عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٩

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلّان : عير الحيّ والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثي له أحد

ويقال : خسف القمر وكسفت الشمس ؛ فالخسوف له والكسوف لها. وقيل : الخسوف والكسوف فيهما ، إلا أن الكسوف لذهاب بعض ضوئهما ، والخسوف لذهابه كلّه. ولنا فيه كلام أطول من هذا. واعتبر من خسوف القمر ذهاب الضوء. يقال : خسفت عينه فهي خاسفة ، إذا غارت ، وأخذ ذلك من خسفت الأرض أشبه صورة ومعنى.

فصل الخاء والشين

خ ش ب :

قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ)(١). شبّه المنافقين في قلّة غنائهم بالخشب ، ثم لم يكفه حتى جعلهم مسنّدة غير منتفع بها ، لأنّ الخشب ينتفع به في سقف ونحوه وهو لا (٢) ، بمنزلة خشب مسنّدة غير منتفع به ، بضمّ الشين وسكونها في السبع (٣) ، وهما جمع خشبة كما تقدّم في : ثمر وثمر أنهما جمع ثمرة. ويستعار الخشب لوقاحة الوجه وصلابته فيقول : وجهه خشب ، كقولهم : وجهه كالصخر. قال (٤) :

والصّخر هشّ عند وجهك في الصلابه

وخشيب السيف جعلته كالخشبه

واستعير ذلك للبعير الذي لم يروّض ؛ فيقال : جمل [خشيب](٥) كما يقال : سيف خشيب أي حديث العهد بالصّقال. والأخشبان : جبلان بمكة. وكلّ شيء خشن فهو أخشب اعتبارا

__________________

(١) ٤ / المنافقون : ٦٣.

(٢) لعل في الكلام نقصا.

(٣) كما أن لتشديد النون قراءة ، انظر التخفيف والتثقيل في معاني القرآن للفراء : ٣ / ١٥٨.

(٤) لم يستقم لنا.

(٥) إضافة المحقق للسياق.

٥٨١

بقوة الخشب. وتخشّبت الإبل : أكلت الخشب. وقال عمر : «واخشوشبوا» (١) و «اخشوشنوا» بالنون أيضا ، كلّه بمعنى الخشوبة مطعما وملبسا.

خ ش ع :

قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)(٢) أي تائبون متذلّلون. والخشوع : الخضوع والتذلّل. قال الليث : الخشوع قريب المعنى من الخضوع ، إلا أن الخضوع في البدن والخشوع في القلب والبصر والصوت. قلت : ويشهد لذلك قوله : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(٣) ، (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ)(٤) ، (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ)(٥) أي انخفضت. (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ)(٦) أي ذلّت من الخوف ، كقوله : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ)(٧).

وقال الراغب (٨) : الخشوع : الضراعة ، وأكثر ما يستعمل [الخشوع] فيما يوجد من الجوارح. والضّراعة أكثر ما تستعمل في القلب. ولذلك قيل فيما روي : «إذا ضرع القلب خشعت الجوارح». قلت : «وقد رأى عليه الصلاة والسّلام رجلا يعبث في صلاته فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» (٩). قوله : (تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً)(١٠) استعارة شبّهها حين محلها (١١) بالذليل الساكن. ثم قال : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)(١٢).

__________________

(١) النهاية : ٢ / ٣٤ ، على إحدى رواياته.

(٢) ٢ / المؤمنون : ٢٣.

(٣) ٤ / الشعراء : ٢٦.

(٤) ١٦ / الحديد : ٥٧.

(٥) ١٠٨ / طه : ٢٠.

(٦) ٧ / القمر : ٥٤.

(٧) ٤٥ / الشورى : ٤٢.

(٨) المفردات : ١٤٨.

(٩) كنوز الحقائق ، ورقة : ٦٢ ، نوادر الأصول : ١٨٤ ، وهو حديث ضعيف. ورواه الترمذي بإسناد ضعيف (الفتح الكبير : ٣ / ٤٤).

(١٠) ٣٩ / فصلت : ٤١.

(١١) المحل : القحط والجدب.

(١٢) ٥ / الحج : ٢٢.

٥٨٢

وقال الراغب : تنبيها على تزعزعها (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ)(١) و (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ)(٢) ولا معنى لهذا هنا.

وفي الحديث : «كانت الكعبة خشعة فدحيت الأرض من تحتها» (٣). هي الجائمة واللاطئة بالأرض. وأنشدوا لأبي زبيد (٤) : [من الخفيف]

جازعات إليهم ، خشع الأو

داة قوتا ، تسقى ضياح المديد

خ ش ي :

قوله تعالى : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ)(٥). الخشية : أشدّ الخوف. وقيل : خوف يشوبه تعظيم المخوف منه وأكثر ما يكون ذلك عن علم ما يخشى منه ، ولذلك خصّ به العلماء في قوله : / (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(٦) ، وقوله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ)(٧) أي استشعروا خوفا عن معرفة. قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)(٨) أي لا تقتلوهم معتقدين لمخافة أن يلحقهم إملاق. وقوله : (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ)(٩) أي خاف خوفا اقتضته معرفته بذلك من نفسه.

__________________

(١) ٤ / الواقعة : ٥٦.

(٢) ١ / الزلزلة : ٩٩.

(٣) النهاية : ٢ / ٣٤.

(٤) من شواهد ابن منظور ـ مادة خشع. ويروى : خشّع. الأوداة : جمع أودية فقلب ، أفاده شارح القاموس.

(٥) ٧٧ / النساء : ٤.

(٦) ٢٨ / فاطر : ٣٥.

(٧) ٩ / النساء : ٤.

(٨) ٣١ / الإسراء : ١٧.

(٩) ٢٥ / النساء : ٤.

