عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٢

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤

يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ)(١) ثم تزيين الله الأشياء قد يكون بإبداعها وإيجادها مزيّنة في نفسها ، أو بأن يزيّنها غيرها كتزيين البيت بأثاثه. وقد قرئ قوله : (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) على أوجه (٢) تلتفت إلى ما ذكرناه حسبما حقّقناه في «الدر» وغيره.

__________________

(١) ٤٠ يس : ٣٦.

(٢) قرأ مسروق وحفص وحمزة : «بزينة الكواكب» ، وقراءة أبي بكر عن عاصم «الكواكب» ، وذكر الفراء إمكان قراءتها مرفوعة (معاني القرآن : ٢ ٣٨٢).

١٨١

باب السين

فصل السين والهمزة

س أل :

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)(١) أي تتناشدون به وتتقاسمون. فتقول : أنشدك بالله وبالرّحم. والسؤال : استدعاء معرفة أو ما يؤدّي إليها ، واستدعاء مال أو ما يؤدّي إليه. فاستدعاء المعرفة جوابها باللسان ، وتنوب عنه اليد ، فاليد خليفة عنه بالكتابة والإشارة ، واستدعاء المال جوابه باليد ، وينوب عنها اللسان بوعد أو ردّ. وأمّا السؤال الوارد من الله تعالى فليس للاستعلام لأنه تعالى علّام الغيوب ، وإنّما المراد به التقريع والتّبكيت لقوم ، أو الجحد كقوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)(٢) المقصود تبكيت عبدة المسيح وأمّه ، وإظهار كذبهم على عيسى ومريم عليهما‌السلام (٣) ، وقوله : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(٤) المقصود نفي ذلك عن كلّ أحد وإثباته للفسقة ، وقوله : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ)(٥) يقال : هذا تبكيت وتقريع لمن كان يئد ولده ، ولهذا قرئ سألت مبنيا للفاعل و «قتلت» مبنيا للمفعول مضموم التاء للمتكلم (٦).

ثم السؤال إن كان للتعرّف تعدّى لاثنين ثانيهما بنفسه تارة وبحرف الجرّ أخرى. وهو

__________________

(١) ١ النساء : ٤.

(٢) ١١٦ المائدة : ٥.

(٣) بكته : عنفه وقرّعه.

(٤) ٣٥ الأحقاف : ٤٦.

(٥) ٨ التكوير : ٨١.

(٦) قرأها كذلك علي (رضي) وابن مسعود وابن عباس وعن عشرة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأها أبو جعفر المدني بالتشديد «قتّلت» بالتشديد. وقرأ الأعشى «المودة» بلا همز (مختصر الشواذ : ١٦٩).

١٨٢

«عن» ، وتنوب عنها الباء نحو : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)(١) ، وقوله (٢) : [من الطويل]

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

وبعن أكثر ، كقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)(٣). وإن كان لاستدعاء مال تعدّى بنفسه أو بمن ، فمن الأول قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً)(٤) ومن الثاني : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)(٥). وغلب السائل على الفقير لقوله تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(٦)(لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(٧). ولا معارضة بين قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)(٨). وقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(٩) إذ يوم القيامة ذو مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر ، أو يسألون سؤال تقريع وتوبيخ لا سؤال تكرمة.

قوله تعالى : (وَعْداً مَسْؤُلاً)(١٠) إشارة إلى قوله تعالى حكاية عن الملائكة في دعائهم للمؤمنين : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ)(١١). وقوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ)(١٢) أي دعا داع ، وذلك إشارة إلى قوله حكاية عن بعض الأشقياء : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)(١٣) الآية.

قوله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ)(١٤) قرئ لا تسأل مبنيا

__________________

(١) ٥٩ الفرقان : ٢٥.

(٢) البيت لعلقمة من بائية (شرح بائية علقمة : ١٤). وروايته في اللسان ـ مادة طبب : بصير بأدواء ...

(٣) ٨٥ الإسراء : ١٧.

(٤) ٥٣ الأحزاب : ٣٣.

(٥) ٣٢ النساء : ٤.

(٦) ١٠ الضحى : ٩٣.

(٧) ١٩ الذاريات : ٥١.

(٨) ٣٩ الرحمن : ٥٥.

(٩) ٩٢ الحجر : ١٥.

(١٠) ١٦ الفرقان : ٢٥.

(١١) ٨ غافر : ٤٠.

(١٢) ١ المعارج : ٧٠.

(١٣) ٣٢ الأنفال : ٨.

(١٤) ١١٩ البقرة : ٢.

١٨٣

للمفعول على الخبر المنفيّ ، أي إنّما عليك أن تبلّغ ، وفي معناه : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(١)(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)(٢). (وَلا تُسْئَلُ) على النهي وذلك لشدّة الأمر ، كقولك : لا تسأل عن فلان ، أي هو بحالة لا يستطاع أن يسأل عنها ، لما في جوابها من الفظاعة.

وقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا)(٣) قيل : خوطب به ليلة الإسراء به ، حيث صلّى إماما بالأنبياء عليهم الصلاة والسّلام : وقيل : معناه : سل أممهم والأول أوجه.

س أم :

قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ)(٤) أي لا يملّ ، والسآمة : الملل ، يقال : سئم زيد فلانا ومن فلان. قال تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ). وقال زهير بن أبي سلمى (٥) : [من الطويل]

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين عاما ـ لا أبا لك ـ يسأم

وقيل : السآمة : الملالة ممّا يكثر لبثه فعلا كان أو انفعالا.

