عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٩

تخندف في أثرهم ـ أي تهرول ـ فلقبت خندف (١). ولم تزل العرب تفخر بهذا البيت ، قال (٢) : [من البسيط]

ترفع لي خندف والله يرفع لي

نارا ، إذا خمدت نيرانهم تقد

ب ي د :

باد يبيد بيدا فهو بائد أي هلك. قال تعالى : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً)(٣) ، وأصله من باد في البيداء أي تفرّق فيها وتوزّع ، وذلك إنّما يكون غالبا في الهلاك. والبيداء : المفازة التي لا شيء بها ، ثم عبّر عن كلّ هالك بالبائد وإن لم يكن في البيداء. وجمعها بيد ، نحو بيض في بيضاء. والأصل (٤) الضمّ كحمر في حمراء. وإنما كسرت لتصحّ الياء.

وأتان بيدانة أي تسكن البادية البيداء. وبيد بمعنى غير يكون في الاستثناء المنقطع ، ومنه قوله عليه الصلاة والسّلام : «أنا أفصح من نطق بالضّاد بيد أني من قريش» (٥) أي غير أنّي وقيل : هي هنا بمعنى على ، أي [على](٦) أني ، وليس بذلك.

وفي الحديث : «إنّ قوما يغزون البيت فإذا نزلوا في البيداء بعث الله جبريل فيقول : يا بيداء أبيديهم. فتخسف بهم» البيداء (٧).

__________________

(١) يقول ابن دريد في سبب تسميتها : «لأن زوجها قال لها : علام تخندفين وقد أدركت الإبل؟». (الجمهرة : ٢ / ٢٠١) ويسميها : ليلى بنت حيدان بن عمران (الجمهرة : ٣ / ٣٣٠) وليلى بنت حلوان (اللسان ـ خندف).

(٢) البيت للفرزدق (الديوان : ٢١٦) والتصويب منه ؛ ففي الأصل : اختمدت. وهو من شواهد شرح المفصل : ٧ / ٤٧. ويأتي.

(٣) ٣٥ / الكهف : ١٨.

(٤) وفي الأصل : أصل فإنها الضم.

(٥) النهاية : ١ / ١٧١.

(٦) إضافة المحقق.

(٧) النهاية : ١ / ١٧١. والكلام ناقص ، تتمته في الغريبين (١ / ٢٣١): «البيداء : مفازة لا شيء بها».

٢٨١

ب ي ص.

البياض : أشرف الألوان ، وهو أصلها ، إذ هو قابل لجميعها. وقد ندب الشرع إلى إلباسه في المجامع كالجمع والأعياد. وقد كني بذلك عن السرور والبشر ، وبالسواد عن الغمّ. قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)(١) ، ولذلك (٢) البيض ناضرة مستبشرة والسود مغبّرة مقترة (٣) حسبما وصف ذلك في كتابه. ولما كان البياض أفضل الألوان (٤) قالوا : البياض أفضل والسواد أهول ، والحمرة أجمل ، والصّفرة أشكل. وعبّر عن الكرم بالبياض فيقال : له عندي يد بيضاء أي معروف. وفي مدحه عليه‌السلام من أبي طالب عمّه (٥) : [من الطويل]

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ولقد صدق في ما به نطق.

والبيض : جمع بيضة وهي ما يخرج من الطائر وبعض الحيوانات ، سميت بذلك للونها غالبا. وقد توجد غير بيضاء. وقد شبهت العرب بها المرأة للونها ولصيانتها ، فإنها محضونة تحت من يبيضها من طير وغيره ، قال تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)(٦) قيل : يعني به بيض النّعام / لأنّ فيه بعض صفرة ، والعرب تحبّ هذا اللون. قال : [من البسيط]

كأنها فضة قد مسّها ذهب

وقال امرؤ القيس : [من الطويل]

كبكر مقاناة البياض بصفرة

غذاها نمير الماء غير محلّل (٧)

__________________

(١) ١٠٦ / آل عمران : ٣.

(٢) وفي س : وكذلك.

(٣) القترة : غبرة يعلوها سواد كالدخان.

(٤) وفي هامش ح تصويب : أفضل لون. وهي كذلك في المفردات.

(٥) أعيان الشيعة : ٨ / ١٢١.

(٦) ٤٩ / الصافات : ٣٧.

(٧) البيت من معلقة امرىء القيس : ٣٤. وفي الديوان : المحلل. المقاناة : الخلط.

٢٨٢

وتذكر البيضة تارة مدحا لمن يوصف بالصّيانة والعزّة نحو : هو بيضة البلد ، ومنه (١) : [من الكامل]

كانت قريش بيضة فتفلّقت

فالمخّ خالصه لعبد مناف

وتارة ذمّا لمن كان مبتذلا كالبيضة المذرة (٢) التي تطرح بالدّمن (٣). فقولهم : فلان بيضة البلد من الكلام الموجّه (٤). وبيضة الحديد تشبيها بالبيضة في بعض هيئتها ولونها والبياض لما لم يزدرع من الأرض والسواد لمزدرعها (٥) ، ومنه أرض السواد. ويعبّر عن الجمع وعن المعظم بالبيضة ، وفي الحديث : «حتى يستبيح بيضتهم» (٦) ؛ قال الهرويّ عن شمر : عنى جماعتهم وأصلهم. وقال الأصمعيّ : بيضة الدار وسطها ومعظمها. يقال : أبيض يبيض بياضا وابيضاضا ، فهو مبيض ، وابيضّ وابياضّ ابييضاضا (٧) أبلغ من أبيض.

