عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٩

يقال : ثار الغبار والسحاب أي سطع وانتثر ، يثور ثورا وثورانا ، وقد أثرته أثيره إثارة. وثارت الحصبة تشبيها بإثارة الغبار. وثار ثائره : انتثر حصبه. وثاوره : واثبه.

والثّور : اسم المذكر من البقر كأنّه سمي بالمصدر لإثارته الأرض ؛ فهو مصدر في معنى الفاعل كصيف وطيف في معنى صائف وطائف. وفي الحديث : «سقط ثور الشّفق» (١) أي انتشاره وثوران حمرته. وفيه : «من أراد العلم فليثوّر القرآن» (٢) ، قال شمر : فلينقّر عنه بمقايسة العلماء وسؤالهم عن معانيه وتفسيره. وفي حديث عبد الله : «من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن» (٣).

وأما الثأر ـ وهو طلب الدم ـ فليس من هذه المادة إذ أصله الهمز.

ث وي :

الثّواء : الإقامة. قال تعالى : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ)(٤). وقال الحارث بن [حلّزة](٥) : [من الخفيف]

ربّ ثاو يملّ منه الثّواء

وقال الأعشى ميمون بن قيس (٦) : [من الطويل]

لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضّي لبانات ويسأم سائم

وقولهم : من أمّ مثواك؟ كناية عمّن نزل به ضيفا ، أي من مضيفك؟ وقيّده بعضهم فقال : هو من الإقامة مع الاستقرار.

__________________

(١) وتمام الحديث : «صلّوا العشاء إذا سقط ثور الشفق» (النهاية : ١ / ٢٢٩).

(٢) النهاية : ١ / ٢٢٩.

(٣) النهاية : ١ / ٢٢٩ ، مع خلاف.

(٤) ٤٥ / القصص : ٢٨.

(٥) فراغ في الأصل ، وهو عجز مطلع معلقته ، وصدره (شرح القصائد التسع : ٢ / ٥٤١) :

آذنتنا ببينها أسماء

(٦) عزاه المؤلف إلى ذي الرمة ، وهو خطأ ، والصواب ما ذكرنا فوق. انظر ديوان الأعشى. ومعاني الأخفش : ١ / ٢٢٩.

٣٤١

وقوله : (أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً)(١) أي مكان ثواء. وأمّ مثواه أيضا كناية عن امرأته. ويقال للضّيف : ثويّ. وهو فعيل بمعنى مفعول. وقرىء قوله : لنثوئنهم و (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ)(٢) من التّبوئة والإثواء. ويقال : ثوى في المكان يثوي ثواء وإثواء. وقوله : (أَكْرِمِي مَثْواهُ)(٣) أي مقامه عندنا. وفي حديث أبي هريرة : «تثوّيته» (٤) أي تضيّفته.

والثّويّة : مأوى الغنم. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) ٦٨ / العنكبوت : ٢٩ ، وغيرها.

(٢) ٥٨ / العنكبوت : ٢٩. القراءة الأولى لحمزة الكسائي وخلف ويقال إن ابن مسعود قرأها وقرأها العوام على القراءة الثانية (معاني القرآن : ٢ / ٣١٨).

(٣) ٢١ / يوسف : ١٢.

(٤) النهاية : ١ / ٢٣٠.

٣٤٢

باب الجيم

فصل الجيم والألف

ج ا ر :

قال تعالى : (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ)(١).

الجؤار : الإفراط في الدّعاء والتضرّع ، تشبيها بجؤار الوحشيات من الظّباء ونحوها. وقيل : هو الصحيح ، والاستغاثة (٢) ، ورفع الصّوت بذلك. وفي الحديث : «كأني أنظر إلى موسى له جؤار إلى ربّه بالتّلبية» (٣) ، معناه رفع الصوت. وقد جاء على قياس المصدر الدالّ على التّصويت نحو البكاء والصّراخ والعواء.

فصل الجيم والباء

ج ب ب :

قوله تعالى : (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ)(٤) ؛ بئر لم تطو ، سميت بذلك إمّا لأنّها جبّت

__________________

(١) ٥٣ / النحل : ١٦.

(٢) في الأصل : والاستغار. ولعلها : هو الصياح والاستغاثة.

(٣) الغريبين : ١ / ٣٠٩.

(٤) ١٠ / يوسف : ١٢.

٣٤٣

من الأرض أي قطعت ـ والجبّ : القطع ـ وإمّا لأنّها حفرت في الأرض الجبوب ، وهي الغليظة. (وجبّ النّخل : قطعه) (١). وبعير أجبّ وناقة جبّاء أي قطع سنامها. والمجبوب : غلب على المقطوع الذّكر من أصله.

وزمن الجباب في النّخل كزمن الجذاذ فيها. وفي الحديث : «أنه (٢) مرّ بجبوب بدر» ؛ قال القتيبيّ : هي الأرض الغليظة ، وقال أبو عمرو : الأرض ، وأطلق. وفي حديث عائشة : «أنّ دفين [سحر](٣) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في جبّ طلعة» (٤) ، فسمّي كوز الطّلعة جبّا ، تشبيها بالجبّ الذي هو البئر ، ويقال : جفّ أيضا (٥) ؛ بالباء والفاء. وفي حديث ابن عباس : «نهى عن الجبّ. فقيل له : ما الجبّ؟ فقالت (٦) امرأة عنده : هي المزادة ، يخيّط بعضها إلى بعض وينتبذون فيها حتى ضريت» (٧) ، وهي المجبوبة أيضا.

