عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٩

الْبَلاغُ)(١) ، وقوله : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ)(٢) ، وقوله : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(٣) أي كافيا.

يقال : بلغ الرجل يبلغ فهو بليغ إذا بلّغ بلسانه كنه ما في ضميره. وقوله : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ)(٤) أي لم ينتهوا ولم يصلوا إلى الحلم وهو الاحتلام. يقال : بلغ الصبيّ يبلغ بلوغا فهو بالغ. وبلغ زيد مراده إذا وصل إلى ما يريد.

وقوله : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ)(٥) أي يفعل ما يريد من غير معارض له تعالى. وقرىء (بالِغُ) بالتنوين ونصب أمره (٦) ، وبعدمه وخفض أمره. قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)(٧). (معناه إن لم تبلّغ هذا أو شيئا ممّا حمّلت ، تكون في حكم من لم يبلّغ شيئا من رسالته) (٨) ، وذلك أنّ حكم الأنبياء وتكليفاتهم أشدّ ، وليس حكمهم حكم سائر الناس الذين يتجافى عنهم إذا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وبهذا التأويل ... (٩) سؤال يقال هنا وهو أنّ الجزاء عين الشرط ، وليس كذلك لما عرفته.

وقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ)(١٠) للمشارفة ، وإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل لا يصحّ للزوج مراجعتها وإمساكها. وقوله : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ)(١١) ، وفي أخرى : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)(١٢) ، وقوله : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ)(١٣) مثل قولهم : أدركني الجهد ، وإن شئت : أدركت الجهد ، ولا يجوز أن يقال

__________________

(١) ٢٠ / آل عمران : ٣.

(٢) ٣٥ / النحل : ١٦.

(٣) ٦٣ / النساء : ٤.

(٤) ٥٨ / النور : ٢٤.

(٥) ٣ / الطلاق : ٦٥.

(٦) وقراءة ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند بتنوين «بالغ» ورفع «أمره».

(٧) ٦٧ / المائدة : ٥.

(٨) ما بين قوسين ساقط من ح.

(٩) فراغ في الأصل قدر كلمة.

(١٠) ٢ / الطلاق : ٦٥.

(١١) ٤٠ / آل عمران : ٣.

(١٢) ٨ / مريم : ١٩.

(١٣) ٢٣ / الإسراء : ١٧.

٢٦١

ذلك في زمان ولا مكان ، فلا يقال : أدركني مكان كذا ، ولا بلغني مكان كذا.

ويقال : بلّغته الخبر وأبلغته إيّاه. وقد قرىء (أُبَلِّغُكُمْ) و (أُبَلِّغُكُمْ)(١) بالتخفيف والتثقيل. قال الراغب : وبلّغه أكثر ، يعني : من أبلغه (٢).

والبلاغة في الكلام التي هي أخت الفصاحة ، يوصف بها المتكلم والكلام ، ولا توصف بها الكلمة. والفصاحة يوصف بها الثلاثة ، وهي في الكلام عبارة عن مطابقة لمقتضى الحال مع كونه فصيحا ، وفي المتكلم (٣) عن ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ ، هذا حدّها في اصطلاح البيانيين.

وقال الراغب : والبلاغة تكون على وجهين : أحدهما أن يكون بذاته بليغا ، وذلك [بأن](٤) يجمع ثلاثة أوصاف : أن يكون صوابا مع موضوع لغته ، وطبقا للمعنى المقصود به ، وصدقا في نفسه. ومتى انخرم وصف من ذلك كان ناقصا في البلاغة. والثاني : أن يكون بليغا باعتبار القائل والمقول له ، وهو أن يقصد القائل به أمرا ما فيورده على وجه حقيق أن يقبله المقول له.

وقوله : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(٥) يصحّ حمله على المعنيين. وقول من قال (٦) : [معناه](٧) قل لهم : إن أظهرتم ما في أنفسكم قتلتم ، وقول من قال : خوّفهم بمكاره تنزل بهم ، فإشارة إلى بعض ما يقتضيه عموم اللفظ.

والبلغة : ما يتبلّغ به (من العيش) (٨). والمبالغة : الاجتهاد في الأمر ، يقال : بالغ في أمره ، وهو ما تقدّم ، فإنّه بلوغ نهاية الأمد في الاجتهاد. وفي الحديث : «كلّ رافعة

__________________

(١) ٦٢ / الأعراف : ٧.

(٢) لم يقصد الراغب قراءة الآية ، بل الفعل نفسه. انظر (المفردات : ٦٠).

(٣) كذا في س ، وفي ح : وفي العبارة.

(٤) إضافة من المفردات : ٦١.

(٥) ٦٣ / النساء : ٤.

(٦) وفي س : وقوله.

(٧) إضافة المحقق من المفردات.

(٨) بياض في الأصل ، وإضافتنا من اللسان والمفردات.

٢٦٢

رفعت عنّا (١) من البلاغ فلتبلّغ عنّا» أراد من المبالغة في التبليغ. يقال : بالغ يبالغ مبالغة فهو مبالغ أي اجتهد. ويروى «من البلاغ» بفتح الباء على معنى أنّ البلاغ ما بلغ من القرآن والسّنن. وقيل : تقديره من ذوي البلاغ ، أي الذين بلّغونا ، أي من ذوي التّبليغ ، فأقام الإسم مقام المصدر الحقيقيّ ، كما تقول : أعطيته عطاء ، وبكسرها على أنه مصدر بالغ نحو : قاتل قتالا. وقالت عائشة لعليّ رضي الله عنهما يوم الجمل : «لقد بلغت منّا البلغين» (٢) قال أبو عبيدة : هي مثل قولهم : لقيت منه البرحين ، وبنات برح أي الدّواهي.