ب ي ع :

مقابلة مال بمال أو مقابلة منافع بمال. وقيل : البيع : إعطاء المثمن وأخذ الثّمن. والشراء : إعطاء الثّمن وأخذ المثمن ، وقد يقع هذا موقع هذا. وذلك بحسب ما يتصوّر من الثّمن والمثمن. قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ)(٨) قلت : إن جعلنا الضمير المرفوع لإخوته. أمّا إذا جعلناه للسيارة فهو على بابه. قوله : (وَذَرُوا الْبَيْعَ)(٩) وقت النداء يحرّم الشراء ، وكذا : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ)(١٠). قال الراغب لا يشتري على شراه ،

__________________

(١) البيت من شواهد الراغب في المفردات : ٦٧.

(٢) البيضة المذرة : الفاسدة.

(٣) في س : بالدم ، وهو وهم.

(٤) أي في المدح والذم.

(٥) المزدرع : الذي يزدرع زرعا يتخصص به لنفسه. وازدرع القوم : اتخذوا زرعا لأنفسهم خصوصا أو احترثوا.

(٦) وتمام الحديث : «لا تسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيح بيضتهم» (النهاية : ١ / ١٧٢).

(٧) في الأصل : ببياض ، ولعلها كما ذكرنا.

(٨) ٢٠ / يوسف : ١٢.

(٩) ٩ / الجمعة : ٦٢.

(١٠) ٣٧ / النور : ٢٤.

٢٨٣

والأظهر يكون على أصله هو أن يجيء الرجل إلى مشتر فيقول : عندي سلعة خير من هذه وأرخص منها ، فهذا بيع على بيع أخيه ، وبذلك فسّره الشافعيّ.

وقوله : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ)(١) إشارة إلى بيعة الرّضوان في قوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)(٢) وإلى الشراء المذكور في قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(٣).

والبيعة والمبايعة : ما يأخذه الإمام على رعيته من المواثيق بالسّمع والطاعة. وابتعت المتاع : عرضته للبيع. وقوله : (وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ)(٤) جمع (٥) بيعة ، وهي مصلّى النّصارى ، وقيل : كنائسهم وليس بشيء. وقوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار» (٦) يريد البائع والمشتري ، يقال لكل منهما بيّع وبائع. قيل : ويجوز أن يكون إنما أطلق على المشتري بيّع لأنّه من باب التغليب ، وهو محلّ نظر.

ب ي ن :

بان الشيء يبين بينا فهو بائن. وبان بمعنى فارق. قال كعب بن زهير (٧) : [من البسيط]

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

وبانت المرأة بالطلاق ، وأبانها زوجها ، وأبنت الأمر وبيّنته : أظهرته بيانا وتبيانا ، كقوله تعالى : (تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ)(٨) ، وما عداهما مفتوح نحو التّرداد والتّجوال والتّطواف.

__________________

(١) ١١١ / التوبة : ٩.

(٢) ١٨ / الفتح : ٤٨.

(٣) ١١١ / التوبة : ٩.

(٤) ٤٠ / الحج : ٢٢.

(٥) في الأصل : الجمع.

(٦) الغريبين : ١ / ٢٣٢ ، والنهاية : ١ / ١٧٣.

(٧) مطلع قصيدته المشهورة ، الديوان : ٦.

(٨) ٤٧ / الأعراف : ٧ ، والآية شاهد على كسر المصدر «تبيانا».

٢٨٤

وقولنا (في المصادر) (١) تحذّرنا في الأسماء فإنه يكون يكثر فيها ذلك ، نحو : التّمثال والتّجفاف والتّمساح.

قال الهرويّ : يقال : بان لك وأبان واستبان وبيّن وتبيّن بمعنى واحد. قلت : كلّها يجوز أن تكون قاصرة ومتعدّية إلا بان فإنه قاصر. وقوله تعالى : (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(٢) من رفع سبيل جعله قاصرا ، ومن نصبه جعله متعديا. وقال تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)(٣) ، وقوله : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ)(٤) فهذا قاصر ، ويقال : تبيّنت الحقّ واستبنته أي استوضحته فاتّضح.

وقوله : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ)(٥) أي فصل ذو بيان. والبين : لفظ مشترك بين المصدر والظرف. ويقال : بان زيد بينا ، وجلست بين القوم. وقوله تعالى : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)(٦) ، قال الهرويّ : أراد بيننا ، وإنما قال : بيني وبينك توكيدا ، كما يقال : أخزى الله الكاذب منّي ومنك ، يريد منّا.

قلت : يعني في أصل التركيب لو قيل كذا لأفاد ، وفيه نظر لأنه يفيد المعنى المقصود من قولك مثلا : هذا فراق بيني وبين زيد. قولك : هذا فراق بيننا لأنّ الأول أخصّ من الثاني ، وأخصّ في المعنى بخلاف الثاني ، فإنّه يحتمل احتمالا ظاهرا. وقد حقّقناه في «التفسير» و «الدرّ المصون» ، فلما أضافه للياء تعيّن تكريره بالعطف لأنّ بين لا تضاف إلا إلى متعد لفظا أو تقديرا نحو : بين الزيدين أو الزيدين.

وقوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ)(٧) لأنّ ذلك إشارة إلى الفارض والبكر (٨). ولذلك

__________________

(١) ساقطتان من ح ، ويقصد بذلك المصادر المكسورة التاء في أولها.

(٢) ٥٥ / الأنعام : ٦. أي لتستبين أنت يا محمد.

(٣) ١١٤ / التوبة : ٩.

(٤) ٤٥ / إبراهيم : ١٤.

(٥) ١٣٨ / آل عمران : ٣.

(٦) ٧٨ / الكهف : ١٨.

(٧) ٦٨ / البقرة : ٢.

(٨) أي لا مسنّة ولا فتية.