والجبوب أيضا : المدر واحده جبوبة ، وفي حديث أمّ كلثوم : «جعل يلقي إليهم الجبوب» (٨). وقال عبيد بن الأبرص (٩) : [من مخلع البسيط]

فرفّعته ووضّعته

فكدّحت وجهه الجبوب

وفي حديث بعض الصحابة (١٠) : «وقد سئل عن امرأة تزوّجها : كيف وجدتها؟ فقال : كالخير من امرأة قبّاء جبّاء. قالوا : أوليس خيرا؟ قال : ما ذاك بأدفأ للضّجيع ولا أروى للرّضيع». قيل : الأوفق للحديث : أنّ الجبّاء الصغيرة الثّديين ، والقبّاء (١١) : الخفيفة اللحم ، وقيل : الخفيفة لحم الفخذين ، كالبعير الأجبّ. وفي حديث

__________________

(١) ساقط من ح.

(٢) وفي النهاية (١ / ٢٣٤) : أن رجلا مرّ ...

(٣) فراغ في الأصل ، أضفناها من النهاية (١ / ٢٣٤) وليس فيه «دفين».

(٤) يعني : في داخلها ، أي في وعاء طلع النخيل.

(٥) جاء في اللسان (مادة جب): «قال أبو عبيد : جب طلعة ليس بمعروف إنما المعروف جفّ طلعة».

(٦) في الأصل : فقال.

(٧) أي تعوّدت الانتباذ فيها واستدّت.

(٨) الحديث في دفن أم كلثوم (النهاية : ١ / ٢٣٤).

(٩) ديوان عبيد (ص ٣٠) : فجدّلته فطرّحته. وما في الأصل رواية الهروي في الغريبين : ١ / ٣١١.

(١٠) النهاية : ١ / ٢٣٤.

(١١) وفي الأصل : واللفاء.

٣٤٤

عبد الرّحمن (١) : «أنّه أودع فلانا (٢) جبجبة فيها نوى من ذهب» ، الجبجبة : زنبيل لطيف من جلود (٣) ، والجمع جباجب. وفي الحديث (٤) : «المتمسّك بطاعة الله إذا جبّب الناس كالكارّ بعد الفارّ». جبّب الرجل : إذ فرّ من الشيء مسرعا.

والجبّة : التي تلبس من ذلك لأنها قطعت [على](٥) قدر لابسها. وجبّت المرأة النساء إذا فاقتهنّ حسنا أي قطعتهنّ بحسنها ، كما يقال : قطعته في حسنه.

ج ب ت :

قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ)(٦) ؛ الجبت في أصل اللغة الجبس ، وهو الغسل الذي لا خير فيه. وقيل : التاء بدل من سين (٧) جبس تنبيها على مبالغته في الغسولة كقول الشاعر : [من الرجز]

عمرو بن يربوع شرار النات (٨)

أي خساس الناس.

والمعنى الغسالة وعدم الخير. قال ابن عرفة : الجبت كلّ ما عبد من دون الله. وقال غيره : هم الكهّان والسّحرة والشيطان.

__________________

(١) يعني عبد الرحمن بن عوف. والحديث في النهاية : ١ / ٢٣٥.

(٢) يعني مطعم بن عدي لما أراد أن يهاجر.

(٣) وفي الأصل : زنبيل من جلود لطيف ، ولعلها كما ذكرنا. والنوى : قطع من ذهب ، وزن القطعة خمسة دراهم.

(٤) الحديث لمورّق. النهاية : ١ / ٢٣٤.

(٥) إضافة المحقق.

(٦) ٥١ / النساء : ٤٠.

(٧) ذكر ابن يعيش فصلا في «التاء أبدلت من الواو والياء والسين والصاد والباء» وأورد على ذلك أمثلة (شرح المفصل : ١٠ / ٣٦).

(٨) البيت شاهد على مجيء التاء بدلا من السين ، وتتمته كما في شرح ابن يعيش : ١٠ / ٣٦ :

يا قاتل الله بني السّعلات

عمرو بن يربوع شرار النات

غير أعفّاء ولا أكيات

٣٤٥

ج ب ر :

الجبر في أصل اللغة : إصلاح الشيء بضرب من القهر ، ويقال تارة لمجرّد الإصلاح. وعليه قول عليّ رضي الله عنه : «يا جابر كلّ كسير ومسهّل كلّ عسير». وقالوا للخبز : جابر بن حبّة ، وأخرى لمجرّد القهر ؛ وعليه قوله عليه الصلاة والسّلام : «لا جبر ولا تفويض». قال (١) : [من الرجز]

وانعم صباحا أيّها الجبر

جعله نفس الجبر مبالغة. ويجوز أن يطلق عليه لمجموع المعنيين ، لأنّهما من شأن السلطان.

والإجبار / في الأصل : حمل الغير على أن يجبر الآخر ، لكن تعورف في الإكراه المجرّد نحو : أجبرته على كذا. وسمّي الذين يدّعون أنّ الله يكره عباده على المعاصي في عرف المتكلمين مجبرة ، وفي عرف القدماء جبرية ، وجبريّة.

