موجباً لنفي الاستطاعة فلا وجوب معه ، فلا موجب للتصرف الموجب للزوم الهبة ، لأن وجوب التصرف ـ لو قيل به ـ فإنما هو وجوب غيري ، وهو لا يكون مع انتفاء الوجوب النفسي. نعم بناء على أن التزلزل لا ينافي الاستطاعة يتحقق الوجوب النفسي ، فيجب حفظ المقدمة بالوجوب الغيري ، فكما يجب حفظ الزاد في حرز لئلا يسرق ، كذلك يجب حفظه عن رجوع الواهب به. هذا إذا توقف عليها السفر ، وإلا فلا موجب للتصرف ، وحينئذ يجب الحج ، ويستقر في ذمة المكلف وإن رجع الواهب.

[٢] كما يقتضيه دليل اعتبار الاستطاعة ، فإن المراد منها القدرة الخاصة على العمل ، وهي لا تحصل إلا ببقاء الشرائط إلى تمام العمل ، فمع التلف قبل تمام الأعمال ينكشف عدم الاستطاعة من أول الأمر.

[٣] يعني : بعد حصول الزاد والراحلة.

[٤] لعدم منافاته للاستطاعة التي هي موضوع الوجوب ، كما لو أتلف‌

١١٤

( مسألة ٢٩ ) : إذا تلف ـ بعد تمام الأعمال ـ مئونة عوده إلى وطنه ، أو تلف ما به الكفاية من ماله في وطنه ـ بناء على اعتبار الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة ـ فهل يكفيه عن حجة الإسلام أو لا؟ وجهان ، لا يبعد الاجزاء [١].

______________________________________________________

الزاد والراحلة عمداً.

[١] كما قطع به في المدارك. قال (ره) : « فوات الاستطاعة ـ بعد الفراغ من أفعال الحج ـ لم يؤثر في سقوطه قطعاً ، وإلا لوجب إعادة الحج مع تلف المال في الرجوع ، أو حصول المرض الذي يشق السفر معه ، وهو معلوم البطلان .. ». وقريب منه ما في الذخيرة. لكن في الجواهر : « قد يمنع معلومية بطلانه ، بناء على اعتبار الاستطاعة ذهاباً وإياباً في الوجوب .. ». وهو في محله بالنظر إلى القواعد المتقدمة ، فإن ما يحتاج إليه في الإياب إذا كان دخيلاً في حصول الاستطاعة ، يكون فقده موجباً لانتفائها من أول الأمر. فالإجزاء لا بد أن يكون من قبيل إجزاء غير الواجب عن الواجب ، وهو محتاج إلى دليل يوجب الخروج عن القواعد. ولا سيما وأن المكلف إنما نوى حج الإسلام ، فإذا لم يصح لم يصح غيره ، لأنه لم ينوه. فالبناء على الاجزاء فيه مخالفة للقواعد من جهتين : من جهة صحة العمل ولم ينوه ، لأنه لم ينو غير حجة الإسلام ، ومن جهة إجزائه عن حج الإسلام ، والدليل عليه غير ظاهر. نعم سكوت النصوص عن التعرض لذلك ، مع كثرة الطوارئ الحادثة في كل سنة على بعض الحجاج ـ من مرض ، وتلف مال ، ونحو ذلك مما يوجب زوال الاستطاعة ـ مع الغفلة عن ذلك ، وارتكاز المتشرعة على صحة الحج ، ربما يكون دليلاً على الاجزاء. لكن لو تمَّ ذلك لم يكن فرق بين زوال الاستطاعة بعد تمام الأعمال وفي أثنائها وقبلها ، لاشتراك الجميع فيما ذكرنا ، فان تمَّ تمَّ في الجميع ،

١١٥

ويقربه : ما ورد من أن من مات بعد الإحرام ودخول الحرم أجزأه عن حجة الإسلام [١]. بل يمكن أن يقال بذلك إذا تلف في أثناء الحج أيضاً [٢].

( مسألة ٣٠ ) : الظاهر عدم اعتبار الملكية في الزاد والراحلة ، فلو حصلا بالإباحة اللازمة كفى في الوجوب ، لصدق الاستطاعة [٣].

______________________________________________________

والتفكيك غير ظاهر. اللهم الا أن يقال ما دل على اشتراط الزاد والراحلة في حجة الإسلام إنما يدل على اعتبار ذلك في الذهاب ولا يشمل الإياب ، واشتراط ذلك في الإياب انما كان بدليل نفي الحرج ونحوه ، وهو لا يجري في الفرض لأنه خلاف الامتنان.

[١] هذا إن أمكن الاعتماد عليه ، والتعدي عن مورده ، كان اللازم البناء على الاجزاء إذا تلفت الاستطاعة بعد الإحرام ودخول الحرم ، فاذا لم يمكن الاعتماد عليه في ذلك لم يكن مقرباً للمدعي.

[٢] قد عرفت وجه هذا الاحتمال.