٢٨٥

احتاج النحاة أن أجابوا عن قول امرىء القيس : [من الطويل]

بين الدّخول فحومل (١)

قالوا : كان من حقّه أن يعطف بالواو لأنّها لمطلق الجمع (٢) ، وأجابوا بأنّ تقديره بين مواضع الدّخول ، أو بأنه لمّا (كان الدّخول اسما يحوي) (٣) أماكن كثيرة نحو : دارنا بين مصر ، وقوله : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما)(٤) قال الراغب (٥) : يجوز أن يكون مصدرا أي موضع المفترق ، قال : ولا يضاف إلى ما يقتضي معنى الوحدة إلا إذا كرّر كقوله : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ)(٦). قلت : ليس هذا مطابقا لما ذكره لأنّ لفظه بأفصح إضافة بين إليها من غير تكرير ، نحو : المال بيننا.

وقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)(٧) قرىء بالنصب على الظرف ، فقيل : هو صلة لموصوله محذوف أي : تقطّع (٨) الذي بينكم ، وقيل : الفاعل مقدّر أي تقطع الوصل والألف بينكم ، وقيل : هو مبنيّ لإضافته إلى غير متمكّن ، وبالرفع على الفاعلية أي تقطّع وصلكم. والبين من الأضداد. قال الراغب : أي وصلكم. وتحقيقه أنه ضاع عنكم الأموال والعشيرة والأعمال التي كنتم تعتمدونها ، إشارة إلى قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا

__________________

(١) من مطلع مقدمة معلقة امرىء القيس (الديوان : ٢٩) وتمام البيت :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدّخول فحومل

(٢) ولهذا كان الأصمعي يرويه «بين الدّخول وحومل» ، وكان يقول : لا يقال : المال بين زيد فعمرو ، وإنما يقال : المال بين زيد وعمرو. هذا رأي الخطيب التبريزي في (شرح القصائد العشر : ٢٢). أما ابن النحّاس (شرح القصائد التسع : ١ / ١٠٠) فإنه يقول : الدخول ، موضع يشتمل على مواضع ، فلو قلت : عبد الله بين الدخول ـ تريد بين مواضع الدخول ـ لتمّ الكلام ، ثم عطف بالفاء وأراد بين مواضع الدخول وبين مواضع حومل. والسمين اطلع على كلام ابن النحاس وأورد كثيرا من كلامه.

(٣) وفي س : كانت الدخول اسما وتحوي. وكذا كانت في ح ، لكن الناسخ فيها صوبها بالهامش.

(٤) ٦١ / الكهف : ١٨.

(٥) المفردات : ٦٨.

(٦) ٥ / فصلت : ٤١.

(٧) ٩٤ / الأنعام : ٦. انظر الغريبين : ١ / ٢٣٤.

(٨) في الأصل : لقطع ، ولعل الصواب ما ذكرنا.

٢٨٦

بَنُونَ)(١). وعلى ذلك قوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى)(٢). وقوله : (أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا)(٣) أي من جملتنا.

وقوله : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)(٤) أي متقدّما له من الإنجيل ونحوه. وقوله : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ)(٥) أي راعوا الأحوال التي تجعلكم من القرابة والوصلة ، وقيل : معنى حقيقة وصلكم وذلك أن ذات كذا بمعنى صاحبة كذا ، أو كأنّه قيل : أصلحوا صاحبة وصلكم وصاحبة وصلهم [على] ما قدّمنا ذكره معنى القرابة (٦) وغيرها.

والبيّنة : الأمر الواضح ، ومنه قيل : (إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي)(٧) أي أنا على (أمر واضح ظاهر). والبيّنة : الحجّة ، ومنه : «البيّنة على المدّعي» (٨) لأنّ بها ينكشف الحقّ ويتّضح. والبيّنة : الدّلالة الواضحة عقلية كانت أو حسيّة. وقال بعضهم : البيان على ضربين : أحدهما أن يكون بالتّنجيز ، وهي الأشياء التي تدلّ على حال من الأحوال من آثار صنعه. والآخر بالاختبار ، وذلك إما أن يكون كتابة أو إشارة أو نطقا ، فممّا هو بيان الحال كقوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٩). وما هو بيان بالاختبار كقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(١٠). ويسّمى الكلام بيانا لأنه يكشف المقصود.

والبيان قد يكون فعلا أيضا ، ومنه قول الفقهاء : بيان المجمل ، لأنه يكشفه ويوضّحه فالبيان أعظم من النطق لما عرفت. ويقال (١١) : آية مبيّنة ، وآيات مبيّنات باسم الفاعل على

__________________

(١) ٨٨ / الشعراء : ٢٦.

(٢) ٩٤ / الأنعام : ٦.

(٣) ٨ / ص : ٣٨.

(٤) ٣١ / سبأ : ٣٤.

(٥) ١ / الأنفال : ٨.

(٦) وفي س : القرآن.

(٧) ٥٧ / الأنعام : ٦ ، وما بين قوسين بعدها ساقط من ح.

(٨) وتمام الحديث : «فالبينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» (البخاري ـ باب الرهن ، رقم ٦) وفي مفردات الراغب : «.. واليمين على من أنكر».

(٩) ١٦٨ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(١٠) ٤٤ / النحل : ١٦.

(١١) في الأصل : وقرىء. ولا يوجد آية فيها «مبينة» مع كل كلمة «آية» ، وإن وجدت «آياتٍ مُبَيِّناتٍ» * لكن ـ

٢٨٧

معنى أنها بيّنت ما أريد منها ، وباسم المفعول على معنى أنّ الله قد بيّنها على لسان رسله.

وقوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(١) / أي إخراجه من حدّ الإجمال إلى حدّ البيان. وقوله : (وَلا يَكادُ يُبِينُ)(٢) أي لا يكاد يفهم ما يتكلّم به : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) الآية (٣). أي أنّه فاصلة بين الحقّ والباطل تقوم عليه بها الحجة وتلزمه العقوبة.

وقوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)(٤) الآية ، يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته. وقوله [ص](٥) : «إنّ من البيان لسحرا». قال أبو عبيد : هو من الفهم وذكاء القلب مع اللّسن (٦). وأبان ولده : أعطاه مالا يبيّنه به ، والاسم البائنة. قال أبو زيد : لا يقال : بائنة إلا إذا كان الإعطاء من الوالدين أو أحدهما. وعن أبي بكر يقول لعائشة رضي الله عنها : «إني كنت أبنتك بنحل» (٧) ، وفي حديث النعمان (٨) الطويل أنه قال «فهل أبنت كلّ واحد منهم مثل ما أبنت هذا؟» أي أعطيته البائنة.

قال الراغب : بين موضوع للخلالة (٩) بين الشيئين ووسطهما ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً)(١٠). يقال : بان كذا أي انفصل وظهر ما كان مستترا. ولمّا اعتبر فيه معنى الظهور والانفصال استعمل في كلّ واحد مفردا ، حتى قيل للبئر البعيدة القعر : بيون لانفصال الحبل من يد صاحبه. وبان الصّبح : ظهر ، والله أعلم (١١).

__________________

 ـ قصد المؤلف أن تأتي الكلمة مفردة وجمعا ، على صيغة اسم الفاعل وصيغة اسم المفعول. والمعنى : لا لبس فيها.

(١) ١٩ / القيامة : ٧٥.

(٢) ٥٢ / الزخرف : ٤٣.

(٣) ٤٢ / الأنفال : ٨.

(٤) ١ / البينة : ٩٨.

(٥) إضافة المحقق. والحديث في النهاية : ١ / ١٧٤.

(٦) اللسن : الفصاحة.

(٧) النهاية : ١ / ١٧٥ ، والمعنى : أعطيتك.

(٨) أي النعمان بن بشير. والحديث في النهاية : ١ / ١٧٥.

(٩) كذا في المفردات : ٦٧ ، وفي الأصل : للخلل.

(١٠) ٣٢ / الكهف : ١٨.

(١١) جاء في هامش ح : «قال الحرالي : والتبيين انقطاع الشيء مما يلابسه ويداخله. والمراد المبالغة في البيان بما يفهمه صيغة التفعيل. وقال المولى حسن : وهو أعم من أن ينص بالمقصود أو يرشد لما يدل عليه كالقياس ودليل العقل. مناوي».

٢٨٨

باب التاء المثناة

[ت] (١)

قد تقدّم أنّ التاء تكون حرف جرّ للقسم ولا تجرّ إلا الجلالة ، وقد تجرّ الربّ مضافا للكعبة نحو : تربّ الكعبة. وقد تجرّ الرّحمن ، قالوا : تالرحمن. وفيها معنى التعجب والاستعظام كقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ)(٢)(تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ)(٣) وقال الشاعر (٤) : [من البسيط]

تالله يبقى على الأيام ذو حيد

بمشمخرّ (٥) به الظّيّان والآس

وهي فرع الواو في القسم ، والواو فرع الباء ، والتاء فرع الفرع (٦). ومن ثمّ اقتصر بها على ما لم يقتصر بالواو عليه ، كما اقتصر بالواو على ما لم يقتصر بالباء عليه على ما بيّناه في كتب النحو.

وتكون للتأنيث ، والأصل فيها الفرق بين المذكر والمؤنث نحو : ضاربة. وقد تكون لمجرد التأنيث نحو : ناقة ونعجة. وتكون للمبالغة نحو : علّامة. وللتعريب نحو : كيالجة

__________________

(١) إضافة المحقق.

(٢) ٥٧ / الأنبياء : ٢١.

(٣) ٨٥ / يوسف : ١٢.

(٤) ينسب البيت في اللسان إلى مالك بن خالد الخناعي الهذلي ، وفي كتاب سيبويه (٣ / ٤٩٧) إلى أمية بن أبي عائذ وفيه : لله ، وقد استشهد بمعنى التعجب.

(٥) وفي ح : تشمخر.

(٦) يعني أن التاء بدل من الواو ، وهو رأي الزمخشري ذكره ابن هشام في المغني : ١١٦.

٢٨٩

وموارجة. ولفرق الواحد من جمعه نحو : برّة وبرّ. وقد يفرّق الجمع ، ولم يرد منه إلّا كمأة وخبأة ؛ فهما جمعان والمفرد كمء وخبء.

وتكون علامة لتأنيث الفاعل ؛ فتختصّ بالماضي نحو قامت. وتكون للتّعويض نحو : أخت وبنت. وتقرّ وقفا ووصلا بخلاف تاء قائمة ونحوها ؛ فإنّها تبدل في الوقف بهاء ، وتكون مع ألف قبلها علامة لجمع الإناث نحو : البنات ، وتقرّ في الأعراف. وقد تلحق بعض الحروف نحو : ربّت وتمّت ولات ولعلّت ، ولا خامس لها. وتكون للمضارعة إمّا لخطاب نحو : تقوم أنت ، وتقومان أنتما ، وتقومون أنتم ، وتقمن أنتنّ. وإمّا لتأنيث نحو : هي تقوم. وتكون ضميرا فتضمّ للمتكلم وتفتح للمخاطب وتكسر للمخاطبة. وتتّصل بها علامة التثنية والجمع تذكيرا وتأنيثا (١).

فصل التاء والباء

ت ب ب :

التّباب والتّتبيب : الخسران. قال تعالى : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ)(٢). وقال تعالى : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)(٣). ويعبّر به عن الهلاك ، لأنّ الهالك خاسر نفسه وماله. ويقال في الدعاء عليه : تبّا له وتبّ ، نصبا ورفعا.

