عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٩

بعلا والنّخل الذي يشرب بعروقه بعلا (١). وفي الحديث «فيما سقي بعلا العشر» (٢). وتصور الذي في (٣) النخل قيامه وثبوته في مكانه. فقيل : بعل فلان بأمره : إذا أدهش (٤) وثبت في مكانه ثبوت النّخل في مقرّه.

فصل الباء والغين

ب غ ت :

البغت : مجيء الشيء على غفلة من حيث لا يحتسب. والبغتة كذلك ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً)(٥) أي فاجأتهم من غير علم لهم بمجيئها. ويقال : بغته الشيء بغتا وبغتة يبغت فهو باغت. قال الشاعر : [من الطويل]

إذا بغتت أشياء [قد](٦) كان قبلها

قديما فلا تعتدّها بغتات

وبغت : يكون قاصرا كما تقدّم ومتعدّيا. يقال : بغته الأمر يبغته بغتا ، وباغته ساعة مباغتة. كما يقال : فجأه الأمر يفجؤه فجأ ، وفاجأه يفاجئه مفاجأة. وقال يزيد بن ضبّة الثقفيّ (٧) : [من الطويل]

ولكنّهم ماتوا ولم أدر بغتة

وأفظع شيء حين يفجؤك البغت

__________________

(١) أي : سمي بعلا ، يعني : من غير سقي من نهره ولا غيره.

(٢) الغريبين : ١ / ١٨٨ ، والنهاية : ١ / ١٤١.

(٣) في الأصل : هو.

(٤) كذا في س ، وفي ح : دهش.

(٥) ٣١ / الأنعام : ٦.

(٦) البيت من شواهد الراغب (المفردات : ٥٥) والإضافة منه.

(٧) البيت من شواهد اللسان ـ مادة بغت ومن شواهد ابن دريد في الجمهرة : ١ / ١٩٦ ، وفيه (بانوا) عوضا عن (ماتوا) ، و (أنكا) عوضا عن (أفظع). وورد العجز في الغريبين : ١ / ١٩٠.

٢٤١

وقوله : (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً)(١) يجوز نصبها من أوجه : أحدها أنها حال من الفاعل أي باغتين ، أو من المفعول أي مبغوتين ، وإما على المصدر من معنى عامله كأنه أخذ بغتة.

ب غ ض :

البغض : نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه. وهو ضدّ الحبّ ، فإنّ الحبّ استئناس النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه. وقوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ)(٢) إشارة إلى ما يظهر من أثرها على ألسنتهم حيث يتكلمون بما يدلّ عليها ، وإلا فالبغضاء أمر معنويّ محلّها القلب.

وقوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ)(٣) إشارة إلى ما يحدث عند شرب الخمر من الأفعال والأقوال المؤدية إلى الإحن (٤) والشحناء وهي البغضاء. وفي الحديث : «ولا تباغضوا» (٥) يقال : أبغضته أبغضه إبغاضا ، فأنا مبغضه. وعلى هذا فالبغض اسم المصدر كالعطاء بمعنى الإعطاء.

ونقل الراغب أنه يقال : بغض الشيء بغضا ، وبغضته بغضاء (٦) ، فاقتضى ذلك أن يقال : بغضت زيدا ، ثلاثيا متعدّيا. فالبغض مصدر بنفسه. وفي الحديث : «إنّ الله يبغض الفاحش المتفحّش» (٧) وتأويله البعد من فيضه وتوفيق إحسانه منه.

ب غ ل :

قال تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ)(٨).

__________________

(١) ٤٤ / الأنعام : ٦.

(٢) ١١٨ / آل عمران : ٣.

(٣) ٩١ / المائدة : ٥.

(٤) وفي س : الآخر. والإحن : ج الإحنة وهي الحقد.

(٥) صحيح البخاري ، باب النكاح ، الحديث : ٤٥.

(٦) وفي الأصل : وبغضا.

(٧) الترمذي ، باب البرّ ، رقم ٦١ وفيه «.. الفاحش البذيّ».

(٨) ٨ / النحل : ١٦.

٢٤٢

البغال : جمع بغل ، وهو المتولد [من](١) بين الحمار والفرس. فتارة يكون أبوه حمارا وأمّه فرسا ، وتارة بالعكس. وهو أقوى الحيوانين ، وخصّ بعدم التّناسل ، ولقوّته وخبثه قيل في وصف النّذل من الناس : هو بغل. ولقوته شبّه به البعير في سرعة سيره ، فقيل : قد تبغّل البعير يتبغّل تبغّلا فهو متبغّل. وما أغرب ما اتّفق أن وقع هذا (الجنس بين) (٢) الجنسين المتولّد هو منهما في اللفظ. فقال : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) ، وقدّم أشرف طرفيه وهو الخيل.

ب غ ي :

طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرّى ؛ تجاوزه أولم يتجاوزه. وقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً)(٣) هو افتعال من البغي بمعنى الطلب. وأكثر استعمال البغي في الأشياء المذمومة ، لا سيما إذا أطلق نحو : زيد بغى. وقد بغى زيد على عمرو.

وقال الراغب بعدما ذكر أنّ البغي طلب تجاوز في الاقتصاد (٤) : فتارة يعتبر في القدر الذي هو الكمية ، وتارة يعتبر في الوصف الذي هو الكيفيّة. فيقال : بغيت وابتغيت أي طلبت (٥) أكثر ممّا [يجب](٦). وكلّ موضع ذكر فيه البغي فلا بدّ من معنى المجاوزة فيه ، كقولهم : بغت المرأة أي تجاوزت في الفجور الحدّ. فقال تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ)(٧) أي على الفجور لأنهنّ جاوزن ما ليس لهنّ.

وبغى الجرح : إذا تجاوز حدّ الفساد. وبغت السماء : تجاوزت الحدّ في المطر. وبغى زيد أي أفسد ، إذا تجاوز ما ليس له تجاوزه ، ومنه قول ذلك : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما

__________________

(١) إضافة المحقق.