__________________

(١) ٤٠ الرعد : ١٣.

(٢) ٥٢ الأنعام : ٦.

(٣) ٤٥ الزخرف : ٤٣.

(٤) ٤٩ فصلت : ٤١.

(٥) البيت من مشهور معلقته. وأكثر الروايات : ثمانين حولا (شعر زهير : ٢٥).

١٨٤

فصل السين والباء

س ب أ :

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ)(١). سبأ في الأصل : اسم رجل من قحطان. وقيل : اسمه الأصليّ عبد شمس ، وسبأ لقب له لأنّه أول من سبا ، وفيه نظر لأنّ المادتين مختلفتان ، وولد له عشرة أولاد ، تيامن (٢) ستة وهم : جمعة وكندة والأزد ومجاشعة وخثعم وبجيلة. وتشأم أربعة وهم : لخم وجذام وعاملة وغسان. ثم سميت به بلد معروفة وصرّف ليعرف أهلها. المثل لقصّة استوفيناها (٣) في «التفسير» ؛ فيقال : تفرّقوا أيادي سبا ، وأيدي سبا (٤). وقيل : سمي به القبيلة أو الحيّ ، ومن ثمّ قرئ في الصحيح بصرفه ومنعه ؛ فمن الصرف قوله (٥) : [من البسيط]

الواردون وتيم في ذرى سبإ

قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس

ومن المنع قول الآخر (٦) : [من المنسرح]

من سبأ الحاضرين مأرب إذ

يبنون من دون سيلها العرما

 __________________

(١) ١٥ سبأ : ٣٤.

(٢) تيامن : ذهب إلى اليمن ، وتشأم : قصد الشام.

(٣) ضربت بهم العرب المثل في الفرقة ، لأنه لما أذهب الله عنهم جنّتهم وغرّق مكانهم تبدّدوا في البلاد (اللسان).

(٤) العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع لأنه كثر في كلامهم ، فاستثقلوا فيه الهمزة وإن كان أصله مهموزا (اللسان ـ مادة سبأ).

(٥) البيت لجرير. وروايته هنا تناسب رواية معاني القرآن للفراء : ١ ٣٠٨. واختلفت رواية صدره في الديوان (ص : ٣٢٥) ، وفيه :

تدعوك تيم وتيم في قرى سبأ

(٦) البيت من شواهد اللسان (مادة ـ سبأ) ، ومنه صوّبنا رواية البيت.

١٨٥

والسّبء : الخمرة ، من سبأت الخمرة أي شربتها ؛ قال حسان بن ثابت رضي الله عنه (١) : [من الوافر]

كأنّ سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

س ب ب :

قوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ)(٢). السبب في الأصل : هو الحبل الذي يصعد به إلى النّخل ، ثم جعل عبارة عن كلّ شيء يتوصّل به إلى غيره ، عينا كان أو معنى. قوله : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ)(٣) إشارة إلى قوله : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ)(٤). وقوله : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً)(٥) إشارة إلى ما متّعه به من وجوه المعارف وأحوال الدنيا ، وأنه أتبع سببا واحدا منها فبلغ به ما هو مشهور عنه.

وقوله تعالى حكاية عن فرعون : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ)(٦) أي الذرائع التي يتوصّل بها مثلي إلى طلبته.

قوله : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ)(٧) أي الوصل والمودّات. وسمّوا الثوب والخمار والعمامة سببا لطولها تشبيها بالحبل في الامتداد والطول.

والسّبب : الطريق. والسبب : الباب أيضا ، وذلك لأنهما يتوصّل بهما إلى ما بعدهما ، وسمي الشّتم الوجيع سبّا لأنه يوصل إلى المشتوم أو يتوصّل به إلى أذاه ، قال تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ)(٨) أي يتكلمون بما لا يليق بجلاله لا أنهمّ يصرّحون بسبّه تعالى ، إذ (٩) لم يتجاسر أحد ولا يطاوعه طبعه ولا سجيّته على ذلك ، وقد

__________________

(١) الديوان : ١ ١٧ ، وفيه : كأن خبيئة. واللسان (مادة ـ سبأ) يطابق الأصل.

(٢) ١٥ الحج : ٢٢.

(٣) ١٠ ص : ٣٨.

(٤) ٣٨ الطور : ٥٢.

(٥) ٨٤ و ٨٥ الكهف : ١٨.

(٦) ٣٦ و ٣٧ غافر : ٤٠.

(٧) ١٦٦ البقرة : ٢.

(٨) ١٠٨ الأنعام : ٦.