٥٨٣

فصل الخاء والصاد

خ ص ص :

قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)(١) أي فقر. وأصله من خصاص البيت وهو فرجة عن المفسدة ، فعبّر عن الفقر بالخصاصة كما عبّر عنه بالخلّة. والخصّ : بيت من قصب أو شجر ، وذلك لما يرى فيه من الخصاصة (٢). قوله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)(٣). والخاصّة : ضدّ العامّة ، أي لا تخصّ الظالمين بل تعمّهم وتعمّكم. وخاصة الرجل : من يختصّ به. وقال عليه الصلاة والسّلام : «أهل القرآن أهل الله وخاصّته» (٤). وأصلها من التخصيص ، وهو تفرّد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة وبمعناه التخصّص والاختصاص والخصوصية ، وذلك خلاف العموم والتعمّم والتّعميم. وأخصّاء الرجل من يختصّه بضرب من الكرامة. وفي الحديث : «بادروا بأعمالكم ستّا : الدّجّال وكذا وخويصّة أحدكم» (٥) يعني الموت ، تصغير خاصة (٦).

__________________

(١) ٩ / الحشر : ٥٩.

(٢) في الأصل : الخصاص ، ولعل الصواب ما ذكرنا. والخصاص : الفرج والأثقاب.

(٣) ٢٥ / الأنفال : ٨.

(٤) ابن ماجة ، المقدمة ، رقم ١٦.

(٥) النهاية : ٢ / ٣٧. وصغّرت لاحتقارها في جنب ما بعدها من البعث.

(٦) جاء في هامش ح بقلم حسن جلبي ما يلي : «الأصل في لفظ التخصيص والاختصاص والخصوص أن يستعمل بإدخال الباء على المقصور عليه أعني ما له الخاصة ؛ فيقال مثلا : خصّ المال بزيد أي المال له دون غيره. إلا أن المتعارف في الاستعمال إدخال الباء على المقصور أعني الخاصة كقولك : خص زيد بالمال ، فيوجّه بتوجيهين ؛ أحدهما أن يجعل التخصيص مجازا عن التمييز ، والإفراد لا يستلزم تخصيص الخاصة بذي ، الخاصة تميز ذي الخاصة بسبب الخاصة مع اشتهاره في العرف بهذا المعنى حتى صار كأنه حقيقة عرفية فيه. والثاني أن يجعل في باب التضمين بشهادة المعنى ، فيلاحظ المعنيان معا ، فيكون الثاني متعلقا بالتمييز المضمن. فمعنى : نخصّك بالعبادة : نميزك بالعبادة تخصيصا إياها بك. كذا ذكره الفاضل الشريف في حاشية المطوّل.

والخصوصية : الأفصح فيه الفتح إذ حين (؟) يكون الخصوص صفة. ولما كان المعنى على المصدرية ألحق الياء المصدرية والتاء للمبالغة كما في علّامة بمعنى الصفة ، وإلى أن يجعل الياء للنسبة مبالغة كما في أحمريّ ، والتاء للمبالغة».

٥٨٤

خ ص ف :

قوله تعالى : (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)(١). الخصف : تطبيق بعض جلود النّعل على بعض ، فاستعير لفعلهما ذلك بورق الجنة على بدنهما لمّا زال عنهما لباسهما. قيل : هو ورق التين. وفي شعر العباس رضي الله عنه يمدح سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) : [من المنسرح]

من قبلها طبت في الظّلال وفي

مستودع ، حيث يخصف الورق

يشير إلى أنه كان من حين كان أبوه آدم وأمّه حوّاء في الجنة. وقيل : معنى الآية : يجعلان عليهما خصفة وهي الأوراق. ومنه قيل لجلال الثمر خصفة. وخصفت الخصفة : نسجتها. قلت : والخصفة : هي الحصير المفترش. و «كسا تبّع الكعبة خصفا فلم يقبله» (٣). الخصف : غلاظ جدا.

وعبّر بالخصافة عن الرّزانة فقيل : فلان خصيف العقل ضدّ سخيفه ، والخصيف من الطعام. قيل : وحقيقته ما جعل من اللبن ونحوه من خصفة فيتلوّن بلونها.

خ ص م :

قوله تعالى : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)(٤) أي شديد الخصومة أي كثيرها (٥). والخصومة : المنازعة ، وأصلها من خصم [الآخر](٦) وغيره وهو ناحيته وجانبه ، وذلك أن كلا من المتخاصمين يأخذ في ناحية وجانب غير الذين أخذ به صاحبه. وفي الحديث : «نسيت الدنانير في خصم فراشي» (٧) أي جانبه. وقال سهل بن حنيف يوم صفين : «هذا

__________________

(١) ٢٢ / الأعراف : ٧.

(٢) أي في الجنة ، وفي الأصل : يخسف الورق ، والتصويب من اللسان ـ مادة خصف.

(٣) من حديث ذكر في النهاية : ٢ / ٣٨.

(٤) ٤ / النحل : ١٦ ، وغيرها.

(٥) وفي ح : الكبيرها. وكثيرها : يعني كثير الخصومة.

(٦) بياض في الأصل ، ويدنو ما ذكرنا من السياق.

(٧) النهاية : ٢ / ٤٤ ، ورويت بالضاد ، والصاد أصوب.

٥٨٥

أمر لا يسدّ منه خصم إلا انفتح [علينا منه] خصم آخر» (١) أي جانب.

والخصم يقع للواحد المذكر ولضدّيهما ؛ تقول : رجل خصم ، ورجال خصوم ، وامرأة خصم لأنه في الأصل مصدر ، وقد يطابق. وقوله : (هذانِ خَصْمانِ)(٢) قيل : تأويله : فريقان خصمان. ولذلك قيل : (اخْتَصَمُوا)(٣). فهو نظير : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)(٤). والخصم : المختصّ بالخصومة.

