عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٩

والجداد (١) أي إبّان حصاده وصلاحيته لذلك. وقوله : (فَجَعَلْناها حَصِيداً)(٢) إشارة إلى أنّه حصد في غير إبّانه على سبيل الإفساد ، أي استؤصل ما أنبت.

وقوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ)(٣) إشارة إلى قوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٤) أي منها ما هو باد باقية أعلامه ، ومنها ما حصد وهلك ودثر ، فلم يبق له عين ولا أثر ؛ فاستعير الحصد لهلاكه. وقوله : (حَصِيداً خامِدِينَ)(٥) أي موتى هلكى من حصدهم بالسيف. وفي الحديث : «وهل يكبّ الناس على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (٦) جمع حصيد ، وهي الكلمة. شبّهها بما يحصد من الزرع لأنّها تقتطع من كلام الإنسان. وحبل محصد ، ودرع حصداء ، وشجرة حصداء ، كلّ ذلك استعارة. وفي الحديث : «نهى عن حصاد الليل» (٧) قيل : إمّا لمكان الهوامّ حتى لا يصيب الناس ، وإمّا لأجل حرمان المساكين والفقراء. واستحصد القوم : تقوّى بعضهم ببعض. وأحصد الزرع : صار ذا حصاد.

ح ص ر :

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)(٨) أي مكانا ضيقا حاجزا لهم ، من حصرته أي ضيّقت عليه ومنعته من التصرّف. وقيل : الحصير : السجن لما فيه من الضّيق فهو فعيل بمعنى فاعل. وسمي الحصير حصيرا لكونه يحصر من يجلس عليه. والحصر في اصطلاح العلماء قصر الصّفة على الموصوف والموصوف على الصّفة نحو : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)(٩) ، (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ)(١٠). وعن الحسن في قوله : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ

__________________

(١) الجداد : أوان قطع الثمر (اللسان ـ جدد).

(٢) ٢٤ / يونس : ١٠.

(٣) ١٠٠ / هود : ١١.

(٤) ٤٥ / الأنعام : ٦.

(٥) ١٥ / الأنبياء : ٢١.

(٦) النهاية : ١ / ٣٩٤ ، وهذه استعارة.

(٧) النهاية : ١ / ٣٩٤.

(٨) ٨ / الإسراء : ١٧.

(٩) ١٩ / محمد : ٤٧.

(١٠) ١٧١ / النساء : ٤.

٤٨١

حَصِيراً)(١) أي مهادا ؛ قال الراغب (٢) : كأنّه جعله الحصير المرمول كقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ)(٣) ، وعلى هذا هو بمعنى الحصور ، سمي بذلك لحصر طاقات بعضه على بعض. وقول لبيد (٤) : [من الكامل]

ومقامة غلب الرّقاب كأنّهم

جنّ لدى باب الحصير قيام

الحصير : الملك ، إمّا بمعنى محصور ، بمعنى أنّه محجب ، وإمّا بمعنى حاصر ، لأنّه يمنع غيره أن يحصل إليه.

وقوله : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً)(٥) أي ممنوعا من غشيان النساء ، إمّا لعنّة ونحوها ، وإمّا لمنعه ذلك بقوته واجتهاده وفراغ قلبه من ذلك ، وهذا هو الأليق بهذا المقام لدخوله في المجد ، فإنّ الأمور المطبوع عليها قلّما يمدح بها إذا اتّصف بها ، ولهذا فضل البشر على الملك ، إذا قمع شهوته وخالف نفسه وغلب هواه. فحصور يجوز أن يكون بمعنى مفعول على الأول نحو : ركوب وحلوب ، وبمعنى فاعل على الثاني نحو : صبور وشكور.

والحصور ـ أيضا ـ والحصير : البخيل ، سمي بذلك لمنعه المال ، وأنشد لجرير (٦) : [من الكامل]

ولقد تسقطّني الوشاة فصادفوا

حصرا بسرّك يا أميم ضنينا

وقوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)(٧) اضطربت أقوال أهل اللغة في أحصر وحصر هل هما بمعنى أو بينهما فرق ، وما ذلك الفرق؟ (٨) وقيل : أحصر في المنع

__________________

(١) ٨ / الإسراء : ١٧.

(٢) المفردات : ١٢٠.

(٣) ٤١ / الأعراف : ٧.

(٤) ديوان لبيد : ٢٩٠. وانظر اختلاف رواية البيت في الديوان ، والمفردات : ١٢٠ ، واللسان ـ مادة حصر.

(٥) ٣٩ / آل عمران : ٣.

(٦) الديوان : ٥٧٨. الحصر : البخيل بماله أو سره.

(٧) ١٩٦ / البقرة : ٢.

(٨) لم يذكر الجواليقي فرقا بينهما ، وقال : «حصر غائطه وأحصره إذا احتبسه ، ويقال للرجل : من حصرك ها هنا ومن أحصرك؟» (ما جاء على فعلت وأفعلت : ٣٥).

٤٨٢

الظاهر ـ كالعدوّ ـ والباطن (١) ، وحصر في الباطن فقط ؛ فقيل : يقال : حصره المرض ، وأحصره العدوّ. وقيل : حصرته : حبسته ؛ وقال : (وَاحْصُرُوهُمْ)(٢) أي احبسوهم ، وقد حقّقنا هذا كلّه في «الدرّ المصون» و «القول الوجيز» بما يشفي قاصديه. والحاصل أنّ المادة تدلّ على المنع والتّضييق ، وعليه (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)(٣).

وحاصرت العدوّ : ضايقته بالقتال. قوله : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)(٤) أي / ضاقت بقتالكم ذرعا (٥). والحصر : العيّ في الكلام والمنع منه. وأحصر الرجل وحصر : حبس عليه غائطه (٦).

