عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٩

وتباشير الصّبح : أوله. وتباشير الوجه : ما يبدو من سروره. وتباشير النّخل : ما يبدو من رطبه.

وقوله تعالى : (يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ)(١) أي تبشّر بأحدوثة بشرى بين يدي رحمته. وقوله عليه‌السلام : «انقطع الوحي ولم يبق إلا المبشّرات ، الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له». وفي الحديث : «من أحبّ القرآن فليبشر» (٢) أي فليسرّ. قال الفراء : إذا ثقّل فمن البشرى ، وإذا خفّف فمن السرور. يقال : بشرته فبشر كجبرته فجبر. وقال ابن قتيبة : هو من بشرت الأديم ، إذا رقّقت وجهه. قال : ومعناه فليضمّر نفسه (٣) ، كما روي «إنّ وراءنا عقبة لا يقطعها إلا الضّمّر من الرجال» (٤). فعلى ما رواه ابن قتيبة بفتح الشين ، وعلى ما رواه هو بضمّها. وعلى الأول قول الشاعر (٥) : [من الكامل]

فأعنهم وابشر بما بشروا به

وإذا هم نزلوا بضنك فانزل (٦)

وسميّ ما يعطاه المبشّر بشرى وبشارة. واستبشر : حدّ ما يبشّره من الفرح. ومنه (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ)(٧).

والبشارة بالكسر : مصدر بشّرته ، وبالفتح اسم للتّحسين. ومنه قولهم : وجه حسن بيّن البشارة. والبشارة بالضمّ : ما يخرج من بشر الأديم ، وهي لغة في البشارة بالكسر أيضا.

__________________

(١) ٤٦ / الروم : ٣٠ ، ويعني : المبشرات بالغيث.

(٢) النهاية : ١ / ١٢٩.

(٣) أي فليضمر نفسه للقرآن. انظر الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير : ١ / ٣٧٥.

(٤) رواه الحاكم في المستدرك ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء ، مع اختلاف برواية بعض الكلمات ، والاختلاف كذلك في الترغيب : ٣٠ / ٤.

(٥) البيت ـ كما في اللسان ـ لعبد القيس بن خفاف البرجمي ، قاله ابن برّي. وأنشده الكسائي في معاني القرآن : ١ / ٢١٢ ، وهو من شواهد الراغب : ٤٩ ، وفيه الفعل «بشروا» مبنى للمجهول.

(٦) وفي الأصل :

وإذا هم تركوا نصيبك فاترك

وهذا وهم من الناسخ ، لأن البيت من قطعة لامية مشهورة ، ذكر الفراء وابن منظور منها بيتين. (٧) ١٧١ / آل عمران : ٣.

٢٢١

والمباشرة : الإفضاء بالبشرتين ، وكنّي به عن الجماع كقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ)(١). وقوله : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)(٢) قيل : هي [في](٣) الدنيا الرؤيا الصالحة ، وفي الآخرة الجنة. ويؤيده الحديث المتقدّم : «ولم يبق إلا المبشّرات» الحديث.

فصل الباء والصاد

ب ص ر :

البصر : يطلق على الجارحة تارة وعلى القوة التي فيها أخرى. والبصيرة : للإدراك الذي في القلب ، ويقال لها بصر أيضا. فالبصر يطلق بإزاء هذه المعاني الثلاثة ، ولا يكاد يقال في الجارحة بصيرة ، ومن الجارحة أبصرت ومن البصيرة بصرته (٤) وبصرت به. قال تعالى : (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ)(٥) أي تفطّنت له. وقلّما يقال من البصر : بصرت. وقوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ)(٦) أي على معرفة وتحقّق. وقوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)(٧) أي عليه من جوارحه بصيرة تبصره وتشهد عليه يوم القيامة ، كقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ)(٨) ، وقال ابن عرفة : أي عليها شاهد لعملها. وقال الأزهريّ : بصيرة : عالمة بما جنى عليها.

وقوله : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(٩) أي علمك نافذ ، وليس من بصير العين. ومنه :

__________________

(١) ١٨٧ / البقرة : ٢.

(٢) ٦٤ / يونس : ١٠.

(٣) إضافة المحقق.

(٤) في الأصل : بصرت وفي المفردات : أبصرته.

(٥) ١١ / القصص : ٢٨.

(٦) ١٠٨ / يوسف : ١٢.

(٧) ١٤ / القيامة : ٧٥.

(٨) ٢٤ / النور : ٢٤.

(٩) ٢٢ / ق : ٥٠.

٢٢٢

«بصرت بما لم يبصروا به» (١) أي علمت بما لم يعلموا به ، بصر بصرا أي علم علما.

وقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)(٢) حمله أكثر المتكلّمين على الجارحة ، والأولى أن يجعل من رؤية القلب. ويدلّ عليه ما قال أمير المؤمنين : «التّوحيد أن لا تتوّهمه ، فكلّ ما أدركته فهو غيره».

وجمع البصر أبصار ، والبصيرة بصائر ، وقوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)(٣) ، قال ابن عرفة : أي أبصار قلوبهم. وقوله : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ)(٤) أي ما تبصرون وتعتبرون. وقوله : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)(٥) أي هذا القرآن حجج واضحة وبراهين بيّنة ، وأصلها من الظهور. ومنه البصائر لقطع الدم وطرائقه. والبصائر أيضا واحدتها بصيرة. قال الشاعر : [من الكامل]

راحوا بصائرهم على أكتافهم

وبصيرتي يعدو بها عتد [وأى](٦)

أي (٧) الباصرة : الجارحة الناظرة.