وقوله : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)(٥). الخصام : مصدر خاصمته أخاصمه خصاما ومخاصمة. ويقع الخصام للواحد المذكّر وغيره كالخصم ، وأشار بذلك إلى أنهم نسبوا الإناث لله وهنّ غير مبينات في الخصام لعجزهنّ. وقلّما خاصمت امرأة إلا وخصمت والجمع أخصام وخصوم. قوله : (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ)(٦) أي في أمر الدنيا ، يعني أنها تأتيتهم وهم مشغولون بمعايشهم كقوله : (بَغْتَةً)(٧). وأصله يختصمون فأدغم. وفي الحرف قراءات وتصريف كثير (٨) اتقنّاه في غير هذا.

فصل الخاء والضاد

خ ض د :

قوله تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ)(٩). قيل : هو الذي خضد من شوكه أو عرّي.

__________________

(١) النهاية : ٢ / ٣٩ ، والإضافة منه.

(٢) ١٩ / الحج : ٢٢.

(٣) ١٩ / الحج : ٢٢.

(٤) ٩ / الحجرات : ٤٩.

(٥) ١٨ / الزخرف : ٤٣.

(٦) ٤٩ / يس : ٣٦.

(٧) ٣١ / الأنعام : ٦ ، وغيرها.

(٨) قرأها يحيى بن وثاب (يخصمون) وهي قراءة حمزة ، وقرأها عاصم (يخصّمون) ، وقرأها أهل الحجاز (يخصّمون» يشدّد ن ويجمعون بين ساكنين ، وقرأها أبيّ بن كعب (يختصمون) وانظر تحليلا آخر في معاني القرآن للفراء : ٢ / ٣٧٩ ، وتحليلا لغويا في اللسان ـ حاشية مادة خصم.

(٩) ٢٨ / الواقعة : ٥٦. السدر : شجر النبق.

٥٨٦

يقال : خضدت الغصن من ورقه وشوكه إذا نحّيتهما عنه. وقيل : خضد شوكه أي كسر. ومنه استعير : خضد عنق البعير أي كسر.

يقال : خضدته أخضده خضدا فانخضد انخضادا فهو مخضود ، وخضيد وخضد كلاهما بمعنى مخضود ، وكقتيل ونقيض. وقيل : المخضود : الذي امتلات أغصانه ثمرا موضع الورق. والخضد أيضا كثرة الأكل. «ورأى معاوية رجلا يجيد الأكل فقال : إنه لمخضد» (١).

خ ض ر :

قوله : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً)(٢). الخضر : الورق الأخضر ، وكلّ شيء ناعم فهو خضر. ومنه استعير : «حلوة خضرة» (٣) أي غضّة ناعمة طريّة. والخضر أيضا : ضرب من الكلأ في قوله عليه الصلاة والسّلام : «إلا آكلة الخضر» (٤). فالخضر : واحده خضرة ، وهو ضرب من الجبنة ، والجبنة من الكلأ ما له أصل غامض في الأرض كالنّصيّ والصّلّيان. وخطب عليّ رضي الله عنه في آخر عمره فقال : «اللهمّ سلّط عليهم فتى ثقيف الذّيّال الميّال يلبس فروتها ويأكل خضرتها». قال شمر : يعني هنيئها وناعمها.

والخضرة : أحد الألوان ، وهي بين السواد والبياض ، ولكن إلى السواد أقرب. ولذلك يعبّر عن السواد بالخضرة وبالعكس. ومنه سواد العراق لكثرة شجره الخضر. وقال تعالى : (مُدْهامَّتانِ)(٥). قيل : سوداوان لشدّة ريّهما ، وهو أحسن من أن يقال : عبّر عن الخضرة بالسواد. وكتيبة خضراء : لما عليها من الحديد الأسود الذي تغلب عليه خضرة.

وقوله : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً)(٦) ، جمع أخضر وخضراء ، نحو حمر صالح لأحمر

__________________

(١) النهاية : ٢ / ٤٠ ، أي كأنه آلة للأكل.

(٢) ٩٩ / الأنعام : ٦.

(٣) النهاية : ٢ / ٤١.

(٤) النهاية : ٢ / ٤٠ ، وهو مثل لمن يقتصد في أخذ الدنيا.

(٥) ٦٤ / الرحمن : ٥٥.

(٦) ٣١ / الكهف : ١٨.

٥٨٧

وحمراء. «ونهى عن بيع المخاضرة» (١) أي بيع البقول والتّمر قبل أن يبدو صلاحها.

خ ض ع :

الخضوع : الانقياد والتذلّل. ومنه قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(٢). وخضع يكون لازما ومتعديا ؛ يقال : خضعته فخضع ، أي قدته فانقاد. وقوله تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ)(٣) أي لا تلنّه (٤). يقال : خضعت المرأة بكلامها ، وخضع بكلامه : ألانته له وألانه لها. وخضعت اللحم : قطعته. وظليم أخضع : في عنقه تطامن. والخضوع كما تقدّم يقارب الخشوع. وتقدّم الفرق بينهما.

فصل الخاء والطاء

خ ط أ :

قوله تعالى : (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً)(٥). قال ابن عرفة : يقال : خطىء في دينه إذا أثم. ومنه الآية الكريمة. وأخطأ : إذا سلك سبيل خطأ عامدا وغير عامد /. قال : ويقال : خطىء في معنى أخطأ ، وأنشد لامرىء القيس (٦) : [من البسيط]

يا لهف نفسي إذا خطئن كاهلا

وقال الأزهريّ : الخطيئة والخطء : الإثم ويقوم مقام الخطاء ، وهو ضدّ الصواب ، وفيه لغتان : القصر وهو الجيد ، والمدّ وهو قليل. ويقال لمن أراد شيئا ففعل أخر ، ولمن فعل غير الصواب ، أخطأ أيضا. وقيل الخطأ : العدول عن الجهة ، وذلك أنواع :

__________________

(١) النهاية : ٢ / ٤١.