ب ل و :

يقال : بلوته أي اخبرته ، ويكون في الخير والشرّ. قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(٣). ويقال : ابتليته كبلوته. قال تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) (٤) (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ)(٥) أي اختبره.

وقوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٦) قيل : معناه نعمة ، ومنه قوله تعالى : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً)(٧). قال أبو الهيثم : البلاء يكون حسنا ويكون سيئا. وأصله المحنة ، والله تعالى يبتلي عبده بالصّنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره.

وفي حديث حذيفة ، وقد تدافعوا للصلاة : «لتبتلنّ لها إماما أو لتصلّنّ وحدانا» (٨) أي لتختارنّ (٩). وجعل الراغب معنى هذه المادة من معنى البلاء ، وذكره في مادة ب ل ي.

__________________

(١) في الأصل : علينا ، والتصويب من النهاية : ١ / ١٥٢.

(٢) النهاية : ١ / ١٥٣.

(٣) ٣٥ / الأنبياء : ٢١.

(٤) ٦ / النساء : ٤.

(٥) ١٢٤ / البقرة : ٢.

(٦) ٤٩ / البقرة : ٢.

(٧) ١٧ / الأنفال : ٨.

(٨) النهاية : ١ / ١٥٦.

(٩) وهذا قول شمر كما في الغريبين : ١ / ٢١٠.

٢٦٣

فقال : يقال : بلى الثوب بلى وبلاء أي خلق. وبلوته : اختبرته كأني اخلقته من كثرة إختباري له.

وقرىء : هنالك تبلو كل نفس ما أسفلت (١) أي تعرف حقيقة ما عملت ، ولذلك يقال : بلوت فلانا أي اختبرته.

وسمّي الغمّ بلاء من حيث إنّه يبلي الجسم ، وسمّي التكليف بلاء من أوجه : الأول أنّ التّكاليف كلّها فيها مشقّة على الأبدان. والثاني أنها اختبارات ، وعليه (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)(٢) وهو تعالى عالم بهم بدون اختبار ، وإنّما معناه : حتى يظهر في الوجود ما في علمنا. وقيل : معناه حتّى يتميز. والثالث ، كما تقدّم ، أنه اختبار (٣) ، فمبتليهم بالمسارّ تارة ليشكروا ، وأخرى بالمضارّ ليصبروا. فصار الابتلاء تارة منحة وتارة محنة. والمنحة تقتضي الشكر ، والمحنة تقتضي الصّبر. والقيام بحقوق الصبرّ أيسر وأسهل من القيام بحقوق الشّكر. فصارت المنحة أعظم البلاء [ين](٤).

ومن هذا قول أمير المؤمنين عليّ (٥) رضي الله عنه : «بلينا بالضّراء فصبرنا ، وبلينا بالسّراء فلم نصبر». وقد جاء ذلك ، أعني المحنة والمنحة ، في قوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٦) ، فالمحنة راجعة إلى ما تقدّم من ذبح أبنائهم واستحياء نسائهم. والمنحة راجعة إلى قوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)(٧). وابتلى وبلى يتضمّن أمرين : أحدهما تعرّف حاله وما يجهل من أمره. والثاني ظهور جودته ورداءته. في جانب الباري تعالى إذ قيل : ابتلى الله كذا أو بلى كذا لم يكن إلا بمعنى ظهور جودة المبتلى كقوله

__________________

(١) ٣٠ / يونس : ١٠.

(٢) ٣١ / محمد : ٤٧.

(٣) أي اختبار الله تعالى لعباده.

(٤) إضافة المحقق.

(٥) نقل الراغب هذا الحديث معزوّا للخليفة عمر (المفردات : ٦١).

(٦) ٤٩ / البقرة : ٢.

(٧) من الآية السابقة.

٢٦٤

تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) ، أو رداءته نحو (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا)(١).

وقد يقصد به الأمران معا ، نحو : بلوت زيدا إذا قصدت المعنيين المذكورين. وقوله : [من الطويل]

فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (٢)

جمع بين اللغتين ، إذ يقال : بلاه وأبلاه.

ب ل ى :

بلى جمعها بلوات كنعم ، إلا أنّها لا يجاب بها إلا نفي نحو : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى)(٣)(لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٤). ولو دخل الاستفهام على النفي لم يجب إلا ببلى ، وإنه صار إيجابا كما قدّمناه ، كقوله : (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)(٥). قال ابن عباس : لو قالوا نعم لكفروا ، وابن عباس أخبر بهذه المقالة (٦). وقد تكلّمنا على هذه الاية بأشبع من هذا في مكانها وما يليق بها والحمد لله. ونعم : حرف جواب إلا أنها يجاب بها في الإيجاب والنفي لأنها تصديق وتدبّر لما يتقدّمها ، وستأتي في بابها إن شاء الله.

__________________

(١) ١٦٣ / الأعراف : ٧.

(٢) عجز بيت لزهير ، (الديوان : ٤٠) وصدره :

رأى الله بالإحسان ما فعلا بكم

ورواية اللسان : جزى الله.

(٣) ٣٨ / النحل : ١٦.

(٤) ١١١ / البقرة : ٢ ، وتمامها : .. (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

(٥) ١٧٢ / الأعراف : ٧.

(٦) يقول ابن هشام (المغني : ١١٤) : ولكن وقع في كتب الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد ؛ ففي صحيح البخاري في كتاب الإيمان أنه عليه الصلاة والسّلام قال لأصحابه : «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة»؟ قالوا : بلى. وأورد حديثا آخر في صحيح مسلم.

٢٦٥

فصل الباء والنون

ب ن ن :

قوله تعالى : (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ)(١).