(٩) وفي س : إذا

١٨٦

يطلق على سبب السّبّ سبّا ، ومنه : «لا يسبّ الرجل أباه. قيل : كيف يسبّ أباه؟ قال : يسبّ أبا الرجل ، فيسبّ إباه» (١). قال الشاعر (٢) : [من المتقارب]

وما كان ذنب بني مالك

بأن سبّ منهم غلام فسب

بأبيض ذي شطب قاطع (٣)

يقدّ العظام ويبري العصب

نبّه بذلك على قول الآخر (٤) : [من الطويل]

ونشتم بالأفعال لا بالتّكلّم

وقد أحسن من قال (٥) : [من الكامل]

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فمضيت [ثمة] قلت : لا يعنيني

والسّبّة : الشيء الذي يسبّ ، قال الشاعر (٦) : [من البسيط]

إن يسمعوا سبّة طاروا بها فرحا

منّي وما سمعوا من صالح دفنوا

والسّبّ : الكثير السبّ. قال الشاعر (٧) : [من الرمل]

لا تسبّني فلست بسبّي

ويكنى بالسّبّة عن الدّبر كما كني بالسّوءة عنه وعن القبل. والسبّابة من الأصابع : ما يلي الإبهام ؛ سميت بذلك لتحريكها والإشارة بها وقت المسابّة ، كما سمّوها مسبّحة لتحريكها وقته. والسبّ أيضا الثوب الدقيق. ومنه : [من الخفيف]

__________________

(١) النهاية : ٢ ٣٣٠ ، وانظر فيه اختلافه.

(٢) البيتان لذي الخرق الطّهويّ مع ثالث لهما في اللسان (مادة ـ سبب) ، وهما من شواهد المفردات من غير عزو.

(٣) وفي رواية اللسان : باتر.

(٤) من شواهد المفردات : ٢٢٠.

(٥) البيت من شواهد المغني : ١٠٢ ، والإضافة منه.

(٦) البيت للقعنب بن أم صاحب ، كما في معاني الفراء : ٣ ٢٧٦.

(٧) صدر لعبد الرحمن بن حسان يهجو به مسكينا الدارميّ ، وعجزه (اللسان ـ مادة سبب) :

إنّ سبي من الرجال الكريم

١٨٧

فإذا سبّ فيه ذو خلّة رطب

والسّباب مصدر سابّه ، نحو قاتله قتالا. وفي الحديث : «وسبابه فسوق» (١).

س ب ت :

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً)(٢) أي قطعا لأعمالكم التي تزاولونها نهارا ، والمعنى : جعلناه راحة لكم. أو لأنه تنقطع فيه حركاتكم فتسكنون. والسّبات : السكون ، ومنه يوم السّبت لأنه يقال أنه تعالى قطع فيه بعض خلق الأرض ، أو لأنه حرّم على اليهود فيه العمل. يقال : أسبت : إذا دخل في السّبت. وسبت يسبت إذا عظّمه ، ومنه قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ)(٣) أي لا يفعلون ما يجب في شرعهم في هذا اليوم.

وسبت رأسه : حلقه ، ومنه : النّعال السّبتيّة لأنها يحلق شعرها بالدّباغ. وفي الحديث : «يا صاحب السّبتين اخلع سبتيك» (٤). وقيل : سميت بذلك لأنّها ليّنت بالدباغ ، ومنه : رطب منسبتة ، أي لينة. والسّبت : جلد البقر المدبوغ بالقرظ (٥).

س ب ح :

قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ)(٦). سبحان : علم للتّسبيح ، ولذلك منع صرفه للعلمية وزيادة الألف والنون ؛ فهو في المعاني كعثمان في الأعيان ، وعليه قوله (٧) : [من السريع]

أقول لما جاءني فخره :

سبحان من علقمة الفاخر!

وأكثر استعماله مضافا كما ترى ، وقد يقطع عن الإضافة ممنوعا. قلنا :

سبّح الجوديّ والحمد

__________________

(١) النهاية : ٢ ٣٣٠ ، والضمير للمسلم.

(٢) ٩ النبأ : ٧٨.

(٣) ١٦٣ الأعراف : ٧.

(٤) وفي النهاية (٢ ٣٣٠): «يا صاحب السبتين اخلع نعليك». وفي س : «.. سبتينا» وهو وهم.

(٥) القرظ : ورق السّلم يدبغ به.

(٦) ٢٢ الأنبياء : ٢١.

(٧) البيت للأعشى كما في اللسان (مادة سبح) غير أن الديوان يروي البيت بشكل مخالف تماما فانظره : ١٤١. والعجز نفسه مذكور في مفردات الراغب (ص ٢٢١) ، وفيه : الفاخر (بالجيم).

١٨٨

وذلك لأنه يكره. فهو كقولك : ربّ عثمان العثمانين جاءني. وله أحكام ، ومعناه التّنزيه فمعنى سبحان الله : تنزيهه عمّا لا يليق به ، ويستعمل في التعجب ، ومنه الحديث : «سبحان الله إنّ المؤمن لا ينجس» (١). وأصل المادة للدّلالة على البعد ، ومنه : السّبح في الماء ، وكذلك تسبيح الله لأنّ فيه إبعادا له عمّا لا يليق به ، ممّا كانت الكفرة الذين لا يقدّرونه حقّ قدره ينسبونه إليه من الشّرك والولد وغير ذلك.

والسّبح : المرّ السريع في الماء أو الهواء ، ويستعار ذلك للنجوم ، قال تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٢) ، وفي دؤوب العمل أيضا قال تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً)(٣) والتّسبيح عام في العبادة ؛ قوليّة كانت أو فعليّة أو منويّة. وقيل في قوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)(٤) أي القائلين : سبحانك ، ويؤيده قوله : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٥) ، وقيل : من المصلّين. وقيل : من النّاوين ؛ أنه إذا تمكّن من العبادة حين يخرج من بطن الحوت أن يسبّح الله بقلبه ولسانه ، ويذيب جوارحه في طاعته ، والأولى أن يحمل على جميع ذلك ، لأنه اللائق بحال ذي النون عليه‌السلام.

وقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ)(٦) أي تعبدونه وتشكرونه. وقيل : تقولون : إن شاء الله ، يدلّ عليه قوله : (وَلا يَسْتَثْنُونَ)(٧).

وقوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)(٨) أي صلّ. وسميت الصلاة تسبيحا لاشتمالها عليه. ومنه : «كان يسبّح على راحلته» (٩). وقوله : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)

__________________

(١) صحيح البخاري ، باب الغسل : ٢٣ ، ٢٤.

(٢) ٣٣ الأنبياء : ٢١.

(٣) ٧ المزمل : ٧٣.

(٤) ١٤٣ الصافات : ٣٧.

(٥) ٨٧ الأنبياء : ٢١.

(٦) ٢٨ القلم : ٦٨.

(٧) ١٨ القلم : ٦٨.

(٨) ٩٨ الحجر : ١٥.

(٩) صحيح البخاري ، الصلاة ، ٣١ ، وفيه رواية : «كان النبي يصلي على راحلته».

١٨٩

الآية (١). قيل : معناه تصلون في هذه الأوقات. وقد استدلّ به على ذكر الصلوات الخمس. والسّبّوح والقدّوس فعّول ؛ من التّسبيح ومن القدس وهو الطهارة ، وليس لنا فعّولّ غيرهما ، وقد يفتحان نحو : كلّوب وسمّور.

والسّبحة للتّسبيح ، وهي أيضا الخرزات المسبّح بها ؛ سميت بذلك لأنه يعدّ بها لفظه.

وقوله تعالى ؛ (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً)(٢) قيل : هم الملائكة ، يسرعون فيما يؤمرون به بين السماء والأرض. وقيل : هي أرواح المؤمنين ، تنبيه على سهولة خروجها عند الموت ، أو جولانها في الملكوت عند النوم. وقيل : هي السفن لأنها تسبح في الماء ، والسابقات : الخيل. وفي الحديث : «لأحرقت سبحات وجهه» (٣) أي نور وجهه.

وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(٤) أي بلسان الحال. وذلك هو الإذعان لربوبيّته والطواعية لقدرته ، كقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)(٥). وقيل بلسان القال ، ولكن أخفى الله تعالى عنا فهم ذلك. وإليه أشار بقوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٦). وهذا هو الظاهر ؛ إذ لو لم يكن شيئا يخفى عنّا لما خاطبنا بذلك. فأمّا كونها مسبحة بلسان الحال بالمعنى الذي قدّمته عنهم فهذا تفقّه ، فلا بدّ من معنى زائد. وأمّا التسبيح الصادر من الجمادات كالحصى الصادر على يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة له فإنّ ذلك بلسان القال لا الحال ، وإلا لم يظهر التفاوت بينه وبين غيره عليه الصلاة والسّلام (٧).

__________________

(١) ١٧ الروم : ٣٠.

(٢) ٣ النازعات : ٧٩.

(٣) النهاية : ٢ ٣٣٢.

(٤) ٤٤ الإسراء : ١٧.

(٥) ١٥ الرعد : ١٣.

(٦) ٤٤ الإسراء : ١٧.

(٧) جاء في هامش ح الورقة ١٥٠ حول «سبحان الله» : «وهو اسم أقيم مقام المصدر ، ويكون أبدا منصوبا مضافا ، تقديره : نسبح الله تسبيحا ، ثم حذف المصدر حذفا لازما وأقيم «سبحان» مقامه وأضيف إلى الله فيكون معنى «سبحانه» : أنزهه عن صفات المخلوقات وأحوالها وأقدسه عن جميع ما لا يليق بذاته» عن شرح المفتاح.

١٩٠

س ب ط :

قوله تعالى : (وَالْأَسْباطِ)(١) جمع سبط ، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في العرب. وأحسن منه ما قاله الأزهريّ : الأسباط في ولد إسحاق والقبائل في ولد إسماعيل ؛ فعلوا ذلك تفرقة بين أولاد الآخرين ، أعني إسحاق وإسماعيل. ولكنّ الأسباط إنما هم أولاد يعقوب بن إسحاق. واشتقاق ذلك من الامتداد والتفريع ؛ لأنّ السبط ولد الولد ، فكأنّ النسب امتدّ وانبسط وتفرّع. يقال : شعر سبط ضدّ جعد ، وعظامه سبط أي طويلة. قال الشاعر : [من الطويل]

فجاءت به سبط العظام كأنّما

عمامته بين الرجال لواء

وقد سبط سبوطا وسباطة. والساباط : مامدّ من دار إلى أخرى ، من ذلك. وسباطة الدار : ملقى زبالتها. لامتدادها. وفي الحديث : «فأتى سباطة قوم فبال» (٢). وقيل : اشتقّوا من السّبط ؛ وهو الشجرة التي أصلها واحد وأغصانها كثيرة. وفي الحديث : «الحسين سبط من الأسباط ـ أي أمّة من الأمم ـ في الجنة» (٣) واستدلّوا بقوله تعالى : (أَسْباطاً أُمَماً)(٤). فترجم الأسباط بالأمم ؛ فكلّ سبط أمة. وفي الحديث : «الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٥) أي طائفتان وقطعتان (٦) منه. وعن المبرّد قال : سألت ابن الأعرابيّ عن الأسباط فقال : هم خاصة الولد (٧).

