عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٢

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤

القيامة. والشاهد : كلّ من يشهد. قوله : (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)(١) تنبيه أنّه لا بدّ من وقوعه. وقيل : لأنّه يشهده أهل السماء والأرض. وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منصوصا ما فسّره به أمير المؤمنين : روى الهرويّ بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيد الأيام يوم الجمعة هو شاهد ، ومشهود يوم عرفة». وقيل : الشاهد : نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤيده قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً)(٢) أي شاهدا على أمّتك بالإبلاغ ولمن آمن بالتصديق. وقيل : معناه : مبينا ؛ فإن الشهادة بيان كما سيأتي.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ)(٣) يعني الملائكة. وقيل : الأنبياء والمؤمنون يشهدون على المكذّبين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو جمع شاهد نحو صاحب وأصحاب ، وناصر وأنصار. قوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ)(٤) أي كلّ فرقة تنسب إلى دين اليهود والنّصارى والمجوس سوى مشركي العرب ؛ فإنّهم كانوا يمتنعون من هذا الاسم. فجعل قبولهم لذلك شهادة على أنفسهم بالكفر. وقيل : لأنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم (٥) : [من الرجز]

ألا شريك لك ألا شريك لك

هو لك تملكه وما ملك

قوله : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً)(٦) أي اخترنا منهم نبيا ، وكلّ نبيّ شاهد على قومه. ثم «شهدت» يقال على ضربين : أحدهما جار مجرى العلم وبلفظه تقام الشهادة. فيقول الشاهد : أشهد بكذا ، ولا يكتفى بقوله : أعلم ، بل لا بدّ من لفظه بالشهادة. ولا

__________________

(١) ١٠٣ هود : ١١.

(٢) ٤٥ الأحزاب : ٣٣ ، وغيرها.

(٣) ٥١ غافر : ٤٠.

(٤) ١٧ التوبة : ٩.

(٥) اختلفت رواية التلبية في كتاب الأصنام (ص ٧). يقول هشام الكلبي : فكانت نزار تقول إذا ما أهلّت :

لبّيك اللهمّ لبّيك

لبّيك لا شريك لك

إلا شريك هو لك

تملكه وما ملك

ولعل الناسخ وهم في النقل وتصرّف.

(٦) ٢٥ القصص : ٢٨.

٣٤١

يكتفى منه أيضا بقوله : شهدت ، أو أنا شاهد بكذا. بل لا بدّ من قوله : أشهد ، بلفظ المضارع. والثاني جار مجرى القسم ؛ فيقال : أشهد أنّ زيدا منطلق. وعليه قوله : (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ) الآية (١). ويجري العلم في ذلك مجراه ، فيجاب بما يجاب به القسم ، كقول الشاعر (٢) : [من الكامل]

ولقد علمت لتأتينّ منيّتي

إنّ المنايا لا تطيش سهامها

وقال بعضهم : إذا قال : شهدت ، ولم يقل : بالله أنه يكون قسما. وشهدت كذا : حضرته. وشهدت على كذا : أقمت عليه شهادتي. ومنه قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ)(٣) ، (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ)(٤). وقد يعبّر بالشهادة عن الحكم نحو قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها)(٥) في أحد القولين. وقد يعبّر بها عن الإقرار بالشهادة كقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) الآية (٦). وقوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ)(٧)(وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)(٨) أي أقرّوا. وقد يعبّر بها عن البيان. ومنه عند بعضهم : مبيّنين لدينه ، لأنّ الشاهد يبين ما يشهد به وعليه. وقيل : يتبين بشهادته ما يوجب حكم الحاكم.

وقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)(٩) يحتمل أن يراد بذلك الإعلام ، أي أعلم الله. وأن يراد البيان أي يبيّن. وأن يراد الحكم أي حكم بذلك. وقال بعضهم : أنّ «شهد» هنا قد استعمل في معان مختلفة ؛ فإمّا أن يكون ذلك من باب الاشتراك أو الحقيقة

__________________

(١) ٨ النور : ٢٤.

(٢) البيت للشاعر لبيد. وهو من شواهد سيبويه : ٣ ١١٠. ومن شواهد مغني اللبيب من غير عزو : ٤٠١. على أنه في الديوان (ص ٣٠٨) يختلف صدره ، يقول الديوان :

صادفن منها غرّة فأصبنها

(٣) ٢٤ النور : ٢٤.

(٤) ٢٠ فصلت : ٤١.

(٥) ٢٦ يوسف : ١٢.

(٦) ٦ النور : ٢٤.

(٧) ١٧ التوبة : ٩.

(٨) ٣٧ الأعراف : ٧.

(٩) ١٨ آل عمران : ٣.

٣٤٢

أو المجاز ، وكلاهما مقول به. والاستدلال على ذلك في غير هذا. فشهادة الله تعالى بذلك إعلامه وبيانه وحكمه ، وشهادة الملائكة ومن معهم إقرارهم بذلك كما بينّا. وقد بيّن ذلك بعضهم في عبارة حلوة فقال : فشهادة الله بوحدانيته هي إيجاد ما يدلّ على وحدانيته في العالم وفي نفوسنا ، وأنشد (١) : [من المتقارب]

أيا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد؟

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

وقال بعض الحكماء إنّ الله تعالى لما شهد (٢) لنفسه كان شهادته أن أنطق (٣) خلقه بالشهادة له. قلت : فإن قيل : فقد أنكر أكثر العالم قلت : كلّهم ناطقون بذلك إمّا بلسان القال وإما بلسان الحال ، وإن وجد كفرهم وشركهم عنادا ، وأما شهادة الملائكة بذلك فهي إظهارهم أفعالا يؤمرون بها ، وهي المدلول عليها بقوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(٤) ، وأمّا شهادة أولي العلم فهي اطّلاعهم على تلك الحكم وإقرارهم بذلك. وإنما خصّ أولي العلم لأنهم هم المعتبرون ، وشهادتهم هي المعتبرة. وأمّا الجهال فمبعدون عنها. وعلى ذلك نبّه بقوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(٥) وهؤلاء هم المعنيّون بقوله : (وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ)(٦).