البنان : الأصابع ، سميت بذلك لأنّ بها (٢) إصلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبيّن بها. يقال : ابنّ بالمكان يبنّ أي أقام. ومنه البنّة للرائحة التي تبنّ بما تعلق به. وفي الحديث : «إنّ للمدينة بنّة» (٣) ، قال أبو عمرو : هي الرائحة الطيّبة ، / قال الأصمعيّ : هي الرائحة مطلقا. قلت : إنما خصّها أبو عمرو بالطيّبة لخصوصيّة المادّة.

وقال الأشعث (٤) لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : «أحسبك ما (٥) عرفتني يا أمير المؤمنين. قال : بلى ، وإنّي لأجد بنّة الغزل منك» ، قيل : أراد أنه نسّاج (٦). وواحد البنان بنانة على حدّ عزّ وعزّة. قال النابغة : [من الكامل]

بمخضّب رخص كأنّ بنانه

عنم يكاد من اللطافة يعقد (٧)

وقال آخر (٨) : [من الوافر]

فإن أهلك فربّ فتى سيبكي

عليّ مهذّب رخص البنان

وللناس على قوله : (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) تأويلان ، أحدهما أن يجعل أصابعه ملتصقة غير مفترقة ، بل هي كخفّ البعير أو حافر الحمار ، فلا ينتفع بها ، وهو قول أكثرهم.

__________________

(١) ٤ / القيامة : ٧٥.

(٢) في الأصل : لأنها ، ولعلها كما ذكرنا.

(٣) النهاية : ١ / ١٥٧.

(٤) يعني الأشعث بن قيس.

(٥) وفي النهاية (١ / ١٥٧) : ما أحسبك عرفتني ، وهذا أصوب.

(٦) يذكر ابن الأثير في النهاية أن أبا الأشعث كان مولعا بالنّساجة.

(٧) وفي رواية الديوان (ص ٣٥) :

عنم على أغصانه لم يعقد

وما جاء فوق رواية أبي عبيدة. والعنم : شجر يحمّر وينعم ، أو يساريع حمر تكون في البقل.

(٨) البيت من شواهد المغني (ص : ١٣٧) في جواز دخول رب على الفعل المستقبل.

٢٦٦

والثاني : إنّا نقدر على أن نجمع أصغر عظامه ونؤلّفها بعد تمزيق جلدها وعصبها. وإذا قدرنا على جمع هذه مع دقّتها فلأن نقدر على جمع كبارها أولى وأحرى ، وهذا أليق بسياق الآية.

وقوله : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)(١) إنّما خصّها لأنّها أنفع الأعضاء في مزاولة الأشياء لا سيمّا في القتال.

ب ن و :

الإبن عند الجمهور لامه واو ، حذفت لامه وعوّض عنها همزة الوصل أوله كاسم ، وابنة مؤنثة وكذلك بنت ، إلا أنهم عوّضوا من لامها تاء التأنيث ، وسمي تاء العوض كتاء أخت. ويكسّر ابن على أبناء (٢) ، ويصحّح (٣) فيرفع بالواو وينصب ويجرّ بالياء.

قال تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا)(٤)(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ)(٥)(يا بَنِي إِسْرائِيلَ)(٦)(وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ)(٧)

وقيل : ابن اشتقاقا من البناء لأنّه بناء أبيه أي أصل في وجوده ، وقيل لكلّ من كان يحصل من جهته تبنّ أو من تربيته هو ابنه ، ولملازم الشيء نحو : هو ابن السبيل ، وابن الحرب.

وقوله : (هؤُلاءِ بَناتِي)(٨) وقوله : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ)(٩) أراد نساء أمّته وسماهنّ (١٠) بناته لأنّ النبيّ أب لأمّته حسبما قدّمنا في صدر هذا الكتاب. ومعناه :

__________________

(١) ١٢ / الأنفال : ٨.

(٢) لأن أصله بنو.

(٣) أي يجمع جمع مذكر سالما.

(٤) ٤٦ / الكهف : ١٨.

(٥) ٨٨ / الشعراء : ٢٦.

(٦) ٤٠ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٧) ١٠٠ / الأنعام : ٦.

(٨) ٧٨ / هود : ١١ ، وغيرها.

(٩) ٧٩ / هود : ١١.

(١٠) في الأصل : سماهم.

٢٦٧

هؤلاء نساؤكم فانكحوهنّ على الوجه المرضي. وقيل : أراد ماءه لصلبه ، وإنّما خاطب بذلك كبار قومه وهم قليل ، وإلا فمحال أن يقول ذلك للجمّ الغفير (١).

وقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ)(٢) أراد الملائكة ، وذلك أن الكفار ... (٣) يزعمون ، وقد كذبوا أن يقال : تزوج بسروات (٤) الجنّ فأولدهم الملائكة ، وسمّوهم بناته (٥). وإليه أشار بقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً)(٦)(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً)(٧) وقد يعرب بنين مع الياء بالحركات تشبيها له بلفظ قطين (٨) ، قال : [من الوافر]

وكان لنا أبو حسن عليّ

أبا برّا ونحن له بنين

والبنيان : وضع شيء بترتيب خاص ، وهو جمع لا واحد له. وقيل : بل واحده بنيانة. وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(٩) من أبلغ تشبيه ، لم يكتف بذكر البنيان حتى وصفه بأبلغ إتقان. واسم الجنس يذكّر ويؤنث ، ومن التذكير (بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) كقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)(١٠). ولو أنّث لجاز كقوله : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ)(١١).

وقوله : (أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ)(١٢) الآية استعارة بديعة ، وذلك أنّ الأمر الذي يربّيه الإنسان من دين واعتقاد إنّما يربّيه على نظر وتأمّل ووضع شيء فشيء ، وهذا أشبه شيء بالبناء.