وفي الحديث ؛ في صفته عليه الصلاة والسّلام : «ليس بالسّبط ولا الجعد القطط» (٨). يقال : رجل سبط ، وسبط ، وسبط. وقد سبط شعره سبوطة ، كقطط شعره قطوطة.

__________________

(١) ١٣٦ البقرة : ٢.

(٢) النهاية : ٢ ٣٣٤.

(٣) النهاية : ٢ ٣٣٤.

(٤) ١٦٠ الأعراف : ٧.

(٥) النهاية : ٢ ٣٣٤.

(٦) في الأصل : وقعتا منه ، ولعلها كما ذكرنا.

(٧) وقيل : أولاد الأولاد ، أو أولاد البنات.

(٨) النهاية : ٢ ٣٣٤. والقطط : الشديد الجعودة ، أي كان شعره وسطا بينهما.

١٩١

س ب ع :

قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً)(١) ليس المراد حصر العدد ، بل المراد التكثير. والمعنى : إن استكثرت من الاستغفار لهؤلاء فلن يغفر الله لهم. قال الأزهريّ : أنا أرى هذه الآية من باب التكثير والتضعيف لا من باب حصر العدد. وحكى أبو عمرو أن رجلا أعطى أعرابيا درهما فقال : سبّع الله لك الأجر. أي ضعّفه. قال الهرويّ : والعرب تضع التسبيع موضع التّضعيف ، وإن جاوز السبع. والأصل فيه قوله تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)(٢).

والسّبع : كلّ حيوان متقوّ ، سمّي بذلك لتمام قوّته ، وذلك أن السّبع من الأعداد التّامة. وسبع فلان (٣) فلانا : اغتابه ، كأنّه أكل لحمه أكل السباع. والمسبع : موضع السباع.

والسّبع : جزء من سبعة أجزاء. والأسبوع : سبعة أيام ، جمعه أسابيع ، ومثله السّبع.

والسّبع في الورد كالخميس فيه. وقول ربيعة الهذليّ (٤) : [من الكامل]

 .................. كأنه

عبد لآل أبي ربيعة مسبع

قيل : معناه وقع في غنمه السبع. وقيل : المهمل من السباع. وكني بالمسبع عن الدّعيّ الذي لا يعرف أبوه. وسبعت القوم : جعلتهم سبعة ، أو أخذت سبع أموالهم ، نحو ربعتهم وثلثتهم ، بمعنييه. وقوله : (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً)(٥) من باب (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً). وقوله : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً)(٦) عنى بالسّبع المتطابقة.

__________________

(١) ٨٠ التوبة : ٩.

(٢) ٢٦١ البقرة : ٢.

(٣) وفي الأصل : فلانا ، وهو وهم.

(٤) عجز وكلمة من بيت أبي ذؤيب الهذلي في صفة حمار الوحش ، وتمامه :

صخب الشوارب لا يزال كأنه

 ........ عبد

(ديوان الهذليين : ١ ٤ ـ اللسان ـ مادة سبع). وأبو ربيعة هو ابن ذهل بن شيبان. والمؤلف وهم إذ نسبه إلى ربيعة ، وأبو ذؤيب اسمه خويلد بن خالد.

(٥) ٣٢ الحاقة : ٦٩.

(٦) ١٢ النبأ : ٧٨.

١٩٢

قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ)(١) قيل : في العدد. وفي الحديث ما يؤيد هذا من قوله : «طوّقه من سبع أرضين» (٢) وقيل : مثلهنّ في الإتقان لا في العدد. ولذلك لم يجئ القرآن إلا بإفراد الأرض ، والأول أوجه.

س ب غ :

قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ)(٣) أي ألبسكم إيّاها وأتمّها عليكم من قولهم : درع سابغ ، وثوب سابغ. وقوله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ)(٤) إشارة إلى ما علّمه في قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ)(٥). وأسبغ وضوءه : أتمّه. ويسمى الدرع تسبغة. ومنه الحديث : «فتقع في ترقوته تحت تسبغة البيضة» (٦).

س ب ق :

قوله تعالى : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً)(٧) عنى بها الخيل العادية في الجهاد. وقيل : هم الملائكة ، لأنهم يسبقون الجنّ باستماع الوحي. والسّبق : أصله التقدم في السّير ، ثم يعبّر بذلك عن التقدّم إلى الأشياء أعيانا كانت أو معاني.

قال تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٨). وقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(٩) أي المحرزون قصب السبق في الفضل. وقوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)(١٠) كناية عن عدم فوتهم لله تعالى ، أي أنهم لا يعجزوننا. وقوله : (وَلَقَدْ

__________________

(١) ١٢ الطلاق : ٦٥.

(٢) النهاية : ٣ ١٤٣.

(٣) ٢٠ لقمان : ٣١.

(٤) ١١ السبأ : ٣٤.

(٥) ٨٠ الأنبياء : ٢١.

(٦) : ٢ ٣٣٧. وفيه : التسبغة : شيء من حلق الدروع والزرد يعلق بالخوذة دائرا ليستر الرقبة وجيب الدرع.

(٧) ٤ النازعات : ٧٩.

(٨) ١٤٨ البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٩) ١٠ و ١١ الواقعة : ٥٦.

