عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٢

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤

فصل الضاد والغين

ض غ ث :

قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً)(١). الضّغث : قبضة من حشيش أو ريحان أو قضبان. وفي التفسير : أنّ أيوب عليه‌السلام حلف ليضربنّ امرأته مئة سوط فأفتاه الله تعالى بأن يأخذ حزمة مئة فيضربها فيبّر ، على ما أوضحناه في موضعه. وبذلك شبّهت الأحلام المختلطة فقيل : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ)(٢) أي أخلاط مجتمعة لا يدرى ما تأويلها. وقولهم : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) حكم منهم بذلك. ثم إنهم رجعوا وقالوا : يحتمل أن لا يكون أضغاثا ، فاعترفوا بعدم العلم بتأويلها حتى نفّذ الله قدره. وقال مجاهد : أهاويل الأحلام. وقال ابن اليزيديّ : الضّغث : ملء اليد من الحشيش ، أي قبضة من أسل فيها مئة قضيب. والفعل الضّغث ـ بالفتح ـ يعني المصدر. ويقال : ضغث الحشيش ضغثا ، أي حزمه حزما. فكان الضغث بمعنى المضغوث كالريح. ومن كلام أبي هريرة : «لأن يمشي معي ضغثان من نار أحبّ إليّ [من] أن يسعى غلامي خلفي» (٣) أي حزمتان من حطب نار. ومن كلام الكلابيّ : «الناس يضغثون أشياء على غير وجهها. قيل : وما يضغثون؟ قال : يقولون الشيء حذاء الشيء ، وليس به» (٤).

ض غ ن :

قوله تعالى : (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ)(٥) أي أحقادكم ، من : أضغن عليه فعله ، أي حقد عليه. وقيّده بعضهم فقال : هو الحقد الشديد ؛ فهو أخصّ. ويقال فيه : ضغن وضغن. ومنه قولهم : دابة ذات ضغن : إذا عسر قودها. وفرس ضاغن : لم يعط ما عنده من العدو. وناقة

__________________

(١) ٤٤ ص : ٣٨.

(٢) ٢٤ يوسف : ١٢.

(٣) النهاية : ٣ ٩٠ ، وفي الأصل : «يمشي غلامي» ، والإضافة منه.

(٤) الكلام في اللسان ـ ضغث.

(٥) ٣٧ محمد : ٤٧.

٤٤١

ذات ضغن كذلك (١). وقناة ضغينة : عوجاء. كلّ ذلك على الاستعارة. والإضغان : الاشتمال بالثوب والسلاح ، كاشتمال المضاغن على ضغنه.

فصل الضاد واللام

ض ل ل :

قوله تعالى : (وَلَا الضَّالِّينَ)(٢) قيل : هم النصارى ، و (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(٣) هم اليهود ، لقوله في حقّ النصارى : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٤). وفي حقّ اليهود : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)(٥). والضّلال في الأصل : إمّا العدول عن الطريق المستقيم وإمّا الغيبوبة والضّياع ، والأول يقابله الهداية ، والثاني يقابله الوجدان. والضلال يقال لكلّ عدول عن المنهج عمدا كان أو سهوا ، يسيرا كان أو كثيرا. قال بعضهم : لأنّ الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب السلوك أو ممتنع إلا على من عصم الله تعالى. ومن ثمّ قال عليه الصلاة والسّلام : «استقيموا ولن تحصوا» (٦).

وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)(٧). ولهذا روي أنّ بعض الصّلحاء رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه فقال : «يا رسول الله روي لنا أنك قلت : شيّبتني هود وأخواتها. فما الذي شيّبك منها؟ فقال : قوله تعالى : فاستقم كما أمرت» (٨). قال : وإذا كان الضلال ترك الطريق المستقيم سهوا كان أو عمدا ، يسيرا كان أو كبيرا صحّ استعمال الضلال فيمن يوجد منه خطأ مّا من غير قصد ، قال هذا القائل : ولعلّ من ذلك نسب الضلال إلى مذكر لا ينبغي ذكره هنا. قال : والكفار كذلك وإن كان بين الضّلالين بون بعيد.

__________________

(١) وفي اللسان أنها نازعة إلى وطنها.

(٢) ٧ الفاتحة : ١.

(٣) من الآية السابقة.

(٤) ٧٧ المائدة : ٥.

(٥) ٦٠ المائدة : ٥.

(٦) النهاية : ١ ٣٩٨.

(٧) ٣٠ فصلت : ٤١.

(٨) ١١٢ هود : ١١. والحديث في المفردات (٢٩٨) ، وفيه : «شيبتني هود». وقد أخرجه ابن مردويه في تفسيره عن عمران بن حصين ، ورواه البزار والدار قطني ... (كشف الخفاء : ٢ ١٥).

٤٤٢

قال : ألا ترى أنه قال : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى)(١) أي غير مهتد لما سيق إليك من النبوة. (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)(٢). وقال : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٣) تنبيها أنّ ذلك منهم سهو. انتهى.

ولا شكّ أنّ الله تعالى يقول في حقّ عباده ما شاء وليس لنا أن نقول ذلك إلا على سبيل الحكاية لكلامه تعالى لا على الإخبار. ألا ترى ـ وإن كان بين القياسين بون ـ أنّ السلطان يدعو أكثر خواصّه باسمه ، وينسب إليه بعض الأوصاف فيتحلّى بذلك ويعظّم به عند الناس ، وليس لأحد الخواصّ ممّن هو في رتبته فضلا عمّن هو أعلى بطنا أن يخاطبه ببعض ذلك؟ وأمّا تفسير قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فحسن جدا ، وهو الذي ينبغي أن لا يجوز غيره. ومثله ما قال الهرويّ : أي لا تعرف شريعة الإسلام فهداك لها ، وهو مثل قوله تعالى : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)(٤).