قوله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ)(٧) أي من يشهد له وعليه ، وهم الحفظة الذين كانوا يكتبون أقواله وأفعاله ويحصونها عليه ، وأما السائق فغيرهما. وقيل : أحدهما يسوقه. وليس المراد بالسائق والشهيد الواحد بل الجنس. قوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ

__________________

(١) البيت الثاني من شواهد المفردات : ٢٦٨. وفي س : وأنشد الأديب الفاضل.

(٢) وفي الأصل : ما شهد.

(٣) وفي الأصل : نطق.

(٤) ٥ النازعات : ٧٩.

(٥) ٢٨ فاطر : ٣٥.

(٦) ٦٩ النساء : ٤.

(٧) ٢١ ق : ٥٠.

٣٤٣

وَهُوَ شَهِيدٌ)(١) أي يشهدون ما يسمعونه بقلوبهم على حدّ من قيل فيهم (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٢).

وقوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)(٣) أي شاهدين. يقال : شاهد وشهيد. إلا أنّ صيغة فعيل أبلغ ، والشهيد الشرعي بالنسبة إلى عدم غسله والصلاة عليه هو من قتل في حرب الكفار بسبب القتال. والشهيد في الأجر كالمبطون والغريق كما جاء في الحديث (٤).

إنما سمّوا كلّهم شهداء لأنّ أرواحهم شهدت دار السّلام ، أي أحضرتها. وأمّا أرواح غيرهم فلا تحضرها إلى يوم البعث. قال الهرويّ : وعلى ذلك يؤوّل قوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(٥). وقال أبو بكر : لأنّ الله وملائكته شهود لهم بالخير. وقيل : سمّوا شهداء لأنهم ممن يستشهد يوم القيامة مع الأنبياء على الأمم. وقيل : سموا بذلك لحضور الملائكة إياهم ، إشارة إلى ما قال تعالى (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا)(٦). وقيل : لأنّهم يشهدون في تلك الحالة ما أعدّ الله لهم من النّعيم.

قلت : وقد حكى لي شيخ صالح من دمياط أيام رحلتي إليها ـ وقد زرت قبور الشهداء ١٨٦ هناك في مكان يقال له شطا (٧) ـ فقال ـ وقد أراني قبرا حسنا عليه بناء عظيم (٨) : هذا قبر شطا. قلت : وما شطا؟ قال : ابن ملك من ملوك الفرنج (٩) ، جاء مع أبيه وجيشه ليأخذوا ثغرنا. فلما التحم القتال قتل ناس من المسلمين ، فدخل شطا في المعركة فوجد رجلا من المسلمين يتشحّط في دمه فوقف عليه فكشف له لإرادة الله إياه بالخير. فرأى حورية من

__________________

(١) ٣٧ ق : ٥٠.

(٢) ٤٤ فصلت : ٤١.

(٣) ٢٨٢ البقرة : ٢.

(٤) والحديث : «المبطون شهيد والغرق شهيد» ويروى «الغريق» (النهاية : ٢ ٥١٣).

(٥) ١٦٩ آل عمران : ٣.

(٦) ٣٠ فصلت : ٤١.

(٧) شطا : بالفتح والقصر ، بليدة بمصر على ثلاثة أميال من دمياط على ضفة البحر الملح (معجم البلدان ـ شطا).

(٨) ساقطة من ح ، وفي س : عظيما.

(٩) وفي س : الإفرنج.

٣٤٤

الجنة تبتدره بكوز من الماء. فقال لها شطا : اسقني. فقالت : لست لك. فقالت له أخرى أحسن منها : لو كنت مسلما وقتلت كنت لك. فترك صفهّم وجاء لصفّ المسلمين ، فابتدروه ليقتلوه فأشار إليهم فأمسكوا عنه حتى قصّ قصته. ثم لم يزل يقاتل قومه ويقاتلونه حتى قتل رحمه‌الله. فأخذ ودفن هناك. فمن ثمّ يزار. فهذا معنى قول من قال : إنهم يشاهدون في تلك الحالة ما أعدّ لهم. وقيل : لأنهم عند الله ـ أي عند حياته (١) ـ كقوله تعالى : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ)(٢) فبيّن جهة العنديّة.

قوله تعالى : (تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ)(٣) أي نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(٤) أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، أي تحضره. وقيل : معناه أنّ صاحبه يشهد الشفاء والرحمة المشار إليهما بقوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٥) والتوفيق والسّكينات والأرواح. قوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ)(٦). قال ابن عباس : معناه أعوانكم. وقال مجاهد : الذين يشهدون لكم. وقال بعض أهل العلم : معناه من يعتدّ بحضوره عكس من قيل في حقّهم : [من البسيط]

مخلّفون ويقضي الله (٧) أمرهم

وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا

وقيل : يجوز فيه جميع ما ذكر في معنى الشهادة. وكذا جوّز في قوله : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً)(٨). قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٩) أي لا يفوت علمه شيء. وفيه إشارة إلى معنى ما تضمّنه قوله تعالى : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ)(١٠). وقوله : (يَعْلَمُ السِّرَّ

__________________

(١) وفي ح : جنايته.

(٢) ١٩ الحديد : ٥٧.

(٣) ٩٩ آل عمران : ٣.

(٤) ٧٨ الإسراء : ١٧.