(٢) ٤ / الشعراء : ٢٦.

(٣) ٣٢ / الأحزاب : ٣٣.

(٤) يريد : لا تلنّ القول ولا ترقّقنه للرجال.

(٥) ٣١ / الإسراء : ١٧.

(٦) الديوان : ١٠٢. ورواية الديوان واللسان : يا لهف هند.

٥٨٨

أحدها : أن يريد غير ما يحسن إرادته فيفعله ، وهذا هو الخطأ التامّ المأخوذ به فاعله. ويقال منه : خطىء يخطأ خطأ وخطأة.

والثاني : أن يريد ما يحسن فعله ، ولكن يقع منه خلاف ما يريد. ويقال منه : أخطأ إخطاء فهو مخطىء ، وهذا مصيب في إرادته مخطىء في فعله ، وإياه عني بقوله عليه الصلاة والسّلام : «من اجتهد فأخطأ فله أجر» (١). وقوله : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» (٢).

والثالث : أن يريد ما لا يحسن فعله ويسبق منه فعله ، فهذا عكس ما قبله من أنه مصيب في فعله مخطىء في إرادته. فهذا مذموم بقصده غير محمود على فعله. وهذا المعنى هو الذي قصده من قال في شعره (٣) : [من الطويل]

أردت مساءتي فأجرت مسرّتي

وقد يحسن الإنسان من حيث لا يدري

وجملة الأمر أنّ من أراد شيئا واتفق منه غيره يقال : أخطأ ، وإن وقع منه كما أراد يقال : أصاب. وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراده إرادة لا تجمل : إنه أخطأ. ولهذا يقال : أصاب الخطأ ، وأخطأ الصواب ، وأخطأ الخطأ (٤). وهذه اللفظة مشتركة متردّدة بين معان كما ترى. فيجب على من يتحرّى الحقائق أن يتأمّلها.

قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)(٥). قيل : الخطيئة والسيّئة تتقاربان ، لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصودا إليه في نفسه ، بل يكون القصد سببا يولّد ذلك الفعل كمن رمى صيدا فأصاب إنسانا ، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره. والسبب سببان ، سبب كشرب المسكر وما يتولّد من الخطأ عنه (٦). وسبب غير متجاف عنه (٧). قال تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)(٨).

__________________

(١) صحيح البخاري ، الاعتصام : ٢١. ومذكور في المفردات : ١٥١.

(٢) ابن ماجه ، باب الطلاق ، رقم ٦٠.

(٣) من شواهد المفردات : ١٥١.

(٤) وأصاب الصواب.

(٥) ٨١ / البقرة : ٢.

(٦) وهو أصلا محظور فعله.

(٧) ولا يكون محظورا كرمي الصيد.

(٨) ٥ / الأحزاب : ٣٣.

٥٨٩

قوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً)(١). فالخطيئة هنا ما لا يكون قصدا إلى فعله. وقوله : (وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ)(٢). قيل : الخاطئة هنا مصدر على فاعلة كالعافية ، أي بالخطر العظيم ، وقيل : هو من شعر شاعر. والخطيئة يجوز ألّا تكون مصدرا فتكون نحو الغديرة بمعنى الغدر والنّقيعة بمعنى النّقع. والخاطىء المصيب للخطيئة. ومنه قوله تعالى : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ)(٣). وقوله : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ)(٤) من الذنوب التي تعمّدوا فعلها. ويجمع على خطيئات أيضا. وقد قرىء مما خطاياهم (٥) و «خطيئاتهم» وكذلك (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ). ووزن خطايا فعائل لأن نظيرها منن الصحيح صحيفة وصحايف. وقد أتقنّا تصريفها وخلاف الناس فيها في موضع يليق بها.

خ ط ب :

قوله تعالى : (وَفَصْلَ الْخِطابِ)(٦) أي ما ينفصل به الأمر بين المتخاطبين في الخصام ونحوه ، لأن كلّا من الخصمين يخاطب خصمه بما ينفعه. وأصل ذلك من الخطب. والخطب : الأمر العظيم الذي يحتاج فيه إلى تخاطب. ثم عبّر به عن الأمر والشأن فيقال : ما خطبه؟ قال تعالى : (ما خَطْبُكُنَ)(٧) ، وأصله مصدر يقال : خطب وخطاب وتخاطب ومخاطبة أي مراجعة خطاب بين القوم. ومنه الخطبة والخطبة ، إلا أن الخطبة اختصّمت بخطاب ذي وعظ ، والخطبة بخطاب ذي طلب امرأة تنكح. والخطبة في الحيقة اسم لهيئة الخاطب نحو الجلسة. ويقال من الخطبة : خاطب وخطيب ، ومن خطبة المرأة خاطب

__________________

(١) ١١٢ / النساء : ٤.

(٢) ٩ / الحاقة : ٦٩.

(٣) ٣٧ / الحاقة : ٦٩.

(٤) ٥٨ / البقرة : ٢.

(٥) ٢٥ / نوح : ٧١. وقرأها أبو رجاء «خطيّاتهم» ، والجحدري وعبيد «خطيئتهم» (مختصر الشواذ : ١٦٢. وانظر معاني القرآن للفراء : ٣ / ١٨٩).

(٦) ٢٠ / ص : ٣٨.

(٧) ٥١ / يوسف : ١٢.

٥٩٠

فقط. قال تعالى : (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ)(١). فالخطبة من الرجل للمرأة ، والاختطاب من وليّها للرجل.