قلت : ومثله قوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ)(٥). وقيل : الضّلال هنا : الضياع. يروى أنه ضلّ من جدّه وهو صغير في بعض شعاب مكة ، فردّه أبو جهل. وقيل : بل أضلّته حليمة عند باب الكعبة فردّه الله عليها. وهذا ونحوه لا بأس به. وأمّا ما يروى عن بعض المفسرين : كان على دين قومه أربعين سنة ، فإن عنى خلّوهم من علم الشريعة التي طريقها السمع فمسّلم ، وإن عنى غير ذلك فبرّأه الله من ذلك. وسمعت بعض أشياخي يقول : نمت ليلة مهتما بهذه الآية فرأيت في المنام كأنّ قائلا يقول : مالك؟ فقصصت عليه أمري فقال : المراد ووجد أمّتك ضلّالا فهداهم ، فحذف المضاف للعلم كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٦) فسرّي عني فانتبهت من وقتي فلم أصبر إلى الصباح ، فأوقدت المصباح وكتبته. وأمّا أمر موسى عليه‌السلام فإنّ حال فعله ذلك كان حال صباه. فنعني بضلّاله ما تقدّم من أمر الشريعة ، أي لم تكن وصلت إلى شريعة بعد. وأما قول إخوة يوسف

__________________

(١) ٧ الضحى : ٩٣.

(٢) ٢٠ الشعراء : ٢٦.

(٣) ٨ يوسف : ١٢.

(٤) ١١٣ النساء : ٤.

(٥) ٥٢ الشورى : ٤٢.

(٦) ٨٢ يوسف : ١٢.

٤٤٣

عن أبيهم ما قالوه. فإن كانوا غير أنبياء فذاك ، وإن كانوا هم فيعنون في بعد عن عادة الناس في محبة أولادهم وغيبوبة الإضلال الذي هو مقابل بالهداية.

قوله تعالى : (لا يَضِلُّ رَبِّي)(١) أي لا يغفل عنه. قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما)(٢) أي تنسى بدليل قوله : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى). وقرئ : (فَتُذَكِّرَ) بالتشديد فذلك من النسيان الموضوع عن الإنسان. والضّلال من وجه آخر ضربان : ضلال في العلوم النظرية ، كالضلال في معرفة الوحدانية ومعرفة النبوّة المشار إليهما بقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)(٣). أو ضلال في العلوم العمليّة كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات. قوله : (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)(٤) أي في عقوبة الضّلال البعيد. قوله : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ)(٥) أي غبنا ، وهو كناية عن الموت واستحالة البدن. وقرئ بالمهملة وقد تقدّم تفسيره.

ويقال : أضللت اللبن في الماء. قوله : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)(٦) في تضييع وبطلان. قوله : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٧) أي أضلّوا غيرهم. والإضلال ضربان : أحدهما أن يكون بسببه الضّلال ، وذلك على وجهين ؛ إما أن يضلّ عنك الشيء كقولك : أضللت الدابّة ، أي ضلّت عني. وإمّا أن يحكم بضلاله. فالضلال في هذين سبب للإضلال. والثاني أن يكون الأمر بالعكس ، فيكون الإضلال سببا للضّلال ؛ وهو أن يزيّن واحد لآخر الباطل فيضلّ كقوله تعالى : (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)(٨) أي يتحرّون أفعالا يقصدون بها ضلالك ، فلا يحصل من ذلك التحرّي إلا ما فيه ضلال أنفسهم. وإضلال الباري تعالى لعباده يقال باعتبارين : أحدهما أن يكون سببه

__________________

(١) ٥٢ طه : ٢٠.

(٢) ٢٨٢ البقرة : ٢.

(٣) ١٣٦ النساء : ٤.

(٤) ٨ سبأ : ٣٤.

(٥) ١٠ السجدة : ٣٢.

(٦) ٢ الفيل : ١٠٥.

(٧) ٧٧ المائدة : ٥.

(٨) ١١٣ النساء : ٤.

٤٤٤

الضلال ، وهو أن يضلّ الإنسان فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا ، ويعدل به عن طريق الجنة إلى طريق النار في الآخرة ، وذلك الإضلال هو حقّ وعدل ، فالحكم على الضالّ بضلاله ، والعدول به إلى النار عدل. والثاني من إضلاله تعالى وضع جبلّة الإنسان على هيئة إذا راعى طريقا محمودا كان أو مذموما ألفه واستطابه ولزمه وتعذّر (١) صرفه وانصرافه عنه ، ويصير ذلك كالطّبع ، ومن ثمّ قيل : العادة طبع (٢) : [من المتقارب]

يراد من القلب نسيانكم

وتأبى الطباع على الناقل

وهذه القوة في الإنسان فعل إلهيّ ؛ قال الراغب (٣) : وإذا كان كذلك ، وقد ذكر في غير هذا الموضع أن كلّ شيء يكون سببا في وقوع فعل تصحّ نسبة ذلك الفعل إليه. فيصحّ أن ينسب ضلال العبد إلى الله من هذا الوجه فيقال : أضلّه الله ، لا على الوجه الذي يتصوره الجهلة. قال : ولما قلناه جعل الإضلال المنسوب إلى نفسه للكافر والفاسق دون المؤمن بل نفى عن نفسه إضلال المؤمن فقال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ)(٤)(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ)(٥). وقال في الكافر والفاسق : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ)(٦)(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ)(٧). قال : وعلى هذا النحو تقليب الأفئدة والأبصار في قوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ)(٨). والختم على القلب في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(٩). وزيادة المرض في قوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً)(١٠).

قلت : مذهبه في ذلك مذهب معتزليّ ، والحقّ أنه يجوز نسبة ذلك إلى الله حقيقة

__________________

(١) وفي الأصل : تعسر.

(٢) البيت للمتنبي في مديح سيف الدولة (شرح العكبري : ٣ ٢٢).

(٣) المفردات : ٢٩٩.

(٤) ١١٥ التوبة : ٩.

(٥) ٤ محمد : ٤٧.

(٦) ٨ محمد : ٤٧.

(٧) ٢٦ البقرة : ٢.

(٨) ١١٠ الأنعام : ٦.