__________________

(١) خاطب لوط القوم وعرض عليهم بناته لا بنات قومه ، على هذا المعنى.

(٢) ٥٧ / النحل : ١٦.

(٣) فراغ قدر كلمة من الأصل ، والمعنى المرجّح أن الكفار يزعمون أن الملائكة بنات الله! وانظر الغريبين : ١ / ٢١٣.

(٤) كذا في س ، وفي ح : سراوات.

(٥) كذا في س ، وفي ح : بناتهم.

(٦) ٤٣ / الإسراء : ١٧.

(٧) ١٥٨ / الصافات : ٣٧.

(٨) يرى ابن يعيش أن أكثر ذلك ما يجيء في الشعر ، وأتى بشواهد شعرية على ذلك (انظر شرح المفصل : ٥ / ١١).

(٩) ٤ / الصف : ٦١.

(١٠) ٢٠ / القمر : ٥٤.

(١١) ٧ / الحاقة : ٦٩.

(١٢) ١٠٩ / التوبة : ٩.

٢٦٨

ويقال : بنيت أبني بناء وبنية وبنى وبنيانا. ويعبّر ببنيّة الله عن الكعبة (١). والبناء : البيت ولو كان من وبر أو شعر. وأبنيته : أعطيته ما يبني به بيتا. والمبناة : القبّة. قال النابغة : [من الطويل]

على ظهر مبناة جديد سيورها (٢)

يطوف بها وسط اللّطيمة بائع

وبنى فلان بامرأته أي دخل عليها ، لأنهم كانوا إذا فعلوا ذلك بنوا عليها قبّة ، فعبّروا به عنه وإن لم يبنوا قبّة. والبناء أيضا : النّطع ومثله المبناة ، وفي الحديث : «إلا إذا بسطنا له مبناة» (٣) أي نطعا. وبنى طعامه لحمه ، كناية عن سمنه. قال (٤) : [من الرجز]

بنى السّويق لحمها واللّتّ

كما بنى بخت (٥) العراق القتّ

والبنيّات : الأقداح ، وسأل عمر رجلا : هل [شرب الجيش](٦) بالبنيّات الصّغار؟

فصل الباء والهاء

ب ه ت :

البهت : التّحيّر. قال تعالى : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)(٧) أي دهش وتحيّر وانقطعت حجّته. ومن ذلك البهتان وهو الباطل الذي يحير الناظر فيه. والبهتان : الكذب أيضا ، وهو نوع من ذلك.

يقال : بهته يبهته بهتا أي حيّره. وبهته : كذب عليه فبهت يبهت ، وبهت يبهت. وفي

__________________

(١) لشرفها ؛ إذ هي أشرف مبنيّ.

(٢) في الأصل : «سورها ... مائع» وصوبناه من الديوان : ٤٤. ويجوز في ميم «مبناة» الفتح والكسر

(٣) النهاية ١ / ١٥٨ مع خلاف في الرواية.

(٤) البيت من شواهد اللسان ـ مادة بني ، والغريبين : ١ / ٢١٥.

(٥) في الأصل : لجب ، والتصويب من اللسان والغريبين.

(٦) فراغ في الأصل أتممناه من النهاية : ١ / ١٥٨ ، واللسان ـ مادة بني. وتتمة الحديث : «قال : لا ، إن القوم ليأتون فيتداولونه حتى يشربوه كلّهم» (الغريبين : ١ / ٢١٥).

(٧) ٢٥٨ / البقرة : ٢.

٢٦٩

الحديث : أن اليهود «قوم بهت» (١) من ذلك. وقوله : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ)(٢) ، قيل : كانت النّسوة يلتقطن الولد ويدّعين ولادته شهوة للأولاد وصارة به لميراث أزواجهنّ حينئذ. وقيل : بل هو كناية عن الإتيان بولد من زنا ، فتنسبه إلى الزوج. وقيل : هو كناية عن كلّ ما لا ينبغي تعاطيه ممّا يفعل باليد أو يسعى إليه بالرّجل وقوله : (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ)(٣) أي كذب فظيع متبالغ في القبح ، يحيّر من يسمعه ويدهشه.

ب ه ج :

البهجة : ظهور الحسن والجمال. قال تعالى : (حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ)(٤) أي ذات لون وحسن يبهج من رآه ، يقال : ابتهج فلان بكذا أي سرّ سرورا به ، ظهر على وجهه أثر السرور فحسّنه وزيّنه.

يقال : بهج الشيء يبهجه بهجة فهو بهيج. قال تعالى : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(٥) ، وباهج أيضا. قال جندب بن عمرو (٦) : [من الرجز]

يا ليتني قبلت (٧) غير خارج

قبل الصباح ذات خلق باهج (٨)

ويقال : بهجة الله يبهجه إبهاجا.

__________________

(١) يرى ابن الأثير (النهاية : ١ / ١٦٥) أن بهتا هنا جمع بهوت من باب المبالغة ، مثل صبور وصبر ، ثم سكنت عين بهت للتخفيف.

(٢) ١٢ / الممتحنة : ٦٠.

(٣) ١٦ / النور : ٢٤.

(٤) ٩٠ / النمل : ٢٧.

(٥) ٧ / ق : ٥٠.

(٦) الرجز لجندب بن عمرو ، وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن : ١ / ٢١٤.

(٧) كذا في س ، وفي ح : قتلت ، وفي معاني القرآن : علقت.

(٨) وفي معاني القرآن : بارج ، ورواية فوق أصوب لأنها الشاهد. وفي المفردات : ٦٣ : بهج. والبيت مذكور في الغريبين كما في الأصل : ١ / ١٢٣ ، إلا أن المحقق ضبطه ضبطا فيه وهم.