(٢) ساقط من ح. وفي س : الجنس من ، ورأينا التصويب للسياق.

(٣) ٨٥ / آل عمران : ٣.

(٤) المفردات : ٥٥.

(٥) في الأصل بغى.

(٦) فراغ في الأصل ، والإضافة من المفردات.

(٧) ٣٣ / النور : ٢٤.

٢٤٣

عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)(١). وأنشد المأمون حين بغى عليه أخوه الأمين : [من البسيط]

يا طالب البغي إنّ البغي مصرعه

فارتع فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندكّ منه أعاليه وأسفله

وقال آخر : [من الكامل].

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

وقال الراغب : والبغي على ضربين : أحدهما محمود ، وهو يتجاوز الحقّ إلى الإحسان ، والفرض إلى التطوّع. والثاني مذموم ، وهو تجاوز الحقّ إلى الباطل ، أو تجاوزه من الشّبه ، كما قال : «الحقّ بيّن والباطل بيّن وبين ذلك أمور مشتبهات» (٢) «ومن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه» (٣) ولأنّ البغي قد يكون محمودا ومذموما قال تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)(٤) ، فخصّ العقوبة بمن بغيه بغير الحقّ.

قال الحبّانيّ (٥) : أصل البغي الحسد ، وسمّي الظلم بغيا لأن الحاسد ظالم. قلت : هو داخل في قولنا مجاوزة الحدّ ، لأنّ الحاسد تجاوز ما ليس له. واستدلّ على أن البغي الحسد بقوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)(٦). وقيل : البغي : الاستطالة على الناس والكبر. ومنه قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ)(٧).

__________________

(١) ٦٠ / الحج : ٢٢.

(٢) كشف الخفاء : ١ / ٤٣٨ ، الحديث رقم ١١٦٧ ، رواه الطبراني في الأوسط عن عمر. وانظر الفتح الكبير : ٢ / ٨٢.

(٣) انظر النهاية : ٢ / ١٩٤ لخلاف رواية الحديث.

(٤) ٤٢ / الشورى : ٤٢.

(٥) هو أبو حاتم محمد بن حبّان التميمي البستي الحباني ، كان إماما فاضلا ، تصانيفه كثيرة مشهورة ، سافر كثيرا في طلب الحديث. توفي ببست سنة ٣٥٤ ه‍ (اللباب في تهذيب الأسماء : ١ / ٣٣٤).

(٦) ١٤ / الشورى : ٤٢ ، وغيرها.

(٧) ٣٣ / الأعراف : ٧.

٢٤٤

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)(١) أي وبال بغيكم راجع عليكم. وقوله : (إِذا هُمْ يَبْغُونَ)(٢) أي يفسدون. وقوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ)(٣) أي غير متعدّ ما حدّ له. وقال ابن عرفة : (غَيْرَ باغٍ) غير طالبها وهو عند غيرها. (وَلا عادٍ) أي غير متعد ما حدّ له. الأزهريّ : (غَيْرَ باغٍ) أي غير ظالم بتحليل ما حرّم الله تعالى ، (وَلا عادٍ) أي غير متجاوز للقصد. مؤرّج السّدوسيّ (٤) : أي لا يبتغي فيأكله غير مضطر إليه ولا عاد أي لا يعدو شبعه. وقيل : غير باغ أي غير خارج على الإمام ، ولا عاد أي بقطع طريق ونحوه ، أي فهذا لا يرخّص له في ذلك.

وقال الحسن : غير متناول للذة ، ولا متجاوز سدّ الجوعة. وقال مجاهد / : غير باغ على إمام ولا عاد في المعصية (٥) طريق الحقّ. وقيل : (غَيْرَ باغٍ) أي غير طالب ما ليس له طلبه ، ولا متجاوز لما (٦) رسم له.

وقولهم : بغى بمعنى تكبّر ، راجع إلى ما قدّمته ، فإنه تجاوز منزلته إلى ما ليس له تجاوزه. وقد فرّقوا بين بغيتك وأبغيتك ، فقالوا : بغيتك أي بغيته لك ، ومنه قوله تعالى : (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)(٧). وأبغيتك : أعنتك على البغاء ، أي على طلبه.

وابتغى : مطاوع بغى ، فإذا قيل : ينبغي أن يكون هكذا فهو باعتبارين ، أحدهما ما يكون مسخّرا (٨) للفعل نحو : النار ينبغي أن تحرق الثوب. والثاني بمعنى الإستئهال نحو : فلان ينبغي أن يعطى لكرمه (٩) ، وعلى المعنيين جاء قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما

__________________

(١) ٢٣ / يونس : ١٠.

(٢) تابع الآية السابقة.

(٣) ١٧٣ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٤) في الأصل : المؤرج الدوسي ، والصواب ما ذكرنا فوق. وهو من علماء العربية والأنساب من بني سدوس بن شيبان ومن أعيان أصحاب الخليل الفراهيدي. كان مقربا من المأمون ورافقه إلى خراسان ، وله عدة مؤلفات وشعر. ولد بالبصرة ومات فيها سنة ١٩٥ ه‍.

(٥) في الأصل : معصية ، ولعلها كما ذكرنا.

(٦) في الأصل : غير ما ، ولعلها كما ذكرنا.

(٧) ٤٧ / التوبة : ٩.

(٨) في الأصل : مستنجزا ، ولعلها كما ذكرنا.

(٩) في الأصل الكرامة ، والتصويب من المفردات : ٥٦.

٢٤٥

يَنْبَغِي لَهُ)(١) أي لا يتسخّر ولا يتسهّل له. قال الراغب : ألا ترى أن لسانه لم يكن يجري به؟ (٢). قلت : ولذلك كان إذا تمثّل بشيء من الشعر أتى به على غير نظمه. كما يحكى أنه تمثّل بقول طرفة فقال (٣) :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار

فلقّنه أبو بكر : ويأتيك بالأخبار من لم تزود. فلم يقله. وقد نقل أنه تكلّم بشيء على سبيل الإتّفاق ، وقد أتقنّا هذه المسألة. وخلاف الناس في أنه هل كان مصروفا عن ذلك بطبعه ، أو كان في قدرته ولكن لم يقله في كتابنا «التفسير الكبير».