ح ص ح ص :

قوله تعالى : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ)(٧) أي ظهر وتبلّج وذلك بانكشاف ما يغمره (٨) ، وأصله من قولهم : رجل أحصّ ، وأمرأة حصّاء ، وهو من ذهب شعره فانكشف ما تحته. وحصّت الأرض حصّة : ذهب بناؤها فانكشف ما تحته. وحصّه : قطعه ، وذلك إمّا بالمباشرة نحو : حصصت ذنب الطائر ، وإمّا بالحكم نحو : حصصت الخبر عنه ، ومن الأول قوله : [من السريع]

قد حصّت البيضة رأسي [فما](٩)

__________________

(١) أي والمنع الباطن.

(٢) ٥ / التوبة : ٩.

(٣) ٢٧٣ / البقرة : ٢.

(٤) ٩٠ / النساء : ٤.

(٥) وفي المفردات (ص ١٢١) : أي ضاقت بالبخل والجبن.

(٦) جاء في هامش ح بغير خط الناسخ : «الحصر على ثلاثة أقسام : العقل الداير بين النفي والإثبات وهو الوقوعي والإستقرائي وهما واحد ، وهما أن يكون القسم الآخر مرسلا أي يكون للعقل احتمال على قسم آخر كحصر الكلمة على ثلاثة أقسام : الجعلي والوضعي وهما واحد ، وهو ألا يكون بجعل الجاعل كحصر أبواب الرسائل والكتب» والكلام منقول من تعريفات الجرجاني : ٤٧ ، مع بعض التبديل.

(٧) ٥١ / يوسف : ١٢.

(٨) وفي المفردات (ص ١٢٠) : يقهره.

(٩) البيت لأبي قيس بن الأسلت ، وهو صدر عجزه :

أذوق نوما غير تهجاع

وهو مذكور في اللسان ـ مادة حصص ، ومنه الإضافة.

٤٨٣

ورجل أحصّ : يقطع بشؤمه الخيرات عن الخلق. والحصّة : القطعة من الجملة ، وتستعمل استعمال النّصيب ، وعلى هذا فحصّ وحصحص مثل كفّ وكفكف ولمّ ولملم. ولأهل العربية في هذا كلام حقّقته في غير هذا. وقال الأزهريّ : أصل ذلك من حصحصة البعير [قال : [من السريع]

وحصحص في صمّ الحصى] ثفناته

ورام القيام ساعة ثم [صمّما](١)

وفي الحديث (٢) : «لأن أحصحص في يديّ جمرتين أحبّ إليّ من أن أحصحص كعبين». قال شمّر : الحصحصة تحريك الشيء وتقليبه في اليد. والحصّ : القصّ. وأنشد لأبي طالب : [من الطويل]

[بميزان قسط](٣) لا يحصّ شعيرة

له شاهد من نفسه غير عامل

وفي الحديث (٤) : «إذا سمع الشيطان الأذان أدبر وله حصاص» ، قال أبو عبيد : هو شدة العدو ، وقيل : الضّراط. وقال حماد : سألت عاصما المقرىء راوي هذا الحديث : ما الحصاص؟ فقال : [أما رأيت الحمار](٥) إذا صرّ (٦) بأذنيه ومصع بذنبه وعدا؟ فذلك الحصاص.

ح ص ل :

قوله تعالى : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ)(٧) أي جمع. والتحصيل : الجمع ، قيل :

__________________

(١) في الأصل نقص وبياض واضطراب ، فصوّبناه وأضفناه من اللسان (مادة ـ حصص). والبيت لحميد بن ثور. ويرويه الصحاح :

وحصحص في صمّ الصّفا ثفناته

وناء بسلمى نوأة ثم صمّما

(٢) الحديث للإمام علي كما في اللسان. وفي النهاية : ١ / ٣٩٤ جاء بلفظ : كعبتين ، في آخره.

(٣) أي لا ينقص شعيرة. والإضافة من اللسان (مادة ـ حصص) ومن النهاية : ١ / ٣٩٦.

(٤) الحديث لأبي هريرة ، رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النّجود كما في اللسان. وانظر النهاية : ١ / ٣٩٦.

(٥) بياض في الأصل ، والإضافة من اللسان.

(٦) في الأصل : ضرب.

(٧) ١٠ / العاديات : ١٠٠.

٤٨٤

والتّحصيل إخراج اللبّ من القشور وجمعه ، كإخراج الذهب من حجر المعدن ، والبرّ من التّبن. فقوله : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) أي أظهر ما فيها وجمع كإظهار اللبّ من القشر وجمعه أو كإظهار الحاصل من الحساب ، وقال الفراء : معناه بيّن وميّز ، ويقال للّذي يفحص تراب المعدن عن الفضة والذهب : محصّل ، وأنشد : [من الوافر]

ألا رجلا (١) جزاه الله خيرا

يدلّ على محصّلة تبيت (٢)

قيل : أراد به الفجور ، وقيل غير ذلك.

وحوصلة الطائر : ما يحصل فيه الغذاء ، ويجمع ؛ فواوه مزيدة كواو كوثر. وقيل : للحبالة : الحصل. وحصل إذا اشتكى بطنه عن أكلة.

ح ص ن :

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)(٣) أي : وحرّمت عليكم المحصنات (٤) ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم بالسّبي ، فإنّهنّ يحللن لكم. ومنه قول الفرزدق : [من الطويل]

وذات حليل أنكحتها (٥) رماحنا

حلالا لمن يبني بها لم تطلّق

وأصل الإحصان المنع ، ومنه الحصن لأنه يمتنع به ، ويحصن أي امتنع في حصن أو ما يقاربه ، فالمحصنات ممتنعات بأزواجهنّ. وقرىء «المحصنات» باسم الفاعل واسم المفعول ، إلا التي في رأس الحزب (٦) ، فإنّ السبعة أجمعوا على اسم المفعول فيها لأنّ

__________________

(١) البيت من شواهد ابن منظور (مادة حصل) وفيه : ألا رجل ، وهو من شواهد سيبويه (الكتاب : ٢ / ٣٠٨) وصاحب البيت عمرو بن قعاس المرادي ، كما ذكره ابن يعيش : ٧ / ٥ ، وغيرهم.

(٢) يروى بفتح تاء المضارع من بات ، وهي هنا من أبات أي : تجعل لي بيتا ، أي امرأة بنكاح.

(٣) ٢٤ / النساء : ٤.