٢٧٠

ب ه ل :

البهلة : اللّعن ، يقال : بهله الله ، وعليه بهلة ، وبهلته أي لعنته ، ومنه المباهلة وهي الإجتهاد في الدّعاء. يقال : بهل الله الكاذب منّا. وابتهل في الدّعاء أي اجتهد فيه. ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ)(١) أي نفعل المباهلة. وعن ابن عباس رضي الله عنه : «من باهلني باهلته» (٢). وقيل : أصل البهل كونه غير مراعى. ومنه البعير الباهل وهو المخلّى من غير سمة ومن غير قيد ، والباهل أيضا الناقة التي لم يدرّ ضرعها. قال أبو طالب : [من الطويل]

فإن يك قوم سرّهم ما صنعتم

ستحلبوها لاقحا غير باهل (٣)

وقالت امرأة : أتيتك باهلا غير ذات صرار (٤). وأبهلت فلانا : خلّيته وإرادته ، تشبيها بالبعير الباهل. والبهل (٥) أيضا والابتهال في الدعاء : الاسترسال فيه والتضرع. ومنه قول الشاعر : [من الرمل]

نظر الدهر إليهم فابتهل (٦)

أي استرسل إليهم فأفناهم. ومن فسّر الابتهال من قوله تعالى : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) باللعن فلا شكّ أنّ الإرسال في هذا المكان لأجل اللعن.

ب ه م :

قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ)(٧) البهيمة : ما لا نطق له ، وذلك لما في

__________________

(١) ٦١ / آل عمران : ٣.

(٢) ورواية النهاية : ١ / ١٦٧ «من شاء باهلته ..».

(٣) العجز مكسور ، كذا.

(٤) قال ابن منظور : «قال أبو عبيد : حدثني بعض أهل العلم أن دريد بن الصّمّة أراد أن يطلق امرأته فقالت : أتطلقني وقد أطعمتك مأدومي وأتيتك باهلا غير ذات صرار؟ فجعلته مثلا.

(٥) وفي س : أبهل.

(٦) من شواهد الراغب : ٦٣.

(٧) ١ / المائدة : ٥.

٢٧١

صوته من الإبهام ، ولكن خصّ في التعارف بما عدا السّباع والطير. فالبهيمة شاملة للأنعام وغيرها ، فمن ثمّ حسنت إضافتها / للأنعام لإفادة البيان. وأصل المادّة الدّلالة على عدم المسموع لما في ذلك الشيء من الاستغلاق.

ومنه البهمة : الحجر الصّلب. وقيل للشجاع بهمة من ذلك. والشيء المبهم كلّ ما عسر إدراكه على الحاسّة إن كان محسوسا وعلى الفهم إن كان معقولا. وأبهمت الشيء أي جعلته مبهما. وأبهمت الباب : أغلقته إغلاقا لا يهتدى لفتحه. ومنه الليل البهيم لشدّة سواده ، وذلك أنه قد أبهم أمره لظلمته ، أو لأنّه يبهم ما يعرض فيه فلا يدرك. فهو على الأول فعيل بمعنى مفعل ، وعلى الثاني بمعنى مفعل.

والبهم : صغار الإبل. قال (١) : [من الطويل]

صغيرتي ترعى البهم يا ليت أنّنا

والبهمى : نبات ذو (٢) شوك يبهم بشوكه ، وأبهمت الأرض : صارت ذات بهمى ، كأبقلت وأعشبت.

وفي الحديث : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة بهما» (٣) فسّره الهرويّ بأنه ليس فيهم شيء من أعراض الدنيا وعاهاتها من المرض والعرج ، بل أجسادهم أصحّاء لخلود الأبد (٤). وجعل ذلك من قولك : فرس بهيم أي لا يخلط لونه لون سواه. وقال الراغب : أي عراة ، وفيه نظر لتقدّم عراة قبل ذلك. وكأنّ الراغب لم يطّلع على صدر الحديث! قال : وقيل : معرّون ممّا (٥) يتوسّمون به في الدنيا ويتزيّنون به.

وفرس بهم إذا كان على لون واحد لا تكاد العين تميزه غاية التّمييز.

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولم يستقم.

(٢) وفي الأصل : ذات. قال أبو حنيفة : البهمى خير أحرار البقول رطبا ويابسا (اللسان ـ بهم).

(٣) النهاية : ١ / ١٦٧.

(٤) الكلام منقول من النهاية.

(٥) في الأصل : مقرون بما ، والتصويب من المفردات : ٦٤.

٢٧٢

وفي حديث عليّ رضي الله عنه : «كان إذا نزل به إحدى المبهمات» أي المسائل المشكلة. وفي حديث ابن عباس وقد سئل عن قوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ)(١) ولم يبيّن أدخل بها الابن أم لا ، فقال : أبهموا ما أبهم الله. قال الهرويّ : سمعت الأزهريّ (٢) يقول : رأيت كثيرا من أهل العلم يذهبون بهذا إلى إبهام الأمر واستبهامه ، وهو إشكاله ، وهو غلط.

وقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) إلى قوله : (وَبَناتُ الْأُخْتِ)(٣) هذا كلّه يسمّى التّحريم المبهم لأنه (٤) لا يحلّ بوجه ، كالبهيم من ألوان الخيل الذي (٥) لا (٦) شية فيه تخالف معظم لونه. ولما سئل ابن عباس عن قوله عزوجل (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)(٧) ولم يبيّن الله الدخول بهنّ ، أجاب فقال : هذا من مبهم التّحريم الذي لا وجه فيه غير التحريم سواء دخلتم بالنساء أولم تدخلوا بهنّ ، فأمّهات نسائكم حرّمن عليكم من جميع الجهات.