[٣] لا مجال للاستدلال به بعد ما ورد في تفسير الاستطاعة : بأن يكون له زاد وراحلة‌ (١) ، مما ظاهره الملك. نعم‌ في صحيح الحلبي : « إذا قدر الرجل على ما يحج به » (٢) ‌، وفي صحيح معاوية : « إذا كان عنده مال يحج به أو يجد ما يحج به » ‌(٣) وهو أعم من الملك. لكن الجمع بينه وبين غيره يقتضي تقييده بالملك وعدم الاجتزاء بمجرد الإباحة.

__________________

(١) لاحظ الوسائل باب : ٨ من أبواب وجوب الحج حديث : ٤ ، ٥ ، ٧.

(٢) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ١. والفقرة الأولى منقولة بالمعنى فلاحظ.

١١٦

ويؤيده الأخبار الواردة في البذل [١]. فلو شرط أحد المتعاملين على الآخر ـ في ضمن عقد لازم ـ أن يكون له التصرف في ماله بما يعادل مائة ليرة مثلاً ، وجب عليه الحج ، ويكون كما لو كان مالكاً له.

( مسألة ٣١ ) : لو أوصى له بما يكفيه للحج فالظاهر وجوب الحج عليه بعد موت الموصي. خصوصاً إذا لم يعتبر القبول في ملكية الموصى له [٢] ، وقلنا بملكيته ما لم يرد ، فإنه ليس له الرد حينئذ.

( مسألة ٣٢ ) : إذا نذر ـ قبل حصول الاستطاعة ـ أن يزور الحسين (ع) في كل عرفة ، ثمَّ حصلت لم يجب عليه الحج [٣]. بل وكذا لو نذر :

______________________________________________________

مضافاً إلى أنه لم يظهر الفرق بين الإباحة المالكية والإباحة الشرعية ، وليس بناؤهم على الاجتزاء بها في حصول الاستطاعة. فلا يجب الاصطياد والاحتطاب وأخذ المعدن ونحو ذلك إذا أمكن المكلف ذلك ، لكونه مستطيعاً بمجرد الإباحة في التصرف.

[١] فإنها وان كانت مختصة بالبذل لخصوص الحج ، لكن يمكن استفادة الحكم منها في المقام بنحو التأييد. لكن التأييد لا ينفع في إثبات الدعوى.

[٢] على هذا القول يكون الحكم كما في المسألة السابقة. وعلى القول باعتبار القبول يكون الحكم كما في الهبة ، فإنه لا يجب عليه القبول فيها ، وإن كان استدلال المصنف (ره) في المسألة السابقة بصدق الاستطاعة مطرداً في الجميع.

[٣] يظهر من الأصحاب : الاتفاق عليه ، فان هذه المسألة وإن لم‌

١١٧

______________________________________________________

تكن محررة بخصوصها في كلامهم ، لكن ما ذكروه في مسألة : ما لو نذر حجاً غير حج الإسلام ، يقتضي بناءهم على عدم وجوب الحج هنا. قال في المدارك ـ فيما لو نذر المكلف الحج ـ : « فاما أن ينوي حج الإسلام أو غيره ، أو يطلق ، بأن لا ينوي شيئاً منهما ، فالصور ثلاث .. ( إلى أن قال ) : الثاني : أن ينوي حجاً غير حج الإسلام. ولا ريب في عدم التداخل على هذا التقدير. ثمَّ إن كان مستطيعاً حال النذر ، وكانت حجة النذر مطلقة أو مقيدة بزمان متأخر عن ذلك العام .. ( إلى أن قال ) : وإن تقدم النذر على الاستطاعة وجب الإتيان بالمنذور مع القدرة ، وان لم تحصل الاستطاعة الشرعية ، كما في غيره من الواجبات. ولو اتفق حصول الاستطاعة قبل الإتيان بالحج بالمنذور قدمت حجة الإسلام إن كان النذر مطلقاً ، أو مقيداً بما يزيد عن تلك السنة أو بمغايرها ، لأن وجوبها على الفور ، بخلاف المنذورة على هذا الوجه. وإلا قدم النذر ، لعدم تحقق الاستطاعة في تلك السنة ، لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي .. ». ونحوه كلام غيره ممن سبقه ـ كالدروس ، والمسالك ـ وممن لحقه ـ كالذخيرة والمستند ، والجواهر ـ على نحو يظهر منهم التسالم على تقديم النذر على حج الإسلام ، وأنه يكون رافعاً للاستطاعة. نظير ما لو استؤجر على الحج ، فإن الإجارة رافعة للاستطاعة عندهم ، فلا يجب على الأجير حج الإسلام إذا كان الحج المستأجر عليه مزاحماً لحج الإسلام.

هذا ولكن بعض الأعاظم فرق بين الإجارة والنذر ، حيث قال (١) : « الفرق بين النذر والإجارة : هو كفاية سلطنة المؤجر على منفعة نفسه عند عقد الإجارة في صحة تمليكها وتملك المستأجر لها ، فلا يبقى مورد لتأثير الاستطاعة. بخلاف النذر ، فان اشتراطه ـ حدوثاً وبقاء ـ برجحان المنذور.