وجاء في التفسير أنّ فصل الخطاب قوله : أمّا بعد ، وهذا يردّ قول من قال إنّ أول من تكلم بها قسّ بن ساعدة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن داود أوتي بمعنى هذا اللفظ لأن لغته غير عربية ، وقسّ أول من تكلّم بهذا اللفظ (٢) فلا منافاة.

خ ط ط :

قوله تعالى : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)(٣) أي لا تكتبه. والخطّ : الكتب لأنه ذو خطوط. والخطّ : المدّ ، والخطّ : كلّ ما له طول ، وكلّ أرض طويلة فهي خطّ (٤) ، نحو خطّ اليمن. وإليه تنسب الرماح ، فيقال : رماح خطيّة ، ورمح خطيّ. قال النابغة (٥) : [من الطويل]

وهل ينبت الخطّيّ إلا وشيجه

وتغرس إلا في منابتها النّخل

وفي حديث أمّ زرع (٦) : «وأخذ خطّيّا». والأصل في ذلك أن السفن تجلب الرماح إلى سيف البحرين وما حوله من القرى ، وهي تسمّى بالخطّ لما قدّمنا. فنسبت الرماح إليها. والخطّ : الطريق ؛ ألزم هذا الخط. والخطيطة : الطريقة تجمع على خطائط ، كطريقة وطرائق. والخطيطة أيضا : أرض لم تمطر بين أرضين ممطرتين كالخطّ المنحرف. والخطّة أيضا : الحالة ، استعارة من الطريقة ، ومنه قول الشاعر (٧) : [من الطويل]

هما خطّتا إمّا إسار ومنّة

وإمّا دم والقتل بالحرّ أجدر

__________________

(١) ٢٣٥ / البقرة : ٢.

(٢) يريد : بالعربية.

(٣) ٤٨ / العنكبوت : ٢٩.

(٤) وفي الأصل : خطة.

(٥) عزاه المؤلف للنابغة ولم نجده في ديوانه. واستشهد به ابن منظور (مادة خطط) لشاعر في نباته.

(٦) النهاية : ٢ / ٤٨.

(٧) البيت لتأبط شرا من قصيدة في شرح الحماسة : ٧٩. ويجوز رفع الكلمات الثلاث.

٥٩١

أي هما حالتان ، ويروى برفع إسار وجرّه. وفيه بحث أتقنّاه في غير هذا الكتاب. والخطّ والخطّة : ما اختطّه الإنسان لنفسه وحصره. وفي الحديث : «أنه ورّث النساء خططهنّ دون الرجال» (١) ، وكان قد أعطى النساء خططا يسكنّها بالمدينة. وفي حديث معاوية بن الحكم : «أنه سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخطّ فقال : كان نبيّ من الأنبياء يخطّ ، فمن وافق خطّه علم [مثل علمه]» (٢). قال ابن عباس : هو الخطّ الذي يخطّه الحازي ـ بمعنى المنجّم ـ وهو علم قد تركه الناس ، فيأتي صاحبه إلى الحازي فيعطيه حلوانه فيقول : اقعد حتى أخطّ لك. قال : وبين يدي الحازي غلام معه ميل ، فيأتي إلى أرض رخوة ، فيخطّ الأستاذ فيها على عجل لئلا يلحقه العدد ، ثم يمحوها على مهل خطّين خطّين ، فإن بقي منها خطان فهي علامة نجح ، وإن بقي واحد فهي علامة خيبة / ويسمى الأسحم (٣).

خ ط ف :

قوله : (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ)(٤). الخطف : الأخذ بسرعة. يقال : خطفه يخطفه وخطفه يخطفه. وقرىء قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ)(٥) بالوجهين في السبع (٦). ولم يقرأ «يخطف» فيها إلا بالفتح. وأما في الشاذّ فقد قرىء فيه بالوجهين (٧). وفي هذا الحرف قراءات كثيرة وتصريف متّسع لا حاجة لنا ببيانه (٨) هنا.

واختطفت الشيء وتخطّفته. ومنه : (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)(٩) أي بالنّهب

__________________

(١) النهاية : ٢ / ٤٨.

(٢) النهاية : ٢ / ٤٧ ، والإضافة منه.

(٣) الكلام منقول من النهاية تعقيبا على الحديث السابق ، إلا أن المؤلف بتر القسم الأخير من الحديث ، وأضاف الكلمتين الأخيرتين.

(٤) ٢٠ / البقرة : ٢.

(٥) ١٠ / الصافات : ٣٧.

(٦) قرأ الحسن وقتادة وعيسى «خطّف» بالتشديد ، وروى عن الحسن بالتخفيف أيضا (مختصر الشواذ : ١٢٧).

(٧) قرأ مجاهد بفتح الياء وكسر الطاء (المصدر السابق).

(٨) وفي ح : بيناه ، وهو وهم.

(٩) ٦٧ / العنكبوت : ٢٩.

٥٩٢

والإغارات واستلاب الأنفس والأموال في كلّ بدو وحضر بخلاف مكة ومخاليفها (١) فإنّ أهلها آمنون من ذلك.

والخطّاف : الطائر ، تصوّر أنه يخطف شيئا في طيرانه. والخطّاف أيضا : الحديدة التي تدور عليها البكرة. وهو أيضا ما يخرج به الدلو إذا وقع في الركيّة (٢) لما فيه من الاختطاف ، والجمع خطاطيف. قال النابغة (٣) : [من الطويل]

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمدّ بها أيد إليك نوازع

وباز مختطف أي يختطف ما يصيده. والخطف : انجذاب شدة السير. وأخطف الحشا أي ضامره ، كأنّ حشاه قد اختطف ؛ يعبّر به عن الخاصرة. وفي الحديث : «نهى عن الخطفة» (٤) ؛ هي ما يختطفه الذئب من الشاة (٥) وهي حية كيد ، فلا يجوز أكلها. وفيه : «جعلت له خطيفة» (٦) ؛ هي أن يذرّ دقيق على لبن فيطبخ فيعلقه الناس ويأخذونه بسرعة.