(٤) وفي الأصل : وهي.

(٥) كذا في الديوان (ص ٥٧٦) ، وفي الأصل : أنكحتنا.

(٦) يعني آية النساء السابقة. وقد أجمع القراء على نصب الصاد ، فلم يختلفوا في فتح هذه ، لأن تأويلها ذوات الأزواج يسبين فيحلهنّ السباء لمن وطئها من المالكين لها (اللسان ـ حصن). وروى علقمة (بن ـ

٤٨٥

المعنى على ذلك كما حقّقنا في موضعه.

قال ابن عرفة : الإحصان في كلام العرب : المنع ، والمرأة تكون محصنة بالإسلام ، لأنّ الإسلام منعها مما أباحه الله تعالى ، ومحصنة بالعفاف والحريّة ، ومحصنة بالتّزويج. يقال : أحصن الرجل ، فهو محصن إذا تزوّج ودخل بها ، وأحصنت هي فهي محصنة ، ويجوز محصن ومحصنة ، ومنه قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ)(١) قلت : يعني أنه كان القياس أحصن الرجل والمرأة ، فهو محصن ومحصنة ـ بكسر الصاد ـ فقط لكونه اسم فاعل ، إلا أنه شذّ فتحه كما شذّ في ألفج فهو ملفج (٢). وأمّا المرأة فيقال فيها محصنة أي مجعولة كالحصون.

ودرع حصينة (٣) لتحصينها البدن ؛ قال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ)(٤) قيل : عمل الدروع. وفرس حصان لتحصّن راكبه به ، وإليه أشار من قال (٥) : [من الكامل]

[أنّ] الحصون الخيل لا مدر القرى

وامرأة حصان : ممنّعة من الريب. وقالت عاتكة : «إنّي حصان فما أكلم وصناع فما أعلم». الصّناع ضدّ الخرقاء. وقال حسان في شأن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها (٦) : [من الطويل]

__________________

 ـ قيس من أعلام التابعين) «المحصنات» بالكسر في القرآن كله إلا قوله : «والمحصنات من النساء» لأنها ذات الزوج من سبايا المشركين (معاني القرآن للفراء : ١ / ٢٦٠) بينما الراغب (المفردات : ١٢١) يرى احتمال الوجهين إلا في هذه.

(١) ٢٤ / النساء : ٤.

(٢) روى الأزهري عن ابن الأعرابي أنه قال : كلام العرب كله على أفعل فهو مفعل إلا ثلاثة أحرف : أحصن فهو محصن ، وألفح فهو ملفج ، وأسهب فهو مسهب. وزاد ابن سيده : أسهم فهو مسهم (اللسان ـ مادة حصن) و (النهاية : ١ / ٣٩٧).

(٣) كما يقال : درع حصين.

(٤) ٨٠ / الأنبياء : ٢١.

(٥) عجز بيت للجعفيّ ، وصدره (اللسان ـ حصن) :

ولقد علمت على توقّيّ الرّدى

(٦) مطلع قطعة مدح بها السيدة عائشة (ديوان حسان : ١ / ٢٩٢).

٤٨٦

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

ولقد صدق ـ رضي الله عنه ـ أي مع كونها عفيفة لم تتكلّم في أحد إلا بخير.

يقال : فرس حصان : بيّن التحصّن ، وامرأة حصان : بيّنة التّحصّن ، وبناء حصين :

بيّن الحصانة. ويقال : امرأة حاصن ـ أيضا ـ وجمع الحصان حصن ، والحاصن حواصن. وقرىء قوله (فَإِذا أُحْصِنَ)(١) على البناء للفاعل والمفعول ، أي : فإذا تزوجن بأنفسهنّ ، وإذا زوّجن (٢). وامرأة محصن ـ بالكسر ـ إذا تصوّر حصنها من نفسها ، ومحصن ـ بالفتح ـ إذا تصوّر حصنها من غيرها.

وقوله : (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ)(٣) هنّ الحرائر هنا لا غير ، وقال الراغب : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ)(٤) ، وقوله : (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ)(٥). قيل : «المحصنات» : المزوّجات تصوّر أن زوجها أحصنها. والمحصنات بعد قوله : (حُرِّمَتْ)(٦) بالفتح لا غير ؛ لأن اللاتي (٧) حرّم التزويج بهنّ (٨) المزوّجات دون العفائف ، وفي سائر المواضع يحتمل الوجهين (٩). قلت : ما قاله حسن ، إلا أنّ فيه بحثا لا يسعه هذا الموضع ، على أنّه قد قرأ الجميع بالوجهين على ما بينّاه في غير هذا ، فعليك بالالتفات إليه.

__________________

(١) ٢٥ / النساء : ٤.

(٢) قرأ ابن مسعود «فإذا أحصنّ» ، وابن عباس «فإذا أحصنّ». وقرأ بضم الهمزة كذلك : ابن كثير ونافع وأبو عمرو عبد الله بن عامر ويعقوب ، وقرأ بفتح الهمزة كذلك حمزة والكسائي.

(٣) تابع الآية السابقة.

(٤) تابع الآية السابقة.

(٥) تابع الآية السابقة.

(٦) ٢٣ / النساء : ٤.

(٧) وفي الأصل : التي.

(٨) وفي الأصل : بها.

(٩) انتهى كلام الراغب (المفردات : ١٢١).

٤٨٧

ح ص و :

قوله تعالى : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ)(١) أي حصّله وأحاط به علما ولم يضيّعه ولم ينسه كما نسوه هم. والإحصاء هو تحصيل الشيء بالعدد ، وذلك من لفظ الحصى ، لأنّهم كانوا يستعملونه فيه كاستعمالنا فيه الأصابع ، وعلى ذلك (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢) أي أحاط به وحصّله إحاطة العادّ منكم وتحصيله ، وذلك على سبيل التنزّل معهم على ما يفهمونه.

قوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)(٣). أي لن تحصّلوا أوقاته ، وهو معنى قول الفراء : لن تعلموا مواقيت الليل (٤). وقيل : الإحصاء : الإطاقة ، ومنه (أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي : تطيقوه. وقوله (٥) : (استقيموا ولن تحصوا) معناه : ولن تحصّلوا ذلك ، ووجه تعذّر إحصائه هو أنّ الحقّ واحد والباطل كثير ، بل الحقّ بالإضافة إلى الباطل كالنقطة بالإضافة إلى سائر أجزاء الدائرة ، وكالمرمى من الهدف ، وإصابة ذلك شديدة ، وإلى ذلك أشار ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بقوله (٦) : «شيّبتني هود وأخواتها ، قيل : وما شيّبك منها؟ فقال : / قوله : فاستقم كما أمرت». قال الراغب (٧) : وهذا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرفعة منصبه ؛ فإنّه كلما رفعت مرتبة المربوب ازداد خوفا من ربّه ، وفيه تنبيه لنا. وقال أهل اللغة (٨) : لم تحصوا ثوابه.

وقوله عليه الصلاة والسّلام : «إنّ لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة» (٩) أي من حصّل معرفتها وآمن بها ولم يلحد فيها ، عكس من قال فيهم : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ)(١٠).

والحصاة : واحدة الحصى ، ويعبّر بها عن العقل فيقال : له حصاة ، وفي المثل :

__________________

(١) ٦ / المجادلة : ٥٨.

(٢) ٢٨ / الجن : ٧٢.

(٣) ٢٠ / المزمل : ٧٣.

(٤) يقول الفراء : «أي لن تحفظوا مواقيت الليل» (معاني القرآن : ٣ / ٢٠٠).

(٥) الحديث مذكور في النهاية : ١ / ٣٩٨.

(٦) رواه الترمذي والحاكم ... ينظر كشف الخفاء للعجلوني : ٢ / ١٥.

(٧) لم يقل الراغب هذا ، بل ذكر الحديث النبوي واكتفى. والآية : ١١٢ / هود : ١١.

(٨) قولهم في شرح الآية.

(٩) النهاية : ١ / ٣٩٧.

(١٠) ١٨٠ / الأعراف : ٧.

٤٨٨

«فلان ذو حصاة وأصاة» (١) ، أظن أصاة تابعا كحسّ بسّ. والحصاة (٢) : زرابة اللسان. وفي بعض الروايات : «حصا ألسنتهم» بدل حصائد (٣).

فصل الحاء والضاد

ح ض ب :

قرىء شاذا حضب جهنم (٤) بضاد معجمة ، وقد تقدّم أنّه هو ما تهيّج به النار وتوقد ، ويقال لما تسعر به النار محضب ، كمنجل.

ح ض ر :

الحضور : ضدّ الغيبة ، قوله : (حاضِرَةَ الْبَحْرِ)(٥) يعني قربه ، وقيل : مجاورته وهو قريب منه. وقوله : (تِجارَةً حاضِرَةً)(٦) أي نقدا. والظاهر أنّها أعمّ من ذلك لأنّها قوبل بها قوله (إِلى أَجَلٍ)(٧) فرخّص لهم في عدم الكتب في التجارة الحاضرة حسبما بيّنّاه في «الأحكام».

__________________

(١) أي ذو عقل ورأي.

(٢) وفي الأصل : والحصانة.

(٣) من الحديث : «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصا ألسنتهم» وهي جمع حصاة ، وهناك رواية أخرى هي «حصائد ألسنتهم» (النهاية : ١ / ٣٩٨ و ١ / ٣٩٤). وفي الأصل : «الحصاة ألسنتهم» وهو وهم.

(٤) ٩٨ / الأنبياء : ٢١. وهي قراءة ابن عباس واليماني ، وروي عنهما كذلك بسكون الضاد. وقال ابن خالويه : الحضب مصدر ، والحضب اسم (مختصر الشواذ : ٩٣).

(٥) ١٦٣ / الأعراف : ٧.

(٦) ٢٨٢ / البقرة : ٢.

(٧) من الآية السابقة.

٤٨٩

وقوله : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)(١) كناية عن الجنون (٢). والمجنون محتضر لأنّ الجنّ تحضره. والمحتضر : الميت والمشارف للموت لأنّ ملائكة القبض تحضره لقوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(٣). وقيل : إشارة إلى قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(٤) وقوله : (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ)(٥) أي كلّ نصيب من الماء الذي قسمه الله تعالى بين ناقة ثمود وبينهم يحضره من هو في نوبته ، كقوله : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(٦) في قصة مذكورة (٧).

وقوله : (ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً)(٨) أي شاهدا معاينا حاضرا غير غائب. والمراد آثاره. وقيل : إنّ الأعمال تتجسّد وتصير أجراما فتوضع في كفّة الميزان كالنّقود. وقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ)(٩) أي وجدوا في وقتها فاجبروا خواطرهم ببعض شيء.

قيل : وأصل ذلك من الحضر ضدّ البدو. والحضارة والحضارة : السكون بالحضر ، كالبدواة والبداوة ؛ في السكون في البدو ، ثم جعل ذلك اسما لشهادة مكان أو إنسان أو غيره.

والحضر (١٠) خصّ بما يحضر به الفرس إذا أريد جريه ؛ يقال : أحضر الفرس. واستحضرته : طلبت ما عنده من الحضر. وفي الحديث : «فانطلقت (١١) محضرا» أي مسرعا. ويقال : أحضر : إذا عدا ، واستحضر دابّته : حملها على العدو.

وحاضرته محاضرة وحضارا إذا حاججته ، من الحضور ؛ كأنّ كلّ واحد يحضر حجّته ، أو من الحضر نحو جاريته. والحضيرة : الجماعة من الناس يحضر بهم الغزو ، وعبّر به عن

__________________

(١) ٩٨ / المؤمنون : ٢٣.

(٢) يقصد : أن تحضرني الجن.

(٣) ٦١ / الأنعام : ٦.

(٤) ١٦ / ق : ٥.

(٥) ٢٨ / القمر : ٥٤.

(٦) ١٥٥ / الشعراء : ٢٦.

(٧) انظرها في كتابنا «معجم أعلام القرآن» مادة : ناقة ـ صالح ـ ثمود.