وتبّبته : قلت له ذلك ، نحو أفّفته أي قلت له : أفّ أفّ. وتضمّن معنى الاستمرار ، فيقال : استتبّ (٤) لي الأمر أي استمرّ. ومعنى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)(٥) أي خسرت

__________________

(١) جاء في هامش ح : «التاء في : المقدمة والخليفة والقصيدة ، وأمثالها على وجهين ، إما للنقل من الوصفية إلى الإسمية ، وإما للتأنيث بتقدير الموصوف مؤنثا ، أي : النفس الخليفة ، والكلمة الحقيقية. ومعنى النقل أن النقل إذا صار بغلبة الاستعمال اسما بعد ما كان وصفا كان الاسمية فرعا أو صيغته منتهية بالمؤنث ، لأن المؤنث فرع ، فيجعل التاء علامة للفرعية. حسن حلبي ...».

(٢) ٣٧ / غافر : ٤٠.

(٣) ١٠١ / هود : ١١.

(٤) في الأصل : استبت.

(٥) ١ / المسد : ١١١. تبت : ضلت وخسرت.

٢٩٠

واستمرت في الخسران ، والمراد جملته. وإنّما خصّ اليدين بالذكر لأنهما محلّ المزاولة. قال تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ)(١) وقد قدّمت رجلاه ولسانه.

ت ب ت :

قوله تعالى : (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ)(٢). التابوت هذه الآلة المعروفة تنحت من خشب وغيره. وأصله لما يجعل فيه الميّت. وقد يجعل فيه غيره. وقد كان رضاض الألواح (٣) التي أنزلها (٤) ربّنا على موسى في قصّة مذكورة. وقيل : هو كناية عن القلب والسكينة ، عبارة عن العلم والطّمأنينة ، ويرشّحه تسميتهم القلب سفط العلم ، وبيته بيت الحكمة وتابوتها وصندوقها. ولهذا يقال : اجعل سرّك في وعاء غير سرب (٥). وعلى ذلك قال عمر في حقّ ابن مسعود : «كنيف ملىء علما» (٦) ، وهل هو من التّوب؟ وهو الرجوع لأنّه يرجع إليه صاحبه عند حاجة يأخذها منه ، فيكون وزنه فعلوت (٧) كملكوت ورهبوت من الملك والرّهبة ، أو لا اشتقاق له ووزنه فاعول ، حكم عليه بأصالة تاءيه كقاطوع ، خلاف مشهور بينّاه في «الدرّ المصون». وهل تقلب تاؤه في الوقف هاء وتكتب بهاء؟ المشهور لا.

وقد قرىء التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار. ويحكى أنّهم لمّا كتبوا المصاحف في خلافة سيّدنا عثمان أراد زيد أن يكتبه على لغته بالهاء وأبى المهاجرون ذلك ، فبلغ عثمان فأمر أن يكتب بلغة قريش حسبما بيّنا ذلك في كتابنا المشار إليه.

__________________

(١) ١٠ / الحج : ٢٢.

(٢) ٢٤٨ / البقرة : ٢.

(٣) يعني تابوت بني إسرائيل (انظر معجم أعلام القرآن ـ مادة تابوت). رضاض الشيء : كساره وهو ما تكسر منه وقطعه.

(٤) وفي س : ذكرها الله تعالى وأنزلها.

(٥) مثل ذكره الزمخشري في المستقصى : ١ / ١٥٠. سرب : سائل.

(٦) النهاية : ٤ / ٢١٥ والكنيف تصغير تعظيم للكنف الذي هو الوعاء.

(٧) في الأصل : فعلونا ، وهو خطأ واضح.

٢٩١

ت ب ر :

قوله تعالى : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً)(١). التّبار : الهلاك. وتبره يتبره : بالغ في هلاكه. قال تعالى : (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً)(٢) ، وأصله من التّبر وهو الكسر. ومنه تبر الذهب : كسره.

ت ب ع :

الاتّباع : اقتفاء الأثر. يقال : تبعه واتّبعه (٣) ؛ فتارة يكون بالجسم نحو تبعته في الطريق واتّبعته فيها ، وتارة بالامتثال (٤). وعلى ذلك (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ)(٥) وفي موضع (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ)(٦) ويقال : تبعه وأتبعه بمعنى لحقه وألحقه ، وعليه (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(٧)(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ)(٨)(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ)(٩) كلّه بمعنى الإلحاق ، قاله الفراء وغيره.

وكذلك أتبع كقوله : (فَأَتْبَعَ سَبَباً)(١٠)(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً)(١١) بمعنى لحق ، وقد قرىء ذلك بالوجهين. فقد تحصّل أنّ تبع واتّبع وأتبع كلّه بمعنى لحق وألحق (١٢).

وسميت ملوك اليمن تبابعة لأنّه كلما هلك واحد خلفه واحد وتبعه فيما كان. وفرّق

__________________

(١) ٢٨ / نوح : ٧١.

(٢) ٣٩ / الفرقان : ٢٥.

(٣) قال النووي : «تبع الشيء واتّبعه بعنى» (تهذيب الأسماء واللغات : ٢ / ٤٠).

(٤) ويقول الراغب : بالارتسام والائتمار (المفردات : ٧٢).

(٥) ١٢٣ / طه : ٢٠.

(٦) ٣٨ / البقرة : ٢.

(٧) ١٠ / الصافات : ٣٧.

(٨) ١٧٥ / الأعراف : ٧.

(٩) ٧٨ / طه : ٢٠.

(١٠) ٥ / الكهف : ١٨.

(١١) ٨٩ / الكهف : ١٨ ، وغيرها.

(١٢) يعني أن الآية قرئت «فأتّبع» بوصل الألف وشد التاء. وهي قراءة أهل المدينة وأبي عمرو (الإتحاف : ٢٩٤).

٢٩٢

ابن اليزيديّ بين تبعه وأتبعه ، فجعل أتبعه (١) : قفاه ، واتّبعه : حذا حذوه ، ومنع أن يقال : أتبعناك لأنّ معناه : اقتدينا بك.