خ ط و :

قوله تعالى : (خُطُواتِ)(٧) قرىء خطوات بضمتين وضمة وسكون في السبع. وهي جمع خطوة بالضمّ ، وقرىء خطوات بفتحتين (٨). فالخطوة : اسم لما بين القدمين حال المشي ، وبالفتح : المرة. والمعنى : لا تسلكوا مسالكه ولا تخطوا طرائقه ، فلا تذهبوا في طريق يدعوكم إليه ، وهذا من أبلغ الاستعارات. جعل ما يوسوس به إليهم كطريقة طلب منهم سلوكها ، وجعله دليلا فيها وجعلهم واطئين عقبه كما تطأ المسافرة عقب الدليل الماهر بالمفازة ، فلا تعدو خطوه. وهذا فائدة العدول عمّا لو قيل لاتّبعوا الشيطان في أوامره.

__________________

(١) المخاليف : الأطراف والنواحي.

(٢) الركية : البئر.

(٣) الديوان : ٥٢ من اعتذارية له.

(٤) النهاية : ٢ / ٤٩.

(٥) يريد من أعضاء الشاة.

(٦) الحديث لأنس ، والضمير لأم سليم رضي الله عنها (النهاية : ٢ / ٤٩).

(٧) ١٦٨ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٨) هي قراءة أبي حرام الأعرابي ، وانظر تفصيلا حولها في (مختصر الشواذ : ١١).

٥٩٣

فصل الخاء والفاء

خ ف ت :

قوله تعالى : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ)(١) أي يتسارّون. وأصله من الخفوت ، وهو ضعف الصوت. قوله : (وَلا تُخافِتْ بِها)(٢) أي لا تسرّها فلا يسمعك من خلفك. وأصل الخفوت السكون. ومنه خفت الميّت من ذلك. قوله : (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ)(٣) أي يسرّ بعضهم إلى بعض لئلّا يسمعهم المساكين. وفي التفسير قصة مشهورة ، وقال الشاعر (٤) : [من الطويل]

 

وشتّان بين الخفت والمنطق الجهر

وقول بعض المولدين : لم يبق إلا نفس خافت.

خ ف ض :

قوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)(٥) أي ألن لهما جناحك (٦) ومقالك. والخفض ضدّ الرفع. والخفض : اللين في السير. والخفض : الدعة. ومنه : خفض العيش.

والخفض الصناعيّ ضدّ الرفع الصناعيّ ... (٧) لأنّه كسر أو جرّ على اصطلاحهم.

__________________

(١) ١٠٣ / طه : ٢٠.

(٢) ١١٠ / الإسراء : ١٧.

(٣) ٢٣ / القلم : ٦٨.

(٤) عجز ذكره الراغب في مفرداته : ١٥٢ ، وذكر ابن منظور البيت كله في مادة خفت ، غير أن المصدرين ذكرا (الجهر والمنطق الخفت). وصدره :

أخاطب جهرا إذ لهنّ تخافت

(٥) ٢٤ / الإسراء : ١٧.

(٦) كذا في س ، وفي ح : جنابك ، ولعلها : جانبك.

(٧) كلمة غامضة في الرسم في الأصل ، ولعلها وضمه.

٥٩٤

وقوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١) ، كقوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢) ، وقوله : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ)(٣) أي تخفض قوما إلى النار وترفع آخرين إلى الجنة ، وهذا حال يوم القيامة. وكأنه أشار إلى قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ)(٤) عند بعضهم وليس ذلك. والخفض أيضا الختان. والخاتن : خافض. وفي الحديث : «إذا خفضت فأشمّي» (٥) أي بقّي بقية لطيفة.

خ ف ف :

قوله تعالى : (حَمْلاً خَفِيفاً)(٦). الخفيف بإزائه الثقيل. وقد تقدّمت أقسام الثقيل والخفيف ؛ يقال تارة باعتبار التّضايف فيقال : درهم خفيف وآخر ثقيل ، وتارة باعتبار تضايف الزمان نحو : فرس خفيف وآخر ثقيل إذا كان عدو أحدهما أكثر من الآخر في زمان واحد ، وتارة باعتبار ما يستخفّه الناس. وثقيل فيما يستوجبه (٧). فالخفّة هنا مدح والثقل ذمّ. ومنه قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ)(٨) ، ويقرب منه : (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً). وتارة خفيف لمن فيه طيش ، وثقيل لمن فيه رزانة ؛ وعليه قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ)(٩)(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ)(١٠). فينعكس الحال فيكون الثقل مدحا والخفة ذما. وتارة خفيفا باعتبار الجسم الذي يرجح إلى الأعلى كالهواء والنار. وثقيل باعتبار الجسم الذي يرجح إلى

__________________

(١) ٢١٥ / الشعراء : ٢٦.

(٢) ١٢٨ / التوبة : ٩.

(٣) ٣ / الواقعة : ٥٦.

(٤) ٥ / التين : ٩٥.

(٥) النهاية : ٢ / ٥٤. ويقول ابن الأثير : الخفض للنساء كالختان للرجال. وقد يقال للخاتن خافض ، وليس بالكثير.

(٦) ١٨٩ / الأعراف : ٧.

(٧) وفي المفردات (ص ١٥٢) : يستوخمه ، ولعله أصوب للسياق.

(٨) ٦٦ / الأنفال : ٨.

(٩) ٨ / الأعراف : ٧.

(١٠) ٩ / الأعراف : ٧.