(١٠) ٦٠ الواقعة : ٥٦.

١٩٣

سَبَقَتْ كَلِمَتُنا)(١) وقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ)(٢) أي نفذت وتمّت لقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)(٣). وقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي بادروها ، وافعلوا فعل الواردة الذين يطلب كلّ منهم التقدّم إلى الماء ليحوزه لنفسه ومن يريد.

وقوله : (وَما كانُوا سابِقِينَ)(٤) أي فائتين ، كقوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٥) وقوله : (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ)(٦) أي فاعلون فعل السابق غير المتباطئ. وقيل : اللام بمعنى إلى لقوله : (أَوْحى لَها)(٧) أي إليها. وقوله : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ)(٨) أي نتناضل بالسهام ونتراهن. وجعل السبق كناية عن ذلك.

وقوله : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ)(٩) أي بادر كلّ واحد منهم نحو الباب. قوله : (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ)(١٠) أي جاوزوه وتركوه حتى ضلّوا. وقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ)(١١) أي لا يتكلمون بغير إذنه. وقيل لا يقولون بغير علمه حتى يعلّمهم.

س ب ل :

قوله تعالى : (فِجاجاً سُبُلاً)(١٢). السّبل جمع سبيل : وهو الطريق ، ويذكّر ويؤنث ؛ قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي)(١٣). ويعبّر به عن المذهب. ومنه : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا)(١٤) أي

__________________

(١) ١٧١ الصافات : ٣٧.

(٢) ١٢٩ طه : ٢٠.

(٣) ١١٥ الأنعام : ٦.

(٤) ٣٩ العنكبوت : ٢٩.

(٥) ١٣٤ الأنعام : ٦.

(٦) ٦١ المؤمنون : ٢٣.

(٧) ٥ الزلزلة : ٩٩.

(٨) ١٧ يوسف : ١٢.

(٩) ٢٥ يوسف : ١٢.

(١٠) ٦٦ يس : ٣٦ ، وفي الأصل «فاستبقوا الخيرات» والسياق يتطلب ما ذكرنا.

(١١) ٢٧ الأنبياء : ٢١.

(١٢) ٣١ الأنبياء : ٢١.

(١٣) ١٠٨ يوسف : ١٢.

(١٤) ١٢ العنكبوت : ٢٩.

١٩٤

طريقتنا في ديننا. قوله : (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ)(١) أي طريق الولد ، لأنّ القوم كانوا يأتون الذّكران فيقلّ النّسل.

قوله : (وَابْنَ السَّبِيلِ)(٢) هو المسافر. جعل ابن الطريق لملازمته إياه. قوله : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ)(٣) قيل : هم المجاهدون. قوله : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)(٤). قوله : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)(٥) أي درك أي لا تطرق لهم علينا ، فأموالهم حلّ لنا ، كذا كانوا يعتقدون. قوله : (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)(٦) أي طريق الهدى. وكذا قوله : (لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)(٧).

قوله : (سُبُلَ السَّلامِ)(٨) أي طرق السلامة المؤمّنة من العقوبة. وقيل : طرق الجنة ، إمّا طرقها حقيقة وإمّا الأسباب التى يتحصّلون بها إلى الجنة من الأعمال الصالحة. ويقال : سابل وسابلة ، وسبيل سابل ، نحو : شعر شاعر (٩). وأسبل السّتر والذيل : أرخاه. وأسبل الزرع : صار ذا سنبل. وبه استدلّ على زيادة نونه ، وإن كانت القواعد التّصريفية تأباه.

والمسبل : اسم للقدح الخامس من سهام الميسر. وخصّ السّبلة بشعر الشّفة السّفلى (١٠) لما فيها من التحدّر قاله الراغب (١١) ونقله الهرويّ عن الأزهريّ. وفي الحديث : «إنّه كان وافر السّبلة» (١٢) ؛ هي الشعرات التي تحت اللّحي الأسفل. وقيل : هي مقدّم اللّحية وما أسبل منها على الصدر. والسّنبلة : لما يقع على الزرع. والسّبل : ما أسبلته من ثوب ، نحو النّشر : للشيء المنشور ، وكالقبض بمعنى المقبوض ، والرّسل بمعنى المرسل.

__________________

(١) ٢٩ العنكبوت : ٢٩.

(٢) ٣٨ الروم : ٣٠.

(٣) ٦٠ التوبة : ٩.

(٤) ٢٠ عبس : ٨٠.

(٥) ٧٥ آل عمران : ٣.

(٦) ٢٤ النمل : ٢٧.

(٧) ٣٧ الزخرف : ٤٣.

(٨) ١٦ المائدة : ٥.

(٩) شعر شاعر : جيد (اللسان).

(١٠) في الأصل : العليا ، والسياق يتطلب ما ذكرنا.

(١١) المفردات : ٢٢٣.

(١٢) النهاية : ٢ ٢٣٩.

١٩٥

فصل السين والتاء

س ت ر :

قوله : (حِجاباً مَسْتُوراً)(١) قيل : معناه ساترا ، فهو مفعول بمعنى فاعل ، وعكسه فاعل بمعنى مفعول نحو : (ماءٍ دافِقٍ)(٢) أي مدفوق. والصحيح أنّ كلا منهما على بابه كما حقّقناه في غير هذا الموضوع.