ورأيته لمحا باصرا (٨) أي نظرا بتحديق. وقوله : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً)(٩) أي مبصرا أهلها ، أو يبصر أهلها فيها ، كقوله : ليله نائم ونهاره صائم ، قصدا للمبالغة. ومثله : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)(١٠) أي آية واضحة.

__________________

(١) ٩٦ / طه : ٢٠.

(٢) ١٠٣ / الأنعام : ٦.

(٣) ٧ / البقرة : ٢.

(٤) ١٠٤ / الأنعام : ٦.

(٥) ٢٠٣ / الأعراف : ٧.

(٦) الكلمة إضافة من اللسان ، والبيت للأشعر الجعفيّ. والعتد : صفة للجواد التام الخلق السريع الوثبة (مادة ـ عتد).

(٧) يرجح أن (أي) غير لازمة ، أو أنها جزء من ختام البيت.

(٨) وهم الناسخان (للأصل) فنسخا هنا : ناظرا ، ولعل الصواب ما ذكرنا.

(٩) ١٢ / الإسراء : ١٧.

(١٠) ٥٩ / الإسراء : ١٧.

٢٢٣

وقيل : صار أهلها بصراء نحو أخبث وأضعف / فهو مخبث ومضعف أي صار أهله خبثاء وضعفاء.

وقوله : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)(١) أي طالبين للبصريّة (٢) ، أو بمعنى مبصرين استعارة للإستفعال موضع الإفعال ، نحو استجاب بمعنى أجاب ، كقوله (٣) : [من الطويل]

فلم يستجبه (٤) عند ذاك مجيب

وقوله : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى)(٥) أي تبصيرا وتبيينا. يقال : بصّرته تبصيرا وتبصرة كذكّرته تذكيرا وتذكرة.

وقوله : (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)(٦) أي انتظر فسوف ينتظرون ، والمعنى انتظر حتى ترى ويرون. وقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى)(٧) قيل : أراد البصيرة القلبية. ويقال للضرير بصير ، قيل : على العكس ، والأولى أنه قيل فيه ذلك من البصيرة. ولذلك لا يقال له : مبصر ولا باصر.

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ)(٨) أي عبرة لهم.

والبصرة : (٩) حجارة رخوة لمّاعة ، سميت بذلك توهّما أنها تبصر غيرها ، أو لإضاءتها [ف] هي مبصرة من بعد. ومنه البصيرة (١٠) لقطعة الدّم ، وللتّرس للّمعان الحاصل بهما.

__________________

(١) ٣٨ / العنكبوت : ٢٩.

(٢) وفي المفردات (٤٩) : للبصيرة.

(٣) العجز لسعد الغزنويّ ، وهو من شواهد الأخفش (معاني القرآن : ١ / ٢٠٨). والبيت في الأصمعيات ص ٩٦ ، وصدره :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

(٤) أي فلم يجبه.

(٥) ٨ / ق : ٥٠.

(٦) ١٧٩ / الصافات : ٣٧.

(٧) ١٧ / النجم : ٥٣.

(٨) ٤٣ / القصص : ٢٨.

(٩) في الأصل : البصيرة ، وهو وهم من الناسخ.

(١٠) في الأصل البصر ، وهو وهم من الناسخ.

٢٢٤

والبصيرة أيضا : ما بين شقّي الثوب ، والمراد لما يبصر منه. ثم يقال : بصرت الثوب أي خطت ذلك الموضع منه.

والبصر : الناحية. وفي الحديث : «فأمر به فبصّر رأسه» (١) أي قطع. وأنشد : [من الطويل]

فلمّا التقينا بصّر السيف رأسه

فأصبح منبوذا على ظهر صفصف (٢)

وفي حديث أمّ معبد : «فأرسلت إليه بشاة فرأى فيها بصرة من لبن» (٣) أي أثرا من لبن يبصره الناظر. وفي حديث : «بصر جلد الكافر (٤) أربعون ذراعا». وفي حديث عبد الله (٥) «بصر كلّ سماء خمس مئة عام» أي غلظها. وفيه : يقال لصلاة المغرب صلاة البصر لأنها تؤدّي قبل مجيء الظّلمة الحائلة لهذه (٦) ، وهذه للمعنى الذي ذكرته.

ب ص ل :

البصل معروف (٧) ، وهو اسم جنس واحده بصلة كنبق ونبقة. ويقال لبيضة الحديد بصلة تشبيها بالبصلة في الصورة. قال (٨).

__________________

(١) النهاية : ١ / ١٣١.

(٢) ذكره الزمخشري في أساس البلاغة ـ مادة بصر ، والهروي في الغريبين : ١ / ١٧٤.

(٣) النهاية : ١ / ١٣١.

(٤) وفي النهاية (١ / ١٣٢): «بصر جلد الكافر في النار ..».

(٥) الحديث لعبد الله بن مسعود (النهاية : ١ / ١٣٢).

(٦) كما يقال صلاة البصر لصلاة الفجر ، للمعنى نفسه ، أي لأنها تكون بين الإبصار والشخوص.

(٧) لم يذكر المؤلف الآية التي فيها ذكر البصل ، قال تعالى : (وَعَدَسِها وَبَصَلِها) (٦١ / البقرة : ٢).

(٨) ترك بعد (قال) فراغا ، أشار الراغب إلى القسم الأخير من البيت ، فنقلناه عن الديوان (ص ١٩١) وهو من شواهد اللسان ، ولعله الذي يريده :

فخمة ذفراء ترتى بالعرى

قردمانيّا وتركا كالبصل

والقردماني : الدروع ، فارسية. والبيت للبيد.

