الإمام المهدي عليه السلام في القرآن والسنّة

سعيد أبو معاش

الإمام المهدي عليه السلام في القرآن والسنّة

المؤلف:

سعيد أبو معاش


المحقق: عبدالرحيم مبارك
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ٣
ISBN: 978-964-444-775-4
الصفحات: ٦٠٣

قال : إنّ الله تبارك وتعالى أدار في القائم منّا ثلاثة أدارها في ثلاثة من الرسل : قدّر مولده تقدير مولد موسى عليه‌السلام ، وقدّر غيبته تقدير غيبة عيسى عليه‌السلام ، وقدّر إبطاءه تقدير ابطاء نوح عليه‌السلام ، وجعل من بعد ذلك عمر العبد الصالح ، أعني الخضر دليلا على عمره. فقلت : اكشف لنا يا ابن رسول الله عن وجوه هذه المعاني.

قال : أمّا مولد موسى ، فإنّ فرعون لمّا وقف على أنّ زوال ملكه على يده ، أمر باحضار الكهنة ، فدلّوه على نسبه ، وأنّه يكون من بني اسرائيل ، ولم يزل يأمر اصحابه بشقّ بطون الحوامل من نساء بني اسرائيل حتّى قتل في طلبه نيّفا وعشرين ألف مولود ، وتعذّر عليه الوصول إلى قتل موسى لحفظ الله تبارك وتعالى ايّاه.

كذلك بنو أميّة وبنو العباس ، لمّا وقفوا على أنّ زوال ملكهم والأمراء والجبابرة منهم على يد القائم منّا ، ناصبونا العداوة ، ووضعوا سيوفهم في قتل آل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإبادة نسله ، طمعا منهم في الوصول الى قتل القائم عليه‌السلام ، ويأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة الى أن يتم نوره ولو كره المشركون.

وأمّا غيبة عيسى عليه‌السلام ، فإنّ اليهود والنصارى اتّفقت على أنّه قتل ، وكذّبهم الله عزوجل بقوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(١) كذلك غيبة القائم عليه‌السلام فإنّ الامّة تنكرها لطولها ، فمن قائل بغير هدى بأنّه لم يولد ، وقائل يقول : إنّه ولد ومات ، وقائل يكفر بقوله انّ حادي عشرنا كان عقيما ، وقائل يمرق بقوله : إنّه يتعدّى إلى ثالث عشر فصاعدا ، وقائل يعصي الله عزوجل بقوله : إنّ روح القائم عليه‌السلام ينطق في هيكل غيره.

وأمّا إبطاء نوح عليه‌السلام فإنّه لمّا استنزل العقوبة على قومه من السماء ، بعث الله عزوجل جبرئيل الروح الأمين بسبعة نويات فقال : يا نبيّ الله ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول لك : إنّ هؤلاء خلائقي وعبادي ، ولست أبيدهم بصاعقة من الصواعق الّا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجّة ، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك ، فأنّي مثيبك عليه ، واغرس هذا النوى ، فإنّ لك في نباتها وبلوغها وادراكها اذا أثمرت الفرج والخلاص ، فبشّر بذلك من تبعك من المؤمنين.

__________________

(١) النساء : ١٥٧.

٢١

فلمّا نبتت الاشجار وتأزّرت وتسوّقت وتغصّنت وأثمرت ، وزها الثمر عليها بعد زمن طويل ، استنجز من الله سبحانه وتعالى العدّة ، فأمره الله تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ويعاود الصبر والاجتهاد ، ويؤكّد الحجّة على قومه ، فأخبر بذلك الطوائف الّتي آمنت به ، فارتدّ منهم ثلاث مائة رجل ، وقالوا : لو كان ما يدعيه نوح حقّا ، لما وقع في وعد ربه خلف.

ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كلّ مرّة أن يغرسها تارة بعد أخرى ، إلى أن غرسها سبع مرّات ، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتدّ منهم طائفة ، إلى أن عاد إلى نيّف وسبعين رجلا. فأوحى الله عزوجل عند ذلك إليه وقال : يا نوح الآن أسفر الصبح عن الليل لعينك حين صرّح الحق عن محضه ، وصفى الأمر للايمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة.

فلو أنّي أهلكت الكفّار ، وأبقيت من قد ارتدّ من الطوائف الّتي كانت آمنت بك لما كنت صدّقت وعدي السابق للمؤمنين الّذين أخلصوا التوحيد من قومك ، واعتصموا بحبل نبوّتك ، بأن أستخلفهم في الأرض وأمكّن لهم دينهم ، وأبدل خوفهم بالأمن لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشكّ من قلوبهم.

وكيف يكون الاستخلاف والتمكين وبدل الخوف بالأمن منّي لهم ، مع ما كنت أعلم من ضعف يقين الّذين ارتدّوا ، وخبث طينتهم ، وسوء سرائرهم الّتي كانت نتائج النفاق وسنوح الضلالة ، فلو أنّهم تسنّموا منّي من الملك الّذي أوتي المؤمنين وقت الاستخلاف اذا أهلكت أعداءهم ، لنشقوا روائح صفاته ، ولاستحكمت سرائر نفاقهم ، وتأبّد حبال ضلالة قلوبهم ، وكاشفوا إخوانهم بالعداوة ، وحاربوهم على طلب الرئاسة والتفرّد بالأمر والنهي ، وكيف يكون التمكين في الدّين وانتشار الأمر في المؤمنين مع إثارة الفتن وايقاع الحروب كلّا : (فاصنع الفلك بأعيننا ووحينا) (١).

قال الصادق عليه‌السلام : وكذلك القائم عليه‌السلام تمتدّ أيّام غيبته ليصرح الحق عن محضه ، وليصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة ، من الشيعة الّذين يخشى

__________________

(١) اقتباس من الآية ٣٧ من سورة هود : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا.

٢٢

عليهم النفاق اذا أحسّوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم عليه‌السلام.

قال المفضل : فقلت : يا ابن رسول الله ، إنّ النواصب تزعم أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ.

قال : لا يهدي الله قلوب الناصبة ، متى كان الدّين الّذي ارتضاه الله ورسوله متمكّنا بانتشار الأمن في الأمّة ، وذهاب الخوف من قلوبها ، وارتفاع الشكّ من صدورها في عهد أحد من هؤلاء وفي عهد عليّ عليه‌السلام ، مع ارتداد المسلمين والفتن الّتي كانت تثور في أيامهم ، والحروب الّتي كانت تنشب بين الكفّار وبينهم ، ثمّ تلا الصادق عليه‌السلام : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا)(١).