(٩) ٧ البقرة : ٢.

(١٠) ١٠ البقرة : ٢.

٤٤٥

بمعنى أنه خلق الإضلال في قلبه كما خلق الهداية في قلب قوم آخرين : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(١). قوله : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)(٢) قيل : اللام للعاقبة كقوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٣) ، وقول الشاعر : [من المتقارب]

وللموت ما تلد الوالدات

وقول الآخر (٤) : [من الوافر]

لدوا للموت وابنوا للخراب

وضلّ ضلاله أي ما دام ، نحو : شعر شاعر. وأنشد لجرير (٥) : [من الوافر]

فقال الناس : ضلّ ضلال تيم

ألم يك فيهم رجل رشيد؟

فصل الضاد والميم

ض م ر :

قوله تعالى : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ)(٦) ؛ الفرس الخفيفة وكذا البعير ، وذلك يكون من الأعمال لا من الهزال والضّعف. يقال : ضمر ضمورا فهو ضامر ، واضطمر يضطمر اضطمارا فهو مضطمر ، وضمّرته أنا. والمضمار : موضع يعدّ لسباق الخيل ، وأصله الموضع الذي يضمر فيه. والمضمار أيضا : وقت تضميرها ؛ وتضميرها : أن تشدّ عليها سروجها

__________________

(١) ٢٣ الأنبياء : ٢١.

(٢) ٨٨ يونس : ١٠.

(٣) ٨ القصص : ٢٨.

(٤) صدر لقائل استشهد به ابن هشام في اللام الدالة على التعجب (أوضح المسالك : ٢ ١٣٤). وعجزه :

فكلكم يصير إلى الذّهاب

(٥) الديوان : ١٦٤.

(٦) ٢٧ الحج : ٢٢.

٤٤٦

ويجعل عليها جلالها ، فتعرق تحتها ، فيذهب رهلها. وفي حديث عمر بن عبد العزيز : «كان ضمار المضمار» (١) ، قال أبو عبيد : المال الغائب الذي لا يرجى.

والضّمير : ما ينطوي عليه القلب ويعسر الوقوف عليه لدقّته. وقد تسمّى (٢) القوة التي يحتفظ بها ذلك ضميرا. والإضمار : الإخفاء. والضمير عند النحاة : ما افتقر إلى مفسر له. وله أقسام كثيرة. والإضمار عندهم : حذف الشيء وإرادته ، إلا أن الفرق بين الإضمار والحذف عندهم واضح وإن اشتركا في عدم التلفّظ.

ض م م :

قوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ)(٣). أصل الضمّ : الجمع بين شيئين فصاعدا. والإضمامة : جماعة من الناس أو من الكتب أو من الرّيحان. ومنه : أسد ضمضم ، أي يضمّ الأشياء إلى نفسه. وقيل : بل هو المجتمع الخلق (٤). وفرس سبّاق الأضاميم : إذا سبق جماعة أفراس دفعة. وفي كتابه : «فضرّجوه بالأضاميم» (٥) أي بجماهير الحجارة ؛ وهي حجارتها.

والتّضريج : التدمية من الإضريج وهو الخزّ الأحمر. وفي حديث الرؤية : «لا تضامون» (٦) مخفف الميم ؛ أي لا يظلم بعضكم ، من الضّيم ، ومثقّلها من التّضامّ ؛ أي لا يزاحم بعضكم بعضا فيريه إياه لظهوره. ومرّت رواية أخرى في مادة (ض ر ر) والله أعلم.

__________________

(١) لعل الصواب : «كانت مالا ضمارا». كذا في النهاية : ٣ ١٠٠ ، واللسان ـ مادة ضمر. من كتاب كتبه إلى ميمون بن مهران في مظالم كانت في بيت المال.

(٢) في الأصل : سمى.

(٣) ٣٢ القصص : ٢٨.

(٤) في الأصل : مجتمع الخلق.

(٥) وفي كتابه : أي لوائل بن حجر. وتمام الحديث : «ومن زنى من ثيّب فضرجوه بالأضاميم» ، يريد بالرجم ، واحدتها إضمامة (النهاية : ٣ ١٠١).

(٦) النهاية : ٣ ١٠١. ويجوز ضم التاء.

٤٤٧

فصل الضاد والنون

ض ن ك :

قوله تعالى : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)(١). الضّنك : الضّيق. وقد ضنك عيشه ضنكا فهو ضنيك. ومن ذلك : امرأة ضناك ورجل ضناك : لمن اكتنز لحمه تصّورا لضيقه واكتنازه. والضّناك : الزّكام ، لضيق المنخرين ، والمزكوم مضنوك. وفي الحديث : «شاة لا مقورّة الألياط ولا ضناك» (٢). الألياط ؛ مرّ تفسيره في مادة (ل وط). وضناك : مكتنزة ، كما عرفته.

ض ن ن :

قوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)(٣) أي بخيل ؛ من الضّنّة وهي البخل يقال : ضنّ يضنّ بفتحهما في المضارع ، لأن الماضي مكسورها بدليل قول الشاعر (٤) : [من البسيط]

أنّي أجود لأقوام وإن ضننوا

لمّا فكّ اضطرارا صرّح بأصل الفعل. وهذا فكّ شاذّ كقولهم : مشت (٥) الدابّة ألّا. وألل السّقاء ، في أخوان لهما (٦). ويقال أيضا : ضنن ـ بالفتح ـ فالمضارع مضموم العين ، على هذا حكاه الراغب (٧). وقيل : الضّنّة : البخل بالشيء النّفيس ، فهو أخصّ. وفلان علق مضنّة ؛ مضنة بالفتح والكسر. والمعنى أنه عليه الصلاة والسّلام : ليس ببخيل فيما يوحى إليه بل يبلّغ جميع ما أنزل إليه امتثالا لقوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية (٨).

__________________

(١) ١٢٤ طه : ٢٠.

(٢) النهاية : ٣ ١٠٣ ، من كتابه لوائل من حجر.

(٣) ٢٤ التكوير : ٨١.