٢٢٥

فصل الباء والضاد

ب ض ع :

قوله تعالى : (بِبِضاعَةٍ)(١). البضاعة : ما اقتطع من المال للتجارة. والبضع : القطع ومنه : بضعه وبضّعه فابتضع وتبضّع ، نحو قطعته وقطّعته فانقطع.

والبضعة بالفتح : بعض الشيء. ومنه : «إنما فاطمة بضعة مني» (٢) والمبضع : ما يبضع به كالمنجل. وسمي الفرج بضعا لأنه قطعة من المرأة ، واشتقّ منه فقيل : باضعها أي باشرها. والبضعة أيضا عبارة عن الشيء.

والبضيع : الجزيرة في البحر المنقطعة عن البرّ. والبضع : ما اقتطع من العشرة ، فقيل : هو ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : ما بين الخمسة إلى العشرة. وقال الهرويّ : ما بين الثلاثة إلى التّسعة ، قال : والبضع والبضعة بمعنى ، قال تعالى : (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(٣) وقال : (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ)(٤).

والبضع مثلث ، فالبضع بالفتح : المقطع مصدر ، وبالكسر : العدد المبهم ، وبالضمّ : الفرج ، وقال الأزهريّ : البضع : الجماع ، وفي حديث عائشة : «وله حصّنني ربّي (٥) من كلّ بضع» أي من كلّ نكاح. أي تزوّجني بكرا.

والإستبضاع : نوع من نكاح أهل الجاهلية (٦). وفي الحديث : «أنّ عبد الله أبا النبيّ

__________________

(١) ٨٨ / يوسف : ١٢.

(٢) النهاية : ١ / ١٣٣.

(٣) ٤٢ / يوسف : ١٢.

(٤) ٣ و ٤ / الروم : ٣٠.

(٥) وهم الناسخ في ح فقال : وله حصن زين ، وفي س : خصّني زين. والتصويب من النهاية ١ / ١٣٣ ، والضمير «له» يعود على النبي (ص).

(٦) كان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته أو أمته : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه. ويعتزلها فلا يمسّها حتى يتبيّن حملها من ذلك الرجل. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد (اللسان ـ مادة بضع).

٢٢٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بامرأة فدعته أن يستبضع بها» (١). ولما تزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خديجة رضي الله عنها دخل عليها عمرو (٢) وقال : «هذا البضع لا يقرع أنفه» ، قال الهرويّ : يريد هذا الكفء (٣) ، وذلك أنّ الفحل الهجين إذا أراد أن يضرب كرام الإبل قرعوه على أنفه بعصا أو نحوها ليرتدّ عن الإبل فلا يقربها (٤). والباضعة من الشّجّة (٥) ما يبضع اللحم أي يشقّه.

فصل الباء والطاء

ب ط أ :

البطء : التأخّر في السّير. يقال : بطؤ وأبطأ وتباطأ واستبطأ وبطأ وبينها فروق ؛ فبطؤ أي تخصّص بذلك. وبطأ أي حمل غيره على البطء ، أو بالغ في بطئه هو ، وعليهما حمل قوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ)(٦). وأبطأ : صار ذا بطء ، أو حمل غيره على البطء. فالهمزة الأولى للصّيرورة كأنقل ، وفي الثانية للتّعدية كأخرج.

واستبطأ : طلب البطء ، وتباطأ : تكلّف ذلك ، نحو تجاهل وتغافل. وفي الحديث : «من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» (٧).

ب ط ر :

قال تعالى : (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها)(٨).

__________________

(١) النهاية : ١ / ١٣٣. وفي الغريبين : ١ / ١٧٨ : «.. يستبضع منها».

(٢) يعني عمرو بن أسد والضمير في (أنفه) عائد على النبي (ص) (النهاية : ١ / ١٣٣).

(٣) الذي لا يردّ نكاحه (النهاية).

(٤) والتعريف نفسه قاله ابن الأثير.

(٥) في الأصل : الشجاع ، وتصويبنا من المفردات : ٥٠.

(٦) ٧٢ / النساء : ٤.

(٧) وفي النهاية (١ / ١٣٤) : لم ينفعه.

(٨) ٥٨ / القصص : ٢٨. يقول الفراء : «أي كفرتها وفسرتها» (معاني القرآن : ٢ / ٣٠٨) يريد : بطرت في معيشتها.

٢٢٧

أصل البطر : سوء احتمال الغنى. وقال الكسائيّ : أصله من قولهم : ذهب دمه بطرا ، وبطرا أي باطلا. وقال الأصمعيّ : البطر : الحيرة ، ومعناه أن يتحيّر عند الحقّ فلا يراه حقّا.

الزجّاج : البطر أن يطغى ، أي يتكبّر عند الحقّ فلا يقبله. وقال الهرويّ : البطر : الطّغيان عند النّعمة. وفي الحديث : «لا ينظر الله يوم القيامة لمن جرّ إزاره بطرا» (١). ومنه : «الكبر بطر الحقّ وغمص الناس» (٢). معنى بطر الحقّ أن يجعل ما جعله [الله](٣) حقا من توحيده وعبادته باطلا.

وقال الراغب : (٤) البطر : دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النّعمة وعدم (٥) القيام بحقّها وصرفها عن وجهها. قال : ويقارب البطر الطّرب ، وهو خفّة أكثر ما يعتري الإنسان من الفرح ، وقد يقال ذلك في الترح (٦).

والبيطرة : فعل البيطار ، وهو فيعال من ذلك. والبيطرة : معالجة الدوابّ بما يشفيها من الداء.

وقوله تعالى : (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) فيها أقوال للنّحاة أحسنها أنّ نصبه على التنبيه بالظّرف أي في معيشتها. وقيل : هو تمييز (٧) ، والأصل بطر معاشها على المجاز ، ثم حوّل ونقل ، وهو قول كوفيّ ، وتحقيقه في غير هذا الكتاب.