__________________

(١) ذكر ذلك في حاشية له على رسالته العملية في الحج. منه قدس‌سره

١١٨

______________________________________________________

من حيث نفسه ، ومع غض النظر عن تعلق النذر به يوجب انحلاله بالاستطاعة .. ». وتوضيح ما ذكر : أن رجحان المنذور ـ المشروط به صحة النذر ـ يجب أن يكون مع قطع النظر عن النذر ، ومع مزاحمة النذر للاستطاعة إذا غض النظر عن النذر يكون المنذور غير راجح ، لأدائه إلى ترك الحج ، وإنما يكون المنذور راجحاً بتوسط النذر الرافع للاستطاعة ، ومثل هذا الرجحان لا يكفي في صحة النذر.

وفيه : أن ما ذكره وإن كان مسلماً ، لكنه يجري مثله في وجوب حج الإسلام في الفرض ، فإن الاستطاعة المعتبرة في وجوب حج الإسلام يجب أن تكون حاصلة مع غض النظر عن وجوب الحج ، وفي المقام إذا غض النظر عن وجوب الحج ترتفع الاستطاعة بالنذر. وعلى هذا يكون الأخذ بأحد الحكمين رافعاً لموضوع الآخر ، وترجيح وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر بلا مرجح حتى بملاحظة كون وجوب الحج أهم ، لأن ترجيح الأهم إنما يكون في المتزاحمين الواجد كل منهما لملاكه ويكون تزاحمهما في مقام الامتثال ، لا في المتواردين اللذين يكون كل منهما رافعاً لملاك الآخر ، بل فيهما يتعين الرجوع إلى منشأ آخر للترجيح.

ولا ينبغي التأمل في أن الجمع العرفي يقتضي الأخذ بالسابق دون اللاحق ، تنزيلاً للعلل الشرعية منزلة العلل العقلية ، فكما أن العلل العقلية يكون السابق منها رافعاً للاحق كذلك العلل الشرعية. فيلغى احتمال كون اللاحق رافعاً لموضوع السابق ، وإن كان احتمالاً معقولاً في العلل الشرعية ، لكنه لا يعتنى به في مقام الجمع بين الدليلين. وقد أشرنا إلى ذلك في بعض مباحث القراءة من هذا الشرح. وبهذا صح ما ذكره : من تقديم الإجارة ، على الحج عند سبق الإجارة ، فإن سلطنة الأجير غير كافية في صحة الإجارة ، إذا لم يكن قادراً على العمل في وقته مع قطع النظر عن وجوب الوفاء بالعقد. والاستطاعة‌

١١٩

إن جاء مسافرة أن يعطي الفقير كذا مقداراً ، فحصل له ما يكفيه لأحدهما ، بعد حصول المعلق عليه ، بل وكذا إذا نذر ـ قبل حصول الاستطاعة ـ أن يصرف مقدار مائة ليرة مثلاً في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك ، فان هذا كله مانع عن تعلق وجوب الحج به. وكذا إذا كان عليه واجب مطلق فوري قبل حصول الاستطاعة ، ولم يمكن الجمع بينه وبين الحج ، ثمَّ حصلت الاستطاعة ، وإن لم يكن ذلك الواجب أهم من الحج ، لأن العذر الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب [١]. وأما لو حصلت الاستطاعة أولاً ثمَّ حصل واجب فوري آخر‌

______________________________________________________

اللاحقة رافعة للقدرة مع قطع النظر عن عقد الإجارة ، فلو لم يكن السبق موجباً للتقديم لم يكن وجه لصحة الإجارة ، بل كانت الاستطاعة وقت العمل رافعة للقدرة عليها ، وموجبة لبطلان الإجارة بعين التقريب المذكور في الاستطاعة والنذر ـ فتأمل جيداً ـ وعليه يتعين البناء في الفرض على تقديم النذر على الاستطاعة.

[١] بذلك طفحت عباراتهم ، كما أشرنا إلى ذلك في صدر المسألة. ولأجل ذلك لا مجال لدعوى : كون الاستطاعة عبارة عن ملك الزاد والراحلة ، وصحة البدن ، وتخلية السرب ، وأن النذر لا ينافي شيئاً من ذلك ولا يرفعه ، فلا تنتفي الاستطاعة به. وحينئذ تكون هي رافعة لموضوعه ، لعدم كونه راجحاً للمستطيع الذي يجب عليه الحج. فإنه إذا ثمَّ أن المانع الشرعي كالمانع العقلي يكون المنع الشرعي مانعاً عن الاستطاعة في مقابل تخلية السرب وبقية الأمور الأربعة المذكورة.

مضافاً إلى أنها خلاف ظاهر جملة من النصوص ، كصحيح الحلبي :

١٢٠