(٤) لقعنب بن أمّ صاحب كما في اللسان ـ مادة ضنن. وصدره :

مهلا أعاذل ، قد جرّبت من خلقي

(٥) الكلمة غامضة في الأصل ، رسمناها على المعنى استنادا إلى اللسان. والألّ : السرعة.

(٦) ويقول ابن منظور : وهذا أحد ما جاء بإظهار التضعيف ـ مادة ألل.

(٧) المفردات : ٢٩٩ ، بتصرف من المؤلف.

(٨) ٦٧ المائدة : ٥.

٤٤٨

وفلان ضنّي من بين أصحابي ، أي هو ممّن أبخل به لعزّته ونفاسته. وقد ضننت به ضنّا وضنانة. وفي الحديث : «إنّ لله ضنائن من خلقه يحييهم في عافية ويميتهم في عافية» (١) أي خصائص. وقرئ «بظنين» (٢) ؛ بالمسألة. وسيأتي في باب الظاء إن شاء الله تعالى.

فصل الضاد والهاء

ض ه ا :

قوله تعالى : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)(٣) قرأ عاصم : يضاهئون (٤) بالهمز من ضاهأت فلانا : شابهته. والمضاهأة : المشابهة. وامرأة ضهياء : لا تحيض كأنها تشبه الرجال في ذلك (٥) ، والجمع ضهن نحو حمراء وحمر (٦) ، ويقال : ضهي من غير مدّ. وقيل : المضاهأة : المشاكلة ، وهو قريب مما تقدّم. وقال ابن عرفة : المضاهأة : معارضة الفعل بمثله. قال قتادة : ضاهت النصارى اليهود فقالوا : المسيح ابن الله كقول أولئك : عزير ابن الله ، تعالى الله عن ذلك. وقرئ (يُضاهِؤُنَ) غير مهموز فقيل : لغة فيه. وقيل : أصله الهمز فخفّف ، وقد حقّقناه في «الدرّ» وغيره. وفي الحديث : «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله» (٧) أي المصورون.

__________________

(١) النهاية : ٣ ١٠٤.

(٢) حدثنا أبو العباس ... عن زر بن حبيش قال : أنتم تقرؤون (بضنين) ببخيل ، ونحن نقرأ (بظنين) بمتّهم. وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ورويس. وأهل الحجاز وزيد يقرؤون بالضاد ، وهو حسن (معاني القرآن للفراء : ٣ ٢٤٢. الإتحاف : ٤٣٤).

(٣) ٣٠ التوبة : ٩.

(٤) اللسان ـ مادة ضهو.

(٥) وقيل : التي لا يظهر لها ثدي.

(٦) الضهيأ ليست على وزن حمراء ، لأنها على وزن فعيل ، وهمزتها على الألف كما في اللسان ـ مادة ضها. وقال ابن جني : امرأة ضهيأة. وقال بعضهم : الضهياء (كما فوق).

(٧) النهاية : ٣ ١٠٦. أي يعارضون بما يعملون خلق الله تعالى ، أراد المصوّرين (اللسان ـ مادة ضوا).

٤٤٩

فصل الضاد والواو

ض و ا :

قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ)(١). الضوء : ما انتشر من الأجسام النيّرة ، يقال : ضاءت النار وأضاءت غيرها. وقيل : ضاء وأضاء لغتان بمعنى واحد ، وأنشد : [من الطويل]

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتّى نظّم الجزع ثاقبه

فقيل : متعدّ نصب دجى. وقيل : نصبه على الظرف. وسمّى الله كتبه المنزلة ضياء من حيث إنّها تنير وتبصر من اهتدى بها. ويقال : ضوء وضوء ـ بالفتح والضم ـ. وضاء يضوء ، وأضاء يضيء. قال تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ)(٢) ؛ قال ابن عرفة : هذا مثل ضربه الله لرسوله عليه الصلاة والسّلام ؛ يقول : يكاد منظره وإن لم يتل قرآنا. وأنشد في المعنى عبد الله بن رواحة (٣) : [من البسيط]

لو لم يكن فيه آيات مبينة

كانت بديهته تنبيك بالخبر

وفي الحديث : «لا تستضيئوا بنار أهل الشّرك» (٤) أي لا تستشيروهم. وقوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)(٥) ولم يقل بضيائهم وإن كان أخصّ ، إذ لا يلزم من نفي الأخصّ نفي الأعمّ. فكان نفي الأعمّ أبلغ. وقد حققت هذا في «الدرّ» و «البحر الزاخر». وقرئ «بضئائهم» بهمزتين ، وهو مقلوب من ضياء بصناعة تصريفية حقّقناها في غير هذا الموضوع.

__________________

(١) ٢٠ البقرة : ٢.

(٢) ٣٥ النور : ٢٤.

(٣) البيان والتبيين : ١ ١٥. وأبيات أخر من القصيدة في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذكورة في المؤتلف والمختلف وسيرة ابن هشام.

(٤) وفي النهاية (٣ ١٠٥): «لا تستضيئوا بنار المشركين».

(٥) ١٧ البقرة : ٢.

٤٥٠

ض و ر :

قوله تعالى : (لا يَضُرُّكُمْ)(١) وقرئ بضمّ الضاد وتخفيف الراء من : ضاره يضوره ، أي ضاره يضيره. وفي الحديث : «دخل على امرأة وهي تتضوّر من شدّة الحمّى» (٢) أي تظهر الضّير الذي بها وتضطرب ؛ تفعّل من الضّور بمعنى الضّير والضّرّ. وقيل : التضوّر : التضعّف ، من قولهم : رجل ضورة وامرأة ضورة.

فصل الضاد والياء

ض ي ر :

قوله تعالى : (قالُوا لا ضَيْرَ)(٣) ؛ الضّير بمعنى الضّرّ والضّرر والضّور. يقال : لا ضير ولا ضرّ ولا ضرر ولا ضور ولا ضارورة ، كلّه بمعنى واحد ، وقد تقدّم.