٥٩٥

الأسفل كالماء والتراب ، وتستعار الخفة والثقل لفصاحة النطق وعيّه ، ويوصف بهما اللسان فيقال : كلامه خفيف أو ثقيل ، ولسانه خفيف أو ثقيل. والخفة هنا مدح والثقل ذمّ ؛ يقال : خفّ يخفّ خفّا وخفّة ، وخفّفته تخفيفا ، وتخفّف تخفّفا ، واستخفّه كأنه سأله الخفّة. ومنه قوله تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ)(١) أي سألهم الخفّة وحملهم عليها فخفّوا ، أو فاستخفّهم ولم يعبأ بشأنهم فيما أمرهم ، لذلك لم يألوا عن طواعيته مع ادعائه لأعظم الأشياء.

وقوله : (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ)(٢) أي ولا يحملنّك على الخفّة بأن يزيلوك عن اعتقادك بما يقولون إليك من الشّبه والنهي وإن كان للذين لا يوقنون. فالمعنى النهي له عن تعاطي أسبابه ، وهو تعليم لأمّته (صلّى الله تعالى عليه وسلم) (٣) في الحقيقة. واستخفّه وأخفّه الطرب بمعنى حمله الطرب على الخفة. قوله : (تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ)(٤) أي يخفّ عليكم حملها. والمعنى تقصدون بذلك خفّها. وقولهم : خفّوا أي ارتحلوا عن منازلهم بخفّة. وعليه قول الشاعر : [من مجزوء الرمل]

علّموني كيف أبكي

هم إذا خفّ القطين

والخفّ : الملبوس ، سمي بذلك لخفّته لكونه من جلد وبه شبّه خفّ البعير وخفّ النعامة ونحو ذلك. وهو في البهائم يقابل الخفّ (٥). يقال : ذات الخفّ والحافر. وفي الحديث : «إلا في خفّ أو نصل أو حافر» (٦).

خ ف ي :

قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(٧). الإخفاء : السّتر

__________________

(١) ٥٤ / الزخرف : ٤٣.

(٢) ٦٠ / الروم : ٣٠.

(٣) ساقط من ح.

(٤) ٨٠ / النمل : ١٦.

(٥) كذا في س ، وفي ح : الحافر ، وفيه إضافة (يقال الحافر) لم نجد لها ضرورة فأسقطناها.

(٦) النهاية : ٢ / ٥٥ ، وأوّله هناك : «لا سبق إلّا ...».

(٧) ١٧ / السجدة : ٣٢.

٥٩٦

والتغظية. يقال : خفي الشيء وأخفيته : استتر وسترته. والخفاء : ما يستر به كالغطاء ، فيقال : أخفيته إذا أوليته خفاء أي سترته. ومنه : (أَكادُ أُخْفِيها)(١) أي أسترها ، فلا يطّلع عليها أحد. وفي التفسير : «أكاد أخفيها من نفسي» (٢) مبالغة. وخفيته : أزلت خفاه ، إذا أظهرته. وعليه قرأ الحسن «أخفيها» بفتح الهمزة (٣) ، وقال امرؤ القيس (٤) : [من المتقارب]

فإن تدفنوا الداء لا نخفه

وإن تبعثوا الحرب لا نقعد /

وقال عبدة بن الطبيب (٥) : [من البسيط]

يخفي التراب بأظلاف ثمانية

في أربع مسّهنّ الأرض تحليل

ومنه الحديث : «أو تختفوا بقلا» (٦) أي تظهرونه. وروي «تحتفوا» أي تقتلعوا ، من حفت المرأة شعر وجهها. و (٧) «تجتفئوا» بالجيم من : جفأت القدر زبدها : ألقته. و «خوافي الجناح» (٨) لأنها دون قوادمه. والخافية : الجنّ ، وكذا الخافي لاستتارهم. قال الأعشى (٩) : [من البسيط]

يمشي ببيداء لا يمشي بها أحد

ولا يحسّ من الخافي بها أثر

ويقابل الخفاء بالإبداء تارة وبالإعلان أخرى. قال تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا

__________________

(١) ١٥ / طه : ٢٠.

(٢) قراءة أبيّ : «إنّ الساعة آتية أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها».

(٣) هي قراءة سعيد بن جبير وأبي الدرداء (بالفتح) ولم يرد اسم الحسن (معاني القرآن للفراء : ٢ / ١٧٦. مختصر الشواذ : ٨٧) من خفيت : واستشهد الفراء ببيت امرىء القيس.

(٤) الديوان : ١٢٧.

(٥) من قصيدة طويلة وردت في المفضليات : ١٤٠. يخفي التراب : يستخرجه لشدة عدوه ، وهي من الأضداد. تحليل : تحلّة القسم.

(٦) النهاية : ٢ / ٥٦.

(٧) أي وروي.

(٨) النهاية : ٢ / ٥٧.

(٩) هو أعشى باهلة ، والبيت من شواهد ابن منظور ـ خفا. والصدر مضطرب في الأصل ، صوّبناه من اللسان.

٥٩٧

هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها)(١)(وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ)(٢). قوله : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى)(٣) أي وأخفى من السرّ. قيل : هو ما يطرأ وجوده في ضمير صاحبه. وقيل : «أخفى» فعل أي وأخفى ذلك عن خلقه ، ويقابل به الظهور أيضا. قال الشاعر : [من البسيط]

لقد ظهرت فلا تخفى على أحد

إلا على أكمه (٤) لا يعرف القمرا

فصل الخاء واللام

خ ل د :

قوله تعالى : (خالِدَيْنِ فِيها)(٥). الخلد : قيل : هو المكث الطويل. وقيل : هو الذي لا نهاية له. وهو أشبه بقول المعتزلة لسابّهم : «عليه تخليد أهل الكبائر» ، وقد حقّقنا هذا في «الأحكام» و «التفسير». ولو اقتضى التأبيد لما جاء مع لفظ الأبد ، وأجابوا عنه بإرادة التأكيد ، والأصل عدمه. وأصل الخلود تبرّي الشيء من أعراض الفساد ، وبقاؤه على الحالة التي هي عليه. والعرب تصف بالخلود كلّ ما تباطأ تغيّره وفساده. وكذلك وصفت الأيام بالخوالد لطول مكثها لا لدوام بقائها. وقال امرؤ القيس (٦) : [من الطويل]

هل يعمن إلا سعيد مخلّد

قليل الهمومّ ما يبيت بأوجال

ويقولون لمن تباطأ شيبه : مخلّد. يقال : خلد يخلد خلودا إذا بقي زمنا. قال : [من الطويل]

__________________

(١) ٢٧١ / البقرة : ٢.