(٥) ٨٢ الإسراء : ١٧.

(٦) ٢٣ البقرة : ٢.

(٧) البيت من شواهد المفردات : ٢٦٨. وفي الأصل : الناس ، والتصويب منه.

(٨) ٧٥ القصص : ٢٨.

(٩) ٧٩ النساء : ٤ ، وغيرها.

(١٠) ١٦ غافر : ٤٠.

٣٤٥

وَأَخْفى)(١). قوله : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ)(٢) أي حافظ ملك. وقيل : هو عبد الله. وفي حديث أبي أيوب : «لا صلاة بعد العصر حتى يرى الشاهد. قيل : يا أبا أيوب وما الشاهد؟ قال : النجم» (٣). وفسّرها الفراء بأنها صلاة المغرب. قال : وهو اسمها. قال شمر : وهذا راجع إلى ما فسّر أبو أيوب أنه النجم ، كأنّه يشهد على الليل. وقال أبو سعيد : سميت صلاة الشاهد لاستواء المسافر والمقيم في أنها لا تقصر. قال الأزهريّ : والقول الأرجح هو الأول ، ألا ترى أنّ صلاة الفجر لا تقصر أيضا؟

قوله : (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا)(٤) فالشهادة هنا هي الإخبار. قوله تعالى : (وَبَنِينَ شُهُوداً)(٥) أي حضورا ، وفيه تنبيه على المروءة واستقرار الخاطر ، وذلك أنه ـ لغناه ـ لا يحتاج في غيبته بيته إلى معاش سفر ولا حضر ، وأنه لا ينغص عليه غيبتهم فيقول : قد هلكوا ، قد قتلتهم اللصوص؟

قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(٦) أي من حضر ولم يكن مسافرا. ولذلك فسّره بعضهم : فمن شهد منكم الشّهر في المصر ، فالشهر نصب على الظرف أو على المفعولية. وقد حقّقنا هذا في غير هذا الكتاب ، والتشهّد : غلب عرفا على التّحيّات.

ش ه ر :

قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي شهر رمضان. ف «أل» فيه للعهد الحسّيّ لتقدّم ذكره : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(٧). وسمي الشهر شهرا ؛ قيل : لاشتهاره بإهلال الهلال ، أو باعتباره جزءا من اثني عشر جزءا من دوران الشمس من نقطة في الفلك الرابع إلى تلك النقطة. وقيل : سمي شهرا لشهرته. وقيل : سمي شهرا باسم الهلال. والهلال إذا

__________________

(١) ٧ طه : ٢٠.

(٢) ١٧ هود : ١١.

(٣) النهاية : ٢ ٥١٤.

(٤) ٨١ يوسف : ١٢.

(٥) ١٣ المدثر : ٧٤.

(٦) ١٨٥ البقرة : ٢.

(٧) ١٦ المزمل : ٧٣ ، إشارة إلى ذكر «الرسول» في آية سابقة لها ، والرابط بين الطرفين هو تقدم الذكر.

٣٤٦

أهلّ سمي شهرا. يقال : رأيت شهرا أي هلالا. ومنه الحديث : «صوموا الشهر وسرّه» (١) وقال ذو الرّمّة (٢) : [من الطويل]

فأصبحت أجلي الطرف ما يستزيده

يرى الشّهر قبل الناس وهو نحيل

ويعبّر عن الرجل العالم بالشهر كأنه سمي بالمصدر مبالغة ؛ تقول : شهرت الشيء شهرا. وأنشد لأبي طالب يمدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) : [من الوافر]

فإنّي والضّوابح كلّ يوم

وما تتلو السّفاسرة الشّهور

قيل : الشهور : العلماء. والمشاهرة : المعاملة بالشهر كالمسانهة والمياومة. وأشهر فلان بالمكان : أقام به شهرا. والشّهرة : الفضيحة والشهرة أيضا هي الاشتهار. وشهر فلان وأشهر ، يقال ذلك في الخير والشرّ.

ش ه ق :

قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)(٤) قيل : الزّفير أول نهيق الحمير ، والشّهيق : آخره. والمعنى أنهم جامعون في استغاثتهم بين هذين الوصفين المنكرين في أصواتهم. وأصله من الشهق ، وهو طول الزّفير ، وهو ردّ النّفس. والزفير مدّه. من قولهم : جبل شاهق ، أي متناه في الطول. وقال الربيع : الشهيق في الصدر والزّفير في الحلق. وقال يعقوب : كلّ شيء ارتفع فهو شهق. يقال شهق يشهق (٥) : إذا تنفّس غالبا.

ش ه و :

قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ)(٦). أصل الشّهوة نزوع النفس إلى ما تريده

__________________

(١) النهاية : ٢ ٥١٥.

(٢) البيت غير مذكور في الديوان ، وعجزه مذكور وغير معزو في اللسان ـ مادة شهر. وفي الأصل : فأصبح.

(٣) البيت من شواهد النهاية (٢ ٥١٦) ، وفيه بكسر الحاء. ومن شواهد اللسان (مادة ـ شهر). وفي الأصل : السوافرة ، والتصويب منهما.

(٤) ١٠٦ هود : ١١.

(٥) وفي اللسان : شهق وشهق يشهق ويشهق شهيقا وشهاقا ، وبعضهم يقول : شهوقا.

(٦) ٥٩ مريم : ١٩.

٣٤٧

وتحبّه. وهي في الدّنيا ضربان : صادقة وكاذبة. فالصادقة ما يختلّ البدن من دونه كشهوة الطعام عند الجوع. والكاذبة : ما لا يختلّ البدن بدونه. وقد يسمّى الشيء المشتهى شهوة مبالغة. وقد يقال للقوّة التي بها الشيء شهوة. فقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ)(١) يحتمل الشهوتين. وقوله : (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) قيل : هي الكاذبة ، والشهوات المستغنى عنها. ورجل شهواني ، مبالغة في النّسب لذلك نحو : رقبانيّ ولحيانيّ.