وابتغى : افتعل من البغي. وقد غلب اختصاصها للإجتهاد في الطلب ؛ فإن كان ذلك المطلوب محمودا فابتغاؤه كذلك وكذا عكسه. فقوله : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها)(٤) محمود. وقوله : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ)(٥) مذموم. وقولهم : ما أنبغي لك ، وما أبتغي لك كذا ، أي ما يصلح ولا يتسهّل.

وقوله عليه‌السلام : «لا يتبيّغ بأحدكم الدم فيقتله» (٦). قال الكسائيّ : هو من البغي. فقلت : ومعناه هيجان الدم. ويجمع باغ على بغاة وهو قياسه ، كعار وعراة ، ورام ورماة ، وعلى بغيان. وفي الحديث : «فانطلقوا بغيانا» (٧) ، وذلك نحو راع ورعيان ، والأول هو القياس. قال : [من الوافر]

وإلّا (٨) فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق

__________________

(١) ٦٩ / يس : ٣٦.

(٢) الضمير عائد على رسول الله (ص).

(٣) الديوان : ٥٧ ، وهو من الطويل.

(٤) ٢٨ / الإسراء : ١٧.

(٥) ٤٨ / التوبة : ٩.

(٦) الغريبين : ١ / ١٩٢.

(٧) في الأصل : بغيان ، النهاية : ١ / ١٤٣ ، والمعنى : ناشدين وطالبين.

(٨) في الأصل : إلا. والبيت وتصويبه من الديوان لبشر بن أبي خازم ، وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن : ١ / ٣١١.

٢٤٦

فصل الباء والقاف

ب ق ر :

(الْبَقَرَ)(١) : اسم جنس واحده بقرة ، فيطلق على الذّكر والأنثى ، فيقال : بقرة ذكر وبقرة أنثى ، لكن استغني عن ذلك بقولهم : ثور. وجمعه باقر كحامل في حمل. وقرىء : إن (٢) الباقر [كحامل](٣) وبقيرا كحليم. [وقيل :] بيقور ، اشتقّ من لفظه فعل لما يحدثه هو ، فقيل : بقر الأرض أي شقّها بحرثه إياها يبقرها بقرا. ثم قيل ذلك في كلّ شقّ متسع فقيل : بقرت بطن فلان أي شققته شقّا متّسعا.

وبقر فلان في الأرض : إذا اتّسع في سفره ، فقطع أرضا بعد أرض. وسمّي محمد (٤) بن عليّ رضي الله عنهما بالباقر لاتّساعه في دقائق العلم وشقّه بواطنها فضلا عن ظواهرها. وبيقر الرجل في المال وفي سيره : اتّسع فيهما. والبيقران : نبت يسرع شقّه الأرض بعروقه وبخروجه منها.

وفي حديث عثمان (٥) «إنها باقرة كداء البطن» أراد أنّها مفسدة للدين ، مفرّقة للناس. وشبّهها بداء البطن لأنّها لا تدري ما هاجها ، ولا كيف يتأتّى لها. وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد : «فبقر الأرض» (٦) أي فشقّها ببصره حتى رأى الماء. وهذا معنى قول شمر : نظر موضع الماء فرأى الماء تحت الأرض (٧).

ب ق ع :

(الْبُقْعَةِ)(٨) : الموضع الخاصّ. قال الليث : هي قطعة من الأرض على غير هيئة التى إلى

__________________

(١) ٧٠ / البقرة : ٢ (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا).

(٢) كما في الحاشية السابقة.

(٣) الإضافة والتي بعدها اقتضاها السياق.

(٤) في الأصل : علي بن علي ، وهو وهم. وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي ، الباقر رضي الله عنهم ، لأنه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتبقّر في العلم.

(٥) من حديث أبي موسى حين أقبلت الفتنة بعد مقتل عثمان ، والحديث مطوّل في النهاية : ١ / ١٤٤.

(٦) النهاية : ١ / ١٤٥.

(٧) يقال : إن بصر الهدهد يخترق الأرض ، فتغدو بالنسبة إليه كالزجاج ، فيرى الماء فيها. انظر حياة الحيوان ـ مادة هدهد.

(٨) ٣٠ / القصص : ٢٨.

٢٤٧

جنبها. ولذلك يقال فيمن فيه سواد وبياض : أبقع ، وهو جنس منه. ولذلك قال الفقهاء : الغراب الأبقع (١). ومن ذلك الحديث : «يوشك أن يستعمل عليكم بقعان الشام» (٢) قيل : سبايا الروم ومماليكهم. قيل ذلك لاختلاط ألوانهم بياض وصفرة. وغلّط القتيبيّ (٣) هذا وقال : إنّ العرب تنكح نساء الروم فينسلون ، فتملك أولادهم وهم البقعان لأنّ فيهم من سواد العرب وبياض الروم.

ورجل باقعة : إذا كان ذا هيبة (٤). وأصله أنه اسم لطائر في غاية الحذر ، إذا شرب نظر يمنة ويسرة. وفي حديث القبائل أن عليا قال لأبي بكر : «لقد عثرت من الأئمة على باقعة» (٥) وفي حديث آخر : «ففاتحته فإذا هو باقعة» (٦). ثم استعملت البقعة في مطلق المكان وإن لم يكن فيه مخالفة لما إلى جنبه. وفيها لغتان : بقعة وبقعة بالضمّ والفتح ، فمن ضمّها جمع على بقع كغرف ، ومن فتحها جمعها على بقاع كجفان.

ب ق ل :

قال تعالى : (مِنْ بَقْلِها)(٧). والبقل : ما لا ينبت أصله وفرعه في الشتاء. وقيل : البقل ما لا ساق له ، خلاف الشجر. واستعير منه بقل : أعشب. قال (٨) : [من الوافر].