وأصل السّتر : التغطية والإخفاء. والاستتار : الاستخفاء. والسّتر والسّترة : ما يستتر به أي يغطّى. والإستارة : بمعنى السّتر أيضا ، ومنه الحديث : «أيّما رجل أغلق دون امرأته بابا وأرخى عليها إستارة فقد تمّ صداقها» (٣). قال شمر : الإستارة من السّتر ، ولم أسمعه إلا في هذا الحديث. وقد جاءت السّتارة والمستر في معنى السّتر. وقد قالوا : أسوار للسّوار ، وإشرارة لما يشرر عليه الأقط.

فصل السين والجيم

س ج د :

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ)(٤) أصل السجود الخضوع (٥) والتذلّل. وخصّ ذلك شرعا بعبادة الله ؛ فلا يجوز السّجود لغير الله تعالى. والملل مختلفة في ذلك. فأمّا السجود ، على سبيل العبادة ، فلا يجوز في ملّة من الملل ، وأمّا على سبيل التعظيم كسجود الملائكة لآدم ، وإخوة يوسف لأخيهم ، فهذا محلّ الخلاف. على أنّ من الناس من قال ؛ إنما كان آدم كالقبلة لهم ، ثم السجود عامّ في الأناسيّ والحيوانات والجمادات ، وهو

__________________

(١) ٤٥ الإسراء : ١٧.

(٢) ٦ الطارق : ٨٦.

(٣) النهاية : ٢ ٣٤١. ويقول ابن الأثير : ولو رويت «أستاره» جمع ستر لكان حسنا. وكذا في اللسان.

(٤) ١٥ الرعد : ١٣.

(٥) ساقطة من ح.

١٩٦

نوعان : نوع باختيار ، وليس ذلك إلا للإنسان وبه يثاب ، كقوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ)(١) ، وقوله : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)(٢).

ونوع بتسخير ، وهو في الإنسان والحيوان وغيرهما ، وعليه : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) ، وقوله : (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ)(٣) وهو الدّلالة الصامتة والناطقة المنبّهة على كونها مخلوقة ، وأنها خلق فاعل حكيم متقن لها. وقوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ)(٤) سجود تسخير. وقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(٥) فشمل السّجودين : التّسخيريّ والاختياريّ ويعبّر به عن الصلاة لاشتمالها عليه. وعليه قوله : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ)(٦) كما سميت سبحة ودعاء (٧). وقالوا سبحة الدعاء ، وسجود الضّحى.

قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ)(٨) قيل : عنى مواضع السجود ؛ واحدها مسجد ، بالكسر وقياسه الفتح ، وقد خرج هو وأخوات له مذكورة في غير هذا عن القياس (٩). وقيل : عني بها أعضاء السجود وهي سبعة ، وقيل : ثمانية ؛ الجبهة ، والأنف ، واليدان ، والرّجلان ، والركبتان. وفي الحديث : «أمرت أن أسجد على سبعة آراب» (١٠) أي أعضاء ، لأنّ كلّ عضو منها إرب. ويؤيد الأول قوله عليه الصلاة والسّلام : «جعلت لي الأرض مسجدا

__________________

(١) ٧٧ الحج : ٢٢.

(٢) ٦٢ النجم : ٥٣.

(٣) ٤٨ النحل : ١٦.

(٤) ٦ الرحمن : ٥٥.

(٥) ٤٩ النحل : ١٦.

(٦) ٤٠ ق : ٥٠ ، أي أدبار الصلاة.

(٧) ويسمون صلاة الضحى سبحة الضحى وسجود الضحى.

(٨) ١٨ الجن : ٧٢.

(٩) قال الفراء : كل ما كان على فعل يفعل فالمفعل منه بالفتح .. إلا أحرفا من الأسماء ألزموها كسر العين ، من ذلك : المسجد ، والمطلع ، والمغرب ، والمشرق ... وربما فتحه بعض العرب. قال : والفتح في كله جائز وإن لم نسمعه (اللسان ـ مادة سجد).

(١٠) النهاية : ١ ٣٦. واحدها الإرب ـ بالكسر والسكون ـ وهو العضو.

١٩٧

وطهورا» (١) وقوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)(٢) ؛ أي متذللين. وقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا)(٣) قرئ على التحضيض والاستفتاح (٤) ؛ (وَاسْجُدُوا) أمرا ، و (تَسْجُدُوا) منصوبا بما قبله. ولنا فيه كلام أتقنّاه في غير هذا ، أن تأتي قراءة الأمر إمّا تنبيه وإمّا نداء ، والمنادى محذوف كقوله (٥) : [من الطويل]

ألا يا اسلمي يا هند عند بني بدر

وإن كان حيّانا عدى آخر الدهر

في أبيات عديدة أنشدناها في غيره.

وقيل : أصل السجود الإمالة كقوله ، زيد الخيل (٦) : [من الطويل]

يجمّع نصل البلق في حجراته

ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر

وقول الآخر (٧) : [من الكامل]

وافى بها كدراهم الإسجاد

قيل : عنى بها دراهم عليها صورة ملك يسجد له.

س ج ر :

قوله : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)(٨) أي المملوء. وقيل : يملأ نارا ، ولذلك قال مجاهد :

__________________

(١) البخاري ، باب التيمم : ١.

(٢) ٥٨ البقرة : ٢.

(٣) ٢٥ النمل : ٢٧.