(٨) ٣٠ / آل عمران : ٣.

(٩) ٨ / النساء : ٤.

(١٠) الحضر : العدو (النهاية : ١ / ٣٩٨) وارتفاع الفرس في عدوه (اللسان ـ مادة حضر).

(١١) في الأصل : فإن طلعت ، والتصويب من النهاية : ١ / ٣٩٨ ، وهو من حديث كعب بن عجزة.

٤٩٠

حضور الماء ، والمحضر : مصدر بمعنى الحضور.

ح ض ض :

قوله تعالى : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)(١) ، الحضّ : الحثّ على الشيء. وأصله التحريك ، وقد فرّق بينهما بأنّ الحضّ ليس فيها سير ولا سوق ، والحثّ على ما كان فيه. وأصل (٢) ذلك من الحثّ على الحضيض وهو قرار الأرض ضدّ البقاع.

فصل الحاء والطاء

ح ط ب :

الحطب ما يعدّ لإيقاد النار من الشجر ونحوه ، ويكنى بذلك عن النّميمة فيقال : فلان يحطب بفلان أي يسعى به ، وفلان يوقد بالحطب الجزل ويحمل الحطب ، كناية عن ذلك. وقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(٣) قيل : فيها المعنيان ؛ فإنّها كانت تنمّ وتسعى بين الناس بالفساد. وقيل : كانت تحمل حطبا أو شوكا وتطرحه في ممشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالأول مجاز والثاني حقيقة.

وكنّي عن المخلّط في كلامه بحاطب ليل ، لأنّ حاطب الليل يجمع في حبله كلّ ما وقعت عليه يده ، وربّما أصابه ما يكره ؛ حية ونحوها ، كذلك من أكثر في كلامه قد يتكلم بما فيه حتفه ، فإذا صمت سلم.

وناقة حاطبة : تأكل الحطب. ومكان حطب : كثير الحطب.

__________________

(١) ٣٤ / الحاقة : ٦٩ ، وغيرها.

(٢) وفي الأصل : وأصله.

(٣) ٤ / المسد : ١١١.

٤٩١

ح ط ط (١) :

قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ)(٢) قيل أمروا (٣) أن يقولوا هذا اللفظ بعينه كما تعبّدنا ربّنا بألفاظ مخصوصة ، لا يقوم غيرها مقامها وإن وفّي معناها كالتكبير (٤) والشهادة. وقيل : بل أمروا بأن يقولوا ذلك ـ وما في معناه ـ أي حطّ عنا ذنوبنا. فقالوا : حطّى سهماثا (٥) أي حنطة حمراء ، قاله السّدّيّ ومجاهد. والعامّة على رفع حطّة ، وقرىء بنصبها (٦) ، وتقرير القراءتين في غير هذا. وقيل : معناه قولوا صوابا. وأصل المادة من الحطّ وهو الإنزال من علوّ إلى أسفل نحو حططت الرّحل عن الدابّة. وجارية محطوطة المتنين أي مجدولة الخصر ، ويعبّر به عن النّقصان ؛ فيقال : حطني حطيطة (٧) أي نقص ممّا عليّ.

ح ط م :

قوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً)(٨) أي كسيرا. وأصل الحطم تكسير الشيء وفتّه ، وقوله : (الْحُطَمَةِ)(٩) هي جهنّم لأنها تحطم ما يرمى فيها. ورجل حطمة : أي أكول تشبيها بالنار كقوله : [من الرجز]

كأنّما في جوفه تنّور

والحطمة أيضا والحطم : السائق للإبل أو لراعيها بعنف ، وفي الحديث (١٠) : «شرّ

__________________

(١) في الأصل : ح ط ت.

(٢) ٥٨ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٣) يعني بني إسرائيل.

(٤) في الأصل : كالتكبر.

(٥) كذا قرأناها. وفي اللسان : حنطة شمقايا أي حنطة جيدة (مادة حطط).

(٦) يقول الفراء : «وبلغني أن ابن عباس قال : أمروا أن يقولوا : نستغفر الله ؛ فإن يك كذلك فينبغي أن تكون «حطة» منصوبة» (معاني القرآن : ١ / ٣٨). ويعتبر الأخفش قراءة النصب بدلا من اللفظ بالفعل (معاني القرآن : ١ / ٢٦٩). والرفع على تقدير : قولوا : مسألتنا حطة (اللسان ـ مادة حطط).

(٧) الحطيطة : ما يحطّ من جملة الحساب فينقص منه (اللسان ـ حطط).

(٨) ٢١ / الزمر : ٣٩.

(٩) ٤ / الهمزة : ١٠٤.

(١٠) النهاية : ١ / ٤٠٢ ، وهو مثل. وكونه مثلا لا ينافي كونه حديثا.

٤٩٢

الرّعاء الحطمة» وتمثّل الحجّاج بقول الشاعر (١) : [من الرجز]

هذا أوان الشّدّ فاشتدّي زيم

قد لفّها الليل بسوّاق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزّار على ظهر وضم

فقال : حطمه يحطمه حطما ، قال تعالى : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ)(٢).

والحطيم (٣) لأنه يحطم من قصده بسوء كبكّة تبكّ (٤) أعناق الجبابرة ، وهو الحجر الذي تحت ميزاب الرحمة. وقال النّضر : سمّي لمّا رفع البيت ترك ذلك محطوما أي منحطّا (٥). وتصوّر من الحطمة : شدّة الغيظ فقيل : أقبل يتحطّم علينا ، أي يتوقّد غيظا. وفي الحديث قال لعليّ (٦) : «أين درعك الحطميّة» قال شمّر : هي الثقيلة العريضة ، وقيل : هي التي تكسر السيوف ، وقيل : منسوب إلى بطن من عبد القيس يقال لهم بنو حطمة (٧) أو حطامة. والحطام : ما تكسّر يبسا ، ثم قيل لكلّ ما تناهى في الكسر حطام ، وقال الشاعر : [من الكامل]

لو كان حيا قتلهنّ طعاما

حيّا الحطيم وجههنّ وزمزم

نسب التحيّة إلى هذين المكانين مجازا.