يقال : جبرته على كذا وأجبرته عليه. وجبرته أي أصلحته ، فانجبر واجتبر. وجبر بمعنى المطاوعة. قال (٢) : [من الرجز]

قد جبر الدّين الإله فجبر

وهذا قول أكثر أهل اللغة. وقال بعضهم : قوله : فجبر ، ليس مذكورا على معنى الانفعال أي المطاوعة ، بل على معنى الفعل ، وإنما كرّره تنبيها بالأول على ابتداء إصلاحه ، وبالثاني على تتميمه ، كأنّه قال : قصد جبر الدّين وإصلاحه ، فابتدأ به فتمّم جبره ، لأن فعل تارة يقال لمن ابتدأ بفعل ، وتارة لمن فرغ منه.

والجبّار في صفة الإنسان غالبا للذمّ كقوله تعالى : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)(٣) ،

__________________

(١) قاله ابن أحمر ، كما في اللسان ـ مادة جبر ، وهو من شواهد الراغب (ص ٨٦) وصدره :

اسلم براووق حييت به

(٢) الرجز للعجاج : ٢ / ١. وقد جمع فيه بين المتعدي واللازم.

(٣) ١٥ / إبراهيم : ١٤.

٣٤٦

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(١) أي متعال عن قبول الحقّ والإذعان له ، وذلك أنّ الجبار في الأناسيّ هو من يجبر نقيصته بادّعاء منزلة لا يستحقّها.

والجبّار : كلّ من قهر غيره ، وذلك من صفات (٢) الله عزوجل بطريق الاستحقاق كقوله : (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ)(٣) ، وقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)(٤) ، أي لم تقدر على قهرهم على الإيمان كقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)(٥) ، (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(٦). قالوا : ولتصوّر القهر بالعلوّ على الأقران قالوا : نخلة جبّارة وناقة جبّارة للعالية الباسقة. وقال الهرويّ : ناقة جبّار ، بلا هاء ، وأجاز الراغب : جبّارة بالهاء.

وقيل : وصفه الله تعالى بالجبّار من قولهم : جبرت الفقير لأنّه هو الذي يجبر الناس بفائض نعمه (٧). وقيل : لأنه يقهرهم على ما يريده. وقد دقّقه بعضهم من حيث اللغة وبعضهم من حيث المعنى ؛ أمّا من حيث اللغة فإنّ فعّالا ينبني من أفعل ، فيكون : جبّار من أجبر. وأجيب عنه بأنّ جبارا من الجبر المرويّ في الخبر : «لا جبر ولا تفويض» لا من الإجبار. وأمّا من حيث المعنى فإنّه تعالى عن ذلك ، وهذا قول المعتزلة (٨). قال الراغب رادّا على المعتزلة : وليس بمنكر ؛ فإنّ الله تعالى قد أجبر الناس على أشياء لا انفكاك لهم منها حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية لا على ما يتوهّمه بعض الغواة ، وذلك كإكراههم على المرض والموت والتّعب ، وسخّر كلّا منهم لصناعة يتعاطاها ، وطريقة من الأعمال والأخلاق يتحرّاها ، وجعله مجبرا في صورة مخيّر ؛ فإمّا راض بصنعته لا يريد عنها حولا ، وإمّا كاره لها يكابدها مع كراهيّته لها ، كأنّه لا يجد عنها بدلا ، كقوله : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُ

__________________

(١) ٣٥ / غافر : ٤٠.

(٢) وفي س : صفته.

(٣) ٢٣ / الحشر : ٥٩.

(٤) ٤٥ / ق : ٥٠.

(٥) ٥٦ / القصص : ٢٨.

(٦) ٢٢ / الغاشية : ٨٨.

(٧) كذا في س ، وفي ح : نعمته.

(٨) وأضافت النسخة س : خذلهم الله.

٣٤٧

حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(١). وقال تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)(٢).

وعلى هذا الحدّ وصف بالقاهر ، وهو لا يقهر إلا على ما تقتضي الحكمة أن يقهر عليه. وقد روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه (٣) : «يا بارىء المسموكات ، وجبّار القلوب على فطرتها» (٤) شقيّها وسعيدها. وفسّره ابن قتيبة بجبر القلوب (٥) على فطرتها من المعرفة. وهذا تفسير ببعض ما يتأوّله اللفظ.

وجبروت : فعلوت ، من الجبر زيد فيه للمبالغة كملكوت ورهبوت. وقولهم : استجبرت (٦) حاله : تعاهدت أن أجبرها.

واشتقّ من الجبر الجبيرة وهي اللّصوق من الخرق التي تشدّ على العظم.

والجبارة : الخشبة التي يشدّ عليها ، وجمعها جبائر. ويسمّى الدّملوج جبارا تشبيها بها في الهيئة. وقوله (٧) : «جرح العجماء جبار» أي هدر ، والمعدن جبار أي لا شيء فيه. والجبار أيضا ما يسقط من الأرش (٨) ، وهو شامل لما تقدّم. والعجماء : البهيمة. وفي حديث آخر : «الرّجل (٩) جبار» ، قيل : معناه أنّ الدابة إن أصابت إنسانا (١٠) بيدها فراكبها ضامن ، وإن أصابته برجلها فهدر.

__________________

(١) ٥٣ / المؤمنون : ٢٣.

(٢) ٣٢ / الزخرف : ٤٣.

(٣) وفي س : علي كرم الله وجهه.

(٤) وفي النهاية (١ / ٢٣٦) واللسان : فطراتها. وتتمة الحديث في النهاية : ٢ / ٤٠٣.

(٥) في الأصل إضافة كلمات لا تناسب المعنى فأسقطناها وهي «ويجبر العظم فإنه جبر القلوب على فطرتها».

(٦) في الأصل : استجرت ، ولعل الصواب ما ذكرنا.