وأمّا قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ)(٨) قال ثابت : ليس هذا من البهمة لأنّ لهنّ وجهين أحللن في أحدهما وحرّمن في الآخر. فإذا دخل بأمهات الرّبائب حرّمن (٩) ، وإذا لم يدخل لم يحرمن ، فهذا تفسير المبهم الذي أراد ابن عباس فافهم (١٠).

__________________

(١) ٢٣ / النساء : ٤.

(٢) كذا في النهاية ، وفي الأصل : الزهري. كما رواه الهروي في الغريبين : ١ / ٢٢٨.

(٣) ٢٣ / النساء : ٤.

(٤) ساقطة من ح.

(٥) كذا في س ، وفي ح : التي.

(٦) ساقطة من ح.

(٧ و ٨) تابع الآية السابقة.

(٩) أي حرمت الربائب.

(١٠) انتهى هنا كلام الأزهري ، انظر النهاية : ١ / ١٦٨ ، والغريبين : ١ / ٢٢٨.

٢٧٣

فصل الباء والواو

ب وأ :

قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ)(١) أي أنزلناهم منزلا صالحا. والمبوّأ : المنزل الذي يلزمه نازله. فأصله من البواء وهو اللّزوم. يقال : أبأ الإمام فلانا بفلان أي ألزمه دمه وقتله به. وفلان بواء لفلان إذا كان كفالة في القتل من ذلك. وفي دعائه عليه‌السلام : «أبوء بنعمتك عليّ» (٢) أي أقرّ بها وألزمها نفسي.

وقوله تعالى : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ)(٣) أي تنزلهم منازل الحرب ميمنة وميسرة وقلبا وكمينا وطلائع. وقوله تعالى : (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ)(٤) أي نتّخذ منها منازل. وقوله : (تَبَوَّؤُا الدَّارَ)(٥) أي نزلوها ولزموها واعتقدوا الأيمان ، أو جعلوا الإيمان متبوّأ مجازا.

وقوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ)(٦) أي رجعوا به ولزموه. وقوله : «فباء به أحدهما» (٧) أي لزمه ورجع به. والباء والباءة : النكاح ، وفي الحديث : «من استطاع منكم الباءة فليتزوّج» (٨) وفي آخر : «عليكم بالباءة» (٩) ، قيل : أراد عقد النكاح. وقيل : أراد الجماع ، وأصله ممّا تقدّم ، وهو أن الباء والباءة اسم للمكان المتبوّأ. وكلّ من تزوّج امرأة لا بدّ أن ينزلها في مكان ويبوّئها إياه ، فجعل ذلك كناية عمّا ذكرنا لملازمته له. وهذا كما قدّمناه في قولهم : بنى بامرأته وبنى على امرأته.

__________________

(١) ٩٣ / يونس : ١٠.

(٢) النهاية : ١ / ١٥٩.

(٣) ١٢١ / آل عمران : ٣.

(٤) ٧٤ / الزمر : ٣٩.

(٥) ٩ / الحشر : ٥٩.

(٦) ٩٠ / البقرة : ٢.

(٧) النهاية : ١ / ١٥٩.

(٨) البخاري ، الصوم : ١٠

(٩) النهاية : ١ / ١٦٠

٢٧٤

وفي الحديث : «الجراحات بواء» (١) أي متساوية في لزوم المماثلة ، وذلك أنّه لا يجرح غير الجارح ، ولا يؤخذ منه أكثر من جنايته ، فذلك معنى اللزوم فيها. وقيل : أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان عكس التّبوّء الذي هو منافاة الأجزاء. ومكان بواء أي غير باء. وكان عليه الصلاة والسّلام «يتبوّأ لبوله كما يتبوّأ لمنزله». وعنه عليه الصلاة والسّلام : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار» (٢). وبوّأت الرمح : هيأت له مكانا ثم قصدت به الطعن. وقال الراعي في صفة الإبل (٣) : [من الطويل]

لها أمرها حتى إذا ما تبوّأت

بأخفافها مأوى تبوّأ مضجعا

يريد أنّ الراعي يتركها حتى إذا وجدت مكانا صالحا للرعي تبوّأ الرّاعي (٤) مكانا لاضطجاعه. وقوله (وَباؤُ بِغَضَبٍ)(٥) أي حلّوا متبوّأ ، ومعهم غضب (٦) ، فالباء حالية (٧) لا متعدية ، فليست كالتي في مررت بزيد. وفي ذلك تنبيه حسن (٨) ، وهو أنّ المكان الذي فيه موافقة لنزولهم صحبهم فيه غضب الله ، وهو عقابه ، فكيف بغيره من الأمكنة؟ وذلك يجري مجرى قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٩). يقول الشاعر : [من الوافر]

تحية بينهم ضرب وجيع (١٠)

أي إن كان لهم بشارة فبالعذاب ، وإن كان ثمّ تحية فهو الضرب. قوله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ

__________________

(١) النهاية : ١ / ١٦٠ والمعنى أنها متساوية في القصاص.

(٢) النهاية : ١ / ١٥٩ والمعنى : لينزل منزله منها.

(٣) من شواهد الراغب : ٦٩. والبيت للراعي النميري (الديوان : ١٠٢) وفيه : لأخفافها مرعى.

(٤) في الأصل : المرعى.

(٥) ٦١ / البقرة : ٢.

(٦) يريد : غضب من الله.

(٧) أي في موضع الحال.

(٨) ساقطة من س.

(٩) ٢١ / آل عمران : ٣.

(١٠) عجز لعمرو بن معديكرب ، وصدره :

وخيل قد دلفت لها بخيل

(الديوان : ١٣٠ ، معاني القرآن للأخفش : ١ / ٣٠٩).