وأمّا العبد الصالح الخضر عليه‌السلام : فإنّ الله تبارك وتعالى ما طوّل عمره لنبوّة قدّرها له ، ولا لكتاب ينزّله عليه ، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء ، ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها ، ولا لطاعة يفرضها له. بلى ، إنّ الله تبارك وتعالى لمّا كان في سابق علمه أن يقدّر من عمر القائم عليه‌السلام في أيّام غيبته ما يقدّر ، وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول ، طوّل عمر العبد الصالح من غير سبب أوجب ذلك ، إلّا لعلّة الاستدلال به على عمر القائم عليه‌السلام ، وليقطع بذلك حجّة المعاندين ، لئلّا يكون للناس على الله حجّة (٢).

تحقيق للعلّامة الكراجكيّ في الغيبة وسببها

قال العلّامة أبو الفتح الشيخ محمّد بن عليّ بن عثمان الكراجكيّ الطرابلسيّ : إن قال قائل : ما السبب الموجب لغيبة صاحب الزمان عليه وعلى آبائه أفضل السلام؟

قيل له : لا يسأل عن هذا السؤال إلّا من قد أعطي صحّة وجود الإمام ، وسلّم ما ذكره من غيبته من الأنام. لأنّ النظر في سبب الغيبة فرع عن كونها ، فلا يجوز أن يسأل عن سببها من يقول أنّها لم تكن ، وكذلك الغيبة نفسها فرع عن صحّة الوجود ، إذ كان لا يصحّ غيبة من ليس بموجود. فمن جحد وجود الامام فلا يصحّ كلامه فيما بعد ذلك من هذه

__________________

(١) يوسف : ١١٠.

(٢) كمال الدّين ٢ / ٣٥٣ ؛ بحار الأنوار ٥١ / ٢١٩.

٢٣

الأحوال. فقد بان أنّه لا بدّ من تسليم الوجود والإمامة والغيبة ، إمّا تسليم دين واعتقاد ، ليكشف السائل عن السبب الموجب للاستتار ، وامّا تسليم نظر واحتجاج ، لينظر السائل عن السبب ، إن كان كلامنا في الفرع ملائما للأصل ، وأنّه مستمرّ عليه من غير أن يضادّه وينافيه.

فان قال السائل : أنا اسلّم لك ما ذكرتموه من الأصل لا عن نظر ، إن كان ينتظم معه جوابكم عن الفرع ، فما السبب الآن في غيبة الإمام عليه‌السلام؟

فقيل له : أوّل ما نقوله في هذا أنّه ليس يلزمنا معرفة هذا السبب ، ولا يتعيّن علينا الكشف عنه ، ولا يضرّنا عدم العلم به.

والواجب علينا اللازم لنا ، هو أن نعتقد أنّ الإمام الوافر المعصوم الكامل العلوم ، لا يفعل إلّا ما هو موافق للصواب ، وإن لم نعلم الأغراض في أفعاله والأسباب. فسواء ظهر أو استتر ، قام أو قعد ، كلّ ذلك يلزمه فرضه دوننا ، ويتعيّن عليه فعل الواجب فيه سوانا ، وليس يلزمنا علم جميع ما علم ، كما لا يلزمنا فعل جميع ما فعل. وتمسّكنا بالأصل من تصويبه في كلّ فعل ، يغنينا في المعتقد عن العلم بأسباب ما فعل. فإن عرفنا أسباب أفعاله ، كان حسنا ، وإن لم نعلمها لم يقدح ذلك في مذهبنا ، كما أنّه قد ثبت عندنا وعند مخالفينا إصابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع أقواله وأفعاله ، والتسليم له والرضا بما يأتي منه ، وإن لم نعرف سببه.

ولو قيل لنا : لم قاتل المشركين على كثرتهم يوم بدر ، وهو في ثلاثمائة من أصحابه وثلاثة عشر ، أكثرهم رجالة ، ومنهم من لا سلاح معه ، ورجع عام الحديبية عن إتمام العمرة ، وهو في العدّة القوية ، ومن معه من المسلمين ثلاثة آلاف وستمائة ، وأعطى سهيل بن عمر جميع مناه ، ودخل تحت حكمه ورضاه ، من محو بسم الله الرحمن الرحيم من الكتاب ، ومحو اسمه من النبوّة ، وإجابته إلى أن يدفع عن المشركين ثلث ثمار المدينة ، وأن يردّ من أتاه ليسلم على يده منهم ، مع ما في هذا من المشقّة العظيمة والمخالفة في الظاهر للشريعة ، لما ألزمنا الجواب عن ذلك أكثر من أنّه أعرف بالمصلحة من الأمّة ، وأنّه لا يفعل هذا إلّا لضرورة يختصّ بعلمها ملجئه ، أو مصلحة تقتضيه ، تكون له معلومة ، وهو

٢٤

الوافر الكامل الّذي لا يفرّط فيما أمر به.

وليس عدم علمنا بأسباب فعله ضارّا لنا ، ولا قادحا فيما نحن عليه من اعتقادنا وأصلنا. فكذلك قولنا في سبب غيبة إمامنا وصاحب عصرنا وزماننا.

ويشبه هذا أيضا من أصول الشريعة عن السبب في ايلام الاطفال ، وخلق الهوام والمسمومات من الحشائش والأحجار ، ونحو ذلك مما لا يحيط أحد بمعرفة معناه ، ولا يعلم السبب الّذي اقتضاه ، فانّ الواجب أن نردّ ذلك إلى أصله ، ونقول انّ جميعه فعل من ثبت الدليل على حكمته وعدله وتنزّهه عن العيب في شيء من فعله.

وليس عدم علمنا بأسباب هذه الأفعال مع اعتقادنا في الجملة أنّها مطابقة للحكمة والصلاح ؛ بضارّ لنا ، ولا قادح في صحّة أصولنا ، لأنّا لم نكلّف أكثر من العلم بالأصل ، وفي هذا كفاية لمن كان له عقل.

وهكذا أيضا يجري الأمر في الجواب إن توجّه إلينا السؤال عن سبب قعود أمير المؤمنين عليه‌السلام عن محاربة أبي بكر وعمر وعثمان ، ولم يقعد عن محاربة من بعدهم من الفرق الثلاث. والأصل في هذا كلّه واحد ، وما ذكرناه فيه كاف للمسترشد.

فإن قال السائل لنا : جميع ما ذكرته ، من أفعال الله عزوجل فلا شبهة في أنّه أعرف بالمصالح فيها ، وأنّ الخلق يعلمون جميع منافعهم ولا يهتدون إليها.