__________________

(١) صدر البيت الأول منسوب إلى أبي زغبة الخزرجي ، والبيت الثاني كله منسوب إلى رشيد بن رميض العنزي من أبيات ، كما في اللسان مادة «حطم».

(٢) ١٨ / النمل : ٢٧.

(٣) في الأصل : والحطيم وزمزم.

(٤) قيل لمكة بكة ، وإنما سميت بكّة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة (معجم البلدان ـ بكة) وانظر تفصيلا آخر في «مكة» و «بكة» من المعجم.

(٥) وهناك آراء أخرى في سبب تسميته تنظر في اللسان (مادة حطم) وفي معجم البلدان.

(٦) من حديث زواج فاطمة رضي الله عنها.

(٧) بنو حطمة بن محارب كانوا يعملون الدروع.

٤٩٣

فصل الحاء والظاء

ح ظ ر :

قوله تعالى : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)(١) أي ممنوعا /. والحظر : المنع ، وأصله من جمع الشيء في حظيرة. والحظيرة ما يعملها الراعي ونحوه من القصب وقصار الشجر يحفظ بها نفسه وماشيته. ثمّ سمّي كلّ منع حظرا وإن لم يكن يحظره ، ومنه قوله تعالى : (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)(٢) أي المتّخذ الحظيرة ، وهشيمه : ما تساقط من حظاره ، والحظار : حائط الحظيرة. وفي حديث أكيدر (٣) : «ولا يحظر عليكم النّبات» أي لا تمنعون من الزراعة حيث شئتم. والحظار والحظار ـ بفتح الحاء وكسرها ـ الأرض ذات الزراعة المحاط عليها. وجاء فلان بالحظر الرّطب أي بالكذب المستشنع (٤).

ح ظ ظ :

قال تعالى : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٥) ، الحظّ : البخت ، وهو الجدّ أيضا. والحظّ : النّصيب المقدّر. ورجل محظوظ : أي صاحب حظّ. وقد حظظت ـ بفتح العين وكسرها ـ فأنت محظوظ صرت ذا حظّ. ويجمع على حظوظ وأحاظ وأحظّ (٦). وكأنّ أحاظي جمع الجمع ؛ قال الشاعر (٧) : [من الطويل]

وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى

ولكن أحاظ قسّمت وجدود

__________________

(١) ٢٠ / الإسراء : ١٧.

(٢) ٣١ / القمر : ٥٤. الهشيم : اليابس المتففت من شجر الحظيرة. المحتظر : صانع الحظيرة.

(٣) النهاية : ٣ / ٤٠٥.

(٤) أورد ابن منظور معنى آخر هو : جاء بكثرة المال والناس (مادة ـ حظر).

(٥) ٣٥ / فصلت : ٤١.

(٦) أحظ : جمع في القلة (لسان العرب ـ مادة حظظ).

(٧) البيت لسويد بن حذاق للمعلوط بن بدل كما في اللسان ـ مادة حظظ. ويقول : أحاظ جمع أحظ. وأصله أحظظ ، فقلبت الظاء الثانية ياء فصارت أحظ ثم جمعت على أحاظ.

٤٩٤

جمع بينهما لما اختلف لفظهما ، كقوله : (صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(١) ، وقوله (٢) : [من الوافر]

وألفى قولها كذبا ومينا

فصل الحاء والفاء

ح ف د :

قال تعالى : (بَنِينَ وَحَفَدَةً)(٣) ؛ الحفدة جمع حافد نحو بارّ وبررة ، والحافد : الخادم المسرع في الخدمة ، وسواء كانوا أقارب أم (٤) أجانب ، من أسرع في خدمتك فقد حفدك ، يحفدك ، فهو حافدك. وقال المفسرون : هم الأسباط ؛ يعنون أولاد الأولاد ، وقال الآخرون : هم الأختان والأصهار ، وكأنّهم رأوا أن خدمة هؤلاء أصدق من خدمة غيرهم ، فلذلك خصّوهم بالمثال.

قال الأصمعيّ : أصل الحفد مداركة الخطو ، وقال غيره : أصله من سرعة الحركة (٥). وفي الحديث (٦) : «وإليك نسعى ونحفد» أي نسرع في طاعتك كما تسرع الخدمة في خدمة مخدومهم. ورجل محفود : مخدوم ، وفي صفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧) : «محفود محشود» أي مخدوم في أصحابه معظّم عندهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم.

__________________

(١) ١٥٧ / البقرة : ٢.

(٢) نسبه ابن منظور (مادة ـ مين) إلى عدي بن زيد ولم يرد في الديوان وصدره :

فقدّدت الأديم لراهشيه

الكذب والمين : معناهما واحد.

(٣) ٧٢ / النحل : ١٦.

(٤) الصواب أن يقول : أو ، لعدم وجود الهمزة قبلها.

(٥) الحفد والحفدان والإحفاد في المشي دون الخبب (اللسان ـ مادة حفد).

(٦) من دعاء القنوت (النهاية : ١ / ٤٠٦).

(٧) من حديث أم معبد (النهاية : ١ / ٤٠٦) ،

٤٩٥

وقال ابن عرفة : هم الأعوان. وقال مجاهد : هم الخدم من حفد يحفد : إذا أسرع ؛ وأنشد لكثيّر عزّة (١) : [من الكامل]

حفد الولائد بينهنّ وأسلمت

بأكفّهنّ أزمّة الأجمال

ويقال : حفدت وأحفدت (٢) ، وحافد وحفد نحو خادم وخدم ، وأنشد (٣) : [من الطويل]

فلو أنّ نفسي طاوعتني لأصبحت

لها حفد ممّا يعدّ كثير

وقال عمر وذكر له عثمان رضي الله عنهما في الخلافة فقال : «أخشى عليه حفده» أي عقوقه في مرضات أقاربه.