فلا ديمة (٩) ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

__________________

(١) وتمام الحديث : «أنه أمر بقتل خمس من الدوابّ ، وعدّ منها الغراب الأبقع» (النهاية : ١ / ١٤٥). وغراب أبقع : فيه سواد وبياض (اللسان ـ مادة بقع).

(٢) النهاية : ١ / ١٤٦.

(٣) في الأصل : العتبي ، وهو وهم. وكلام القتيبي بالتفصيل مذكور في اللسان ـ مادة بقع.

(٤) وفي اللسان : الداهية ، وهو أقوم. والهاء في آخره صفة للمبالغة.

(٥) يذكر ابن الأثير (النهاية : ١ / ١٤٦ وكذا اللسان) أن الحديث قاله النبي (ص) لأبي بكر ، وليس عليا ، ويروي الحديث هكذا : «لقد عثرت من الأعرابي ...» بينما يؤيده الهروي في الغريبين : ١ / ١٩٦.

(٦) النهاية : ١ / ١٤٦ ، والمعنى : أنه ذكي عارف لا يفوته شيء. ويقول الهروي فيه : قال أبو عمرو (الشيباني) : الباقعة : طائر حذر ، إذا شرب الماء نظر يمنة ويسرة.

(٧) ٦١ / البقرة : ٢.

(٨) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (١ / ١٢٧) وابن منظور في اللسان (مادة بقل) وهو لعامر بن جوين الطائي.

(٩) وفي المصدرين السابقين : فلا مزنة.

٢٤٨

ويقال : بقل وبقول وهي الخضروات. قال (١) : [من الرجز]

جارية (٢) لم تأكل المرفّقا

ولم تذق من البقول الفستقا

قيل : من بمعنى بدل ، أي بدل البقول. وقيل : البيت مصحّف ، وإنما هي النقول بالنون جمع نقل ، وأظنّ هذا هو التصحيف. وقيل إنّ الشاعر غلط فزعم أنّ الفستق من جملة البقول.

ب ق ي :

البقاء : الدوام. والبقاء المطلق لا يقال إلا للباري تعالى ، قال تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ)(٣). والبقاء : عدم الفناء. وقيل : البقاء ثبات الشيء على الحالة الأولى وقسم الراغب (٤) الباقي إلى باق بنفسه لا إلى مدّة وهو الباري تعالى ، ولا يصحّ عليه الفناء. وإلى باق بالله تعالى وهو ضربان : باق بشخصه إلى أن يفنيه الله كبقاء الأجرام السماويّة. وباق بنوعه وجنسه دون شخصه وجرمه كالإنسان والحيوان. وكذا في الآخرة باق بنوعه وشخصه كأهل الجنة ، فإنهم يبقون على التأبيد لا إلى مدة. وباق بنوعه وجنسه كما روي عنه عليه (٥) الصلاة والسّلام : «إنّ ثمار الجنة يقطفها أهلها فيأكلونها ثم تخلف (٦) مكانها مثلها». قال (٧) : ولكون (٨) ما في الآخرة دائما قال [تعالى](٩) : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى)(١٠).

قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ)(١١) أي ما يبقى ثوابه من الأعمال ، وفسّرت بسبحان

__________________

(١) البيت لأبي نخيلة ذكره الجواليقي في المعرب : ٢٣٨ ، وابن السكيت في معاني الشعر.

(٢) ورواية حاشية المعرب : برّية.

(٣) ٢٧ / الرحمن : ٥٥.

(٤) المفردات : ٥٧.

(٥) ساقطة من ح.

(٦) في ح : يخلفه ، وفي س : يخلفها ، والتصويب من المفردات.

(٧) أي الراغب.

(٨) وفي الأصل : ويكون.

(٩) إضافة المحقق.

(١٠) ٦٠ / القصص : ٢٨.

(١١) ٤٦ / الكهف : ١٨.

٢٤٩

الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وبالصلوات الخمس. وقيل : الصحيح أنها كلّ عبادة يقصد بها وجه الله وطاعته ، ولذلك قال : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ)(١) فأضافها لنفسه الكريمة. وقيل : معنى (بَقِيَّتُ اللهِ) ما أبقي من الحلال خير لكم. وقال مجاهد : طاعة الله خير لكم. وقال الهرويّ : يجوز أن يكون الحال التي يبقى معها الخير خير لكم.

قوله : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)(٢) يجوز أن يكون التقدير : من طائفة باقية أو من فعلة باقية ، وقيل : بمعنى بقيّة ، وقيل : هي مصدر ، والمصادر قد جاءت على فاعلة نحو العاقبة ، وعلى مفعول نحو الميسور ، والأول أصحّ التّقادير لظهور معناه.

قوله : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) / (٣) ، قال ابن عرفة : أي أولو تمييز وأولو طاعة. يقال : إنه لذو بقية أي فيه خير والمعنى : هلّا كان من أهل الخير من ينهى عن الفساد؟ (٤). قال : قال الأزهريّ : البقيّة اسم من الإبقاء ، كأنه قيل : هلّا كان أولو إبقاء على أنفسهم لتمسّكهم بالدين المرضيّ؟ وقال ابن عرفة : «أولو بقية» أي فضل مما يمدح به. وقال القتيبيّ : قولهم : لهم بقية أي مسكة ، وفيهم خير.

وقوله : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى)(٥) يعني رضاض الألواح (٦) التي ذكرها الله تعالى في قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ)(٧) وكانوا قد جعلوها في هذا التابوت في قصة طويلة (٨). ويقال : بقيت زيدا : انتظرته ، أبقيه بقيا (٩). وفي الحديث : «بقينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١٠) أي انتظرناه ، وترصّدنا له مدة كبيرة. فمعنى البقاء فيه موجود.

__________________

(١) ٨٦ / هود : ١١.

(٢) ٨ / الحاقة : ٦٩.

(٣) ١١٦ / هود : ١١.