وأمّا النبيّ عليه‌السلام وما جرى من أمره عام الحديبية فإنّه علم المصلحة في ذلك بالوحي من الله سبحانه.

فمن أين لإمامكم علم المصلحة في ذلك وهو لا يوحى إليه؟

قيل له : إن كان إمامنا عليه‌السلام إماما ، فهو معهود إليه ، قد نصّ له على جميع ما يجب تعويله عليه ، وأخذ ذلك وأمثاله عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولنا مذهب في الإمام ، وعندنا أنّ الإمام عليه‌السلام يصحّ أن يلهم من المصالح والأحكام ما يكون هو المخصوص به دون الأنام.

ثمّ نتبرّع بعد ما ذكرناه بذكر السبب الّذي تقدّم فيه السؤال ، وإن كان غير لازم لنا في الجواب.

٢٥

فنقول : إنّ السبب في غيبة الإمام عليه‌السلام إخافة الظالمين له ، وطلبهم بسفك دمه ، وإعلام الله أنّه متى أبدى شخصه لهم قتلوه ، ومتى قدروا عليه أهلكوه ، فحصل ممنوعا من التصرّف فيما جعل إليه من شرع الإسلام ، وهذه الأمور الّتي هي مردودة إليه ومعوّل في تدبيرها عليه ، فإنّما يلزمه القيام بها بشرط وجود التمكّن والقدرة ، وعدم المنع والحيلولة ، وازالة المخافة على النفس والمهجة ، فمتى لم يكن ذلك فالتقيّة واجبة ، والغيبة عند الأسباب الملجئة إليها لازمة ، لأنّ التحرّز من المضارّ واجب عقلا وسمعا. وقد استتر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في غار حراء ، ولم يكن لذلك سبب غير المخافة من الأعداء.

فإن قال السائل : إنّ استتار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مقدارا يسيرا لم يمتدّ به الزمان ، وغيبة صاحبكم قد تطاولت بها الأعوام.

قيل له : ليس القصر والطول في الزمان يفرق في هذا المكان ، لأنّ الغيبتين جميعا سببهما واحد ، وهي المخافة من الأعداء ، فهما في الحكم سواء ، وإنّما قصر زمان إحداهما لقصر مدة المخافة فيها ، وطول زمان الأخرى لطول زمان المخافة. ولو ضادّت إحداهما الحكمة وأبطلت الاحتجاج ، لكانت كذلك الأخرى.

فان قال : فالأظهر إبداء شخصه ، واقام الحجّة على مخالفيه وإن ادّى إلى قتله.

قيل لهم : إنّ الحجّة في تثبيت إمامته قائمة في الأمّة ، والدلالة على إمامته موجودة ممكنة ، والنصوص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن الأئمّة على غيبته مأثورة متّصلة ، فلم يبق بعد ذلك أكثر من مطالبة الخصم لنا بظهوره ليقتل. فهذا غير جائز ، وقد قال الله سبحانه : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١).

وقال موسى عليه‌السلام : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ)(٢).

فإن قال السائل : إنّ في ظهوره تأكيدا لإقامة الحجّة ، وكشفا لما يعترض أكثر الناس في أمره من الشبهة ، فالأوجب ظهوره ، وإن قتل لهذه العلّة.

قيل له : قد قلنا في النهي عن التغرير بالنفس بما فيه الكفاية ، ونحن نأتي بعد ذلك بزيادة فنقول : إنّه ليس كلّما نرى فيه تأكيدا لإقامة الحجّة فإنّ فعله واجب ، ما لم يكن فيه

__________________

(١) البقرة : ١٦٥.

(٢) الشعراء : ٢١.

٢٦

لطف ومصلحة. ألا ترى إن قائلا قال : لم لم يعاجل الله تعالى العصاة بالعقاب والنقمة ، ويظهر آياته للناس في كلّ يوم وليلة ، حتّى يكون ذلك آكد في اقامته عليهم الحجّة ، أليس كان جوابنا له مثل ما أجبنا في ظهور صاحب الغيبة ، من أنّ ذلك لا يلزم ما لم يفارق وجها معلوما من المصلحة.

وعندنا أنّ الله سبحانه لم يمنعه من الظهور وإن قتل إلّا وقد علم أنّ مصلحة المكلّفين مقصورة على كونه إماما لهم بعينه ، وأن لا يقوم غيره فيها مقامه ، فكذلك أمره بالاستتار في المدّة الّتي علم أنّه متى ظهر فيها قتله الفجّار.

فإن قال الخصم : هلّا أظهره الله تعالى ، وأرسل معه ملائكة تبيد كلّ من أراده بسوء ، وتهلك من قصده بمكروه؟

قيل له : قد سألت الملحدة من مثل هذا السؤال في إرسال الأنبياء عليهم‌السلام ، فقالوا : لم لم يبعث الله تعالى معهم من الأملاك من يصدّ عنهم كلّ سوء يقصدهم به العباد؟ فكان الجواب لهم : إنّ المصالح ليست واقعة بحسب تقدير الخلائق ... ، وإنّما هي بحسب المعلوم عند الله عزوجل ، وبعد فانّ اصطلام الله تعالى للعاصين ، ومعاجلته باهلاك ساير الظالمين ، قاطع لنظام التكليف ، وربّما اقتضى ذلك عموم الجماعة بالهلاك ، كما كان في الأمم السابقة في الزمان.

وهو أيضا مانع للقادرين من النظر في زمان الغيبة المؤدّي إلى المعرفة والاجابة ، فقد يصحّ أن يكون فيهم ومنهم في هذه المدّة من ينظر فيعرف الحق ويعتقده ، أو يكون فيهم معاندون مقرّون ، قد علم الله سبحانه أنّهم إن بقوا كان من نسلهم ذريّة صالحة ، فلا يجوز أن يحرمها الوجود بإعدامهم في مقتضى الحكمة ، وليس العاصون في كلّ زمان هذا حكمهم ، وربّما علم ضدّ ذلك منهم ، فاقتضت الحكمة إهلاكهم كما كان في زمن نوح عليه‌السلام ، حيث قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً)(١).

فان قال السائل : إنّ آباءه عليهم‌السلام قد كانوا أيضا في زمان مخافة وأوقات صعبة ، فلم لم

__________________

(١) نوح : ٢٦ و ٢٧.