ب ط ش :

البطش : تناول الشيء بصولة وقهر. ويقال : هو سرعة الانتقام وعدم التّؤدة في

__________________

(١) النهاية : ١ / ١٣٥.

(٢) النهاية : ١ / ١٣٥. ويقال بفتح الميم كما في القاموس.

(٣) المفردات : ٥١.

(٤) إضافة المحقق.

(٥) وفي المفردات (٥٠) : وقلة.

(٦) انتهى كلام الراغب.

(٧) يميل الفراء (٢ / ٣٠٨) إلى التمييز من غير تصريح بذلك ، فانظره ، وانظر رأي أبي إسحاق في اللسان ـ مادة بطر.

٢٢٨

العفو. وقوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)(١) تنبيه على أنه سريع العقاب ، كما صرّح به في غير موضع ، ولم يكف أن ذكره بلفظ البطش حتى وصفه بالشدّة. وقوله : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا)(٢) أي عقوبتنا السريعة.

وقوله : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)(٣) أي تسرعون في جميع أفعالكم إسراع الجبابرة. وفي الحديث : «فإذا أنا بموسى باطش بجانب العرش» (٤) معناه متعلّق بقوة.

ب ط ل :

الباطل : الشي الزائل ، وهو ما لا ثبات له عند التّنقير عنه ، لأنّه نقيض الحقّ ، والحقّ هو الثابت. ويقال ذلك بالاعتبار إلى المقال (٥) والفعال. يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا ، وأبطلته إبطالا ، وبطّلته تبطيلا. والإبطال يقال تارة لمن يبطل شيئا أي يفسده ويزيله ، حقا كان ذلك الشيء أو باطلا. قال تعالى : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ)(٦) وتارة لمن أتى بالباطل. يقول : أبطل زيد أي جاء بالباطل. قال تعالى : (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ)(٧) ، فهذا يجوز أن يراد بهم من جاؤوا بالباطل ، وأن يراد بهم من أبطلوا الحقّ ، ويقال فيمن يقول شيئا لا حقيقة له. ومنه قوله تعالى : (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ)(٨) كانوا في زعمهم كذلك. ويقال فيمن يشتغل (٩) عمّا ينفعه من أمر الدّنيا والدين.

بطل يبطل بطالة / بكسر الباء فهو بطّال ، وقياسه باطل. والبطل : الرجل الشجاع المعرّض نفسه للموت. فقيل : سمّي بذلك لأنّه مبطل لدمه ، فهو فعل بمعنى مفعول

__________________

(١) ١٢ / البروج : ٨٥.

(٢) ٣٦ / القمر : ٥٤.

(٣) ١٣٠ / الشعراء : ٢٦.

(٤) النهاية : ١ / ١٣٥.

(٥) في الأصل : القال ، ولعله كما ذكرنا.

(٦) ٨ / الأنفال : ٨.

(٧) ٧٨ / غافر : ٤٠.

(٨) ٥٨ / الروم : ٣٠.

(٩) في الأصل : يشغل.

٢٢٩

كالقبض بمعنى مقبوض. وقيل : لأنه مبطل دمه قربة ، فهو فعل بمعنى فاعل. ويقال منه : بطل يبطل بطولة ، فهو بطل.

وبطل نسب إلى البطالة. وذهب دمه بطلا أي هدرا لم يؤخذ له بثأر ولا دية ، وهو القرع أيضا.

وقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(١) إشارة إلى انتفاء الباطل عنه من هاتين الجهتين الشاملتين لجميع جهاته. وقيل : الباطل هنا إبليس ، وذلك أنه أصل كلّ باطل. والمعنى لا يزيد فيه ولا ينقص منه (٢). قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣).

وقوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ)(٤) فسّر بالشّرك لأنّه أعظم باطل. وقوله في الحديث : «ولن (٥) تستطيعه البطلة» يعني بهم السّحرة ، وذلك لأنّهم لا أبطل منهم لتخيّلهم الأباطيل.

ب ط ن :

البطن : يقابل الظّهر ، ويعبّر به عن داخل الشيء كما يعبّر بالظاهر عن خارجه ، ويعبّر به عن الجهة السّفلى ، كما يعبّر به (٦) عن العليا (٧). واستعير في الأمور المعنوية نحو : هذا بطن الأمر ، وبطن الوادي أيضا ، تشبيها ببطن الإنسان. ومنه : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ)(٨) فظاهره ما يطّلع عليه الخلق ، وباطنه ما يختصّ بعلمه تعالى.

__________________

(١) ٤٢ / فصلت : ٤١.

(٢) يعني : لا يزيد في القرآن.

(٣) ٩ / الحجر : ١٥.

(٤) ٢٤ / الشورى : ٤٢.

(٥) وفي النهاية (١ / ١٣٦) : ولا.

(٦) الكلمة ساقطة من س.

(٧) يعبر في العادة عن العليا بالظهر!

(٨) ١٢٠ / الأنعام : ٦.

٢٣٠

وقيل للعرب : بطن وفخذ اعتبارا بأنهم كجسد ينفصل فصولا. وعليه قول الشاعر : [من السريع]

[الناس جسم ، وإمام الهدى

رأس وأنت العين في الراس](١)

فظهرانها لما يظهر منها ولما يخفى ، ويجمع على بطنان وأبطن وبطون وبطين (٢).

والمبطان : العظيم البطن ، الكثير الأكل. والبطنة : كثرة الأكل ، ومنه : «البطنة تذهب الفطنة» (٣). وبطن أي أشر من كثرة الأكل. وبطن عظيم : بطنة. ومبطّن : خميص البطن. ومنه : «فإذا رجل مبطّن» (٤) يعني ضامر البطن. وبطن (٥) : أعيل بطنه فهو مبطون.