(٧) النهاية : ٢ / ٢٣٦. العجماء : الدابة. الجبار : الهدر.

(٨) الأرش من الجراحات ، كالشجة ونحوها. وفي المفردات (ص ٨٧) : الأرض. فلا حاجة عندئذ إلى التأويل.

(٩) وفي النهاية (١ / ٢٣٦): «السائمة جبار».

(١٠) في الأصل : إنسان.

٣٤٨

قوله : (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)(١) أي عاتين متمرّدين ، وقيل : قتّالين بغير حقّ. ومنه : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ)(٢) ، قيل : عظيما من قولهم : نخلة جبّارة وناقة جبّارة ، أي عظيمة.

وفي الحديث : «أربعون ذراعا بذراع الجبّار» (٣) هو ملك من ملوك العجم ، وقال ابن قتيبة : هو الذراع المنسوب إلى الملك الذي يقال له : ذراع الشاة. وقول الشاعر (٤) : [من الطويل]

تجبّر بعد الأكل فهو [نميص]

إما لتصور معنى الاجتهاد والمبالغة وإما لمعنى التكلّف.

ج ب ل :

قوله : (وَالْجِبالَ أَرْساها)(٥). الجبال : جمع جبل ، ويجمع أيضا على أجبل وأجبال في القلّة ، واحد من معناه ولفظه.

والجبلّة : هي الجماعة العظيمة من الخلق كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)(٦) ، (٧) ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً)(٨) أي

__________________

(١) ١٣٠ / الشعراء : ٢٦.

(٢) ١٩ / القصص : ٢٨.

(٣) وأول الحديث : «كثافة جلد الكافر أربعون ...» (النهاية : ١ / ٢٣٥).

(٤) ساقطة من ح ، وفي س : ذراع. والإضافة من ديوان امرىء القيس : ١٢٤ ، واللسان مادة : جبر. وورد في المفردات (ص ٨٥) ، وصدره :

ويأكلن من قوّ لعاعا وربّة

والنميص : النبات حين طلع ورقه.

(٥) ٣٢ / النازعات : ٧٩.

(٦) ١٨٤ / الشعراء : ٢٦.

(٧) ورد في النسخة س جملة لم نجدها مناسبة ، وهي : «تصوّر لعظمهم مثل عظم الجبل ، ومعناها : الجبلّة والجبل والجبل والجبلّ والجبل».

(٨) ٦٢ / يس : ٣٦.

٣٤٩

خلقا كثيرا وجماعة كثيفة. وفي الحرف قراءات كثيرة متواترة وشاذة قد أتقنّا جميعها والحمد لله في «العقد» و «الدرّ» وغيرهما (١).

وقولهم : جبله الله على كذا اشتقاقا من لفظ الجبل ، ومعناه أنه لا يتحوّل عن طبعه المطبوع عليه ، ومنه : [من المتقارب]

يراد من القلب نسيانكم (٢)

وتأبى الطّباع على الناقل

وفلان جبل في العلم والعقل فهذا مدح. وفلان جبل ، يقال لثقيل الرّوح. وأجبل فلان : لمن خاب سعيه. وأصله في من يحفر حفيرة ، فيبلغ حجرة لا يعمل فيها المعول ، فيقال : أجبل أي بلغ الجبل ، وهو في معنى أكدى من قوله تعالى : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى)(٣) أي بلغ الكدية.

وقوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)(٤) ، لأنّ الأجرام الكثيفة كالجيوش الغزيرة ، وإن كانت سائرة يحسبها رائيها أنها واقفة. وقيل غير ذلك.

ج ب ن :

قوله تعالى : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)(٥) واحد الجبينين وهما جانبا الجبهة. وجبنته : ضربته على جبينه ، نحو ركبته وكبدته. وأجبنته : وجدته جبانا أو حكمت بجبنه. والجبن : الخور وضعف القلب. يقال : امرأة جبان ورجل جبان (٦) ويقابله الشجاع.

__________________

(١) «جبلا كثيرا» قراءة حماد بن سلمة عن عاصم ، و «جبلا» قراءة الأعمش ، و... وفيه لغات : جبلا ، وجبلا ، وجبلا ، وجبلا ، وجبالا ، وجبلّا ، وجبلّا ، وجبالا ، وجبالا ، فيكون الألفاظ به على تسعة ألفاظ (مختصر الشواذ : ١٢٥ ـ ١٢٦).

(٢) الصدر من س ، وساقط من ح.

(٣) ٣٤ / النجم : ٥٣. أكدى : قطع عطيّته بخلا.

(٤) ٨٨ / النمل : ٢٧.

(٥) ١٠٣ / الصافات : ٣٧. تله للجبين : أضجعه على جبينه على الأرض.

(٦) الكلمة ساقطة من س.

٣٥٠

والجبن : المأكول ، الصحيح فيه الجبنّ بضمّتين وتشديد النون. وجبن اللبن (١) : صار كالجبن.

ج ب ه :

قوله تعالى : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ)(٢). الجباه جمع جبهة ، والجبهة : ما اكتنفها الجبينان ، وهي موضع السجود من الرأس. والجبهة لارتفاعها ، ولأنّها أعزّ الأعضاء عبّر بها عن السادات في قولهم : هم جبهة قومهم ، كقولك : هم وجوه الناس. وجبهت فلانا : أخجلته ، كأنك أظهرت الخجل في وجهه وجبهته ، أو عبّر بالجبهة عن الوجه (٣) لأنّها أعزّ ما فيه ، ولذلك أوثر لفظها في قوله : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ) على لفظ الوجوه عكس إيثار لفظ الوجوه عند ذكر السحب ، فإن السحب من جميع الوجه (٤).