وفي المثل : «أتبع الفرس لجامها» ، يقال لإرادة تكميل المعروف (٢). وقوله : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً)(٣) ، جمع تابع نحو خدم وخادم. والتّبيع : الطالب بحقّ أو ثأر. ومنه (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً)(٤). والتّبيع : ولد البقرة إلى سنة ؛ لأنه يتبع أمّه ؛ وفي الحديث : «في كلّ ثلاثين تبيع» (٥). وبقرة متبع : لها تبيع. قال الراغب : والتّبيع خصّ بولد البقرة إذا اتّبع أمّه. والتّبع : رجل الدّابة ، وسميت بذلك لما قال الشاعر : [من الرجز]

كأنّما اليدان والرّجلان (٦)

طالبتا وتر وهاربان

قوله : خصّ بولد البقرة ليس كذلك ، كقوله تعالى : (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً). والمتبع من البهائم : التي يتبعها (٧) ولدها. وتبّع لكلّ من ملك اليمن ككسرى لكلّ من ملك الفرس. والتّبّع : الظّلّ /. وفي الحديث : «إذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع» (٨) أي إذا أحيل فليحتل.

__________________

(١) ساقط من س.

(٢) المستقصى : ١ / ٣٢. ويرى الزمخشري أن المثل يضرب في استتمام الصّنيعة. وانظر تفصيلا آخر في مجمع الأمثال : ١ / ١٣٤.

(٣) ٢١ / إبراهيم : ١٤ ، وغيرها.

(٤) ٦٩ / الإسراء : ١٧.

(٥) النهاية : ١ / ١٧٩.

(٦) من شواهد الراغب في المفردات : ٧٢ ، وفيه : الرجلان واليدان ، وفي الوزن اضطراب.

(٧) في الأصل تتبع ، وهو وهم.

(٨) النهاية : ١ / ١٧٩ ، والمعنى : إذا أحيل على قادر فليحتل.

٢٩٣

فصل التاء والتاء

ت ت ر :

قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا)(١) أي متتابعين. وزعم ثعلب أنّ وزنها تفعل وغلّطه الفارسيّ وهو صحيح لاشتقاقها من المواترة ، وتاؤها الأولى بدل من الواو ، وهناك أذكرها مستوفيا الكلام عليها لما قدّمت في خطبة هذا الكتاب أني أنظر إلى الأصول.

فصل التّاء والجيم

ت ج ر :

التجارة : التّصرف في المال بيعا وشراء طلبا للرّبح ؛ فهي أخصّ من البيع ، لأنّه قد لا يكون لطلب ربح ، فمن ثمّ حسن الجمع بينهما في قوله تعالى : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)(٢) وقدّمت التجارة لأنها أحبّ إلى النفوس. وقوله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)(٣) ، وأسند الرّبح إليها مجازا ومبالغة كقولهم : نهاره صائم. ومنه قول جرير (٤) : [من الطويل]

لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

ونمت ، وما ليل المطيّ بنائم

وقوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ)(٥) قد فسّرها بقوله : (تُؤْمِنُونَ) إلى آخره. وأيّ تجارة أربح من تجارة تؤدّي إلى النّجاة من العذاب المؤلم الفادح؟

ويقال : تاجر وتجر ؛ فتجر إمّا جمع تكسير وإمّا اسم جمع حسبما اختلف النحويون في راكب وركب وصاحب وصحب. وتستعار التجارة للحذق في الشيء ؛ فيقال : فلان

__________________

(١) ٤٤ / المؤمنون : ٢٣.

(٢) ٣٧ / النور : ٢٤.

(٣) ١٦ / البقرة : ٢.

(٤) القصيدة في الفرزدق وانظر الديوان : ٥٥٤. أم غيلان : بنت جرير.

(٥) ١٠ / الصف : ٦١.

٢٩٤

تاجر في كذا أي حاذق في وجوه. قالوا : وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذه المادة. فأمّا تجاه فمن الواو كتراث من الوراثة ، وتجوب فالتاء للمضارعة.

فصل التاء والحاء

ت ح ت :

تحت : ظرف مكان تقابل فوق ، والكلام عليه في تصرّفه وعدمه ، كالكلام على مقابله ، فيجرّ بمن كما تجرّ قبل وفوق. قال تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا)(١) وهو يعنى أسفل. وقيل : بينهما فرق بأنّ (٢) تحت تستعمل في المنفصل ، وأسفل في المتّصل. يقال : المال (٣) تحته. وأسفله أغلظ من أعلاه.

وقد يعبّر بالتّحت عن الشيء الدّون ؛ فيقال : فلان تحت فينصرف. وعلى هذا قال عليه الصلاة والسّلام : «لا تقوم الساعة حتى تظهر التّحوت» (٤) أي الدون من الناس. وقيل : أريد بالتّحوت ما في بطن الأرض كقوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها)(٥) وقوله : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ)(٦).

وروى الهرويّ ، «لا تقوم السّاعة تى يهلك الوعول وتظهر التّحوت» أي الأراذل من الناس ومن كانوا تحت أقدامهم. قلت : أراد بالوعول هنا سروات الناس ووجوههم لمقابلتهم بالتّحوت.

__________________

(١) ٢٥ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٢) كذا في س ، وفي ح : فإن.

(٣) كذا في ح ، وفي س : الماء.

(٤) وتمام الحديث : «لا تقوم الساعة حتى يهلك الوعول وتظهر التحوت» (النهاية : ١ / ١٨٢) وانظر بعد سطرين.

(٥) ٢ / الزلزلة : ٩٩.

(٦) ٤ / الانشقاق : ٨٤.