والبطانة : خلاف الظّهارة في الملبوسات ، واستعير ذلك فيمن يراسلك ويختصّ بسريرتك ، ولذلك : لابست فلانا ولبسته. ومنه (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ)(٦) وعلى ذلك قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ)(٧) أي لا تخالطوا غيركم من المشركين مخالطة يطّلع بها على أحوالكم الباطنة.

وفي الحديث : «ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان (٨) ، بطانة تأمره بالخير وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشرّ وتحثّه عليه» (٩). وقوله تعالى : (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ)(١٠) قيل : يعلم بواطن الأمور كما يعلم ظواهرها ، يعلم من السرّ ما يعلم من العلانية. ومنه : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ)(١١).

__________________

(١) بياض في الأصل أكثر من الشعر ، والبيت شاهد الراغب (المفردات : ٥١) في الموضوع نفسه.

(٢) لم يذكر ابن منظور الجمع الأخير.

(٣) صواب المثل : «البطنة تأفن الفطنة» ، وهذا خطأ شائع ، لكنه مذكور على الأصل. فصل المقال : ٤٠٩ ، وعزا البكريّ المثل إلى معاوية ، وعلل الشارح التصويب بأن البكري أتمّ كلامه فشرح كلمة مأفون. وانظر اللسان ـ مادة أفن.

(٤) الحديث في صفة السيد المسيح ، وتمام الحديث : «فإذا رجل مبطن مثل السيف» النهاية : ١ / ١٣٧.

(٥) ساقطة من س.

(٦) ١٨٧ / البقرة : ٢.

(٧) ١١٨ / آل عمران : ٣ ، وذلك استعارة من بطانة الثوب. لعله يقصد من غير أهل الإسلام والمنافقين.

(٨) الحديث إلى هنا من النهاية : ١ / ١٣٦.

(٩) في الأصل : تحضه ، وهو وهم. وتتمة الحديث من المفردات : ٥٢.

(١٠) ٣ / الحديد : ٥٧.

(١١) ١٠ / الرعد : ١٣.

٢٣١

يقال : فلان يبطن أمر فلان إذا علم سريرته ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ)(١) والحكماء (٢) : «مثل طالب معرفته مثل [من](٣) طرق (٤) الآفاق في طلب ما هو معه». والباطن : إشارة إلى معرفته الحقيقية (٥) ، وهي التي أشار إليها الصدّيق بقوله : «يا من غاية معرفته القصور عن معرفته».

وقيل : ظاهر بآياته باطن بذاته. وقيل : ظاهر بأنّه محيط بالأشياء مدرك لها ، باطن في (٦) أن يحاط به ، كما قال تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)(٧). وقد روي عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ما يدلّ على تفسير اللفظتين حيث قال : «تجلّى لعباده من غير أن يروه (٨) ، وأراهم نفسه من غير أن يتجلّى لهم» ، وهذا كلام عظيم القدر لا يصدر إلا عن مثل أبي بكر وعليّ رضي الله عنهما. ولذلك قال بعض العلماء حين حكي عن أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه : وهذا كلام يحتاج إلى فهم ثاقب وعقل وافر ولعمري لقد صدق. وقيل : الظاهر بالأدلة والباطن الذي لا يدرك بالحواس.

وقوله : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً)(٩) أراد بالظاهرة النبوة والباطنة العقل ، وقيل : أراد بالظاهرة النّصرة على الأعداء بالبأس من سلاح ورجال ، والباطنة النّصرة بالملائكة. وقيل : أراد بالظاهرة المحسوسات وبالباطنة المعقولات ، والآية شاملة لذلك ولغيره ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها)(١٠) ، وقرىء هنا : نعمة ونعم جمعا وإفرادا ، وظاهرة وباطنة يصلحان لوصفهما لما قرّرناه في غير هذا.

__________________

(١) ٨٤ / الزخرف : ٤٣.

(٢) يعني : قال بعض الحكماء.

(٣) إضافة المحقق.

(٤) وفي المفردات (٥٢) : طوّف ، وكلاهما جائز.

(٥) وفي الأصل : الحقيقة.

(٦) لعلها : من. والكلام شرح للآية السابقة «وفي الظاهر والباطن».

(٧) ١٠٣ / الأنعام : ٦.

(٨) وفي المفردات : رأوه ، ولعله أصوب.

(٩) ٢٠ / لقمان : ٣١.

(١٠) ٣٤ / إبراهيم : ١٤.

٢٣٢

والبطان : حزام يشدّ على البطن ، يجمع على : بطن وأبطنة.

والأبطنان (١) : عرقان يمدّان على البطن. وتبّطن الأمر : عرفه باطنا. ومات فلان ببطنته : لم يتغضغض منها بشيء ، يضرب ذلك مثلا لمن مات بخيلا وماله وافر قد حرم نفسه منه. ومات عريض البطان منه. وفي الحديث (٢) عن عبد الله بن عمر أنه قال لعبد الرحمن : «مات ببطنته لم يتغضغض منها بشيء» (٣). وفي الحديث أن إبراهيم عليه‌السلام : «كان يبطّن لحيته» (٤) أي يأخذ من باطن شعرها. وقال شمر : أي يأخذ من تحت الذّقن الشعر.

فصل الباء والظاء

ب ظ ر :

قال الراغب : في بعض القراءات والله أخرجكم من بظور أمهاتكم (٥) وذلك جمع البظارة وهي اللّحمة المتدّلية من ضرع الشاة (٦) ، والهنة النائتة من الشّفة العليا ، فعبّر بها عن الهن كما عبّر عنه بالبضع.