وجبهة الأسد نجم على التشبيه في الهيئة. قال (٥) : [من المنسرح]

بين ذراعي وجبهة الأسد

وفي الحديث : «ليس في الجبهة صدقة» (٦) ، فقال أبو عبيد : الجبهة : الخيل. وقال أبو سعيد : هم سروات الناس يسعون في تحمّل الحمالة ، فيعطون الإبل ، لأنّ أحدا لا يردّهم ، فإذا وجدهم الساعي فلا يأخذ منهم صدقة (٧). وفي حديث آخر : «إنّ الله

__________________

(١) وفي اللسان : تجبّن اللبن ، ولم يرد مجردا. والجبن بسكون الباء وضمها.

(٢) ٣٥ / التوبة : ٩.

(٣) كذا في س : أو عبر عن الوجه بالجبهة. وفي ح : عبر بالوجه عن الجبهة.

(٤) وذلك في قوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) ٤٨ / القمر : ٥٤.

(٥) هو من شواهد النحويين ، انظر معاني القرآن للفراء : ٢ / ٣٢٢ ، ومغني اللبيب : ٣٨٠. وصدره كما في المغني :

يا من رأى عارضا أسرّ به

وفي معاني القرآن :

يا من رأى عارضا أكفكفه

(٦) هو في حديث الزكاة (النهاية : ٢ / ٢٣٧).

(٧) هذا موجز قول أبي سعيد الضرير نقله شارح النهاية عن الهروي.

٣٥١

أراحكم من الجبهة والسّجّة والبجّة» (١) ، قال الهرويّ : الجبهة : المذلّة ، والسّجّة. السّجاج وهو المذيق (٢) ، والبجّة : الفصيد من الدم. وقال أبو عبيد : هي أصنام.

ج ب ي :

الاجتباء : الاصطفاء ، من جبيت الماء في الحوض إذا جمعته مختارا له ، ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ)(٣) / فاجتباء الله عبده هو تخصيصه بفيض إلهي تتجمّع له أنواع من النّعم ، وذلك لتخصيصه أنبياءه مرسليهم وغير مرسليهم (٤) وبعض أوليائه من الصدّيقين والشهداء. وفي معناه (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)(٥) ، وقوله : (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها)(٦) أي اخترتها. وهذا تعريض منهم بأنك تختلق ما تأتي به. فأنت إذا شئت شيئا أتيت به من قبل نفسك وقد كذبوا (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٧) ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٨) ، وهذا معنى قول من فسّرها : اختلقتها ، كأنه فسّر باللازم.

وقد يجيء لمجرد الجمع ، ومنه الجابية : وهي حفيرة تحفر لتشرب منها الإبل. وقوله تعالى : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ)(٩) هي جمع جابية ؛ يصفها بالعظم. والجوابي : الحياض ، لأنها تجبي إليها المياه ، وجيء بها على صيغة اسم الفاعل كأنّها هي التي تجبي الماء لنفسها أو ذات جباية نحو : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ)(١٠).

ومنه أيضا : جبيت الخراج أي جمعته ، ويقال : جبوته أيضا ، وهو حسن الجبوة

__________________

(١) النهاية : ١ / ٢٣٧.

(٢) مذق اللبن : مزجه بالماء.

(٣) ١٢٢ / طه : ٢٠ ، وغيرها.

(٤) الكلمتان ساقطتان من س.

(٥) ٤٦ / ص : ٣٨.

(٦) ٢٠٣ / الأعراف : ٧.

(٧) ٢٤ / محمد : ٤٧.

(٨) ٨٢ / النساء : ٤.

(٩) ١٣ / سبأ : ٣٤.

(١٠) ٢١ / الحاقة : ٦٩.

٣٥٢

والجبية. وقوله : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ)(١) أي تجلب وتجمع إليه.

والجبا بالفتح والقصر : شفا البئر. وفي الحديث (٢) : «قعد عليه الصلاة والسّلام على جبا البئر» ، وبالكسر (٣) : ما جمعته فيه من الماء. ومنه (٤) : «من أجبى فقد أربى» ، قال أبو عبيد : الأجباء : بيع الحرث قبل أن يبدو صلاحه. ابن الأعرابيّ : أن يغيّب إبله عن المصدّق.

يقال : جبأ عنّي أي توارى. وأجبأته : واريته. ورجل جبّأ : هيوب للأمور. فعلى هذا أصله الهمز (٥). وفيه : «يجبّون ، تجبية رجل واحد قياما لربّ العالمين» (٦). وقيل : التّجبية : أن ينكبّ على وجهه. وقيل : أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم ، قالهما أبو عبيد ، والثاني أوفق لقوله قياما. وفيه (٧) : «بيت من لؤلؤة مجبّأة» أي مجوّفة ، قيل : أصلها مجوّبة فقلبت وأعلّت.

فصل الجيم والثاء

ج ث ث :

جثّة الشيء : شخصه الناتىء الظاهر ، ومنه جثة الإنسان. والجثة : تقابل المعنى ، ومنه قول أهل العربية : ظرف الزمان يخبر به عن المعاني ولا يخبر به عن الجثث.

والجثّ : ما ارتفع من الأرض كالآكام. والجثجاث : نبت سمي بذلك لظهوره.

__________________

(١) ٥٧ / القصص : ٢٨.

(٢) من حديث الحديبية (النهاية : ١ / ٢٣٧).