٢٧

يستتروا؟ وما الفرق بينهم وبينه في هذا الأمر؟

قيل له : إنّ خوف إمامنا عليه‌السلام أعظم من خوف آبائه وأكثر. والسبب في ذلك ، انّه لم يرو عن أحد من آبائه عليهم‌السلام أنّه يقوم بالسيف ويكسر تيجان الملوك ، ولا يبقى لأحد دولة سواه ، ويجعل الدّين كلّه لله. فكان الخوف المتوجّه إليه بحسب ما يعتقد من ذلك فيه ، وتطلّعت نفوس الأعداء إليه ، وتتبّعت الملوك أخباره الدالة عليه ، ولم ينسب إلى أحد من آبائه شيء في هذه الأحوال. فهذا فرق واضح بين المخافتين.

ثمّ نقول بعد ذلك : إنّ من اطّلع في الأخبار وسبر السير والآثار ، علم أنّ مخافة صاحبنا عليه‌السلام كانت منذ وقت مخافة أبيه عليه‌السلام ، بل كان الخوف عليه قبل ذلك في حال حمله وولادته ، ومن ذا الّذي خفي عليه من أهل العلم ما فعله سلطان ذلك الزمان مع أبيه وتتبعه لأخباره وطرحه العيون عليه ، انتظارا لما يكون من أمره ، وخوفا ممّا روت الشيعة أنّه يكون من نسله ، الى أن أخفى الله تعالى الحمل بالإمام عليه‌السلام ، وستر أبوه عليه‌السلام ولادته إلّا عمّن اختصّه من الناس ، ثمّ كان بعد موت أبيه ، وخروجه للصلاة ومضيّ عمّه جعفر ساعيا إلى المعتمد ما كان ، حتّى هجم على داره ، وأخذ ما كان بها من أثاثه ورحله ، واعتقل جميع نسائه وأهله ، وسأل أمه عنه فلم تعترف به ، وأودعها عند قاضي الوقت المعروف بابن أبي الشوارب ، ولم يزل الميراث معزولا سنتين ، ثمّ كان بعد ذلك من الأمور المشهورة الّتي يعرفها من اطّلع في الأخبار المأثورة (١).

الآية الثانية قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢).

كلام الشيخ الصدوق في الآية

الخليفة قبل الخليقة

قال الشيخ الصدوق رحمه‌الله في مقدمة كتابه : أمّا بعد فان الله تبارك وتعالى يقول في

__________________

(١) كنز الفوائد ١ / ٣٦٨ ـ ٢٧٤.

(٢) البقرة : ٣٠.

٢٨

محكم كتابه : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فبدأ عزوجل بالخليفة قبل الخليقة ، فدلّ ذلك على أنّ الحكمة في الخليفة أبلغ من الحكمة في الخليقة ، فلذلك ابتدأ به لأنّه سبحانه حكيم ، والحكيم من يبدأ بالأهمّ دون الأعمّ ، وذلك تصديق قول الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام حيث يقول : «الحجّة قبل الخلق ومع الخلق ، وبعد الخلق» ولو خلق الله عزوجل الخليقة خلوا من الخليفة ، لكان قد عرّضهم للتلف ، ولم يردع السفيه عن سفهه بالنوع الّذي توجب حكمته من إقامة الحدود وتقويم المفسد ، واللحظة الواحدة لا تسوّغ الحكمة ضرب صفح عنها ، إنّ الحكمة تعمّ كما انّ الطاعة تعمّ ، ومن زعم أنّ الدنيا تخلو ساعة من إمام ، لزمه أن يصحّح مذهب البراهمة في إبطالهم الرسالة ، ولو لا أنّ القرآن نزل بأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء ، لوجب كون رسول في كل وقت ، فلمّا صح ذلك لارتفع معنى كون الرسول بعده ، وبقيت الصورة المستدعية للخليفة في العقل ، وذلك أنّ الله تقدس ذكره لا يدعو إلى سبب إلّا بعد أن يصوّر في العقول حقائقه ، واذا لم يصوّر ذلك ، لم تنسق الدعوة ولم تثبت الحجّة ، وذلك أنّ الأشياء تألف أشكالها ، وتنبو عن أضدادها. فلو كان في العقل إنكار الرسل ، لما بعث الله عزوجل نبيّا قطّ.

مثال ذلك الطبيب يعالج المريض بما يوافق طباعه ، ولو عالجه بدواء يخالف طباعه أدّى ذلك إلى تلفه ، فثبت أنّ الله أحكم الحاكمين لا يدعو إلى سبب إلّا وله في العقول صورة ثابتة ، وبالخليفة يستدلّ على المستخلف كما جرت به العادة في العامّة والخاصّة ، وفي المتعارف متى استخلف ملك ظالما ، استدلّ بظلم خليفته على ظلم مستخلفه ، وإذا كان عادلا استدلّ بعدله على عدل مستخلفه ، فثبت أنّ خلافة الله توجب العصمة ، ولا يكون الخليفة إلّا معصوما.

وجوب طاعة الخليفة

ولمّا استخلف الله عزوجل آدم في الأرض ، أوجب على أهل السماوات الطاعة ؛ له فكيف الظنّ بأهل الأرض؟ ولمّا أوجب الله عزوجل على الخلق الإيمان بملائكة الله ، وأوجب على الملائكة السجود لخليفة الله ، ثمّ لمّا امتنع ممتنع من الجنّ عن السجود له ،

٢٩

أحلّ الله به الذلّ والصغار والدمار ، وأخزاه ولعنه إلى يوم القيامة ، علمنا بذلك رتبة الإمام وفضله ، وأنّ الله تبارك وتعالى لمّا أعلم الملائكة أنّه جاعل في الأرض خليفة. أشهدهم على ذلك لأنّ العلم شهادة ، فلزم من ادّعى أنّ الخلق يختار الخليفة أن تشهد ملائكة الله كلهم عن آخرهم عليه ، والشهادة العظيمة تدل على الخطب العظيم كما جرت به العادة في الشاهد ، فكيف وأنّى ينجو صاحب الاختيار من عذاب الله وقد شهدت عليه ملائكة الله أوّلهم وآخرهم ، وكيف وأنّى يعذّب صاحب النصّ وقد شهدت له ملائكة الله كلّهم.

وله وجه آخر ، وهو أنّ القضيّة في الخليفة باقية إلى يوم القيامة ، ومن زعم أنّ الخليفة أراد به النبوة ، فقد أخطأ من وجه ،

وذلك أنّ الله عزوجل وعد أن يستخلف من هذه الأمّة الفاضلة خلفاء راشدين كما قال جلّ وتقدّس : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)(١) ولو كانت قضيّة الخلافة قضيّة النبوّة ، أوجب حكم الآية أن يبعث الله عزوجل نبيّا بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما صحّ قوله : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ)(٢) فثبت أنّ الوعد من الله عزوجل ثابت من غير النبوّة ، وثبت أنّ الخلافة تخالف النبوّة بوجه ، وقد يكون الخليفة غير نبيّ ، ولا يكون النبيّ إلّا خليفة.