قلت : وأيّ معنى لهذه القراءة؟ فإن البظارة لا يخرج منها الولد لا حقيقة ولا مجازا ، وأظنّ قارئها صحّفها. وعن علي رضي الله عنه أنه قال للقاضي شريح في مسألة سأله إيّاها : «ما تقول فيها أيّها العبد الأبظر؟» (٧) الذي في شفته العليا طول مع فتور (٨). وهذا من أمير المؤمنين مفاكهة لشريح. وكفى به فضلا أن سأله مثل أمير المؤمنين ، وأن قال له ما قال.

__________________

(١) في الأصل : والإبطان ، وهو وهم. والأبطنان : عرقان مستبطنان بواطن وظيفي الذراعين حتى ينغمسا في الكفين.

(٢) الحديث لعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن هو ابن عوف (النهاية : ١ / ١٣٧).

(٣) قال الأزهري : ضرب البطنة مثلا لوفور أجره الذي استوجبه بهجرته وجهاده. والكلام في اللسان (مادة ـ بطن) للأزهري ، وفي النهاية من غير عزو مع نقص. والغضغضة : النقص.

(٤) رواه النخعي في النهاية : ١ / ١٣٨. وفي الغريبين (١ / ١٨٣) : يبطن.

(٥) ٧٨ / النحل : ١٦ ، حوّلت القراءة «البطون» إلى كلمة «بظور». يعني عيسى عليه‌السلام

(٦) هذا من معانيها ، أما المعنى المناسب فهو : ما بين الإسكتين من المرأة.

(٧) النهاية : ١ / ١٣٨.

(٨) وفي الغريبين (١ / ١٨٣) : مع نتوء.

٢٣٣

فصل الباء والعين

ب ع ث :

البعث : أصله الإثارة والتّوجيه ، ومنه بعثت البعير. ويختلف باختلاف متعلّقاته. فبعثت البعير : أثرته ووجّهته للسّير فانبعث. وبعثت رسولي أي أرسلته. ومنه : (لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً)(١)(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً)(٢) أي قيّضه ويسّره. وبعث الله الموتى أي أقامهم للحشر. ومنه : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٣).

وقوله : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ)(٤) أي أيقظناهم ؛ سمّى إيقاظهم بعثا تشبيها للنّوم بالموت وهو الموتة الصّغرى. ومنه : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)(٥) ثم قال : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ)(٦)(فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ)(٧) أي أرسلوا.

وقوله : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ)(٨) أي ذهابهم ومضيّهم. وقوله : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(٩) إشارة إلى فرط جهلهم حيث سمّوا ما كانوا فيه مرقدا وما كانوا عليه رقادا ، وقد كانوا في آلم الأشياء وأشغلها عن الرقاد ، أو قالوه لأنه مهيّأ للرّقاد.

واعلم أنّ البعث نوعان : (١٠) بشريّ كبعثت بعيري ورسولي. وإلهيّ ، وهو أيضا نوعان : نوع اختصّ به ولم يقدر عليه أحدا (١١) ، وهو إيجاد الأعيان والأجناس والأنواع عن

__________________

(١) ٥١ / الفرقان : ٢٥.

(٢) ٣١ / المائدة : ٥.

(٣) ٣٦ / الأنعام : ٦.

(٤) ١٢ / الكهف : ١٨.

(٥) ٦٠ / الأنعام : ٦.

(٦) تتمة الآية السابقة.

(٧) ٣٥ / النساء : ٤.

(٨) ٤٦ / التوبة : ٩.

(٩) ٥٢ / يس : ٣٦.

(١٠) يرى ابن منظور أن البعث وجهان أحدهما الإرسال والثاني إثارة بارك أو قاعد.

(١١) في الأصل : أحد.

٢٣٤

لبس. ونوع أقدر عليه بعض خلقه المصطفين عنده كإحياء الموتى وإيجاد الخفّاش (١) / من مادة الطين على يد عيسى عليه‌السلام ، وكإحياء بعض الحيوان وهو أبلغ من إحياء الموتى ، وذلك كما أظهره الله تعالى على يد سيّدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إحياء ذراع الشاة ، فإنه كلّمه وأخبره بأنّه مسموم (٢).

ب ع ث ر :

البعثرة : قلب الشيء وإثارته بجعل أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه. قال تعالى : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ)(٣). ويقال : بحثرت (٤). قال الراغب : ومن رأى تركيب الرباعيّ والخماسيّ من ثلاثيّين (٥) نحو : هلّل وبسمل إذا قال : لا إله إلا الله ، وبسم الله الرحمن الرحيم. قال : إنّ بعثر من بعث وأثير (٦) ، وهذا لا يبعد في هذا الحرف ، فإنّ البعثرة تتضمّن معنى بعث وأثير. إنتهى (٧).

قلت : ما ذكروه من نحو هلّل وبسمل ليس من اللغة. وإنّما وجد مثله في النّسب نحو : عبشميّ وعبقسيّ في النسبة إلى عبد شمس وعبد القيس ، ويلقّب بباب النحت (٨). وقد أتقنت هذه المسألة بدلائلها في الكتب المذكورة قبل ذلك.

ب ع د :

بعد : ظرف زمان يقتضي التأخّر نقيض قبل. وحكمها النّصب على الظرفية ، ولا

__________________

(١) يذكر المفسرون أن الذي خلق الخفاش بإذنه تعالى سيدنا عيسى ، ولذلك جاء مباينا لصنعة الخالق. وانظر تفصيلا دقيقا في حياة الحيوان : ١ / ٥٢٠.