٢٧٥

تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ)(١) أي تقيم بهذه الحال ، ومنه : [من الكامل]

أنكرت باطلها وبؤت بحقّها (٢)

قال الراغب : وقول من قال : أقررت بحقّها فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ. قلت : وكذا في قوله عليه الصلاة والسّلام : «أبوء بنعمتك عليّ» (٣). وعن خلف الأحمر أنه قال : في قولهم : حياك الله وبيّاك الله ، أي زوّجك ، من الباه. وأصله : وبوّأك أي جعل لك مبوأ ، فقلبت الواو بالازدواج ، كما قالوا : الغدايا والعشايا ، قاله الراغب.

ب وب :

الباب (٤) : مدخل الشيء ، ومنه باب الدار. والباب أيضا : ما يتوصّل منه إلى غيره. ومنه تقول : هل هذا باب كذا؟ أي الذي يتوصّل منه إلى معرفة ما عقد له من الكلام. وهذا باب لكذا أي طريقه ، ويطلق ويراد به السبب الموصل إلى ذلك ، والعلة الحاملة عليه. فيقال : الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وأفعال البرّ كلّها أبواب الجنة. والزّنا والسرقة وأفعال (٥) الفجور كلّها أبواب جهنم. لأنّ هذه أسباب جعلها الله تعالى موصلة إلى ذلك إن شاء.

وقال عليه الصلاة والسّلام في حقّ ابن عمّه أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» ، وذلك لما أخذ عنه وأودعه إياه لا سيّما من علوم القرآن. وما أحسن هاتين الكنايتين حيث شبّه نفسه الزكية بمدينة ملأى علما ، وجعل عليا موصولا (٦) به إليها. ولذا الأمر ما علم عليّ بالنسبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا مثل نسبة باب المدينة إليها. فأين الباب من المدينة؟ هذا مع ما علم وشهر من غزارة علم عليّ وتزايده.

__________________

(١) ٢٩ / المائدة : ٥.

(٢) البيت للبيد ، وعجزه (الديوان : ٣١٨) :

عندي ولم تفخر عليّ كرامها

وبؤت (هنا) : اعترفت.

(٣) النهاية : ١ / ١٥٩.

(٤) في ح : البوب ، وفي س : البواب ، ولعلها كما ذكرنا.

(٥) في الأصل : وأبواب.

(٦) وفي س : موصلا.

٢٧٦

ويجمع على أبواب. قال تعالى : (فَكانَتْ أَبْواباً)(١) ، (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ)(٢) ، (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها)(٣) ويصغّر على بويب. ويجمع (٤) على أبوبة ، ولم يثبت. قال : ولّاج أبوبة (٥). ويقال : بوّبت الأشياء ، أي جعلت لها أبوابا تخصّها. هذا من بابة كذا أي ممّا يصلح له ، ويجمع على بابات. / قال الخليل : بابة في الحدود. بوّبت بابا : عملت. وأبواب مبوّبة. والبّواب : حافظ الباب. وتبوّبت : اتّخذت بوّابا.

ب ور :

البوار : الهلاك. ومنه : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ)(٦) أي الهلاك. (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(٧) أي هلكى. وأصل ذلك من البوار وهو فرط الكساد ، وذلك أنه لما كان فرط الكساد يؤدّي إلى الفساد كقولهم : كسد حتى فسد ، عبّر به عن الهلاك. يقال : بار يبور بوارا وبورا. وفي الحديث : «نعوذ بالله من بوار الأيّم» (٨) أي كسادها عن الزواج. وبار المتاع والسوق من ذلك. وأرض بور وبوار : لم تزرع.

وفي الحديث : (٩) لما كتب لأكيدر «وأنّ لكم البور والمعامي» قال أبو عبيد : البور بفتح الباء وضمّها : الأرض لم تزرع ، والمعامي : الأرض المجهولة ، وأرض بائرة ، ورجل حائر بائر ، وجمعه بور. وقيل : بور في الأصل مصدر. وصف به الواحد والجمع نحو : رجل بور. قال (١٠) : [من الخفيف]

__________________

(١) ١٩ / النبأ : ٧٨.

(٢) ٤٤ / الحجر : ١٥.

(٣) ٧٣ / الزمر : ٣٩.

(٤) وفي س : وقد جمع.

(٥) من بيت للقلاخ بن حبابة (اللسان ـ مادة باب) ، والبيت :

هتّاك أخبية ولّاج أبوبة

يخلط بالبرّ منه الجدّ واللينا

ونسب البيت إلى ابن مقبل.

(٦) ٢٨ / إبراهيم : ١٤ ، وهي جهنم.

(٧) ١٢ / الفتح : ٤٨.

(٨) النهاية : ١ / ١٦١.

(٩) النهاية : ١ / ١٦١.

(١٠) البيت لابن الزّبعرى ، وهو من شواهد اللسان ـ بار.

٢٧٧

يا رسول المليك إنّ لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور (١)

وقال تعالى : (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) وبار الفحل الناقة ، أي شمّها (٢) [ألاقح هي](٣) أم لا؟ واستعير ذلك للأختبار : فقيل : برت زيدا أي اختبرته ، وفي الحديث : «كنا نبور أولادنا بحبّ عليّ» (٤) أي نجرّبهم ونختبرهم. وفي الحديث : «كان لا يرى بأسا بالصلاة على البوريّ» (٥) والباريّة والبورياء بمعنى واحد : نوع من الحصر.