٢٩٥

فصل التاء والخاء

ت خ ذ :

يقال : تخذت (١) كذا أي اتّخذته. ويتعدّى لاثنين إذا ضمّن ، يعني صيّر كاتّخذ. وقرىء بالوجهين : (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) و «لاتّخذت» (٢). فتخذ بمعنى أخذ واتّخذ ؛ افتعال منه (٣). قال تعالى : (أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي)(٤). وقيل : اتّخذ من الأخذ ، وإنّما أبدلت الهمزة ياء ثم أبدلت تاء. وقد حقّقناه في غير هذا.

فصل التّاء والراء

ت ر ب :

التراب : معروف ، وهو اسم جنس ، واحده ترابة ، والتّرب بمعناه : والتّربة : الأرض نفسها. وفي الحديث : «خلق الله التربة يوم السبت» (٥) ؛ قيل : هو التراب ، وقيل : هو الأرض. والتّرب والتّوراب : التراب.

وريح تربة (٦) : أي تأتي بالتراب. وقوله : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)(٧) أي لصق جلده بالتراب لفقره ، وهو أسوأ حالا من الفقير عند قوم لهذه الآية. وقد حقّقنا الفرق بينهما في «القول والوجيز».

__________________

(١) كذا في س ، وفي ح : تخذ.

(٢) ٧٧ / الكهف : ١٨. قرأ بالمخففة ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب و... (معاني القرآن للفراء : ٢ / ١٥٦).

(٣) لأن فاءها همزة والهمزة لا تدغم في التاء. قال الجوهري : الاتخاذ ، افتعال من الأخذ إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء ، ثم لما كثر استعماله بلفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه فعل يفعل ، قالوا : تخد يتخذ. وأهل العربية على خلاف ما قال الجوهري (النهاية : ١ / ١٨٣).

(٤) ٥٠ / الكهف : ١٨.

(٥) يعني الأرض. النهاية : ١ / ١٨٥.

(٦) في الأصل : تاربة ، والتصويب من اللسان. وفي المفردات (٧٤) : تربة.

(٧) ١٦ / البلد : ٩٠.

٢٩٦

ويقال : ترب الرجل : افتقر. وأترب : استغنى بمعنى صار ماله كالتّراب. وقوله عليه الصلاة والسّلام ، وقد قسّم الأزواج : «عليك بذات الدّين تربت يداك» (١). قال الراغب : وريح تربة (٢) : تأتي بالتّراب. ومنه قوله : «تربت يداك» تنبيها أنه [لا](٣) تفوتك ذات الدّين ، فلا يحصل لك ما ترومه ، فتفتقر من حيث لا تشعر ، كذا فسره ، وهو تفسير باللازم البعيد. قال أبو عبيد : نرى أنّه عليه الصّلاة والسّلام لم يتعمّد الدعاء عليه بالفقر ، لكنها كلمة جارية على ألسنة العرب (٤). وقيل ؛ هو مثل قولهم : هوت أمّه ، ولا أب له ، ولا أمّ له. ولم يقصدوا الدعاء ، وإنّما قصدوا : لله درّه. ومنه قول كعب بن سعد (٥) : [من الطويل]

هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا

وما ذا يؤدّي الليل حين يؤوب

فظاهره : أهلكه الله ، وباطنه لله درّه. ومثله قول جميل بن معمر (٦) : [من الطويل]

رمى الله في عيني بثينة بالقذى

وفي الغرّ من أنيابها بالقوادح (٧)

أراد : ما أحسن عينيها! وبالغرّ : سادات قومها. وقال عليه الصلاة والسّلام في حديث خزيمة : «أنعم صباحا تربت يداك» (٨) ، فهذا دعاء له فقط [وترغيب](٩) : أنعم صباحا.

__________________

(١) النهاية : ١ / ١٨٤.

(٢) ضبطها شارح المفردات : ٧٤ بضم ففتح.

(٣) إضافة المحقق من المفردات.

(٤) لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ولا وقوع الأمر به.

(٥) هو كعب بن سعد بن عمر بن عقبة الغنوي أحد بني سالم بن عبيد ، أحد شعراء الجاهلية ، اشتهر بكعب الأمثال لكثرة ما ورد في شعره من الأمثال. وبيته هذا من مراثي العرب المشهورة. انظر : معجم الشعراء : ٢٢٨ ، الأصمعيات : ٩٥ ، مجالس ثعلب : ١١٥. ومعنى هوت أمّه : هلكت أو ثكلته أمه.

(٦) مطلع لقطعة من ديوانه : ١٨ ، وفي اللسان ـ مادة قدح.

(٧) في الأصل : بالبوارح ، والتصويب من الحاشية السابقة.

(٨) النهاية : ١ / ١٨٤.

(٩) فراغ في الأصل ، والسياق يقتضي ما ذكرنا ، وهو مذكور في النهاية ، ويقصد أنه دعاء له بدليل قوله : أنعم صباحا.

٢٩٧

وقوله : (خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ)(١) أي أصلكم وهو آدم. وقيل : كلّ أحد يخلق من تربته التي يدفن فيها ويأخذها الملك فيذرّها على النّطفة.

والتّرائب : جمع تريبة ، وهي عظام الصدر الواقعة عليها القلادة. قال امرؤ القيس : [من الطويل]

ترائبها مصقولة كالسّجنجل (٢)

قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)(٣) إشارة إلى أنّ خلق الإنسان يكون من ماءي الرجل والمرأة. فمقرّ ماء الرجل صلبه ، ومقرّ ماء المرأة ترائبها. وقيل : إنه ينشأ من لبنها الخارج من ثديها المجاور لترائبها ، وتحقيقه في غير هذا.