والشهيّ فعيل بمعنى مفعول.

فصل الشين والواو

ش و ب :

قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) (١). الشّوب في الأصل : الخلط. ومنه شاب اللبن بالماء ، أي خلط. قال الشاعر (٢) : [من البسيط]

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

ومنه يسمّى العسل شوبا (٣) لكونه مختلطا بالشمع ، وفي المثل : «ما عنده شوب ولا روب» (٤) أي لا عسل ولا لبن. وفي الحديث : «لا شوب ولا روب» (٥) أي لا غشّ ولا تخليط في شراء ولا بيع. وأصله من ذلك. ويقال : ما في كلامه شوبة ولا روبة. فالشّوبة : الخديعة ، والروبة : الحمضة الظاهرة. ويقال للمخلّط في كلامه : هو يشوب ويروب. فمعنى الآية الكريمة : ثم إنّ لهم عليها لخلطا ومزجا من حميم وأيّ حميم؟

__________________

(١) ١٤ آل عمران : ٣.

(١) ٦٧ الصافات : ٣٧.

(٢) البيت للثقفي ، وهو من شواهد ابن يعيش (شرح المفصل : ٨ ١٠٤) وفيه : هذي المكارم. وفي س : تلك المكاره.

(٣) في الأصل كلمة (إما) ، أسقطناها لعدم وجود مرجح آخر.

(٤) المستقصى : ٢ ٣٢٧ ، يضرب لمن لا يضرّ ولا ينفع.

(٥) النهاية : ٢ ٥٠٧.

٣٤٨

ش و ر :

قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(١). الشورى : الأمر الذي يشاور فيه. والمصدر المشاورة والتّشاور والمشورة. قيل : والمشورة : استخراج رأي المستشار وما عنده. وأصل ذلك من : شرت العسل ، أي استخرجته. ومنه شوار العروس لأنّه يبدي ويظهر ويستخرج ما عند أهله ، ويكنّى به عن الفرج. وشوّرت به : فعلت ما خجّله ، كأنّك أظهرت شواره. وقال ابن الأعرابيّ : الشّورة ـ بالضم ـ : الجمال. وبالفتح : الخجل (٢). وفي الحديث : «أن أبا بكر ركب فرسا يشوره» (٣) أي يعرضه ويستخرج ما عنده من الجري (٤) ، وذلك المكان يقال له المشوار (٥). وفي الحديث : «أنّ أبا طلحة كان يشور نفسه بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٦) أي يعرضها على القتل. ويقال : شرت العسل وأشرته واشترته. وقال الشاعر (٧) : [من الطويل]

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها

ش و ظ :

قوله تعالى : (شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ)(٨). قيل : الشّواظ : اللهب بلا دخان. والنّحاس : الدّخان. وفيه لغتان : «شواظ» بضمّ الفاء وكسرها (٩) وقد قرئ بهما ، وقرئ أيضا : «ونحاس» بالرفع والجر (١٠). وقد حقّقنا ذلك في «الدرّ» وغيره.

__________________

(١) ٣٨ الشورى : ٤٢.

(٢) جعلها ابن منظور بالفتح (مادة ـ شور).

(٣) النهاية : ٢ ٥٠٨.

(٤) لتباع.

(٥) أي مكان بيع الإبل.

(٦) النهاية : ٢ ٥٠٨.

(٧) عجز لخالد بن زهير ، كما في اللسان ـ مادة سلا. وصدره :

وقاسمها بالله جهدا لأنتم

(٨) ٣٥ الرحمن : ٥٥.

(٩) قرأ الحسن (شواظ) (معاني الفراء : ٣ ١١٧).

(١٠) يقول الفراء : والنحاس يرفع ، ولو خفض كان صوابا. وابن خالويه : نحاس بكسر النون قراءة مجاهد ـ

٣٤٩

ش و ك :

قوله تعالى : (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ)(١) الشّوكة هنا السّلاح. وقيّده بعضهم فقال : السّلاح التّامّ. والشوكة أيضا : القوة والسلطان. وأصل ذلك من الشّوك ، واحده شوكة ، وهو مادقّ وصلب رأسه من النبات. ثم عبّر به عن القوة والسّلطان. والسلاح يقال فيه شوكة وشكّة. ورجل شائك السّلاح ، وشاكي السلاح ، وشاك السّلاح. ويقال ذلك بفي أيضا فيقال : شاكّ في السلاح. قيل : وشاكي السلاح مقلوب من شائك ، كهار مقلوب من هائر. قال زهير (٢) : [من الطويل]

لدى أسد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم

وقيل : السلاح أجمع. وقول الفقهاء : من ولّاه (٣) ذو الشّوكة ، يريدون ذا القهر والغلبة. وشوكة العقرب : إبرتها على التشبيه. وشجرة شائكة وشاكية. وشاكني الشّوك : أصابني. وفي الحديث : «حتى يشاكها» (٤) ، وقال الراجز (٥) : [من الرجز]

حوكت على نيرين إذ تحاك

تختبط الشّوك ولا تشاك

وشوّك الفرخ : نبت عليه مثل الشّوك. وشوّك البعير : طالت أنيابه. وشوّك ثدي المرأة : نهد ، كلّه على التشبيه.

__________________

ـ والكلبي وأمالوا الحاء. و (نحس) قراءة عبد الرحمن بن أبي بكر. و (نحس) قراءة مسلم بن جندب. و (نحس) بفتح النون وكسر السين قراءة حنظلة بن يعمر. و (نحس) قراءة إسماعيل (مختصر الشواذ : ١٤٩).