ض ي ز :

قوله تعالى : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)(٤) أي ناقصة ، وقيل : جائرة. يقال : ضازه يضيزه أي جار عليه في القسمة ، وأصلها ضيزى فقلبت الضمة كسرة ، وإنما قيل ذلك إذ ليس في كلامهم فعلى صفة بل فعلى (٥). وقرأ ابن كثير «ضئزى» فقيل : قراءة الجماعة مخففة منها (٦) ، وقيل : لغتان ؛ ضازه يضازه. وقد أتقنّا هذا في «الدرّ» و «العقد» والحمد لله.

__________________

(١) ١٠٥ المائدة : ٥. قرأها يحيى وإبراهيم «لا يضركم» ، وقرأها الحسن «لا يضركم».

(٢) النهاية : ٣ ١٠٥.

(٣) ٥٠ الشعراء : ٢٦.

(٤) ٢٢ النجم : ٥٣.

(٥) وهذا كلام الجوهري.

(٦) القراء جميعهم على ترك همز ضيزى .. ويقولون : ضئزى وضؤزى ؛ بالهمز (اللسان ـ ضيز) ويقول الفراء : ومن العرب من يقول : «ضيزى» ، وبعضهم يقول : «قسمة ضأزى» و «ضؤزى» ولم يقرأ بها أحد نعلمه (معاني القرآن : ٣ ٩٨).

٤٥١

ض ي ع :

قوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(١). يقال : ضاع الشيء يضيع ضياعا : إذا فقد ولم يعلم موضعه ، واستعمل في الإبطال كالإضلال فيقال : أضاع عمله وضيّعه. وقيل لبلدة الرجل التي يأخذ غلتها ضيعته ، باعتبار إذا لم يتفقّدها ضاعت. وجمعها ضياع. وتضيّع الريح : هبّت هبوبا كأنها ضيّعت ما هبّت عليه. وأمّا التضوّع ففوح الرائحة ، وليس من هذا. وقال الهرويّ : ضيعة الرجل : ما يكون منه معاشه من صناعة أو غلة. ونقل عن شمر أنه يدخل في ذلك الحرفة والتجارة. ويقال : ما ضيعتك؟ فيقال : كذا. وفي الحديث : «أفسد الله ضيعته» (٢) وفيه أيضا : «من ترك ضياعا» (٣) هو مصدر وقع موقع الوصف ، أي ضائعا ، وإن كسر صار جمع ضائع نحو جائع وجياع.

قوله : (أَضاعُوا الصَّلاةَ)(٤) قيل : أخّروها عن وقتها المحدود لها شرعا ، فكيف بمن ترك؟ ويدخل في ذلك من لم يحافظ على شروطها. وربّما يدخل من لم يواظب على سننها.

ض ي ف :

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ)(٥) سمّاهم ضيفا وهم ملائكة ؛ يقال إنهم جبريل وميكائيل وملك الموت ، لأنهم أتوه في صورة الضّيف ، والمضيف (٦) الذي يأتي زائدا مع الضيف من غير استدعاء وهو الطفيليّ ، وزادوا فيه النون منبهة على ذلك. وأصل الضيف مصدر بمعنى الميل. يقال : ضفت إلى كذا وأضفته. وأنشد لامرئ القيس (٧) : [من الطويل]

__________________

(١) ٣٠ الكهف : ١٨.

(٢) النهاية : ٣ ١٠٨ ، وفيه : «أفشى». ورواية الأصل مثل رواية الهروي.

(٣) النهاية : ٣ ١٠٧ ، وفيه الضياع : العيال.

(٤) ٥٩ مريم : ١٩.

(٥) ٢٤ الذاريات : ٥١.

(٦) لعلها الضّيفن ، وهو الذي يأتي من غير دعوة ولكنه مرغوب فيه. أما الطفيلي فهو غير المرغوب فيه ، ويؤيد هذا الجملة بعدها.

(٧) الديوان : ٦٠ ، اللسان ـ المادة ضيف ، والإضافة منهما. أضفنا : أسندنا.

٤٥٢

فلما دخلناه أضفنا ظهورنا

إلى كلّ حاريّ [قشيب مشطّب]

ومنه الإضافة النحوية ، لأنّ فيها إمالة أحد الاسمين إلى الآخر على المجاز. وضافت الشمس للغروب : مالت وتضيّفت. ومنه الحديث : «نهى عن الصلاة إذا تضيّفت الشمس» (١) أي مالت. وضاف السهم عن الهدف ، فسمي الضيف ضيفا لميله إلى من ينزل به. وصارت الضيافة متعارفة في القرى. ووحّد الضيف لأنه مصدر ، وقد جمع فقيل : أضياف وضيوف وضيفان. يقال : أضفته وضفته بمعنى واحد. وقيل : ضيّفته : أنزلته منزلة الأضياف. قال تعالى : (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما)(٢). وقد فعل اللئام الأمرّين بنبيّ الله ووليّه. وأضاف من الأمر : أشفق منه أيضا. وضاف لغة فيه. وجاء اثنان لعليّ رضي الله عنه فقالا : «أتيناك مضافين» (٣) ففهم عنهما فأمّنهما. والمضوفة : الأمر الذي يشفق منه. فإن كان أضاف بمعنى أشفق منه فتلك مادة أخرى.

ض ي ق :

قوله تعالى : (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(٤). الضّيق والضّيق ـ بالفتح والكسر ـ ضدّ السّعة. وغلب استعمال الضّيقة في الفقر والبخل والغمّ ونحو ذلك. وقال ابن عرفة : ضاق الرجل : بخل ، وأضاق : افتقر ؛ كأنّه صار ذا ضيقة. ونقل الراغب (٥) : إنه يقال في الفقر ضاق وأضاق فهو مضيق ، واستعمل ذلك. كما أنهم استعملوا الوسع في ضدّه ؛ قال تعالى : (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً)(٦) كناية عن غمّه عليه الصلاة والسّلام بما يلاقي من قومه بسببهم. قوله : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)(٧) عدل عن ضيق إلى ضائق دلالة على حدوث ذلك وتجدّده لإثباته واستقراره. قوله : (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ)(٨) من أبلغ كلام

__________________

(١) النهاية : ٣ ١٠٨.