وقوله : (عُرُباً أَتْراباً)(٤) ، (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ)(٥). فالأتراب : اللّدات وهنّ من تساوى أسنانهن ؛ كلّ واحدة منهنّ ترب للأخرى. وقيل : أتراب لأزواجهنّ ، وهو أكثر إلفة. وسمي التّرب تربا لأنه لصق جلده بالتراب (٦) وقت لصوق جلد تربه بالتراب. وقيل : سمّين أترابا تشبيها في التّماثل بترائب الصدر ، وهي ضلوعه لوقوعها في وقت واحد على الأرض. قال امرؤ القيس (٧) : [من الطويل]

عقيلة أتراب لها ، لا دميمة

ولا ذات خلق إن نأملت جأنب

[ت ر ث]

وأما تراث من قوله : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ)(٨) فيذكر في باب الواو.

__________________

(١) ٥ / الحج : ٢٢.

(٢) عجز من معلقة امرىء القيس ، وصدره (الديوان : ٣٤).

مهفهفة بيضاء غير مفاضة

(٣) ٧ / الطارق : ٨٦.

(٤) ٣٧ / الواقعة : ٥٦.

(٥) ٥٢ / ص : ٣٨.

(٦) وفي ح : بالترائب.

(٧) الديوان : ٥٣. الجأنب : الغليظ القبيح.

(٨) ١٩ / الفجر : ٨٩.

٢٩٨

ت ر ف :

قال تعالى : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها)(١) المترف : المتنعّم بضروب النّعم المتوسع فيها. (فالتّرفة : التوسّع في النّعمة) (٢). وهؤلاء هم الموصوفون بقوله : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ)(٣). وقوله : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ)(٤) أي جعلوا همّهم في تتبّع النّعم ، وأغفلوا ما يهمّهم من أمور آخرتهم كغالب أحوال الناس اليوم. قال ابن عرفة : المترف : المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع [ممّا] فيه. وإنّما قيل للمتنعّم : مترف لأنّه مطلق له لا يمنع من تنعّمه. /

ت ر ق :

قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ)(٥) أي إذا بلغت النفس [منتهى](٦) أمرها لدلالة الحال عليها كما قال حاتم (٧) : [من الطويل]

أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما (٨) وضاق بها الصّدر

أي حشرجت النفس. والتّراقي جمع ترقوة وهي عظام. وقيل : هي العظام المكتنفة لثغرة النّحر عن يمين وشمال ، وهي موضع حشرجة النفس كما أشار إليه حاتم. وقيل : الترقوة : عظم وصل ما بين ثغرة النّحر والعاتق. وقالوا : لكلّ أحد من الناس ترقوتان ، فعلى هذا يكون التّراقي من باب غلظ (٩) الحواجب.

وأصل التراقي : تراقو ، فأبدلت الواو ياء لانكسار ما قبلها. والياء فيها أصلية ، والواو

__________________

(١) ١٦ / الإسراء : ١٧.

(٢) كذا في ح ، وفي س : أي في النعمة.

(٣) ١٥ / الفجر : ٨٩.

(٤) ١١٦ / هود : ١١.

(٥) ٢٦ / القيامة : ٧٥.

(٦) فراغ قدر كلمة في الأصل ، ولعلها كما ذكرنا.

(٧) ديوان حاتم : ٥٠.

(٨) وفي الديوان : نفس ، ولعلها أوقع.

(٩) وفي س : غليظ.

٢٩٩

زائدة. فوزن ترقوة فعلوة ، وليست تفعلة لأنه ليس في الكلام (ر ق و). وقد حققته في غير هذا. ولما حضرت أبا (١) بكر رضي الله عنه الوفاة أنشدت عائشة رضي الله عنها بيت حاتم المتقدّم فقال : مه يا بنيّة وقولي : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ)(٢) وهي قراءته رضي الله عنه ، وهذا منه رضي الله عنه ممّا يدلّ على شغله بربّه. والأمر بكلّ جميل حتى في هذه الحالة التي لا حالة أشدّ منها.

ت ر ك :

التّرك : التّخلية ، ومنه : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ)(٣) ، وقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ)(٤) أي رغبت عنها وأعرضت. وقال ابن عرفة : التّرك على ضربين ؛ مفارقة ما يكون الإنسان فيه ، وترك الشيء رغبة عنه من غير دخول فيه.

وقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(٥) أي أبقينا له ذكرا حسنا وخلّيناه مخلّدا أبد الدهر. ومن كلام الحسن رضي الله عنه : «إنّ لله ترائك في خلقه» (٦) أي أمورا أبقاها بينهم من طول الأمل لينبسطوا في الدنيا. وتركة الرجل (٧) : ولده وأهله وما خلّفه حيا كان أو ميتا. ومنه : «جاء إبراهيم عليه‌السلام يطالع تركته» (٨) أي ولده وأهله حين خلّفهم بالقفر وهو الحرم الشريف ، وأصله من بيض النّعام وهي التّرك. ولكن غلبت التركة في تركة الميت. والتّريكة بمعنى التّرك أيضا. ويقال لبيضة النّعام تريكة لكونها متروكة في المفازة. ودخول التّاء فيها شاذّ ؛ فإنّ فعيل بمعنى مفعول لا تدخل على تاء إلا سماعا كالنّصيحة والذّبيحة ، ولبيضة الحديد أيضا تشبيها ببيضة النّعام ، كما سميت بيضة كذلك.

__________________

(١) في الأصل : أبو.

(٢) ١٩ / ق : ٥٠.

(٣) ٩٤ / الأنعام : ٦.

(٤) ٣٧ / يوسف : ١٢.

(٥) ٧٨ / الصافات : ٣٧.

(٦) النهاية : ١ / ١٨٨. ،

(٧) التركة (بسكون الراء) : في الأصل بيض النعام وجمعها الترك ، وبكسر الراء : الشيء المتروك.

(٨) النهاية : ١ / ١٨٨.

٣٠٠