(١) ٧ الأنفال : ٨.

(٢) الديوان : ٢١. ويقول الأعلم الشنتمري : قوله : «شاكي السلاح» أي سلاحه شائكة حديدة. وأراد «شائك» فقلب الياء من عين الفعل إلى لامه ، ويجوز حذف الياء.

(٣) غير واضحة ، ورسمها في الأصل «من ولاة».

(٤) وتمام الحديث كما في النهاية : ٢ ٥١٠ : «حتى الشوكة يشاكها».

(٥) أنشده ثعلب كما في اللسان ـ مادة خبط.

٣٥٠

ش و ي :

قوله تعالى : (نَزَّاعَةً لِلشَّوى)(١) قيل : الشّوى : الأطراف كاليد والرّجل ، الواحدة شواة. ورماه فأشواه ، أي أصاب شواه ولم يصب مقتله. ومنه قيل للأمر الهيّن : شوى ، من قول العرب : كلّ شيء شوى ما سلم لك دينك (٢). وأصله أنّ كلّ ما أصاب المضروب في أطرافه دون مقتله فهو هيّن سهل. وفي حديث مجاهد : «[كلّ] ما أصاب الصائم شوى إلا الغيبة» (٣) أي كلّ ما أصاب الصائم سهل لا يبطل صومه إلا الغيبة. وقيل : الشّوى : جلود الرأس. والجلدة : شواة ؛ أي تنزع أطرافهم وجلود رؤوسهم. نسأل الله بمنّه أن يقينا عذاب النار بمحمد وآله. وشويت اللحم وأشويته. والشّويّ : ما يشوى. قال امرؤ القيس (٤) : [من الطويل]

فظلّ طهاة اللحم ما بين منضج

صفيف شواء أو قدير معجّل

فالشواء : ما شوي. والقدير : ما طبخ في القدور. وفي البيت بحث نحويّ (٥).

فصل الشين والياء

ش ي أ :

قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(٦). الشيء عند العلماء هو الذي يصحّ أن يعلم ويخبر عنه. وعند كثير من المتكلمين هو اسم مشترك المعنى إذا استعمل في الله وفي غيره. يقع على الموجود والمعدوم. وعند بعض المتكلمين لا يقع إلا على الموجود دون

__________________

(١) ١٦ المعارج : ٧٠.

(٢) أي كل شيء هين.

(٣) النهاية : ٢ ٥١٢. ويروى «.. إلا الغيبة والكذب» عن اللسان. والإضافة منه.

(٤) البيت من معلقته ، الديوان : ٣٨. الصفيف : اللحم المشرح المرتب أو الذي يغلي إغلاءة ثم يرفع.

القدير : المطبوخ في القدرة. وفي الأصل : من غير منضج. وهو وهم.

(٥) أنظر تفصيل بحثه في شرح القصائد العشر : ٨١.

(٦) ٨٨ القصص : ٢٨.

٣٥١

المعدوم. وأمّا المستحيل فليس بشيء وفاقا. قال الراغب (١) : وأصله مصدر شاء. فإذا وصف الله تعالى به فمعناه شاء ، وإذا وصف به غيره فمعناه المشيء به. قال : وعلى الثاني قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(٢) فهذا على العموم بلا مثنويّة إذ كان الشيء هنا مصدرا في معنى المفعول. وقوله : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً)(٣) هو بمعنى الفاعل.

والمشيئة عند أكثر المتكلمين كالإرادة سواء وعند آخرين هي غيرها. فقال (٤) : إنّ المشيئة في أصلها : إيجاد الشيء وإصابته ، وإن كان قد وقع العرف بأنهما سيّان. فالمشيئة من الله تعالى إيجاده ، ومن الناس الإصابة. وقال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٥) تنبيه أنّ مشيئتهم مرتبة على مشيئة الله ، فلا فعل يستقلّ به العبد. وإذا كانت الإرادة التي هي من مقدّمات الفعل مرتبة على إرادة الله فالفعل بطريق الأولى فالمشيئة من الله مقتضية وجود الشيء. ومن ثمّ قيل : ما شاء بطريق الأولى فالمشيئة من الله مقتضية وجود الشيء. ومن ثمّ قيل : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكذلك الإرادة عندنا. ومن فرّق بينهما كالراغب الإصبهانيّ (٦) ، قال في المشيئة ما قدّمته. وقال في الإرادة : والإرادة (٧) منه (٨) لا تقتضي وجود المراد لا محالة ، ألا ترى أنه قال : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٩). وقال : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)(١٠). وقال : ومعلوم أنّه قد تحصل من غير أن تتقدّمها إرادة الله تعالى ، فإنّ الإنسان قد يريد ألّا يموت ، ويأبى الله ذلك ، ومشيئته لا تكون إلا بعد مشيئته لقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). وروي أنه لما نزل قوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ

__________________

(١) المفردات : ٢٧١.

(٢) ١٦ الرعد : ١٣.

(٣) ١٩ الأنعام : ٦.

(٤) يعني الراغب.

(٥) ٣٠ الإنسان : ٧٦.

(٦) المفردات : ٢٧١. والمؤلف يسقط بعض أقوال الراغب.

(٧) ساقطة من س.

(٨) ساقطة من ح. وهذه وسابقتها مذكورتان في المفردات.

(٩) ١٨٥ البقرة : ٢.

(١٠) ٣١ غافر : ٤٠.