(٢) ٧٧ الكهف : ١٨.

(٣) النهاية : ٣ ١٠٩.

(٤) ١٢٧ النحل : ١٦.

(٥) المفردات : ٣٠٠.

(٦) ٧٧ هود : ١١ ، وغيرها.

(٧) ١٢ هود : ١١.

(٨) ١١٨ التوبة : ٩.

٤٥٣

مرشح ؛ صوّر أن الأرض كلّها صارت مجالا لهم ومع ذلك أحسّوا بضيقها ، ثم لم يكتف بذلك حتى رشّحه بقوله : (بِما رَحُبَتْ) يعني مع رحبها وسعتها.

قوله : (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ)(١) مثل في شدّة الخناق وسدّ طرق الفرج ؛ جعل أنفسهم شيئا يوصف بالسّعة والضّيق تمثيلا ، قوله : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً)(٢) وقرئ مخفف الياء كميّت وميت ، إشارة إلى ضيق النفس المذكور. وجعله حرجا مبالغة في ذلك ، عكس من وصفه بأن شرح له صدره. والمراد التعمية والتحيّر على من أراد إضلاله والتّبصرة والدلالة لمن أراد هدايته. ولا دليل أوضح منه على مذهب أهل السّنّة كما بينّاه في غير هذا. وقال ابن السكّيت : الضّيق والضّيق بمعنى واحد كما تقدّم. وعن الفراء : المفتوح ما ضاق عنه صدرك ، والمكسور الذي يتّسع ويضيق كالدار والثوب. وقوله : (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أصله من ذرع الناقة ، وهو خطوها. فإذا أعيت قيل : ضاق ذرعها ومذارعها : قوائمها. فجعل مثلا لمن ضاق صدره وعجز وقلّت حيلته. وذرعا تمييز محمول من الفاعلية إذ الأصل : ضاق ذرعه.

قوله : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ)(٣) يشمل التضييق في النّفقة وفي المعاشرة ، وأيّ ضيق أضيق منهما؟

__________________

(١) ١١٨ التوبة : ٩.

(٢) ١٢٥ الأنعام : ٦.

(٣) ٦ الطلاق : ٦٥.

٤٥٤

باب الطاء

فصل الطاء والباء

ط ب ع :

قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها)(١) قد تقدم في مادة الجيم أنّ ذلك حقيقة عند بعضهم مجاز عند آخرين ، وهل هو من مجاز التّخييل أو التمثيل. وقد فسّر كثير من الناس الطبع بالختم وليس كذلك ؛ فإنّ الطبع أن تصوّر الشيء بصورة ما كطبع الدراهم بالسكّة. قال بعضهم : هو أعمّ من الختم وأخصّ من النّقش والطابع والخاتم ـ بالفتح ـ ما يطبع به ويختم كالقالب لما يقلب فيه ـ وبالكسر ـ (٢) هو الفاعل لذلك لأنه اسم فاعل. وقد قيل للطابع بالفتح طابع بالكسر نسبة للفعل لدلالته نحو : سيف قاطع. والطبيعة : السّجية التي طبع عليها الإنسان تصويرا أنه نقش ذلك فيه. ومنه الحديث : «طبع يوم طبع كافرا» (٣) وهو كالفطرة. وقيل للسجيّة طبيعة من حيث إنّ النفس تنتقش بصورة ما ؛ إمّا من حيث الخلقة وإمّا من حيث العادة وهو فيما ينتقش به من حيث الخلقة أغلب. وطبيعة النار : ما سخّره الله تعالى فيها من الإحراق ، وطبيعة الدّاء والدواء : ما سخّره الله فيهما من السّقم. والطباع بمعنى الطبيعة أيضا ، ومنه قول المتنبي (٤) : [من المتقارب]

وتأبى الطّباع على الناقل

وقيل : الطّباع : ما ركّب عليه الإنسان من المأكل والمشرب وسائر الأخلاق التي لا تزايله. قيل : والطباع مؤنثة فيقال : طباعه حسنة ، وطباعك كريمة لأنّه بمعنى الطبيعة فأنّث. وطبعت المكيال : ملأته ، لكون الملء كالعلامة المانعة من تناول ما فيه. والطّبع المطبوع ،

__________________

(١) ١٥٥ النساء : ٤.

(٢) يعني بكسر الباء والتاء.

(٣) صحيح مسلم ، القدر : ٢٩ ، أي أن الطبع كالفطرة.

(٤) عجز بيت للمتنبي ، وصدره : يراد من القلب نسيانكم.

٤٥٥

أي المملوء. وقال أبو بكر : أصل الطبع من الوسخ والدّنس يغشيان السيف. ويقال : طبع يطبع طبعا ، فاستعير لما يوسّخ ويدنّس من الآثام وفعل القبائح. وفي الحديث : «نعوذ بالله من طمع يهدي إلى طبع» (١). وعن مجاهد : الرّين أيسر من الطّبع والطّبع أيسر من الإقفال ، والإقفال أشدّ من ذلك كلّه ، إلا أنّ الهرويّ قال : وكان الصدر الأوّل يرون الطبع هو الرّين.

قلت : يرون موافقة قوله تعالى : (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ)(٢)(أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ)(٣). وكان المعنى أنّ الله جعل عليها صدأ كصدا الحديد ووسخا كوسخ الثوب منع بصيرتها من إبصار الهدى ، ولله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم في عباده بما يريد.

ط ب ق :

قوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ)(٤) أي حالا بعد حال. والمعنى : يترقّى منزلا عن منزل ، وذلك إشارة إلى أحوال الإنسان من ترقّيه في أحوال كثيرة في الدنيا الآخرة. أما في الدنيا فالإشارة إليها بقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)(٥) إلى بلوغ الأشدّ وإناطة التكليف. وأمّا في الآخرة فالموت والإحياء للبعث ، والبعث والنشور والحساب ومقاساة الأهوال وجواز الصراط وحضور الميزان إلى حين الاستقرار في إحدى الدارين.