(٤) يقول الفراء : ويكون «يسجدوا» في موضع نصب ، كذلك قرأها حمزة. وقرأها أبو عبد الرحمن السّلمي والحس وحميد الأعرج ـ وكذلك الكسائي ورويس وأبو جعفر ـ مخففة «ألا يسجدوا» على معنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، فيضمر هؤلاء ويكتفي منها بقوله : «يا» (معاني القرآن : ٢ ٢٩٠).

(٥) البيت للأخطل كما في معاني القرآن : ٢ ٢٩٠.

(٦) العجز مذكور في اللسان ـ مادة سجد.

(٧) مذكور في اللسان. وصدره كما في القاموس (مادة ـ سجد) :

من خمر ذي نطق أغنّ منطق

ويقول ابن منظور : الإسجاد أي الجزية.

(٨) ٦ الطور : ٥٢. المسجور : الموقد نارا يوم القيامة.

١٩٨

الموقد. وقيل : السّجر : تهيج النار. ومنه سجرت التنور. وأنشد (١) : [من المتقارب]

إذا ساء طالع مسجورة

ترى حولها النبع والشّوحطا

وقوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ)(٢). قال الحسن : أضرمت نارا. وقيل : غيضت مياهها ، وإنما تكون كذلك لتسجير النار فيها. قوله : (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)(٣) أي يطرحون فيها فيملؤونها (٤) ومثله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)(٥) وقولهم : سجرت الناقة ، استعارة نحو اشتعلت. ولذلك قالوا : السّجير : وهو الذي يسجر في مودّة خليله أي يحترق في مودّته.

س ج ل :

قوله تعالى : (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)(٦) أي طين وحجر مختلطان ؛ قيل : وهو فارسيّ (٧) عرّب ، وأصله ... (٨) قيل (٩). وقد بيّن ذلك بقوله في قصة لوط : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً)(١٠) وقوله : (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)(١١) ؛ قيل : السجلّ : المكتوب فيه. والكتاب مصدر ، أي كما يطوي الرقّ الكتب. وقيل : هو ملك يطوي كتب بني آدم ويحفظها. وقيل : هو اسم كاتب من كتّابه عليه الصلاة والسّلام. وقيل : هو حجر كان يكتب فيه ، ثم سمّي كلّ ما يكتب فيه سجلا.

__________________

(١) البيت في المفردات : ٢٢٤ ، وفيه : النبع والسمسما.

(٢) ٦ التكوير : ٨١.

(٣) ٧٢ غافر : ٤٠.

(٤) وفي الأصل : يملؤوها.

(٥) ٢٤ البقرة : ٢.

(٦) ٨٢ هود : ١١.

(٧) معرب من كلمتين «سنكك : حجر+ كل : طين».

(٨) بياض في الأصل ، ولعلها سنك.

(٩) ولعل الصواب : كل ، كما شرحنا.

(١٠) من الآيتين : ٢٣ و ٢٤ الذاريات : ٥١ ، مسوّمة : معلمة بأنها حجارة عذاب.

(١١) ١٠٤ الأنبياء : ٢١.

١٩٩

والسّجل : الدلو العظيمة (١). وسجلت الماء أي صببته فانسجل. ومن ثمّ استعير للإعطاء ؛ قالوا : أسجلته أي أعطيته (٢). والإسجال أيضا : الإرسال. وسجّل الكتاب أي أثبته وحقّقه. والمساجلة : المساقاة بالسّجل. ويعبّر به عن المباراة والمفاضلة ؛ قال الشاعر (٣) : [من الرمل]

من يساجلني يساجل ماجدا

س ج ن :

(رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ)(٤). السّجن : موضع الحبس. وقرئ قوله تعالى : (السِّجْنُ) بالكسر على أنه مكان الحبس ، وبالفتح على أنه نفس الحبس (٥).

قوله تعالى : (لَفِي سِجِّينٍ)(٦) هو فعّيل من السّجن. قيل : هو حجر تحت الأرض السابعة مكتوب فيه عمل الأشقياء ، كما أنّ مقابلة وهو علّيّون مكان كتب الأبرار. وقيل : هو اسم لنار جهنّم ، وزيد لفظه تنبيها على زيادة معناه. وقيل : إنّ كلّ شيء ذكره الله بقوله : (وَما أَدْراكَ)(٧) فسّره ، وكل ما ذكره بقوله : (وَما يُدْرِيكَ)(٨) تركه مبهما. وفي هذا الموضع ذكر : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ)(٩) وكذا قوله : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ)(١٠) ثم فسّر (كِتابٌ)(١١) لا السجّين ولا العليّين.

__________________

(١) وفي الأصل : العظيم.

(٢) يريد : أعطيته سجلا.

(٣) البيت للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب. وعجزه كما في اللسان ـ سجل :

يملأ الدلو إلى عقد الكرب

(٤) ٣٣ يوسف : ١٢.

(٥) أنظر معاني القرآن للفراء : ٢ ٤٤ ، من غير احتجاج.

(٦) ٧ المطففين : ٨٣.

(٧) ٣ الحاقة : ٦٩ ، وغيرها.

(٨) ٣٣ الأحزاب : ٦٣ ، وغيرها.

(٩) ٨ المطففين : ٨٣.

(١٠) ١٩ المطففين : ٨٣.

(١١) يعني ما ورد في قوله : «كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» (٢٠ و ٢١ المطففين : ٨٣).

٢٠٠