٣٥٢

مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)(١) قال الكفار : الأمر إلينا ؛ إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم. فأنزل الله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، انتهى كلامه وفيه نظر ، إذ يؤدّي إلى أن يريد الإنسان بدون إرادة الله تعالى. وإلى أن يقع في الوجود ما لا يريد. وهذا يقرب ممّا لا يليق ولا يجوز. وأمّا قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فالمعنى فيما فرضه وقرّره علينا من أمر الإفطار لمن لا يقدر على الصّوم يدلّ على ذلك سياق الكلام واتّساقه. ١٨٨ وأما قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ). أي منه ؛ يعني يريد أن لا يظلمهم. وهذا واقع ، فإنّه تعالى لا يظلم أحدا ولا يريد ظلمه. وقال بعضهم : لو لا أنّ الأمور كلّها موقوفة على مشيئة الله تعالى ، وأنّ أفعالنا معلّقة (٢) بها وموقوفة عليها لما أجمع على تعليق الاستثناء به في جميع أفعالنا ، نحو قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً)(٣) ، وغير ذلك من الآي.

ش ي ب :

قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(٤) الشيب : ابيضاض الشعر من الكبر غالبا. وقد يرد من مصائب الدّنيا ما يعجل بياضه مع حداثة السنّ. وقد جاء في بعض التفاسير أنّ رجلا بات شابا فأصبح شائبا. فقيل له ، فقال : رأيت وكأنّ القيامة قد قامت ، ورأيت من أهوالها ، فمن ثمّ شبت. ويؤيد هذا قوله تعالى : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً)(٥) وما أفصح هذا الكلام وأعذبه وأعجزه! حيث أتى بهذه اللفظة المقتضية للحنوّ على هذا الجنس ، وأنه قد أصابه ما صيّره شائبا.

ويحكى أنّ عيسى عليه وعلى نبيّنا وعلى سائر النبيين الصلاة والسّلام والحواريين خرجوا ذات يوم سائحين ، فتذاكروا السفينة فقالوا : يا روح الله ، لو بعثت لنا من شاهدها فيخبرنا بها. فأتى تلا من التراب فضربه بعصا كانت معه وقال : قم بإذن الله ، فإذا رجل أشمط فقال : من أنت؟ قال : سام بن نوح. فاستحكوه أمر السفينة فحكى ، فقال له : أمتّ

__________________

(١) ٢٨ التكوير : ٨١.

(٢) في الأصل : متعلقة ، ولعلها كما ذكرنا.

(٣) ٦٩ الكهف : ١٨.

(٤) ٤ مريم : ١٩.

(٥) ١٧ المزمل : ٧٣.

٣٥٣

كذا؟ فقال : متّ شابا ، ولكنه لمّا بعثتني حسبت أن القيامة قد قامت ، فمن ثمّ شبت. وأنشد بعض ملوك المغرب : [من الطويل]

ومنكرة شيبي لعرفان مولدي

ترجّع والأجفان ذات غروب

فقلت : يسوق الشيب من قبل وقته

زوال نعيم أو فراق حبيب

وأنشدوا للعرب (١) : [من الوافر]

رمى الحدثان نسوة آل سعد

بمقدار سمدن له سمودا

فردّ شعورهنّ السّود بيضا

وردّ وجوههنّ البيض سودا

وأنشدني بعضهم لغيره : [من الطويل]

وقائلة : شبنا. فقلت : نعم شبنا

ولكنّ في الدنيا الدنية أنشبنا

فيا ليتنا لما تقضّى زماننا

خلصنا فأخلصنا ولكنّنا شبنا

ويقال : رجل أشيب ، وامرأة شيباء ، والجمع فيهما شيب ، نحو : أحمر وحمراء وحمر. قال الشاعر (٢) : [من البسيط]

منّا الذي هو ما إن طرّ شاربه

والعانسون ومنّا المرد والشّيب

وقد ذكرنا وجوه المبالغة في قوله : (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ولله الحمد. والأصل شيبا بضمّ الفاء ، فكسرت لتصحّ الياء. وقد يكون إسراع الشيب من برودة المزاج ورطوبته. وكذلك اسوداد شعور أهل الأقاليم الحارّة دون غيرهم.

قوله تعالى : (ضَعْفاً وَشَيْبَةً)(٣) بمعنى الشيخوخة. وفي بعض التفاسير في قوله

__________________

(١) ذكرهما ابن منظور ـ مادة سمد. وفيه : آل حرب. السامد : اللاهي والساهي والمتكبر.

(٢) البيت لأبي قيس بن رفاعة كما في اللسان ـ مادة عنس. ومن شواهد ابن هشام في مغني اللبيب : ٣٠٤. وفي س : ومنها المرد ، وهو وهم.

(٣) ٥٤ الروم : ٣٠.

٣٥٤

تعالى : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ)(١) إنه الشيب. وقد تطيّرت منه الناس تطيّرا كثيرا وقالوا فيه ما لا يحصى حتى قال بعضهم (٢) : [من الخفيف]

لو رأى الله أنّ في الشيب خيرا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا

وقد أخطأ قائل ذلك. وحتى قال المتنبي (٣) : [من البسيط]

ضيف ألمّ برأسي غير محتشم

السّيف أحسن فعلا منه بالّلمم

ولذلك رغب الشارع فيه ، وأزال النّفرة منه. وسمّاه الله وقارا فيما قاله لخليله إبراهيم ـ عليه‌السلام (٤) ـ حتى قال : «يا ربّ زدني وقارا». ويعبّر به عن الشدّة. وعلى ذلك قولهم : باتت المرأة بليلة شيباء ، إذا افتضّت. وبليلة حرّة إذا لم تفتضّ. ثم قيل : باتوا بليلة شيباء ، أي في شدّة. ويوم أشيب ، أي شديد. قال الشاعر :

ذا كواكب أشيبا

ش ي خ :

قوله تعالى : (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً)(٥) هو جمع شيخ. والشّيخ : من بلغ السنّ العالية وإن لم يشب. وبعضهم يقيّده بالشّيب. وقد شاخ يشيخ فهو شيخ بيّن الشيخوخة والشّيخ والتّشييخ. والشيخ يقابله عجوز. ولا يقال : شيخة إلا في لغيّة. قال الشاعر (٦) : [من الطويل]

وتضحك مني شيخة عبشميّة

كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا

__________________

(١) ٣٧ فاطر : ٣٥.