ح ف ر :

قوله تعالى : (أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ)(٤) هذا مثل لمن يردّ من حيث جاء ؛ يقال : رجع فلان في حافرته ، وإلى حافرته : أي في الطريق التي جاء فيها ، ثم عبّر به عن الرجوع إلى الحالة الأولى ؛ فقوله : (فِي الْحافِرَةِ) أي أنحيا بعد أن نموت؟ إنكارا منهم للبعث ، قال الشاعر (٥) : [من الوافر]

أحافرة على صلع وشيب

معاذ الله من سفه وعاد

أي : أأرجع (٦) إلى حالة الصّبا بعد أن شبت؟ وقيل : الحافرة : الأرض التي جعلت قبورهم ، ومعناه أإنّا لمردودون ونحن في القبور؟ ففي الحافرة على هذا موضع الحال ، وقد حقّقناه. وقيل : هو من معنى قولهم : رجع الشيخ إلى حافرته ، أي رجع إلى الهرم

__________________

(١) البيت في اللسان ، وفيه : حولهنّ (مادة حفد) ، وهو غير مذكور في الديوان.

(٢) فيكون مصدرها : إحفادا ، ولم يذكره الجواليقي في «ما جاء على فعلت وأفعلت».

(٣) البيت من شواهد اللسان ـ مادة حفد.

(٤) ١٠ / النازعات : ٧٩.

(٥) أنشده ابن الأعرابي كما في اللسان مادة ـ حفر.

(٦) وفي الأصل : أرجع.

٤٩٦

والضّعف ، لقوله. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)(١) ، وقال ابن الأعرابي : أي في الدنيا كما كنا. وقال مجاهد : أي خلقا جديدا. وقال الهروي : أي إلى أمرنا الأوّل وهو الحياة ، وهو راجع إلى الأصل المذكور أولا. وفي الحديث : «إنّ هذا الأمر لا يترك على حالته حتى يردّ إلى حافرته» (٢) أي إلى تأسيسه الأوّل.

وقوله : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ)(٣) أي طرف مكان محفور. فحفرة كغرفة ؛ فعلة بمعنى مفعولة ، وهي الحفيرة أيضا ؛ فعيلة بمعنى مفعولة ، فالتاء فيها شاذّة كالنّطيحة. والحفرة : التراب المخرج منها كالنّقض بمعنى منقوض. والمحفر والمحفار : ما يحفر به. وحافر الفرس لأنه يحفر الأرض بعدوه ، وقولهم : «النقد عند الحافر» (٤) لما يباع نقدا. وأصله من بيع الفرس ؛ كان يقال : لا يزول حافره حتى ينقد عنه.

والحفر (٥) : تأكّل الأسنان وحفرها ؛ حفر فوه يحفر حفرا. وأحفر المهر للإثناء والإرباع (٦) أي : صار ثنيا ورباع.

ح ف ظ :

قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٧) أي نمنعه من التّبديل والتغيير والنّقص. وأصل الحفظ : المنع للشيء بتفقّده ورعايته ، ومنه حفظ الدرس ، وهو منع ما تدرسه أن يشذّ عنك. والحفظ تارة يقال لهيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدّي إليه التفهّم وأخرى

__________________

(١) ٧٠ / النحل : ١٦.

(٢) النهاية : ١ / ٤٠٦.

(٣) ١٠٣ / آل عمران : ٣.

(٤) قال الأصمعي : «النقد عند الحافر» وهو النقد الحاضر في البيع. وقال ابن الأنباري : «النقد عند الحافرة» قال ثعلب : معناه النقد عند السبق وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ الرهن. وقال الفراء : معناه : عند حافر الفرس. وأصل المثل في الخيل ثم استعمل في غيرها (مجمع الأمثال : ٢ / ٢٣٧).

(٥) وبسكون الفاء.

(٦) أي سقطت ثناياه لذلك. وإحفاره أن تتحرك الثّنيّتان والعلييان من رواضعه. وأول ما يحفر فيما بين ثلاثين شهرا أدنى ذلك إلى ثلاثة أعوام ثم يسقطن فيقع عليها اسم الإبداء .. ولا يزال ثنيّا حتى يحفر ، وإحفاره أن تحرّك له الرباعيتان ...» (اللسان ـ مادة حفر).

(٧) ٩ / الحجر : ١٥.

٤٩٧

لضبط الشيء في النفس ، ويضادّه النّسيان ، وأخرى لاستعمال تلك القوة ، فيقال : حفظت كذا حفظا. ثم يستعمل في كلّ تفقّد وتعهّد ورعاية.

قوله تعالى : (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)(١) أي حافظا يحفظ أعمالهم ، كقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٢)(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(٣) ، وقوله : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً)(٤) أي حفظه أبلغ من حفظ غيره لعلمه بما بطن وظهر إشارة إلى قوله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها)(٥). وقرىء «حافظا» نحو خير الحافظين (٦) ، فحفيظا : تمييز ، وحافظا : حال ، وقيل غير ذلك (٧) كما حقّقناه في الكتب المشار إليها.

وقوله : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ)(٨) أي يحفظن غيبة أزواجهنّ فلا يوطّئن فرشهنّ غيرهم ، وذلك بسبب حفظ الله إياهنّ. وقرىء «الله» نصبا (٩) على معنى : بسبب رعايتهنّ حقّ الله لا لرياء (١٠) وتصنّع منهنّ.

قوله : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ)(١١) و (لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ)(١٢) كناية عن العفّة ، وأصله : منع أنفسهم من الوطء الحرام. قوله : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ)(١٣) يجوز أن يكون بمعنى حافظ وهو الظاهر موافقة لقوله : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)(١٤) وأن

__________________

(١) ٨٠ / النساء : ٤٠ ، وغيرها.

(٢) ١٠٧ / الأنعام : ٦ ، وغيرها.

(٣) ٢٢ / الغاشية : ٨٨.

(٤) ٦٤ / يوسف : ١٢.

(٥) ٥٦ / هود : ١١.

(٦) هي قراءة ابن مسعود (مختصر الشواذ : ٦٤ ، معاني القرآن للفراء : ٢ / ٤٩).

(٧) قرأ الأعمش : «والله خير حافظ» (مختصر الشواذ : ٦٤).

(٨) ٣٤ / النساء : ٤.