(٤) والكلام مذكور في الغريبين : ١ / ١٩٨.

(٥) ٢٤٨ / البقرة : ٢.

(٦) رضاض الشيء : فتاته (اللسان ـ رضض) يقال إن الألواح تكسرت حين عاد ورأى قومه يعبدون العجل. وجاء في الغريبين : ١ / ١٩٩ : فضاض ومعناه : ما تفرّق من الشيء عند الكسر.

(٧) ١٤٥ / الأعراف : ٧.

(٨) انظرها في كتابنا «معجم أعلام القرآن» مادة ـ موسى ومادة هارون.

(٩) يقول في الأخيرة ابن منظور : لغة بلحرث بن كعب.

(١٠) النهاية : ١ / ١٤٧.

٢٥٠

فصل الباء والكاف

ب ك ر :

قال تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(١).

البكرة : هي أصل كلّ ما يتصرّف منها كما سيتّضح. والبكرة : هي أول النهار لمقابلتها بالعشيّ وهي آخره ، وقد اشتقّ منها لفظ الفعل ، فقيل : بكر فلان في حاجته أي خرج بكرة. والبكور : الخروج بكرة. والبكور بالفتح : المبالغ في البكور ، ولتقدّمها على سائر أوقات النهار استعمل منها كلّ متعجّل وإن لم يكن في ذلك الوقت ، فقيل : بكر فلان في حاجته ، وابتكر وباكر مباكرة. ومن ذلك الحديث : (٢) «من بكّر وابتكر» قيل : بادر بالصلاة أول وقتها ، وهذا عامّ في سائر الصلوات. وأصرح منه : «لا تزال أمّتي على سنّتي ما بكّروا بصلاة المغرب» (٣) أي صلّوها عند سقوط القرص. ومعنى «وابتكر» أي : أدرك أول الخطبة.

وقال ابن الأنباريّ : الذي يذهب إليه في تكرير هاتين اللفظتين إرادة المبالغة ، وذلك أنّ العرب إذا قصدت المبالغة اشتقّت من اللفظ لفظة أخرى على غير بنائها ، وأتبعوها لها في الإعراب : فيقولون : شعر شاعر ، وليل لائل. وأنشد (٤) : [من الرجز]

حطّامة الصّلب حطوما محطما

قال : فالحطوم والمحطم بمعنى الأول.

وفي الحديث أيضا : «بكّروا بالصلاة في يوم [الغيم](٥) فإنه من ترك العصر حبط عمله» أي قدّموها في أول وقتها.

__________________

(١) ٦٢ / مريم : ١٩.

(٢) النهاية : ١ / ١٤٨ ، وهو من حديث الجمعة.

(٣) النهاية : ١ / ١٤٨.

(٤) من شواهد الهروي في الغريبين : ١ / ٢٠١.

(٥) فراغ في الأصل ، والإضافة من النهاية : ١ / ١٤٨ ، والحديث مذكور في اللسان ـ بكر.

٢٥١

ومن ذلك باكورة الفاكهة لما سبق منها. وابتكر الرجل : أكل الباكورة. وابتكر الجارية : أخذ بكارتها أي عذرتها. ومنه البكر لأول ولد ، ولمن ولد له أولا من الأب والأمّ. يقال في الكلّ بكر. قال الشاعر : [من الرجز]

يا بكر بكرين ، ويا خلب الكبد (١)

لأنت شيء كذراع من عضد (٢)

والبكر : التي لم تفتضّ. وقوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ)(٣). فالفارض : المسنّة ، والبكر : الفتيّة ، والعوان : (٤) النّصف ، وهي كما قال تعالى بين ذلك. قال الشاعر (٥) : [من البسيط]

لا تنكحنّ عجوزا إن أتوك بها

واخلع ثيابك عنها معلنا هربا (٦)

وإن أتوك وقالوا : إنّها نصف

فإنّ أطيب نصفيها الذي ذهبا

قال الهرويّ : البكر : التي لم تنتج ، يقال : حاجة بكر : التي لم يكن قبلها مثلها ، وسحابة بكر أي لم تمطر قطّ ماء (٧). وسمّيت البكر بكرا لمقابلتها بالثيّب لتقدّمها عليها فيما يراد له النساء وجمعها أبكار ، قال تعالى : (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً)(٨). والبكرة على البير من ذلك ، لتصوّر أول السرعة فيها.

قوله : (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٩). الإبكار مصدر أبكر يبكر. ويقال : أبكر يبكر

__________________

(١) جاء في هامش ح : النكد ، وهو غير سليم.

(٢) الصدر مذكور في المفردات : ٥٨ ، والبيت من شواهد اللسان ـ مادة بكر ، لكن صدره.

أصبحت مني كذراع من عضد

(٣) ٦٨ / البقرة : ٢ ، والحديث عن البقرة.

(٤) العوان : ما كان في منتصف السن من كلّ شيء.

(٥) البيت الثاني رواه ابن الأعرابي كما في التاج ـ مادة نصف.

(٦) جاء في هامش ح : ويروى :

والبس نعالك عنها طالبا هربا

كما تذكر النسخة س هذا الشطر في الهامش ثم تقول : الأول أبلغ.

(٧) يعكس ابن منظور المعنى فيقول : «سحابة بكر : غزيرة بمنزلة البكر من النساء. قال ثعلب : لأن دمها أكثر من دم الثيّب.

(٨) ٣٦ / الواقعة : ٥٦.

(٩) ٤١ / آل عمران : ٣.

٢٥٢

إبكارا ، وبكّر يبكّر تبكيرا فهو مبكّر. وابتكر يبتكر ابتكارا فهو مبتكر. وبكر يبكر بكورا فهو باكر ، كلّه بمعنى واحد. وإن كان قد يقع في بعضها فرق ، وذلك غير خفي.

ب ك ك :

قال تعالى : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً)(١).