(٢) البيت لأبي تمام وكذا رواية معاهد التنصيص : ٤ ٢٦٦. وفي الديوان (١ ١٦٨) : للشيب فضلا.

(٣) مطلع لقصيدة من أيام صباه (ديوان أبي الطيب : ٤ ٣٤).

(٤) ساقط من ح.

(٥) ٦٧ غافر : ٤٠.

(٦) البيت لعبد يغوث بن وقاص الحارثي من قصيدة ، كما في شرح المفصل : ٥ ٩٧. والقصيدة مذكورة في المفضليات ص ١٥٥ ، والبيت ص ١٥٨.

٣٥٥

وله جموع كثيرة منها ما هو جمع تكسير ، ومنها ما هو اسم جمع. فمن الأول : أشياخ وشيوخ وشيخان وشيخة ، عند من يراها جمعا. ومن الثاني : مشيخة وشيخة ، عند من لا يرى فعلة جمعا. وشيخاء ومشيوخاء. ويجوز في فاء شيوخ الضمّ والكسر ، وقد قرئ بهما كبيوت وعيون.

واعلم أنّ الولد ما دام في بطن أمّه فهو جنين لاجتنانه ، وجمعه أجنّة ، وقد تقدّم في باب الجيم. فإذا ولد فهو صبيّ ، إلى الفطام. ثم هو غلام ، إلى سبع. ثم يافع ، إلى عشر. ثم حزّور ، إلى خمس عشرة. ثم قمدّ ، إلى خمس وعشرين. ثم عنطنطا (١) ، إلى ثلاثين (٢) ؛ قال الشاعر (٣) : [من الطويل]

يذكّر نعماه لدن أنت يافع

إلى أنت ذا ورّين أبيض كالنسر

وقال الآخر في العنطنط (٤) : [من الطويل]

وبالمحض حتى آض جعدا عنطنطا

إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه

ثم صمل ، إلى الأربعين. ثم كهل ، إلى الخمسين. ثم شيخ ، إلى الثمانين. ثم هو همّ (٥) بعد ذلك.

وقال بعضهم : إذا ولد فهو وليد. فإن لم يستتمّ أسبوعا فصديع (٦). وما دام يرضع فهو

__________________

(١) رجل عنطنط : طويل. وهي الطويلة العنق.

(٢) اختلف اللغويون في هذه التسميات. أنظر مثالا على ذلك فقه اللغة : ١١٠ ـ ١١١.

(٣) لم يستقم المعنى معنا.

(٤) البيت مع سابق له مذكور في اللسان أنشده ابن الأعرابي لفرعان التميمي في ابنه منازل حين عقّه. والجعد : الخفيف من الرجال (مادة ـ جعد).

(٥) الهم : الشيخ الفاني.

(٦) يسمى صديغا : لأنه لا يشتدّ صدغه إلى تمام السبعة.

٣٥٦

رضيع. ثم عند الفطام فطيم. فإن لم يرضع فجحوش. فإذا دبّ ، فدارج. قال الشاعر (١) : [من الرجز]

يا ربّ بيضاء من العواهج

أمّ صبيّ قد حبا أو دارج

فإذا سقطت رواضعه ، فمثغور. فإذا نبتت بعد الإسقاط فمثغور (٢) ومبغور (٣) فإذا جاوز العشر ، فناشئ ومترعرع. فإذا قارب الاحتلام فيافع ومراهق. فإذا احتلم فحزوّر. قال : والغلام يطلق عليه في جميع أحواله بعد الولادة (٤). فإذا اخضرّ شاربه وسال عذاره فباقل. وإذا صار ذا لحية ففتى وشارخ. فإذا كملت لحيته ، فمجتمع (٥). ثم وهو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ. ومن الأربعين إلى الستين كهل. وقال بعضهم : الغلام هو الفتيّ السنّ من الناس. وقال آخرون : من بقل عذاره ، وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجازا. وسيأتي مزيد بيان في بابي العين والكاف إن شاء الله.

ش ي د :

قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(٦) أي مبنيّة بالشّيد ، وهو الجصّ. وقال ابن عرفة : الشيد : ما طلي على الحائط من جصّ وصاروج وغير ذلك. فكأنّها التي طليت بالشيد. وقال ابن اليزيديّ : البروج المشيدة : هي الحصون المجصّصة. وقال مجاهد ، في قوله تعالى : (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)(٧) أي بالقصّة ، أي بالجصّ مطليّ به. وقيل : المشيّدة :

__________________

(١) أورده ابن منظور في موضعين ؛ في مادة ـ عهج لقوم من العرب حيث أورد الصدر لعجز آخر. وفي مادة ـ درج أورد العجز لصدر آخر. وذكر الفراء العجز من رجز ثلاثي وعزاه جندب بن عمر (معاني القرآن : ١ ٢١٤).

(٢) وهو عند الثعالبي «متّغر» ، بالتاء والثاء (فقه اللغة : ١١١).

(٣) في الأصل : مبعور. ولعله يريد : متّغر ومثّغر.

(٤) وكذا رأي الثعالبي.