قيل : سميت الحال طبقا لأنها تملأ القلوب أو تشارف ذلك. ومنه الحديث : «اللهمّ اسقنا غيثا طبقا» (٦) أي تملأ الأرض مطرا. وكلّ شيء علا شيئا فهو طبق للأسفل. وقيل : المعنى لتركبنّ السماء حالا بعد حال كالمهل ، وفي حال كالفراش ، وفي حال كالدهان وفيه نظر لأنه قرئ «لتركبنّ» بفتح الباء وضمّها على خطاب الواحد والجماعة. وفسرت قراءة

__________________

(١) النهاية : ٣ ١١٢ ، وفي الأصل : «يدين إلى طبع». والتصويب من النهاية.

(٢) ١٤ المطففين : ٨٣.

(٣) ٤١ المائدة : ٥.

(٤) ١٩ الانشقاق : ٨٤.

(٥) ٦٧ غافر : ٤٠ ، وغيرها.

(٦) النهاية : ٣ ١١٣. ويقول ابن الأثير : غيث طبق ، أي عامّ واسع.

٤٥٦

الفتح بأنها خطاب لرسوله عليه الصلاة والسّلام وأنه وعده بالإسراء أو بترقّيه إلى المراتب العليّة ، وكلّ قد وقع (١). وقال ابن عرفة : الطبق : العالم ، ومنه قول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه (٢) : «إذا مضى عالم بدا طبق» أي إذا ذهب قرن جاء (٣) آخر ، سمّوا طبقا لأنهم طبقوا الأرض. وفي حديث أمّ زرع : «زوجي عياياء طباقاء» (٤) أي أطبق عليه الحمق ، وأطبق عنه الكلام أو أموره. قوله : (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)(٥) أي متطابقة بعضها فوق بعض ، وكلّ منها طبق لما تحته.

والمطابقة من الأسماء المتضايفة ؛ هو أن تجعل الشيء فوق آخر بقدر. ومنه قولهم : طابقت النّعل ، أي ساويت بينها ، وأنشد (٦) : [من الطويل]

إذا لاوذ الظّلّ القصير بخفّه

وكان طباق الظلّ أو قال زائدا

والطّباق في اصطلاح أهل البديع ذكر الضدّين ، ولهذا يسمّونه التّضادّ كقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا)(٧)(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى)(٨). وقيل : قد يستعمل الطباق في الشيء الذي يكون فوق الآخر تارة ، وفيما يوافق غيره تارة كسائر الأسماء الموضوعة لمعنيين ، ثم يستعمل في أحدهما دون الآخر كالكأس والرّواية ونحوهما. وطابقته على كذا : وافقته عليه ؛ كأنك جئت طبقه. ومنه : أطبقوا وتطابقوا على كذا ، أي أجمعوا. والجواب مطابق للسؤال : موافق له على قدره كمطابقة النّعلين.

__________________

(١) قرأ مسروق «لتركبنّ» يا محمد حالا بعد حال ، وكذلك ابن مسعود وفسّر «لتركبنّ» السماء حالا بعد حال ، وكذلك ابن عباس وفسّرها : لتصيرنّ الأمور حالا بعد حال للشدة. ويقول ابن الأثير : قرأ هؤلاء «لتركبنّ» واختلفوا في التفسير. وقرأ أهل المدينة وكثير من الناس «لتركبنّ» أي الناس عامة ، والتفسير : الشدة. وهناك قراءات وتفسيرات أخرى في (معاني القرآن : ٣ ٢٥٢ ـ تفسير القرطبي : ١٩ ٢٧٨ ـ مختصر الشواذ : ١٧٠).

(٢) النهاية : ٣ ١١٣. وهو صدر بيت.

(٣) وفي الأصل : وجاء ، ولا يستقيم.

(٤) النهاية : ٣ ١١٤ ، والمعنى : أموره مغشّاة عليه. وفي البخاري (النكاح ٨٢): «غياياء وطبقاء».

(٥) ٣ الملك : ٦٧.

(٦) البيت من شواهد المفردات : ٣٠١ ، وفيه : قلّ زائدا. وفي س : زائد.

(٧) ٤٣ و ٤٤ النجم : ٥٣.

(٨) ٤٨ النجم : ٥٣. أقنى : أفقر أو أرضى بما أعطى.

٤٥٧

والمطابقة : المشي كمشي المقيد. ويقال لكلّ ما يوضع عليه المأكول من فاكهة وغيرها ، ولما يوضع على رأس الشيء : طبق ، ولكلّ فقرة من فقرات (١) الظّهر : طبق. ومنه الحديث : «ويصير ظهر المنافق طبقا واحدا» (٢). وبقال للواحدة طبقة. وطبق الليل والنّهار : ساعاتهما المطابقة. وأطبقت الباب : أغلقته. ومنه رجل طباقاء وقد تقدّم. وطبّقته بالسيف : أصبت طبقه. وطبّق المفصل : أصابه ولم يخطئه. ومنه استعير للإصابة في الجواب. منه قول ابن عباس لأبي هريرة «حيث سأله فأفتاه : طبّقت» (٣). ومنه قيل لأعضاء الشاة طوابق ، واحدها طابق. وفي المثل : «وافق شنّ طبقه» (٤) قيل : قبيلتان متكافئتان في الحرب. وقيل : رجل وامرأة في حكاية مشهورة. وطبقات الناس : رتبهم ، ومنه قول الفقهاء : الطبقة السّفلى والطبقة العليا ؛ يعنون من في درجة واحدة (٥).

فصل الطاء والحاء

ط ح و :

قوله تعالى : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها)(٦) أي بسطها. والطّحو : التّوسيع. وطحابه الأمر : اتّسع به في المداهنة. وأنشد لعلقمة بن عبدة (٧) : [من الطويل]

__________________

(١) وفي الأصل : فقارات.