(٢) «من أحيا ذراع الشاة فإنه كلمه وأخبره بأنه مسموم» رواه ابن عساكر والبيهقي في معجزة تكليم الشاة.

(٣) ٤ / الانفطار : ٨٢.

(٤) يقول ابن منظور : وبعثرت وبحثرت لغتان.

(٥) في الأصل : من ثلاثي ، والسياق يتطلب التثنية (المفردات : ٥٣).

(٦) في الأصل : وأثر.

(٧) لا يتجاوز المنحوت من الكلمات العربية ستين كلمة ، وهي طائفتان : أفعال رباعية نحت كل منها على وزن فعلل من قول محكي ، وأسماء نحت كلّ منها من اسمين متضايفين مثل : تيمليّ من تيم اللات. (الاشتقاق : ٣٩٣ ـ ٣٩٥ ، وانظر فقه اللغة والمزهر).

(٨) وهذا من الطائفة الثانية.

٢٣٥

ينصرفان وقد يجرّان بمن نحو : (مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) ، و (مِنْ قَبْلُ)(٢) ، (وَمِنْ بَعْدُ)(٣) ، ومتى أضيفا لفظا أعربا ، وإن قطعا عن الإضافة ولم ينو ما أضيفا إليه أعربا أيضا كقوله : [من الطويل]

فما شربوا بعد على لذّة خمرا (٤)

وقوله (٥) : [من الوافر]

فساغ لي الشراب وكنت قبلا

وقيل : هما في الأصل صفتان لمقدّر. فمعنى قولك : جئت من قبل زيد أي من زمن قبل زمن مجيء زيد. وقد حررت هذا في غير هذا.

والبعد ضدّ القرب. يقال : بعد يبعد بعدا ، ضدّ قرب يقرب قربا ، وليس لهما حدّ محدود. لكنّ ذلك بحسب ذلك (٦) ، ويكون ذلك في المحسوس وهو الأكثر. والمعقول نحو : (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)(٧).

وبعد بالكسر يبعد بالفتح : هلك : بعد قال تعالى : (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٨) وقال الشاعر (٩) : [من الطويل]

يقولون : لا تبعد وهم يدفنونه

ولا بعد إلا ما يواري الصّفايح

وقالت حريق : [من السريع]

لا تبعدن قومي الذين هم

شم العداة ......... (١٠)

__________________

(١) ٢١ / البقرة : ٢.

(٢) ٤ / الروم : ٣٠.

(٣) ٤ / الروم : ٣٠.

(٤) العجز لبعض بني عقيل كما في معاني القرآن للفراء : ٢ / ٣٢١ ، ومن شواهد اللسان ـ مادة بعد.

وصدره :

ونحن قتلنا الأسد أسد خفيّة

(٥) البيت في شرح شذور الذهب رقم ٤٧ / ص ١٠٤ ، وشرح ابن يعيش ٤ / ٨٨. وقد ورد تفصيل آخر له في «ساغ» فانظره ، وعجزه :

أكاد أغصّ بالماء القراح

(٦) أي بحسب اعتبار المكان بغيره.

(٧) ٨ / سبأ : ٣٤.

(٨) ٩٥ / هود : ١١.

(٩) الصدر لمالك بن الريب المازني من قصيدة منسوبة إليه ، ولم يذكره ابن قتيبة في الشعر والشعراء. أما العجز فلشاعر آخر وقصيدة أخرى.

(١٠) ناقص من الأصل.

٢٣٦

وقد يقال : البعد في الهلاك ، والبعد في ضدّ القرب. قال تعالى : (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ)(١) وقال النابغة : [من البسيط]

[فتلك تبلغني النعمان إنّ له

فضلا على الناس](٢) في الأدنى وفي البعد

وقوله : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)(٣) أي بعدا لا يرجى الرجوع منه إلى الهدى ، كمن ضلّ عن محجّة الطريق وتوغّل في ذلك حتى لا يرجى عوده إليها.

وقوله : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)(٤) أي ما أنتتم تقاربونهم فيه من الضّلال فلا يبعد أن يأتيكم من العذاب مثل ما أتاهم. وقوله : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)(٥) أي بعثنا ورجوعنا بعيد لا يكاد يصحّ.

وقوله : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٦) كناية عن أنّهم لا يسمعون الحقّ ، نزّلوا بمنزلة من ينادي من بعد فإنه في مظنّة عدم السماع ، وقيل : هو كناية عن عدم الفهم ويقال في ضدّه : هو ناظر الأشياء عن قربه.

وقوله : (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(٧) أي يتباعد بعضهم في مشاقّة بعض. وفي الحديث : «كان يبعد في الخلاء» (٨) أي يمعن في الذهاب إلى الخلاء لمعنى فيه.

ب ع ر :

البعير : واحد الإبل. وقد يقع للذكر والأنثى ، مثل الإنسان يقع للرجل والمرأة. هذا هو المشهور ، وخصّه بعضهم بالجمل. قال تعالى : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ)(٩) ويجمع

__________________

(١) ٩٥ / هود : ١١.

(٢) إضافة من الديوان : ١٢.

(٣) ٨ / سبأ : ٣٤.

(٤) ٨٩ / هود : ١١.

(٥) ٣ / ق : ٥٠.

(٦) ٤٤ / فصلت : ٤١.

(٧) ١٧٦ / البقرة : ٢.

(٨) النهاية : ١ / ١٣٩ ، وفيه : «كان إذا أراد البراز أبعد».

(٩) ٧٢ / يوسف : ١٢.

٢٣٧

على أبعرة وبعران كأرغفة ورغفان ، وأباعر وأبعرة مثل واحدة البعر. وهو ما يخرج منه. والمبعر : موضع البعر. والمبعار : الكثير البعر.