(٢) ٢٥ / النمل : ٢٧.

(٣) ٧ / طه : ٢٠.

(٤) الكمه : العمى.

(٥) ١٧ / الحشر : ٥٩.

(٦) الديوان : ٤٥. أوجال : جمع وجل وهو الخوف. المخلد : الطويل العمر.

٥٩٨

فلو كان مجدا يخلد الدهر واحدا

خلدت ، ولكن ليس حيّ بخالد

ودابة مخلّدة : التي تخرج ثناياها وتبقى إلى أن تخرج رباعيتها. والخلد : اسم للجزء الذي يبقى من الإنسان على حالته فلا يتغيّر ترعرعه ما دام الإنسان حيا. قال الراغب (١) : ثم استعير للمبقيّ دائما. يعني أن أصله المكث الطويل.

والخلود في الجنة بقاء الأشياء التي عليها من غير أعراض فساد تكون عليها. والخلد : الظنّ ، ولذلك قالوا : وقع في خلدي كذا. وقوله تعالى : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ)(٢) أي اطمأنّ وسكن إلى لذّاتها ، واطمأنّ إليها ظانّا أنه يخلد فيها. قوله تعالى : (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ)(٣) مبقون كأهل الجنة. وحقيقته أنهم لا يتغيرون عن حالتهم التي هم عليها من الوصافة وسنّ الحداثة. وقيل : مقرّطون ، أي يكون في آذانهم القرطة ، أي حلق من ذهب وفضة. والجمع خلدة والواحد خلد ، كما يقال : قرط وقرطة. والإخلاد : البقية (٤) والحكم بها. ومنه : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي حكم بذلك ظنّا منه ، كما تقدّم.

خ ل ص :

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً)(٥). الخلوص أصله التقصّي من الشيء وعدم الشركة فيه. وقرىء «مخلصا» بكسر اللام بمعنى أخلص نفسه وطاعته لله ، وبفتحها بمعنى أن الله أخلصه واصطفاه. كقوله : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)(٦). وكلّ ما في هذا القرآن من هذا اللّفظ إذا لم يكن بعده «الدين» قرىء بالوجهين على هذين المعنيين نحو : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(٧) بخلاف (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(٨) فإنّه لا يليق به الفتح. وقيل :

__________________

(١) المفردات : ١٥٤.

(٢) ١٧٦ / الأعراف : ٧.

(٣) ١٧ / الواقعة : ٥٦ ، وغيرها.

(٤) وفي الأصل : السعية ، ولعله تصحيف. يريد : جعله مبقى والحكم عليه بكونه مبقى.

(٥) ٥١ / مريم : ١٩.

(٦) ١٤٤ / الأعراف : ٧.

(٧) ٢٤ / يوسف : ١٢.

(٨) ٢٩ / الأعراف : ٧ ، وغيرها.

٥٩٩

الخالص الصافي. وقال آخرون : الفرق بينهما أن الخالص ما زال عنه شوبه بعد أن كان والصافي أعمّ من ذلك. يقال : خلّصته (١) فخلص خلوصا. قال الشاعر (٢) : [من الوافر]

خلاص الخمر من نسج الفدام

ويقال : خالصة وأخلصة ، وكان التاء للمبالغة نحو راوية. قوله تعالى : (خَلَصُوا نَجِيًّا)(٣) أي انفردوا وتميّزوا. وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)(٤) راجع إلى ما قدّمناه من أنه التبرّي من الشيء. فإخلاص المسلمين كونهم تبرّؤوا ممّا (٥) يدّعيه اليهود من التّشبيه ، والنصارى من التثليث. وقوله : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)(٦) اخترناهم بخصلة خلصناها لهم. وقرىء بإضافة خالصة لذكرى (٧) وبعدمها في السبع. وقد بيّنّا وجهي ذلك في «الدرّ» و «العقد» وغير ذلك.

وقوله : (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)(٨) أي أختصّ به مصطفيا له لا يشركني فيه غيري. والإخلاص : قصد المعبود وحده بالعبادة ، كما قال : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(٩).

خ ل ط :

قوله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)(١٠) أي فعلوا هذا تارة وهذا أخرى. وأصل الخلط الجمع بين الشيئين فأكثر ، سواء كانا مائعين أو جامدين ، أو أحدهما جامدا والآخر مائعا. وهو أعمّ من المزج ، فإنّه يختصّ بالمائعات. قوله : (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ

__________________

(١) وفي الأصل : خلصت.

(٢) ذكره الراغب في مفرداته : ١٥٤. المفدم من الثياب : المشبع حمرة.

(٣) ٨٠ / يوسف : ١٢.

(٤) ١٣٩ / البقرة : ٢.

(٥) وفي الأصل : عمّا.

(٦) ٤٦ / ص : ٣٨.

(٧) هي قراءة بعض أهل الحجاز ، وهو وجه حسن تكلمت به العرب (معاني القرآن للفراء : ٢ / ٤٠٧).

(٨) ٥٤ / يوسف : ١٢.

(٩) ١١٠ / الكهف : ١٨.

(١٠) ١٠٢ / التوبة : ٩.

٦٠٠