وآخر : وهو أنّه عزوجل أراد أن يظهر استعباده الخلق بالسجود لآدم عليه‌السلام نفاق المنافق وإخلاص المخلص ، كما كشفت الأيّام والخبر عن قناعيهما ، أعني ملائكة الله والشيطان ، ولو وكّل ذلك المعنى ـ من اختيار الإمام ـ إلى من أضمر سوءا ، لما كشفت الأيّام عنه بالتعرّض ، وذلك أنّه يختار المنافق من سمحت نفسه بطاعته والسجود له ، فكيف وأنّى يوصل إلى ما في الضمائر من النفاق والإخلاص والحسد والداء الدفين.

ووجه آخر : وهو أنّ الكلمة تتفاضل على أقدار المخاطب والمخاطب ، فخطاب الرجل عبده يخالف خطاب سيّده ، والمخاطب كان الله عزوجل ، والمخاطبون ملائكة الله أوّلهم وآخرهم ، والكلمة العموم لها مصلحة عموم ، كما أنّ الكلمة الخصوص لها مصلحة

__________________

(١) النور : ٥٥.

(٢) الأحزاب : ٤٠.

٣٠

خصوص ، والمثوبة في العموم أجلّ من المثوبة في الخصوص ، كالتوحيد الّذي هو عموم على عامّة خلق الله يخالف الحجّ والزكاة وسائر أبواب الشرع الّذي هو خصوص ، فقوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) دلّ على أنّ فيه معنى من معاني التوحيد لما أخرجه مخرج العموم ، والكلمة إذا جاورت الكلمة في معنى ، لزمها ما لزم أختها إذا جمعهما معنى واحد ، ووجه ذلك أنّ الله سبحانه علم أنّ من خلقه من يوحّده ويأتمر بأمره ، وأنّ لهم أعداء يعيبونهم ويستبيحوا حريمهم ، ولو أنّه عزوجل قصر الأيدي عنهم جبرا وقهرا ، لبطلت الحكمة وثبت الاجبار رأسا ، وبطل الثواب والعقاب والعبادات. ولمّا استحال ذلك ، وجب أن يدفع عن أوليائه بضرب من الضروب لا تبطل به ومعه العبادات والمثوبات ، فكان الوجه في ذلك إقامة الحدود كالقطع والصلب والقتل والحبس وتحصيل الحقوق ، كما قيل : «ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن» وقد نطق بمثله قوله عزوجل : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ)(١) فوجب أن ينصب عزوجل خليفة يقصر من أيدي أعدائه عن أوليائه ما تصحّ به ومعه الولاية ، لأنّه لا ولاية مع من أغفل الحقوق وضيّع الواجبات ووجب خلعه في العقول. جلّ الله تعالى عن ذلك.

والخليفة اسم مشترك ، لأنّه لو أنّ رجلا بنى مسجدا ولم يؤذّن فيه ونصب فيه مؤذّنا ، كان مؤذنه ، فأمّا إذا أذّن فيه أيّاما ثمّ نصب فيه مؤذّنا ، كان خليفته ، وكذلك الصورة في العقول والمعارف ، متى قال البندار : هذا خليفتي ، كان خليفته على البندرة لا على البريد والمظالم ، فكذلك القول في صاحبي البريد والمظالم ، فثبت أنّ الخليفة من الأسماء المشتركة ، فكان من صفة الله تعالى ذكره الانتصاف لأوليائه من أعدائه ، فوكّل من ذلك معنى إلى خليفته. فلهذا الشأن استحقّ معنى الخليفة دون معنى أن يتّخذ شريكا معبودا مع الله سبحانه ، ولهذا من الشأن قال الله تبارك وتعالى لابليس : (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ) ثمّ قال عزوجل (بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ)(٢) وذلك أنّه يقطع العذر ولا يوهم أنّه خليفة شارك الله في وحدته ، فقال : بعد ما عرفت أنّه خلق الله ، ما منعك تسجد ، ثمّ قال : (بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) واليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة ، وقد كان لله عزوجل عليه

__________________

(١) الحشر : ١٣.

(٢) ص : ٧٥.

٣١

نعمتان حوتا نعما ، كقوله عزوجل : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً)(١) وهما نعمتان حوتا نعما لا تحصى.

ثمّ غلّظ عليه القول بقوله عزوجل : (بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) كقول القائل : بسيفي تقاتلني ، وبرمحي تطاعنني ، وهذا أبلغ في القبح وأشنع.

فقوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) كانت كلمة متشابهة ، أحد وجوهها أنّه يتصوّر عند الجاهل أنّ الله عزوجل يستشير خلقه في معنى التبس عليه ، ويتصوّر عند المستدلّ إذا استدلّ على الله عزوجل بأفعاله المحكمة وجلالته الجليلة أنّه جلّ عن أن يلتبس عليه معنى أو يستعجم عليه حال ، فإنّه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض ، والسبيل في هذه الآية المتشابهة كالسبيل في أخواتها من الآيات المتشابهات ، أنّها ترد إلى المحكمات ممّا يقطع به ومعه العذر للمتطرّق إلى السفه والإلحاد.

فقوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يدلّ على معنى هدايتهم لطاعة جليلة مقترنة بالتوحيد ، نافية عن الله عزوجل الخلع والظلم وتضييع الحقوق وما تصحّ به ومعه الولاية ، فتكمل معه الحجّة ، ولا يبقى لأحد عذر في إغفال حقّ.

وأخرى أنّه عزوجل إذا علم استقلال أحد من عباده لمعنى من معاني الطاعات ندبه له حتّى تحصل له به عبادة ويستحقّ معها مثوبة على قدرها ما لو أغفل ذلك ، جاز أن يغفل جميع معاني حقوق خلقه أوّلهم وآخرهم ، جلّ الله عن ذلك. فللقوّام بحقوق الله وحقوق خلقه مثوبة جليلة متى فكّر فيها مفكّر عرف أجزاءها ، إذ لا وصول إلى كلّها لجلالتها وعظم قدرها. واحد معانيها وهو جزء من أجزائها أنّه يسعد بالإمام العادل النملة والبعوضة والحيوان أوّلهم وآخرهم بدلالة قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(٢). ويدلّ على صحّة ذلك قوله عزوجل في قصة نوح عليه‌السلام : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً)(٣) ، ثمّ من المدرار ما ينتفع به الإنسان وسائر الحيوان ،

__________________

(١) لقمان : ٢٠.