(٢) وفي البخاري (تفسير ٦٨): «فيعود ظهره طبقا واحدا».

(٣) النهاية : ٣ ١١٤ ، أي أصبت وجه الفتيا.

(٤) مثل للعرب يضرب لكل اثنين أو أمرين جمعتهما حالة واحدة اتصف بها كل منهما. قيل : إن شنا قبيلة من عبد قيس ، وطبقا هي من إياد اتفقوا على أمر. وانظر المستقصى : ١ ٤٣٢ «أوفق للشيء من شنّ لطبقة» ففيه تفصيل آخر. والمثل ناقص في الأصل.

(٥) جاء في هامش الورقة ٢١٢ من النسخة ح : «فائدة ذكرها الفاضل ابن الحياني في شرح قول ابن خلكان في ترجمة إبراهيم النديم (وفيات الأعيان : ٢٤٨) أن هارون كان قد حبسه في المطبق قال : هو اسم المحبس. والظاهر أنه من أطبقه بمعنى غطاه. ومنه الجنون المطبق ، والحمى المطبقة. ولما كان المحبس مغطّى من الفوق سمي المطبق. ولم أر هذا مفسرا حتى إنه في القاموس غير مذكور. انتهى» وجاء في حاشية ابن خلكان أن المطبق : السجن يكون تحت الأرض ، وقد اتخذه العباسيون.

(٦) ٦ الشمس : ٩١.

(٧) مطلع بائية علقمة (شرح بائية علقمة : ٧) وعدد أبياتها أربعون.

٤٥٨

طحابك قلب في الحسان طروب

بعيد الشّباب عصر حان مشيب

فصل الطاء الراء

ط ر ح :

قوله تعالى : (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً)(١). الطرح : الإلقاء والإبعاد. والطّروح : المكان البعيد ، يقال : رأيته من طرح ، أي من بعد. ويكون الإطراح غالبا إلقاء الشيء غير معتدّ به. والطّرح : المطروح أيضا نحو عدل وصوم. و «أرضا» نصب على الظرف في أيّ أرض كانت.

ط ر د :

قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(٢). الطّرد : الإبعاد أيضا ، وقيل : هو الإبعاد مع الإزعاج على سبيل الاستخفاف. يقال : طردته وطرّدته وأطردته فهو مطرود ومطرد ومطرّد. والصّيد المطرد يقال فيه : طرد وطريدة. ومطاردة الأقران : مدافعة بعضهم بعضا. والمطرد : ما يطرد به كالمنجل. واطّراد الشيء متابعة بعضه بعضا كأنّ كلّ بعض يطرد الآخر فيتبعه. ومنه قول العلماء : هذا مطّرد ، أي منقاس ولا يتوقّف به على مكان ولا مسألة بعينها. وفي كلام أهل الكلام : الحدّ شرط الاطّراد والانعكاس والطرد والعكس ؛ فالطّرد هو عبارة عن كونه مانعا لغير المحدود أن يدخل فيه كأنه طرد غير المحدود. والعكس عبارة عن كونه جامعا لأفراد المحدود. فقولك مثلا في حدّ الإنسان : الإنسان حيوان ماش : غير مطرد حيوان كاتب بالفعل غير منعكس. وفي حديث قتادة : «يتوضّأ الرجل بالماء الطرد» (٣) هو الذي تخوضه الدوابّ لأنها تطّرد فيه أي تتابع (٤). وقيل : لأنها يدفع بعضها

__________________

(١) ٩ يوسف : ١٢.

(٢) ٥٢ الأنعام : ٦.

(٣) النهاية : ٣ ١١٨.

(٤) وفي س : تابع.

٤٥٩

بعضا. وفي الحديث : «لا بأس بالسباق ما لم تطرده ويطردك» (١). الإطراد : أن تقول : إن سبقتني فلك عليّ كذا وإن سبقتك فلي عليك من غير تحلّل.

ط ر ف :

قوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)(٢) أي قبل أن يرتدّ إليك جفنك عند فتح عينك يقال : طرف يطرف : إذا فعل ذلك. وقال الفراء : معناه قبل أن يأتيك الشيء من مدّ بصرك. وقيل : بمقدار ما يبلغ البالغ إلى نهاية نظره ، والأول أبلغ. قوله : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ)(٣) أي فاترات الطرف ، وهو صفة مدح في الأعين. وقيل : قصرت أبصارهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم. والطّرف : الجفن ، وهو أيضا تحريك [الجفن](٤) للنظر ، إذ كان تحريك الجفن (٥) يلازمه الطّرف. وطرف فلان : أصيب طرفه.

قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها)(٦) أي من نواحيها ، وذلك عبارة عن فتوح بلاد الشرك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : فتوح البلاد بعده. وفي ذلك دلالة على نبّوته لصدق ما وعد به. والطّرف : الناحية ، وقيل : هو كناية عن موت العلماء ، الواحد طرف بالكسر وسكون الراء. وقيل : يقال فيه طرف أيضا. والأشراف يسمّون الأطراف ، كذا قال الهرويّ ، وفي العرف العكس. وطرف الإنسان : جوارحه كاليدين والرجلين. والظاهر أن قوله : (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) عبارة عن أخذ الناس بالموت ، وأن لا أحد يبقى كقوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ)(٧).

قوله تعالى : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٨) أي جماعة منهم. وقيل فيهم ذلك من حيث إنّ تنقيص طرف الشيء يتوصّل به إلى توهينه وإزالته ، ومن ثمّ قيل : «ننقصها من

__________________

(١) النهاية : ٣ ١١٧.

(٢) ٤٠ النمل : ٢٧.

(٣) ٥٦ الرحمن : ٥٥.

(٤) إضافة يقتضيها السياق.

(٥) في الأصل : الطرف. والتصويب من المفردات : ٣٠٢.

(٦) ٤١ الرعد : ١٣.

(٧) ٤ ق : ٥٠.

(٨) ١٢٧ آل عمران : ٣.

٤٦٠