(٩) هي قراءة يزيد بن القعقاع ؛ أراد : بحفظهنّ الله (مختصر الشواذ : ٢٦). وأجاز ابن منظور أن تكون «حافظا» حال وتمييز.

(١٠) وفي الأصل : زنا.

(١١) ٣٥ / الأحزاب : ٣٣.

(١٢) ٥ / المؤمنون : ٢٣ ، وغيرها.

(١٣) ٤ / ق : ٥٠.

(١٤) ٤٩ / الكهف : ١٨.

٤٩٨

يكون بمعنى محفوظ كما صرّح به (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(١) قرىء برفع «محفوظ» صفة للقرآن ، وبجرّه صفة للّوح (٢). قوله : (عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)(٣) فيه تنبيه على أنهم يحفظونها بمراعاة أوقاتها وأركانها وشرائطها ، / والتّحرّر ممّا يجمل بها من جهاده ، وبعد من حديث النفس ، كما أنها هي تحفظهم. وأشار إليه بقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٤) ولا حفظ أبلغ من حفظ من يحفظك من ارتكاب هذين الفعلين القبيحين.

والحفاظ والمحافظة كأنّ كلا منهما يحفظ. والتّحفّظ : قلة الغفلة (٥) وتحقيقه تكلّف الحفظ لضعف القوة الحافظة. ولمّا كانت تلك القوة من أسباب العقل توسّعوا في تفسيره. والحفيظة : الغضب الحالّ على المحافظة ، ثم قيل للغضب المجرّد ، فقالوا : أحفظه ، أي أغضبه. وفي الحديث : «فبدرت مني كلمة أحفظته» (٦) ومثلها الحفظة أيضا ؛ يقال : حفيظة وحفظة. وأنشد للعجاج (٧) : [من الرجز]

جاري لا تستنكري عذيري

وحفظة أكنّها ضميري (٨)

وقيل : الهمزة في أحفظ للسّلب ، والمعنى : أزال حفظ مودّته.

ح ف ف :

قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ)(٩) أي محدقين به من

__________________

(١) ٢٢ / البروج : ٨٥.

(٢) رفع المحفوظ شيبة وأبو جعفر المدنيان والأعرج (معاني القرآن للفراء : ٣ / ٢٥٤).

(٣) ٩٢ / الأنعام : ٦ ، وغيرها.

(٤) ٤٥ / العنكبوت : ٢٩.

(٥) كذا المعنى لا يستقيم ، ولعله يريد : علّة النّقلة.

(٦) الحديث في اللسان ، وفيه : أي أغضبته (اللسان : حفظ). وفي النهاية : ١ / ٤٠٨.

(٧) في الأصل : لرؤبة. والبيت مذكور في ديوان العجاج : ١ / ٣٣٤ ، وفي اللسان ـ مادة حفظ. غير أن السمين أخطأ إذ ذكر الصدر من مطلع القصيدة قبل أربع أبيات ، وصدره كما في الديوان واللسان :

مع الجلا ولائح القتير

(٨) جاري : منادى مرخم أصله «يا جارية». العذير : الحال. وقال ابن منظور بعد البيت : «فسّر على : غضبة أجنّها قلبي».

(٩) ٧٥ / الزمر : ٣٩.

٤٩٩

جميع جهاته ، وفيه تنبيه على كثرة خلقه وعظم ملكوته ، وذلك أن عرشه أعظم المخلوقات ، ومع ذلك خلق ملائكة يحفّون بهذا الحرم العظيم المتزايد في العظمة. وأصل ذلك من حفّ القوم بالمكان : أي صاروا في حفّته ، والأحفّة : الجوانب ، الواحد حفاف. وحفاف الجبل : جانباه. وفي الحديث : «أظلّ الله مكان البيت بغمامة فكانت حفاف البيت» (١) فالمعنى : ترى الملائكة مطبقين بحفافيه. قال الشاعر (٢) : [من الطويل]

له لحظات في حفافي سريره

وفي الحديث : «تحفّه الملائكة بأجنحتها» (٣).

وفلان في حفف من العيش : أي ضيق ، تصوّر أنّه حصل في جانب منه لا في وسطه ، عكس قولهم : هو في واسطة العيش. ومنه قوله : «من حفّنا أو رفّنا فليقتصد» (٤) أي من يحفف علينا ، كذا فسّره الراغب (٥) ، وفسّره الهرويّ : من مدحنا فلا يغلونّ (٦) ، قال : والحفّة : الكرامة التامّة. وحفيف الجناح والشّجر : صوتهما ؛ فهي حكاية صوته (٧). والحفّ : آلة النسّاج (٨) ؛ سميت بذلك لما يسمع من حفيفها عند حركتها.

قوله : (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ)(٩) أي أطفناهما بنخل فجعلناه مطيفا بهما ، وأحسن الجنان منظرا ما كان كذلك. وفي الحديث : «حفّوا الشوارب وأعفوا اللّحى» (١٠) هو من قولهم : حفّت المرأة وجهها أي قشرته من الشعر (١١). «وكان عمر أصلع له حفاف» (١٢) أي

__________________

(١) النهاية : ١ / ٤٠٨.

(٢) شاهد ذكره الراغب : ١٢٣.

(٣) النهاية : ١ / ٤٠٨ ، وفيه : «حفّتهم الملائكة».

(٤) النهاية : ١ / ٤٠٨.

(٥) كلام الراغب (ص ١٢٣): «أي من تفقّد حفف عيشنا».

(٦) وذكره ابن الأثير.

(٧) وفي الأصل : صوت.

(٨) وفي الأصل : للسلاح. والتصويب من المفردات : ١٢٣ ، وفي اللسان : آلة الحائك.

(٩) ٣٢ / الكهف : ١٨.

(١٠) ابن حنبل : ٢ / ٥٢ ، وفيه : «أعفوا اللحى وحفّوا الشوارب».

(١١) يقول ابن منظور : «تزيل عنه الشعر بالموسى وتقشره» (مادة ـ حفف).

(١٢) النهاية : ١ / ٤٠٨.

٥٠٠