(٢) الأنبياء : ١٠٧.

(٣) نوح : ١٠ و ١١.

٣٢

وسبب ذلك الدّعاة إلى دين الله والهداة إلى حق الله ، فمثوبته على أقداره ، وعقوبته على من عانده بحسابه. ولهذا نقول : إنّ الإمام يحتاج إليه لبقاء العالم على صلاحه.

ليس لأحد ان يختار الخليفة إلّا الله عزوجل

وقول الله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) : (جاعِلٌ) منوّن : صفة الله الّتي وصف بها نفسه ، وميزانه قوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ)(١) فنوّنه ووصف به نفسه ، فمن ادّعى أنّه يختار الإمام ، وجب أن يخلق بشرا من طين ، فلمّا بطل هذا المعنى ، بطل الآخر ، إذ هما في حيّز واحد.

ووجه آخر : وهو أنّ الملائكة في فضلهم وعصمتهم لم يصلحوا لاختيار الإمام ، حتّى تولى الله ذلك بنفسه دونهم واحتجّ به على عامّة خلقه أنّه لا سبيل لهم إلى اختياره لمّا لم يكن للملائكة سبيل إليه مع صفائهم ووفائهم وعصمتهم ، ومدح الله إيّاهم في آيات كثيرة ، مثل قوله سبحانه : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(٢) ، وكقوله عزوجل : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)(٣).

ثمّ إنّ الإنسان بما فيه من السفه والجهل كيف وأنّى يستتبّ له ذلك ، فهذا والأحكام دون الإمامة مثل الصلاة والزكاة والحجّ وغير ذلك لم يكل الله عزوجل شيئا من ذلك إلى خلقه ، فكيف وكّل اليهم الأهمّ الجامع للأحكام كلّها والحقائق بأسرها؟

وجوب وحدة الخليفة في كلّ عصر

وفي قوله عزوجل (خَلِيفَةً) إشارة إلى خليفة واحدة ثبت به ومعه إبطال قول من زعم أنّه يجوز أن تكون في وقت واحد أئمّة كثيرة ، وقد اقتصر الله عزوجل على الواحد ، ولو كانت الحكمة ما قالوه وعبّروا عنه ، لم يقتصر الله عزوجل على الواحد ، ودعوانا محاذ لدعواهم ، ثمّ إنّ القرآن يرجّح قولنا دون قولهم ، والكلمتان إذا تقابلتا ثمّ رجح إحداهما

__________________

(١) ص : ٧١.

(٢) الأنبياء : ٢٦ و ٢٧.

(٣) التحريم : ٦.

٣٣

على الأخرى بالقرآن ، كان الرجحان أولى.

لزوم وجود الخليفة

ولقوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) ـ الآية في الخطاب الّذي خاطب الله عزوجل به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قال : (رَبُّكَ) من أصحّ الدليل على أنّه سبحانه يستعمل هذا المعنى في أمّته إلى يوم القيامة ، فإنّ الأرض لا تخلو من حجّة له عليهم ، ولو لا ذلك لما كان لقوله : (رَبُّكَ) حكمة ، وكان يجب أن يقول : «ربّهم». وحكمة الله في السلف كحكمته في الخلف لا يختلف في مرّ الأيام وكرّ الأعوام ، وذلك أنّه عزوجل عدل حكيم لا يجمعه أحدا من خلقه نسب ، جلّ الله عن ذلك.

وجوب عصمة الإمام

ولقوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ـ الآية معنى ، وهو أنّه عزوجل لا يستخلف إلّا من له نقاء السريرة ليبعد عن الخيانة ، لأنّه لو اختار من لا نقاء له في السريرة ، كان قد خان خلقه ، لأنّه لو أنّ دلّالا قدم حمّالا خائنا إلى تاجر ، فحمل له حملا فخان فيه ، كان الدلال خائنا ، فكيف تجوز الخيانة على الله عزوجل وهو يقول ـ قوله الحق ـ : (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ)(١) وادّب محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله عزوجل : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)(٢) فكيف وأنّى يجوز ان يأتي ما ينهى عنه ، وقد عيّر اليهود بسمة النفاق ، وقال : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٣).

وفي قول الله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) حجّة قويّة في غيبة الإمام عليه‌السلام ، وذلك أنّه عزوجل لمّا قال : «إنّي جاعل في الأرض خليفة» أوجب بهذا اللفظ معنى ، وهو أن يعتقدوا طاعته ، فاعتقد عدوّ الله ابليس بهذه الكلمة نفاقا

__________________

(١) يوسف : ٥٢.

(٢) النساء : ١٠٥.

(٣) البقرة : ٤٤.

٣٤

وأضمره حتّى صار به منافقا ، وذلك أنّه أضمر أنّه يخالفه متى استعبد بالطاعة له ، فكان نفاقه أنكر النفاق ، لأنّه نفاق بظهر الغيب ، ولهذا من الشأن صار أخزى المنافقين كلهم ، ولما عرّف الله عزوجل ملائكته ذلك أضمروا الطاعة له واشتاقوا إليه ، فأضمروا نقيض ما أضمره الشيطان ، فصار لهم من الرتبة عشرة أضعاف ما استحقّ عدوّ الله من الخزي والخسار ، فالطاعة والموالاة بظهر الغيب أبلغ في الثواب والمدح ، لأنّه أبعد من الشبهة والمغالطة ، ولهذا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من دعا لأخيه بظهر الغيب ناداه ملك من السماء : ولك مثلاه».

وانّ الله تبارك وتعالى أكّد دينه بالإيمان بالغيب فقال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(١) فالايمان بالغيب أعظم مثوبة لصاحبه ، لأنه خلو من كل عيب وريب ، لأنّ بيعة الخليفة وقت المشاهدة قد يتوهّم على المبايع أنّه إنّما يطيع رغبة في خير أو مال ، أو رهبة من قتل أو غير ذلك ممّا هو عادات أبناء الدنيا في طاعة ملوكهم ، وإيمان الغيب مأمون من ذلك كلّه ، ومحروس من معايبه بأصله ، يدلّ على ذلك قول الله عزوجل : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا)(٢) ولمّا حصل للمتعبد ما حصل من الإيمان بالغيب ، لم يحرم الله عزوجل ذلك ملائكته ، فقد جاء في الخبر أنّ الله سبحانه قال هذه المقالة للملائكة قبل خلق آدم بسبعمائة عام. وكان يحصل في هذه المدّة الطاعة للملائكة على قدرها. ولو انكر منكر هذا الخبر والوقت والأعوام ، لم يجد بدّا من القول بالغيبة ولو ساعة واحدة ، والساعة الواحدة لا تتعرّى من حكمة ما ، وما حصل من الحكمة في الساعة حصل في الساعتين حكمتان وفي الساعات حكم ، وما زاد في الوقت إلّا زاد في المثوبة ، وما زاد في المثوبة إلّا كشف عن الرحمة ، ودل على الجلالة ، فصحّ الخبر أنّ فيه تأييد الحكمة وتبليغ الحجّة.