(٣) أي بكسر الجيم.

(٤) النهاية : ١ / ٢٣٧.

(٥) كان حق هذا المقطع أن يكون في مادة «جبأ».

(٦) النهاية : ١ / ٢٣٨ ، حديث عبد الله.

(٧) النهاية : ١ / ٢٣٨ ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الحديث حين سألته السيدة خديجة : «يا رسول الله ما بيت في الجنة من قصب؟».

٣٥٣

والجثيثة : لما بان جثته بعد طحنه. وقوله تعالى : (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ)(١) أي قلعت ، وأصله : اقتلعت جثّتها. يقال : جثثته فانجثّ واجتثّ فهو منجثّ ومجتثّ (٢) انجثاثا واجتثاثا.

والمجثّة : ما تقلع به جثة الشيء.

ج ث م :

الجثوم : البروك ، وأصله في الطائر ؛ يقال : جثم الطائر إذ قعد ولطىء بالأرض. وقيل : الجثوم في الناس والطير بمنزلة البروك في الإبل.

وجثمان الإنسان (٣) شخصه قاعدا. ورجل جثمة وجثّامة كناية عن النّؤوم والكسلان (٤). والمجثّمة : هي المصبورة ، أي دابة تربط وتجعل عرضا (٥). فقوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)(٦) أي باركين على ركبهم. وقيل : ملقى بعضهم فوق بعض.

ج ث و :

الجثوّ كالجثوم معنى ، ومنه قوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً)(٧) أي باركة على ركبها. وقوله : (لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)(٨) ، أي باركين على ركبهم. وأصله من تجاثى القوم على ركبهم لأمر عظيم كالخصومة والحرب. وفي الحديث : «من دعا دعاء

__________________

(١) ٢٦ / إبراهيم : ١٤.

(٢) وفي س : انجثت.

(٣) كذا في س ، وفي ح : الناس.

(٤) أضفنا الواو العاطفة على الأصل للسياق.

(٥) المجثمة : كل حيوان ينصب ويرمى ويقتل ، ولا تكون إلا من الطير والأرانب (النهاية : ١ / ٢٣٩).

(٦) ٧٨ / الأعراف : ٧ ، وغيرها.

(٧) ٢٨ / الجاثية : ٤٥.

(٨) ٦٨ / مريم : ١٩.

٣٥٤

الجاهلية فهو من جثا جهنّم» (١) الجثا : جمع جثوة ، أي من جماعات جهنّم. والجثوة في الأصل ما جمع. ويقال للقبر جثوة من ذلك.

ويقال : الجثوّ على البطن. يقال : جثا يجثو جثوّا وجثيّا فهو جاث ، نحو عتا يعتو عتوّا وعتيّا فهو عات ، والجمع جثيّ وعتيّ ؛ فيشترك المصدر والجمع في إحدى الصّيغتين. والأحسن في «جثوّ وعتوّ» بالتّصحيح أن يكونا مصدرين. وفي جثيّ وعتيّ بالإعلال أن يكونا جمعين. وقوله تعالى : (حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) قالوا : يحتمل الجمع ويحتمل المصدر الموضوع موضع الجمع. وإنما أعلّ «جثوّ وعتوّ» لاجتماع واوين في الآخر قبلهما ضمة ، وهذا قد حقّقناه في موضع هو به أولى. وذكرنا هنا القدر المحتاج إليه.

فصل الجيم والحاء

ج ح د :

الجحد والجحود هو الإنكار ، ومنه : جحده حقّه ، وذلك في معرفة حقيقة ما يدّعي عليه به. وقوله : (وَجَحَدُوا بِها)(٢) ضمّن معنى كفروا بها جاحدين. وقيل : الجحود : إثبات ما في القلب نفيه ، أو نفي ما في القلب إثباته ، وتجحّد : تخصّص بفعل ذلك. ورجل جحد : قليل الخير يظهر الفقر. وأرض جحدة (٣) : قليلة النّبات. وأجحد : صار ذا جحود. وجحدا (٤) له ونكرا مثل : سحقا له وبعدا ، في الدعاء عليه.

__________________

(١) النهاية : ١ / ٢٣٩.

(٢) ١٤ / النمل : ٢٧.

(٣) في الأصل : جحد ، وهو وهم.

(٤) وردت في اللسان بسكون الحاء وفتحها.

٣٥٥

ج ح م :

الجحيم : شدة توقّد النار وإضرامها. وجحمت النار : أضرمتها وزدت في توقّدها. ومنه : الجحيم أعاذنا الله منها ، والجحمة : شدة لهبها ؛ يقال : جحيم وجاحم.

وجحمتا الأسد (١) عيناه لشدّة توقّدهما. وجحم وجهه : توقّد من شدّة الغضب على الاستعارة ، وذلك لثوران حرارة القلب. ويقال : أحجمه ـ بتقديم الحاء على الجيم ـ أي تأخّر. وأجحم ـ بتقديم الجيم ـ أي تقدّم.

فصل الجيم والدال

ج د ث :

قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)(٢).

الأجداث : جمع جدث وهو القبر. وتبدّل ثاؤه فاء ، فيقال (٣) : جدف وأجداف. نحو : ثوم وفوم ، وثم وفم. قال الشاعر : [من البسيط]

حتى يقولوا وقد مرّوا على جدثي :

أرشدك الله من غاز وقد رشدا

ج د د :

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا)(٤) ، اتّخذ العظمة. وفي الحديث : «كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة وآل عمران جدّ فينا» (٥) أي عظم ، وقيل : فيضه الإلهيّ ، وقيل : ملكه وسلطانه.