(٥) في الأصل : فمتجمع ، والتصويب من فقه اللغة : ١١١.

(٦) ٧٨ النساء : ٤.

(٧) ٤٥ الحج : ٢٢.

٣٥٧

المطوّلة البناء ، المرتفعة. يقال : شاد بنيانه وشيّده : إذا علّاه. ويقال : أشاد بذكره ، أي رفعه ونوّه به قال الهرويّ : ولا يقال في هذا شاد ولا شيّد. وفي الحديث : «أيّما رجل أشاد على امرئ مسلم كلمة هو منها بريء» (١) أي رفع ذلك وأظهره. والإشادة : أيضا : رفع الصوت. يقال : أشاد فلان صوته ، وهو رفع في المعنى.

ش ي ط :

قوله تعالى : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ)(٢) قد تقدّم أنّ في اشتقاقه قولان : أحدهما من شطن وهو الصّحيح. والثاني من شاط يشيط : إذا هاج واحترق. وإنّ الاشتقاق يردّه وإن كان معناه صحيحا. وفي الحديث : «إذا استشاط السلطان تسلّط الشّيطان» (٣) أي إذا تحرّق من شدّة الغضب. ويقال : شيّط الطباخ الرؤوس والأكارع : إذا أشعل فيها حتى يتشيّط ما عليها من الشّعر والصّوف.

وشاط السّمن حتى كاد يحترق. وثم يعبّر به عن الهلاك والإهلاك ؛ فيقال : شاط (٤) دمه وأشاطه. وقال الأعشى (٥) : [من البسيط]

وقد يشيط على أرماحنا البطل

وفي الحديث : «أن فلانا قاتل حتى شاط في رماح القوم» (٦). وشاط لحم الجزور : إذا قسّمها. ومنه قول عمر رضي الله عنه : «إن أخوف ما أخاف عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم البريء فيشاط لحمه كما تشاط الجزور» (٧).

__________________

(١) النهاية : ٢ ٥١٧.

(٢) ٩٨ النحل : ١٦.

(٣) النهاية : ٢ ٥١٨.

(٤) وفي الأصل : شاطه.

(٥) وصدره كما في الديوان (ص ٦٣) :

قد نخضب العير من مكنون فائله

(٦) النهاية : ٢ ٥١٩. أي هلك.

(٧) النهاية : ٢ ٥١٩.

٣٥٨

ش ي ع :

قوله تعالى : (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ)(١) أي في فرقهم. وقيل : في أصحاب الأوّلين. وكلّ من فارق إنسانا وتحزّب له فهو له شيعة. وعليه قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ)(٢). وجمعها شيع كقربة وقرب ، وأشياع. ومنه قوله تعالى : (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ)(٣). وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ)(٤) أي من شايعكم على الكفر ، أي بايعكم عليه. يقال : شايعه على كذا ، أي تابعه. وأصل الشّياع : الانتشار والتّقوية. ومنه : شاع الحديث ، وأشاعه فلان ، أي أذاعه ونشره. وشايعته : قوّيته ، وذلك أنّ المتّبع مقوّ للمتبوع.

وشاع القوم : انتشروا وكثروا. وشيّعت النار بالحطب. والشّيعة : من يتقوّى بهم الإنسان ، وينشرون عنه أوامره ونواهيه. قوله تعالى : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً)(٥) أي فرقا متفرقة ، كلّ فرقة على حدة ، يعني : يعاقبكم بتفرقة كلمتكم. ويجوز أن يكون «شيعا» نفس الشيء الملبوس على الاستعارة ، أي نجعل الفرق من غيركم شاملة لكم ، فنسلطهم عليكم. ويرشّحه : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)(٦).

قوله : (وَكانُوا شِيَعاً)(٧) أي فرقا يتابع بعضهم بعضا. وشيّعته ، وشايعته : اتّبعته. وتقول العرب : شاعكم السّلام. أي تبعكم. وأشاعكم الله السّلام ، أي أتبعكموه. وفي الحديث : «نهى عن التّضحية بالمشيّعة» (٨) بكسر الياء ، هي التي تشيّع الغنم ، أي تتبعها عجفا وهزالا. وتشييع الجنائز : اتباعها. والمشيّع ـ بفتح الياء ـ : الشّجاع ، كأنه لإقدامه مشيّع للقبر. وفي الحديث أنّ مريم دعت على الجراد فقالت : «اللهمّ شيّعه بلا شياع» (٩)

__________________

(١) ١٠ الحجر : ١٥.

(٢) ٨٣ الصافات : ٣٧.

(٣) ٥٤ سبأ : ٣٤.

(٤) ٥١ القمر : ٥٤.

(٥) ٦٥ الأنعام : ٦. ويقول الأخفش : «لأنها من لبس يلبس لبسا» (معاني القرآن : ٢ ٤٩١).

(٦) ٦٥ الأنعام : ٦.

(٧) ١٥٩ الأنعام : ٦.

(٨) النهاية : ٢ ٥٢٠ ، من حديث الضحايا.

(٩) تمام الحديث : «اللهمّ أعشه بغير رضاع وتابع بينه بغير شياع» (النهاية : ٢ ٥٢٠).

٣٥٩

بالكسر. قال ابن الأعرابيّ : بلا زمّارة وراع. قال الأزهريّ : الشّياع : الرّعاء بالإبل لتنساق. وأكثر ما يفعل الراعي ذلك بالزمّارة ، فأطلق الشّياع عليها.

والشّياع ـ بالفتح ـ : الإشاعة ، كأنه اسم مصدر كالعطاء للإعطاء. (والحمد لله ربّ العالمين والصلاة على نبيّه وآله) (١).

__________________

(١) ما بين قوسين إضافة من س.

٣٦٠