وفي قول الله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) حجّة في غيبة الإمام عليه‌السلام من أوجه كثيرة :

أحدها أنّ الغيبة قبل الوجود أبلغ الغيبات كلّها ، وذلك أنّ الملائكة ما شاهدوا قبل

__________________

(١) البقرة : ٢.

(٢) المؤمن : ٨٥.

٣٥

ذلك خليفة قط ، وأمّا نحن فقد شاهدنا خلفاء كثيرين غير واحد قد نطق به القرآن وتواترت به الأخبار حتّى صارت كالمشاهدة ، والملائكة لم يشهدوا واحدا منهم ، فكانت تلك الغيبة أبلغ.

وآخر : أنّها كانت غيبة من الله عزوجل ، وهذه الغيبة الّتي للإمام عليه‌السلام هي من قبل أعداء الله تعالى ، فإذا كان في الغيبة الّتي هي من الله عزوجل عبادة لملائكته ، فما الظنّ بالغيبة الّتي هي من أعداء الله.

وفي غيبة الإمام عبادة مخلصة لم تكن في تلك الغيبة ، وذلك أنّ الإمام الغائب عليه‌السلام مقموع مقهور مزاحم في حقه ، قد غلب قهرا وجرى على شيعته قسرا من أعداء الله ما جرى ، من سفك الدماء ونهب الأموال وإبطال الأحكام والجور على الأيتام وتبديل الصدقات وغير ذلك ممّا لا خفاء به ، ومن اعتقد موالاته ، شاركه في أجره وجهاده ، وتبرّأ من أعدائه ، وكان له في براءة مواليه من أعدائه أجر ، وفي ولاية أوليائه أجر يربو على أجر ملائكة الله عزوجل على الإيمان بالإمام المغيّب في العدم ، وإنّما قصّ الله عزوجل نبأه قبل وجوده توقيرا وتعظيما له ، ليستعبد له الملائكة ويتشمّروا لطاعته.

وإنّما مثال ذلك تقديم الملك فيما بيننا بكتاب أو رسول إلى أوليائه أنّه قادم عليهم ، حتّى يتهيّئوا لاستقباله وارتياد الهدايا له ما يقطع به ومعه عذرهم في تقصير إن قصّروا في خدمته ، كذلك بدأ الله عزوجل بذكر نبئه إبانة عن جلالته ورتبته ، وكذلك قضيّته في السلف والخلف ، فما قبض خليفة إلّا عرّف خلقه الخليفة الّذي يتلوه ، وتصديق ذلك قوله عزوجل : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) ـ الآية (١) والّذي على بيّنة من ربّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والشاهد الّذي يتلوه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، دلالته قوله عزوجل : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً)(٢) والكلمة ـ من كتاب موسى المحاذية لهذا المعنى حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة ـ قوله : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ

__________________

(١) هود : ١٧.

(٢) هود : ١٧.

٣٦

الْمُفْسِدِينَ)(١)(٢).

الآية الثالثة قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٣).

٨ ـ قال الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه في مقدّمة كتابه ، تحت عنوان : «السرّ في أمره تعالى الملائكة بالسجود لآدم عليه‌السلام» :

واستعبد الله عزوجل الملائكة بالسجود لآدم تعظيما له لما غيّبه عن أبصارهم ، وذلك أنّه عزوجل إنّما أمرهم بالسجود لآدم لما أودع صلبه من أرواح حجج الله تعالى ذكره ، فكان ذلك السجود لله عزوجل عبوديّة ، ولآدم طاعة ، ولما في صلبه تعظيما ، فأبى ابليس أن يسجد لآدم حسدا له ، إذ جعل صلبه مستودع أرواح حجج الله دون صلبه ، فكفر بحسده وتأبّيه ، وفسق عن أمر ربّه ، وطرد عن جواره ، ولعن وسمّي رجيما لأجل إنكاره للغيبة ، لأنّه احتجّ في امتناعه من السجود لآدم بأن قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(٤) ، فجحد ما غيّب عن بصره ولم يوقع التصديق به ، واحتجّ بالظاهر الّذي شاهده وهو جسد آدم عليه‌السلام ، وأنكر أن يكون يعلم لما في صلبه وجودا ، ولم يؤمن بأنّ آدم إنّما جعل قبلة للملائكة وأمروا بالسجود له لتعظيم ما في صلبه.

فمثل من آمن بالقائم عليه‌السلام في غيبته مثل الملائكة الّذين أطاعوا الله عزوجل في السجود لآدم ، ومثل من أنكر القائم عليه‌السلام في غيبته مثل إبليس في امتناعه من السجود لآدم.

٩ ـ روي بسند متّصل بأيمن بن محرز ، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام أنّ الله تبارك وتعالى علّم آدم عليه‌السلام أسماء حجج الله كلّها ، ثمّ عرضهم ، ـ وهم أرواح ـ على الملائكة ، فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنّكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم عليه‌السلام : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال الله تبارك وتعالى : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) وقفوا على

__________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

(٢) كمال الدّين ١ / ٤ ـ ١٣.

(٣) البقرة : ٣٤.

(٤) الأعراف : ١٢.

٣٧

عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره ، فعلموا أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته ، ثمّ غيّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم وقال لهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). وحدّثنا بذلك أحمد بن الحسن القطّان بإسناد يرفعه عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام.

وهذا استعباد الله عزوجل للملائكة بالغيبة ، والآية أوّلها في قصّة الخليفة ، وإذا كان آخرها مثلها ، كان للكلام نظم ، وفي النظم حجّة ، ومنه يؤخذ وجه الإجماع لأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّلهم وآخرهم ، وذلك أنّه سبحانه وتعالى إذا علّم آدم الاسماء كلّها على ما قاله المخالفون ، فلا محالة أنّ أسماء الأئمّة عليهم‌السلام داخلة في تلك الجملة ، فصار ما قلناه في ذلك بإجماع الامّة ، ومن أصحّ الدليل عليه أنّه لا محالة لما دلّ الملائكة على السجود لآدم ، فأنّه حصل لهم عبادة ، فلمّا حصل لهم عبادة ، أوجب باب الحكمة أن يحصل لهم ما هو في حيّزه ، سواء كان في وقت أو في غير وقت ، فإنّ الاوقات ما تغيّر الحكمة ولا تبدّل الحجّة ، أوّلها كآخرها وآخرها كأوّلها ، ولا يجوز في حكمة الله أن يحرمهم معنى من معاني المثوبة ، ولا أن يبخل بفضل من فضائل الأئمّة ، لأنّهم كلّهم شرع واحد ، دليل ذلك أنّ الرسل متى آمن مؤمن بواحد منهم أو بجماعة ، وأنكروا واحدا منهم ، لم يقبل منه إيمانه ، كذلك القضية في الأئمّة عليهم‌السلام أوّلهم وآخرهم واحد.