بكة : قيل مكة والعرب تعاقب بين الباء والميم ، قالوا : ضربة لازم ولازب (٢) ، وسبّد رأسه وسمّده (٣) ، وهو قول مجاهد في آخرين ، وقيل : بل هما ممّا يترادفان كبرّ وحنطة. وإنّما سميت مكة بكّة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة إذا قصدوا منها إلحادا ، وقيل : لازدحام الناس فيها ، وفي الحديث : «فتباكّ الناس عليه» (٤) أي ازدحموا.

وقيل : مكة اسم للبلد ، وبكة اسم لبطنها ، وهو جميع المسجد ، وقيل : بل اسم لموضع الطّواف لأنّ الناس يتباكّون فيه أي يزدحمون ، وقيل : بل اسم للبيت خاصّة ، لأنّه يبكّ من قصده بسوء ، ولأنّ الناس يتباكّون حوله (٥).

ب ك م :

قال تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ)(٦).

البكم : الخرس ، والأبكم : الأخرس ، وقيل : هو الذي يولد أخرس ، فكلّ أبكم أخرس من غير عكس. وقد بكم عن الكلام لضعفه عنه لضعف عقله ، فصار كالأبكم. والبكم جمع الأبكم نحو حمر في أحمر ، المراد بكما ، ووصفوا هنا بالبكم وإن كانوا فصحاء لأنّهم لمّا لم يتكلموا بما يجدي عليهم نفعا ، جعلوا بكما كما جعلوا صمّا ، وإن كانوا سامعين لما لم يسمعوا ، وعميا وإن كانوا بصراء ، لأنهم لا بصائر لهم ، وهذا من أحسن تشبيهات القرآن وأبلغها.

__________________

(١) ٩٦ / آل عمران : ٣.

(٢) ضربة لازب : أي لازم شديد (اللسان ـ لزب).

(٣) سبّد رأسه وسمّده : إذا نبت بعد الحلق حتى يظهر. ويقول أبو عبيد : إذا استأصله.

(٤) النهاية : ١ / ١٥٠.

(٥) وانظر معجم البلدان مادة : مكة وبكة.

(٦) ١٨ / البقرة : ٢.

٢٥٣

ب ك ي :

البكاء والبكى بالمدّ والقصر مصدر بكى إذا صرخ من حزن لمصابه. وقد يوجد مع الفرح ، وإليه أشار من قال : [من الكامل]

هجم السّرور عليّ حتى إنّني

من عظم ما قد سرّني أبكاني

يا عين قد صار البكى لك عادة

تبكين في فرح وفي أحزان

والمعروف أنّ المصدرين بمعنى ، وأن المدّ والقصر لغتان. وقد جمع بينهما من قال (١) : [من الوافر]

بكت عيني وحقّ لها بكاها

وما يغني البكاء ولا العويل

وفرّق الراغب (٢) بينهما فقال : البكاء بالمدّ : سيلان الدمع من حزن وعويل ، يقول : إذا كان الصوت أغلب كالرّغاء وسائر الأبنية الموضوعة للصّوت. وبالقصر إذا كان الحزن أغلب. وبكى : يقال في الحزن وإسالة الدمع معا ، ويقال في كلّ واحد منهما منفردا (٣) عن الآخر.

وقوله : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً)(٤) إشارة إلى الفرح والتّرح ، وإن لم يكن مع الضحك قهقهة ولا مع البكاء إسالة دمع. وأنشدوا في المعنى : [من الطويل]

مسرّة أحقاب تلقّيت بعدها

مساءة يوم أريها يشبه الصاب

فكيف بأن تلقى مسرّة ساعة

وراء تقصّيها مساءة أحقاب

وقوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ)(٥) قيل : إنّ ذلك حقيقة عند من يجعل لهما حياة وعلما. وفي الحديث : «إنّ الرجل الصالح يرفع عمله وله ريح طيب يدخل

__________________

(١) البيت من مطلع لقطعة مذكورة في ديوان حسان : ١ / ٥٠٤ ، وفي الحماسة البصرية جزء منها ، وكلها مذكورة في السيرة النبوية : ٢ / ١٦٢. وفي اللسان أنها منسوبة إلى عبد الله بن رواحة ، أو لكعب بن مالك.

(٢) المفردات : ٥٨.

(٣) في الأصل : مفردا ، ولعلها كما ذكرنا.

(٤) ٨٢ / التوبة : ٩.

(٥) ٢٩ / الدخان : ٤٤.

٢٥٤

من أيّ باب شاء من أبواب السماء. فإذا مات انقطع عمله ذلك فتبكي عليه السماء لفقدان ذلك العمل ، وكذلك الأرض لفقدانه من فوقها» وقيل : بل ذلك على مجاز الحذف أي أهلهما (١) وهم الثّقلان من الناس والملائكة. وقيل : بل جاء ذلك على ما كانوا يتعارفونه ، من قولهم في الرجل العظيم إذا مات : بكت عليه السماء والأرض ، وكسفت لموته الشمس. وكذلك بكت عليه الجبال. قال (٢) : [من الكامل]

لما أتى خبر الزّبير تواضعت (٣)

سور المدينة والجبال الخشّع

وقال (٤) : [من البسيط]

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا /

فصل الباء واللام

ب ل :

بل : حرف إضراب ، وهو نوعان ، إضراب إبطال نحو : ما قام زيد بل عمرو. وهي حينئذ عاطفة ، ولا يعطف بها إلا المفردات ، ويزاد لا قبلها تأكيدا في النفي نحو : ما قام زيد لا بل عمرو. وفي الإيجاب والأمر نفي ، نحو : قام زيد لا بل عمرو. واضرب زيدا لا بل عمرا ولا يعطف بها في الإستفهام. وضرب انتقال. ولم ترد في القرآن إلا كذلك ، ولا يقع بعدها إلا الجمل ، وليست عاطفة حينئذ. ولها أحكام استوفيناها في كتب النحو والإعراب.