فصل الباء والياء

ب ي ت :

البيت : مأوى الإنسان ليلا ، هذا أصله لإشتقاقه من البيتوتة ، ثمّ أطلق على كلّ منزل وإن لم يكن بالليل. وقيل : أصله مصدر يقال : بات يبيت بيتا. وسواء كان مبنيا باللبن ونحوه ، أو من صوف أو شعر إلا أنه غلب في المبنيّ جمعه على بيوت ، وفي المنسوج على أبيات ، وقد يجيء عكسه بقلّة ؛ قال الشاعر : [من الوافر]

على أبياتكم نزل المثاني

قوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ)(٦) عنى بها المساجد ، ورفعها تعظيمها. وقول من قال : أن تعلو نوع من ذلك ، أي لا تمتهن بالاستفال ، وقيل : أراد بها بيوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي حقيقة بذلك ، قيل : أريد أهل بيته وقومه ، وقيل : إشارة إلى القلب ، ومنه قول بعض الحكماء في قوله عليه الصلاة والسّلام : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة» (٧) إنه القلب. وعني بالكلب الحرص ، بدلالة : كلب فلان : اشتدّ حرصه ، وهو أحرص من كلب قاله الراغب وليس بذلك.

__________________

(١) في الأصل : فابق ما أبقت ..

(٢) في س : يشمها.

(٣) فراغ كلمة في الأصل ، أضفناه من اللسان.

(٤) النهاية : ١ / ١٦١.

(٥) النهاية : ١ / ١٦٢.

(٦) ٣٦ / النور : ٢٤.

(٧) البخاري ، باب بدء الخلق ، رقم ٧.

٢٧٨

قوله : (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً)(١) قيل أراد مسجدي. وقوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ)(٢) يعني مكة. وقوله : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ)(٣) أي اجعل لي فيه مقرّا. وقوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)(٤)(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)(٥) ، وكذلك (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٦) لأنه عتق من الطوفان أو من الجبابرة.

وصار «أهل البيت» متعارفا في آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله : «سلمان منّا أهل البيت» (٧) إشارة إلى قوله : مولى القوم منهم.

والبيات : قصد العدوّ ليلا ، وكذلك التّبييت ، قال تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)(٨). وبيّت العدوّ (٩). التّبييت : تدبير الأمر [ليلا](١٠) ، وأكثر ما يكون في المكر ، قال تعالى : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ)(١١)(بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)(١٢)(وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ)(١٣). وبيّت على كذا : عزم عليه قاصدا له ، ومنه : «لا صيام لمن لم يبيّت الصّيام» (١٤) من أول الليل ، وقوله تعالى : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ)(١٥) من ذلك ، أي لنوقظ به الهلاك.

وقوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) يعني المسجد الأقصى. وقوله : (فَما وَجَدْنا فِيها

__________________

(١) ٢٨ / نوح : ٧١ ، وقيل : سفينتي. والضمير لسيدنا نوح.

(٢) ٢٦ / الحج : ٢٢.

(٣) ١١ / التحريم : ٦٦.

(٤) ٨٧ / يونس : ١٠.

(٥) ١٢٧ / البقرة : ٢.

(٦) ٢٩ / الحج : ٢٢ ، وغيرها.

(٧) كشف الخفاء : ١ / ٥٥٨ ، الحديث رقم ١٥٠٥ ، وسنده ضعيف. بينما رواه الطبراني بإسناد حسن عن عمرو بن عوف والحاكم.

(٨) ٤ / الأعراف : ٧.

(٩) أي أوقع بهم ليلا.

(١٠) بياض في الأصل ، والإضافة من اللسان.

(١١) ١٠٨ / النساء : ٤.

(١٢) ٨١ / النساء : ٤.

(١٣) تابع الآية السابقة.

(١٤) أي لم ينوه من الليل (النهاية : ١ / ١٧٠).

(١٥) ٤٩ / النمل : ٢٧.

٢٧٩

غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(١) أراد أهل بيت ، سمّاهم بيتا إطلاقا للمحلّ على الحالّ ، وهما كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) ، وبات يفعل كذلك يدلّ على ملازمة الصّفة للموصوف ليلا ، كما أنّ ظلّ يدلّ على ذلك نهارا. قال : [من الرجز]

أظلّ أرعى وأبيت المهجن

والموت من بعض الحياة أهون

قد يريد للصيرورة. ومنه (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)(٣) ، و «لا يدري أين باتت يده» وقوله : (يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً)(٤) من الأول. وكلّ من أدركه الليل فقد [بات] نام أو لم ينم.

ويعبّر بالبيت عن الشّرف العالي ، فيقال : لفلان بيت ، وهو من بيت. وإلى ذلك أشار العباس رضي الله عنه يمدح نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخاطبه بذلك (٥) : [من المنسرح]

حتى احتوى بيتك المهيمن من

خندف ، علياء تحتها النّطق

أراد ببيته شرفه العالي ، وجعله في خندف أعلى بيتا. وخندف هي ليلى القضاعية ، امرأة إلياس بن مضر. ولقّبت خندف لما روي أنها ولدت لإلياس عامرا وعمرا وعميرا ، فشردت لهم إبل فخرجوا في طلبها ، فأدركها عامر فسمي مدركة ، وصاد عمرو (٦) أرنبا وطبخها فسمي طابخة ، وقمع عمير (٧) في بيته فسمي قمعة. فلما أبطأ عليها أولادها خرجت

__________________

(١) ٣٦ / الذاريات : ٥١.

(٢) ٨٢ / يوسف : ١٢.

(٣) ٥٨ / النحل : ١٦.

(٤) ٦٤ / الفرقان : ٢٥.

(٥) البيت في النهاية : ١ / ١٧٠ ، والغريبين : ١ / ٢٣٠. المهيمن : الشاهد بفضلك.

(٦) وفي ح : عمر ، والصواب المذكور فوق.

(٧) القمع : الدخول فرارا وهربا ، وقمع في بيته : دخله مستخفيا. ورواية الهروي : انقمع.

٢٨٠