وقد قال الصادق عليه‌السلام : «المنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا» وقال عليه‌السلام : «من أنكر واحدا من الأحياء فقد أنكر الأموات» ؛ وسأخرج ذلك في الكتاب مسندا في موضعه إن شاء الله.

فصحّ أنّ قوله عزوجل : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) أراد به أسماء الأئمّة عليهم‌السلام. وللأسماء معان كثيرة ، وليس أحد معانيها بأولى من الآخر ، وللأسماء أوصاف ، وليس أحد الأوصاف بأولى من الآخر ، فمعنى الأسماء أنّه سبحانه علّم آدم عليه‌السلام أوصاف الأئمّة كلّها ، أوّلها وآخرها ، ومن أوصافهم العلم والحلم والتقوى والشجاعة والعصمة والسخاء والوفاء.

وقد نطق بمثله كتاب الله عزوجل في أسماء الأنبياء : كقوله عزوجل : (وَاذْكُرْ فِي

٣٨

الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا)(١) ، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا* وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا* وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا)(٢).

وكقوله عزوجل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا* وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا* وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا)(٣).

فوصف الرسل عليهم‌السلام وحمدهم بما كان فيهم من الشيم المرضيّة والأخلاق الزكيّة ، وكان ذلك أوصافهم وأسماءهم ، كذلك علّم الله عزوجل آدم الأسماء كلّها.

والحكمة في ذلك أيضا : أنّه لا وصول إلى الأسماء ووجوه الاستعبادات إلّا من طريق السماع ، والعقل غير متوجّه إلى ذلك ، لأنّه لو أبصر عاقل شخصا من بعيد أو قريب ، لما توصّل إلى استخراج اسمه ، ولا سبيل إليه إلّا من طريق السماع ، فجعل الله عزوجل العمدة في باب الخليفة السماع ، ولمّا كان كذلك أبطل به باب الاختيار ، إذ الاختيار من طريق الآراء ، وقضية الخليفة موضوعة على الأسماء ، والأسماء موضوعة على السماع ، فصحّ به ومعه مذهبنا في الإمام أنّه يصح بالنصّ والإشارة ، فأمّا باب الإشارة فمضمر في قوله عزوجل : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) فباب العرض مبنيّ على الشخص والإشارة وباب الاسم مبنيّ على السمع ، فصحّ معنى الإشارة والنص جميعا.

وللعرض الّذي قاله الله عزوجل : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) معنيان :

أحدهما : عرض أشخاصهم وهيئاتهم ، كما رويناه في باب أخبار أخذ الميثاق والذرّ.

والوجه الآخر : أن يكون عزوجل عرضهم على الملائكة من طريق الصفة والنسبة كما يقوله قوم من مخالفينا ، فمن كلا المعنيين يحصل استعباد الله عزوجل الملائكة بالإيمان بالغيبة.

وفي قوله عزوجل : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حكم كثيرة : أحدها أنّ الله عزوجل أهّل آدم عليه‌السلام لتعليم الملائكة أسماء الأئمّة عن الله تعالى ذكره ، وأهّل الملائكة

__________________

(١) مريم : ٤١.

(٢) مريم : ٥٤ ـ ٥٧.

(٣) مريم : ٥١ ـ ٥٣.

٣٩

لتعلّم أسمائهم عن آدم عليه‌السلام ، فالله عزوجل علّم آدم ، وآدم علّم الملائكة ، فكان آدم في حيّز المعلّم وكانوا في حيّز المتعلّمين ، هذا ما نصّ عليه القرآن.

وقول الملائكة : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فيه أصحّ دليل وأبين حجّة لنا أنّه لا يجوز لأحد أن يقول في اسماء الأئمّة وأوصافهم عليهم‌السلام إلّا عن تعليم الله جلّ جلاله ، ولو جاز لأحد ذلك ، كان للملائكة أجوز ، ولمّا سبحوا الله ، دلّ تسبيحهم على أنّ الشرع فيه ممّا ينافي التوحيد ، وذلك أنّ التسبيح تنزيه الله عزوجل ، وباب التنزيه لا يوجد في القرآن إلّا عند قول جاحد أو ملحد أو متعرّض لإبطال التوحيد والقدح فيه ، فلم يستنكفوا إذ لم يعلموا أن يقولوا : (لا عِلْمَ لَنا) فمن تكلّف علم ما لا يعلم ، احتجّ الله عليه بملائكته ، وكانوا شهداء الله في الدنيا والآخرة ، وإنّما أهّل الله الملائكة لا علامهم على لسان آدم عند اعترافهم بالعجز ، وأنّهم لا يعلمون ، فقال عزوجل : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ)(١).

الآية الرابعة قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٢).

المهديّ عليه‌السلام كلمة من كلمات الله عزوجل

١٠ ـ روى الشّيخ الصدوق رحمه‌الله بإسناده عن المفضل بن عمر ، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، قال : سألته عن قول الله عزوجل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) ما هذه الكلمات؟ قال عليه‌السلام : هي الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب الله عليه ، وهو أنّه قال : أسألك بحق محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت عليّ ، فتاب الله عليه إنّه هو التواب الرحيم. فقلت له : يا ابن رسول الله ، فما يعني عزوجل بقوله : (فَأَتَمَّهُنَ)؟ قال : يعني فأتمّهنّ إلى القائم اثنى عشر إماما ، تسعة من ولد الحسين عليه‌السلام. قال المفضل : فقلت : يا ابن رسول الله ، فأخبرني عن قول الله عزوجل : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ)(٣)؟ قال : يعني بذلك الامامة جعلها الله تعالى في عقب الحسين إلى يوم القيامة. قال :

__________________

(١) كمال الدّين ١ / ١٣ ـ ١٦.

(٢) البقرة : ٣٧.

(٣) الزخرف : ٢٨.

٤٠