وبعضهم يعبّر عنها بأنّها حرف استدراك وإيجاب بعد النفي كالهرويّ. وقال الراغب : بل للتّدارك ، وهو ضربان : ضرب يناقض ما قبله ، وربما يقصد [به](٥) تصحيح الذي قبله

__________________

(١) وفي س : أهلها ، أي أهل السماء وأهل الأرض.

(٢) البيت من قصيدة طويلة لجرير في هجاء الفرزدق (الديوان : ٣٤٥).

(٣) وفي رواية الفراء (معاني القرآن : ٢ / ٣٧) : تهدّمت.

(٤) البيت لجرير في رثاء عمر بن عبد العزيز. والبيت هنا على رواية الأخفش (معاني القرآن : ٢ / ٥٢٢) ، وروايته في الديوان مختلفة الصدر (٣٠٤) :

فالشمس كاسفة ليست بطالعة

(٥) إضافة المحقق.

٢٥٥

وإثبات الثاني كقوله تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(١) أي ليس الأمر كما زعموا بل جهلوا ، فنبّه بقوله : (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) على جهلهم. وعلى هذا قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)(٢).

ومما قصد به تصحيح الأول وإبطال الثاني (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) إلى قوله : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)(٣) أي ليس إعطاؤهم من الكرم ولا منعهم من الإهانة ، لكن جهلوا لوضع المال في غير موضعه. وعلى ذلك قوله : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ)(٤) فإنه دلّ بقوله : (وَالْقُرْآنِ) أنّ القرآن معدّ للتذكّر ، وأن ليس امتناع [الكفّار](٥) من الإصغاء إليه أن ليس موضعا للذّكر بل لتعزّزهم ومشاقّتهم (٦). وعلى هذا قوله : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا)(٧) أي ليس امتناعهم من الإيمان بالقرآن ألّا مجد في القرآن ولكن لجهلهم ، ونبّه بقوله : (بَلْ عَجِبُوا) على جهلهم ، لأنّ التعجّب من الشيء يقتضي الجهل بسببه.

وعلى هذا قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) إلى قوله (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)(٨) كأنّه قيل ليس هاهنا ما يقتضي أن يغرّهم به (٩) ، ولكن يكذّبهم ، وهو الذي حملهم على ما ارتكبوه.

والضرب الثاني من بل هو أن يكون مبيّنا للحكم الأول وزائدا عليه ما بعد بل ، نحو قوله تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ)(١٠) فإنّه نبّه أنهم يقولون أضغاث أحلام بل افتراه ، يزيدون على ذلك بأنّ الذي أتى به مفترى افتراه. بل يزيدون

__________________

(١) ١٣ و ١٤ / المطففين : ٨٣.

(٢) ٦٣ / الأنبياء : ٢١.

(٣) ١٥ ـ ١٧ / الفجر : ٨٩.

(٤) ١ و ٢ / ص : ٣٨.

(٥) في الأصل : القرآن ، وهو وهم.

(٦) في الأصل : ومشاقّهم ، ولعله كما ذكرنا.

(٧) ١ و ٢ / ق : ٥٠.

(٨) ٦ ـ ٩ / الانفطار : ٨٢.

(٩) أي الله تعالى.

(١٠) ٥ / الأنبياء : ٢١.

٢٥٦

يدعون أنه كذاب ، فإنّ الشاعر في القرآن عبارة عن الكذاب بالطّبع. وعلى ذلك قوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) إلى قوله : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً)(١).

وجميع ما في القرآن من لفظ بل لا يخرج عن أحد هذين الوجهين ، وإن دقّ الكلام في بعضه.

قلت : ما ذكره (٢) من هذه الآيات الكريمة حسن ، غير أنّ النحاة نصّوا على أنها إذا كانت بعدها جملة كانت لمجرّد الإضراب عمّا قبلها ، والأخذ في الحديث الذي بعدها ثم إنّ هذا الإضراب إن كان في غير كلام الله تعالى جاز أن يكون إضراب إبطال ، وأن يكون إضراب ترك من غير إبطال ، بل الإنتقال من حديث إلى آخر. وإن كان في كلام الله تعالى كان انتقالا لا إبطالا. وقد قال بعضهم : إنّ قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُ)(٣) إنّه يجوز أن يكون للإضراب الإبطال بالنسبة إلى قولهم (افْتَراهُ) ، كأنّه قيل : لم يفتره بل هو الحقّ. وأنت قد عرفت العبارتين ، فقابل بينهما تجد عبارته خارجة عن نصوصهم.

ب ل د :

قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ)(٤) ، يعني بها مكة شرّفها الله تعالى. والمعنى : لا أقسم بها (وَأَنْتَ حِلٌ) بها ، أي لا يعظّمونك حقّ تعظيمك ، ولا يحترمونك حقّ حرمتك ، فأنت كالحلال. وذلك تعظيم له من ربّه عزوجل وقيل : معناه وعده (٥) بفتحها عليه. وقد أتقنّا هذا في غير هذا الموضوع.

وقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً)(٦) يعني مكة. وقال في موضع آخر : (هذا

__________________

(١) ٣٩ و ٤٠ / الأنبياء : ٢١.

(٢) لعله يقصد الراغب ؛ فقد استخدم بعض هذه الآيات (ص ٥٩).

(٣) ٣ / السجدة : ٣٢.

(٤) ١ / البلد : ٩٠.

(٥) وفي س : وعد.

(٦) ١٢٦ / البقرة : ٢.

٢٥٧

الْبَلَدِ الْأَمِينِ)(١) ، فأتى بمكة معرّفا ومنكرّا ، فقيل : إنه في حال التنكير لم يكن بلدا بل كان برّيّة ، فقال : (اجْعَلْ) في هذا المكان القفر بلدا من بلدان الناس يسكنونه لعمارة حرمك وزيارة نبيّك. وفي حال التعريف كان قد صار بلدا وسكنى ، فأتى به معرّفا. وقيل : لأنّه عليه الصلاة والسّلام علم أن يكون به سكن الناس فأتى به كالشاهد.