دان جدّهم أي ملكهم وسلطانهم وإضافته إليه على سبيل اختصاصه بملكه.

__________________

(١) يقول ابن سيده : جحمتا الأسد : عيناه ، بلغة أهل اليمن خاصة (اللسان : جحم).

(٢) ٥١ / يس : ٣٦.

(٣) الكلمة ساقطة من س.

(٤) ٣ / الجن : ٧٢.

(٥) النهاية : ١ / ٢٤٤. جدّفينا : عظم قدره. وهو من حديث أنس رضي الله عنه.

٣٥٦

والجدّ : الحظّ أيضا والبخت ، ومنه قوله عليه‌السلام : «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» (١) معناه لا ينفع صاحب البخت والغنى منك حظّه ولا غناه إنما ينفعه منك طاعته لك وعبادته إياك. وقيل : لا يتوصّل إلى ثواب الله في الآخرة بالحظوظ إنما يتوصّل إليه بالطاعة والجدّ فيها. وهذا هو الّذي أنبأ عنه قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ)(٢) ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)(٣) الآيتين. ومثله في المعنى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ)(٤).

وقيل : المراد بالجدّ الجدّ الذي هو أبو الأب أو أبو الأمّ ، والمعنى لا ينفع أحدا نسبه كقوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ)(٥). وكما نفي نفع المال والبنين في الآخرة بالآية الكريمة نفي نفع الأبوّة في الحديث ، أي لا ينفع أحدا (٦) نسبه ولا أبوّته.

وقوله تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ)(٧) جمع جدّة وهي كلّ طريق في الجبل يخالف لونها لون ما يجاورها ، والمعنى طريقة ظاهرة من قولهم : طريق مجدود ، أي مقطوع بالسلوك ، ومنه جادّة الطريق. والجدود والجدّاء من الضأن : ما انقطع لبنها. وجدّ ثدي أمّه أي قطع ؛ دعاء عليه بالهلكة. والجدّ : قطع الأرض المستوية.

جدّ يجدّ جدّا. وجدّ في أمره جدّا : توانى ، وأجدّ : صار ذا جدّ ، وتصوّر من الجدد (٨) مجرّد القطع / فقيل : جددت الثوب : قطّعته على وجه الإصلاح ، ومنه ثوب جديد ، ويقابل به الخلق لتقدّم لبسه ، ثم جعل الجديد لكلّ ما أحدث إنشاؤه ؛ وعليه (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)(٩) إشارة إلى النشأة الثانية. ومنه قيل للملوين (١٠) الأجدّان والجديدان لحدوث

__________________

(١) النهاية : ١ / ٢٤٤.

(٢) ١٨ / الإسراء : ١٧.

(٣) ١٥٢ / آل عمران : ٣.

(٤) ٨٨ / الشعراء : ٢٦.

(٥) ١٠١ / المؤمنون : ٢٣.

(٦) وفي ح : أحد ، وسقطت من س.

(٧) ٢٧ / فاطر : ٣٥.

(٨) وفي الأصل : الجد ، ولعلها كما ذكرنا.

(٩) ١٥ / ق : ٥٠.

(١٠) الملوان : الليل والنهار ، واحدها ملا.

٣٥٧

كلّ منهما عقيب الآخر. وفي الحديث : «وفيكم الجديدان» قيل : هما الليل والنهار.

والجدّة أيضا : ساحل البحر ، ومنه جدّة : المكان المشهور. وكذا الجدّ والجدّ أيضا : العظيمة. وفي بعض القرءات : «وأنه تعالى جدّ ربّنا» (١) بضمّ الجيم.

والجدجد : الصرّار في الصّيف ليلا يشبه الجراد.

ج د ر :

الجدار : الحائط ، إلا أنّ الحائط يقال باعتبار إحاطته ، والجدار باعتبار نتوئه وظهوره ، ويجمع على جدر ، وقرىء بالوجهين قوله تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ) ـ جدار و ـ (جُدُرٍ)(٢) لرسمها دون ألف. ولمعنى النتوء والظهور قيل : جدر الشجر إذا أخرج ورقه كالحمّص (٣). والجدر : البنيان (٤) ، لذلك واحده جدرة. وأجدرت الأرض : أخرجت ذلك. والجدر : أصل الشجر والزرع. وفي الحديث : «حتى يبلغ الماء الجدر» (٥).

وجدر الصّبيّ وجدر : خرج جدريّه ، تشبيها بجدر الشجر وهو الجدريّ. والجدرة : سلعة تخرج في الجسد ، جمعها أجدار. وشاة جدراء ، وقوله : (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا)(٦) ، أجدر بمعنى أحقّ. يقال : هو جدير بكذا وحقيق به وقمن به وخليق به وأحقّ أي أولى وأحرى ، وهو فعيل من ذلك لأنّ الجدير في الأصل هو المنتهى لانتهاء الأمر إليه انتهاء الشيء إلى الجدار.

يقال : ما أجدره! وأجدر به! وهو أجدر من فلان بهذا الأمر. وقد جدر فهو جدير. وقد جدرت الجدار : رفعته. والجيدر : القصير ، اشتقاقا من لفظ الجدار ؛ زادوا فيه حرفا مبالغة

__________________

(١) لم يذكر ابن خالويه هذه القراءة ، بل ذكر قراءة عكرمة «جدّ ربّنا» (مختصر الشواذ : ١٦٢). ونسب الفراء هذه القراءة إلى مجاهد (معاني القرآن : ٣ / ١٩٢).

(٢) ١٤ / الحشر : ٥٩. قرأها ابن كثير «جدر» ، وقرأها الحسن «جدر» (مختصر الشواذ : ١٥٤).

(٣) كذا في الأصل واللسان ، وفي المفردات (ص ٨٩) : كالجمص ؛ وهو نبات.

(٤) في الأصل : البيان.

(٥) النهاية : ١ / ٢٤٦. الجدر ها هنا : المسنّاة ، وهو ما رفع حول المزرعة كالجدار. وقيل : هو لغة في الجدار. وقيل : هو أصل للجدار. ويروى بالذال. ويروى «الجدر» جمع جدار.

(٦) ٩٧ / التوبة : ٩.

٣٥٨

وكلّ شيء على سبيل التهكّم والعكس كقولهم للأحدب : أبو القوام ، وللعييّ : خطيب. قال الشاعر (١) : [من الرجز]

وبالطويل العمر عمرا جيدرا

أي وبدّلت بالعمر الطويل عمرا قصيرا.

ج د ل :

المجادلة : المخاصمة والمقاوحة على سبيل المغالبة ، وهي مذمومة في الأشياء الظاهرة غير المحتملة للجدال كقوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَجادَلُوا بِالْباطِلِ)(٢) تنبيها أنّ الجدال قد يكون بحقّ وهو محمود ليظهر الحقّ كقوله : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(٣) ، (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(٤) ، قيل : منسوخة بآية السّيف ، والظاهر أنها محكمة (٥) ، والمعنى في ذلك لا ينافي قتالهم.

ومن محاسن كلام بعضهم : جدالهم لا ينافي جلادهم. وأصل الجدل قيل : من جدلت الحبل أي فتلته فتلا محكما وهو الجديل ، فكأنّ كلّا من المتجادلين يفتل صاحبه عن قوله إلى قوله. ثم استعمل في الإحكام المجرّد ، فقيل : جدلت البناء : أحكمته ، ودرع مجدولة : محكمة النّسج. والأجدل : الصّقر لحسن تعليمه الصيد. والمجدل : القصر لإحكام بنائه. وقيل : أصله من القوة فكأنّ كلّا من المتجادلين يقوّي قوله ويضعف قول صاحبه ، ومنه : الأجدل (٦) لقوّته في الاصطياد به. وقيل : أصله من المصارعة والإلقاء على

__________________

(١) الكلمة ساقطة من ح ، والشطر ساقط من س.

(٢) من الآيتين ٤ و ٥ / غافر : ٤٠.

(٣) ٤٦ / العنكبوت : ٢٩.

(٤) ١٢٥ / النحل : ١٦.

(٥) يذكر السيوطي (الاتقان ٢ / ٢) أن الآراء في القرآن ثلاثة : كله محكم ، وكله متشابه ، فيه محكم وفيه متشابه. والمحكم لا تتوقف معرفته على البيان ، والمتشابه لا يرجى بيانه. وقيل : المحكم : ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل ، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه. وأورد آراء أخرى.

(٦) الأجدل : الصقر.

٣٥٩

الجدالة ، وهي الأرض. فكأنّ كلّا منهما يريد أن يصرع صاحبه ويجعله بمنزلة من يلقيه بالجدالة. قال الشاعر : [من الرجز]

قد أركب الآلة [بعد الآله](١)

وأترك العاجز بالجداله

وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(٢) أي مخاصمة كقوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)(٣). ورجل مجدول أي شديد الخلق. وفي الحديث : «أنا نبيّ في أمّ الكتاب (٤) وإنّ آدم لمنجدل في طينته» ، قال الهرويّ : أي ساقط ، وأحسن منه ملقى (٥) ، وفيه (٦) : «أعزز بأن أراك مجدّلا تحت نجوم السماء» (٧) أي ملقى بالجدالة. وفي حديث : «العقيقة تقطع جدولا» أي عضوا عضوا (٨) ؛ يقال : جدل وشلو وعضو وإرب ووصل.

فصل الجيم والذال

ج ذ ذ :

قوله تعالى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(٩) أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم. يقال : جذّه يجذّه جذّا : إذا قطعه ، فقد وافق الحذاذ في معناه. وهذه ألفاظ تتقارب ، ومعانيها متّحدة. وقد

__________________

(١) الرجز من شواهد ابن دريد (الجمهور : ٢ / ٦٧) واللسان مادة جدل ، والإضافة منهما. واختلفا في المعنى ؛ ابن منظور : الجدالة : الأرض الشديدة ، ابن دريد : الأرض ذات الرمل الدقيق.

(٢) ٥٤ / الكهف : ١٨.

(٣) ٤ / النحل : ١٦.

(٤) وفي النهاية (١ / ٢٤٨) والغريبين (١ / ٣٣٠): «أنا خاتم النبيين في أم الكتاب ...».

(٥) أي ملقى على الجدالة وهي الأرض.

(٦) وفي س : وفيه قال.

(٧) قاله علي حين وقف على طلحة مقتولا (النهاية : ١ / ٢٤٨).

(٨) لأن الجدول جمع جدل ـ بكسر الجيم وفتحها ـ وهو العضو. وفي تهذيب الأسماء : ٢ / ٤٨ «فمعنى الحديث أنها تفصل أعضاؤها ولا تكسر».

(٩) ١٠٨ / هود : ١١.

٣٦٠