وسمي البلد بلدا لتأثّره بسكانه واجتماع قطّانه وإقامتهم فيه. والبلد هو المكان المحدود ، وغالبا يكون مسوّرا وقد لا يكون.

وقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ)(٢) المراد به الأرض من غير نظر إلى تدبّر أحد فيها. وقيل : كني بذلك عن الأنفس الزكية ، وبعكسه عن الأنفس الخبيثة. ولاعتبار الأثر في البلد قيل : في جلده بلد أي أثر. ويجمع على أبلاد. قال الشاعر (٣) : [من البسيط]

وفي النّجوم (٤) كلوم ذات أبلاد

فرقا بينه وبين المكان ، فإنّ جمعه بلاد ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ)(٥) وبلدان.

وأبلد الرجل : صار ذا بلد كأنجد وأتهم. وبلد بالكسر : لزم البلاد. ولما كان الملازم لوطنه كثيرا ما يتحيّر إذا حصل في غير موطنه ، قيل : بلد فلان أي تحيّر في أمره ، وأبلد وتبلّد بمعناه قال الشاعر : [من الطويل]

ولا بدّ (٦) للمحزون أن يتبلّدا

والأبلد : العظيم الخلق ، وذلك أنّ وجود البلادة يكثر في من كان جلف البدن ، قاله الراغب (٧)

__________________

(١) ٣ / التين : ٩٥.

(٢) ٥٨ / الأعراف : ٧.

(٣) البيت للقطامي (اللسان ـ بلد).

(٤) ويروى : وفي النحور ، كما في اللسان.

(٥) ١١ / الفجر : ٨٩.

(٦) في الأصل : ولا بدع ، والعجز من شواهد الراغب : ٥٩.

(٧) المفردات : ٦٠.

٢٥٨

ب ل س :

قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ)(١) ، (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)(٢).

الإبلاس : الحزن المعترض من شدّة البأس. قال بعضهم : وإبليس مشتقّ منه ، وهو عند أهل الصناعة لا يصحّ لأنّه أعجميّ ، وأيضا موضع اشتقاقه لا ينصرف وقيل : الإبلاس التحيّر واليأس. ومنه إبليس أيضا ، وقد تقدّم.

وقال الأزهريّ : هو السكوت والتحسّر والندم على ما فرط. وفسّر قوله : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) ساكتون متحسّرون نادمون على ما فرط منهم. وقيل : هو الانقطاع في الحجة والسكوت عن الجواب. وكلّ من انقطع عن حجّته وسكت فقد أبلس. أنشد الهرويّ للعجّاج (٣) : [من الرجز]

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا؟

قال : نعم أعرفه ، وأبلسا (٤)

وهذا الذي قاله راجع إلى ما قدّمناه ، فإنه لما كان المبلس كثيرا ما يسكت وينسى ما يعنيه ، لما به من شغل القلب بالحزن الفادح ، قيل : أبلس : إذا سكت وانقطعت حجّته. وناقة مبلاس أي ساهية تاركة المرعى من شدّة [الضّعة](٥).

والبلاس : الذي هو المسح ، أعجميّ معرّب ، قاله الراغب. وفي الحديث : «من أحبّ أن يرقّ قلبه فليدم (٦) أكل البلس» ، قال أبو منصور : هو التين. وفي حديث عطاء : البلس : هو العدس (٧).

__________________

(١) ٤٤ / الأنعام : ٦.

(٢) ١٢ / الروم : ٣٠.

(٣) ديوان العجاج : ١ / ١٨٥. والمكرس : الذي تبلّد من آثار الأبوال والأبعار. أبلس : سكت.

(٤) أي لم يحر كلاما.

(٥) فراغ في الأصل : والإضافة من المفردات : ٦٠.

(٦) في الأصل : فليدمن ، والتصويب من النهاية : ١ / ١٥٢. ويؤيد الأصل كتاب الغريبين : ١ / ٢٠٥.

(٧) وقال ابن الأثير مضيفا : «وقيل : هو شيء باليمن يشبه التين». ويروى «البلسن».

٢٥٩

ب ل ع :

قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ)(١) أي [بلعت الشيء وابتلعته](٢) ، فكنّى عن ذلك ببلعها إياه تصويرا أنها تأخذ ما يفجّر منها وما نزل من المظلّة ، وجعله ماءها لحصول الكلّ فيها.

والبلع : (٣) تغييب الشيء في الجوف. ثم يطلق على كلّ تغييب على سبيل التّشبيه. يقال : بلعت الشيء أبلعه بلعا ، ومنه البالوعة (٤). وسعد بلع (٥) : لمنزلة من منازل النجوم. وبلّع الشيب في رأسه : أول ما يظهر.

ب ل غ :

قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ)(٦) أي هذا القرآن بيان كاف للناس. وأصل البلاغ : الكفاية. ومنه قوله تعالى : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ)(٧).

والبلاغة في الكلام من ذلك ، لأنّها بيان كاف. وقيل : البلاغ هو الإنتهاء إلى أقصى الأمر ، والمنتهي مكانا أو زمانا أو أمرا من الأمور المقدّرة. وقد يعبّر به عن المشارفة عليه وإن لم ينته إليه /. فمن الإنتهاء قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)(٨). ومن المشارفة قوله : (أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ)(٩) أي منتهية في التوكيد.

والبلاغ يكون بمعنى الإبلاغ وبمعنى التّبليغ كقوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ

__________________

(١) ٤٤ / هود : ١١.

(٢) فراغ في الأصل ، والإضافة من المفردات.

(٣) يقول النووي (تهذيب الأسماء : ٢ / ٣١) : بلعت الشيء بكسر اللام أبلعه بفتحها بلعا بسكونها.

(٤) ويقال : البلّوعة ؛ لغتان.

(٥) سعد بلع : هما نجمان متقاربان معترضان خفيّان.

(٦) ٥٢ / إبراهيم : ١٤.

(٧) ١٠٦ / الأنبياء : ٢١.

(٨) ١٥ / الأحقاف : ٤٦.

(٩) ٣٩ / القلم : ٦٨.

٢٦٠