ب ع ض :

البعض مقلوب البضع ، فإنّهما مصدران بمعنى القطع ، والبعض المقابل للكلّ هو قطعة من الكلّ. ومنه البعوض تصوّر منها أنّها قطعة من غيرها ، ويجمع على أبعاض.

وبعضت الشيء جعلته أبعاضا كجزأته أجزاء. وزعم أبو عبيدة أنّه يكون بمعنى كلّ (١) ، من قوله تعالى : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)(٢) واستشهد بقوله (٣) : [من الكامل]

أو يرتبط (٤) بعض النفوس حمامها

وقد ردّ عليه الناس هذه المقالة. قال الراغب : وفي قوله هذا قصور نظر منه ، وعلى أنّ الأشياء أربعة أضرب : ضرب في بيانه مفسدة ، فلا يجوز لصاحب الشرع أن ينبّه عليه كوقت القيامة ووقت الموت.

قلت في قوله : فلا يجوز لصاحب الشرع ، عبارة غير سديدة. ولو قال : فلا يجوز بيانه لمصلحة علمها الشارع لكان أحسن. قال : وضرب معقول ويمكن للناس إدراكه من غير نبيّ كمعرفة الله تعالى وتفكّره (٥) في خلق السماوات والأرض ، فلا يلزم صاحب الشرع أن يبيّنه ، ألا ترى كيف أحال معرفته على العقول (٦) في قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٧) وقوله : (أَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا)(٨).

__________________

(١) مجاز القرآن : ١ / ٩٤.

(٢) ٦٣ / الزخرف : ٤٣.

(٣) عجز بيت للبيد (الديوان : ٣١٣) ، وصدره :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

(٤) وفي الديوان : يعتلق.

(٥) وفي س : تفكره ، من غير واو.

(٦) وفي الأصل : المعقول ، ولعله كما ذكرنا.

(٧) ١٠١ / يونس : ١٠.

(٨) ١٨٤ / الأعراف : ٧ ، وغيرها.

٢٣٨

وضرب يجب عليه بيانه كأصول الشرعيات المختصّة بشرعه. وضرب يمكن الوقوف عليه ممّا بيّنه (١) صاحب الشرع كفروع الأحكام. فإذا اختلف الناس في أمر غير الذي يختصّ بالنبيّ بيانه فهو مخيّر بين أن يبيّن وبين أن لا يبيّن ، حسبما يقتضيه اجتهاده وحكمته. فإذا لم يرد في الآية (٢) كلّ ذلك فهو (٣) ظاهر لمن ألقى العصبيّة عن نفسه. وأمّا الشاعر فإنه يعني نفسه (٤). والمعنى إلا أن يتداركني الموت ، لكن عرّض ولم يصرّح حسبما بنيت (٥) عليه جبلّة الإنسان في البعاد (٦) عند ذكر موته.

قلت : ما ذكره من الإنكار على أبي عبيدة صحيح. والبيت الذي أنشد للبيد أوله : [من الكامل]

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النفوس حمامها

وأبو عبيدة هذا وإن كان إماما إلا أنه يضعف عن علم الإعراب وفي بعض فهمه. ولمّا حكى الزمخشريّ عنه هذه المسألة قال : إن صحّت هذه الرواية عنه فقد حقّ فيه قول المارقين في مسألة «كان أحقّ أن تفقه ما أقول» (٧).

قلت : هذه مسألة جرت بينه وبين ابن عثمان ، ذكرتها مستوفاة في «الدّر المصون» وقال ثعلب : كان وعدهم عذابين ؛ أحدهما في الدنيا ، والآخر في الآخرة. فلذلك قال : (بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)(٨) وهو الذي في الدنيا.

وقال الليث : بعض صلة أي زائدة ، والمعنى يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وهذان القولان أعني الأول والآخر ضعيفان. أما الأول فلما تقدّم ، وأما هذا فلأنّ الأسماء لا تزاد. وقال الخليل : رأيت غربانا تبتعض (٩) ، أي يتناول بعضها بعضا.

__________________

(١) ما زال يقتبس من الراغب (ص ٥٤).

(٢) يعني الآية السابقة : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ) ...

(٣) في الأصل : وهي ، ولعلها كما ذكرنا.

(٤) أي من قول لبيد.

(٥) في الأصل : بني ، والسياق يقتضي ما ذكرنا.

(٦) في الأصل : البعادي.

(٧) الدر المصون : ٣ / ٢٠٤. وفي الأصل : قول المارين.

(٨) ٢٨ / غافر : ٤٠.

(٩) في الأصل : يبعضض ، وهو وهم.

٢٣٩

ب ع ل :

البعل : الزوج. وزوجة : بعلة. واشتقّ من لفظه مصدر ، وبعل يبعل (١) ، باعل يباعل مباعلة ، كنّوا بذلك عن الجماع. وفي الحديث ، في أيام التشريق : (٢) «إنها أيام أكل وشرب وبعال» ويقال : بعل يبعل ويبعل بعلا وبعولة إذا صار بعلا. واستبعل فهو مستبعل كذلك.

والبعل أيضا : مالك الشيء وسيده ، وذلك أنّهم تصوّروا من بعل المرأة لمّا كان مستوليا عليها ومستعليا أنه مالكها. سمّوا ربّ الشيء بعله ، يقال : هذا بعل هذه الدار. قوله : (أَ تَدْعُونَ بَعْلاً)(٣) يعني إلها سوى الله ، / وذلك لما تقدّم من تصوّرهم استعظام البعل بالنسبة إلى المرأة. فسمّوا معبودهم المتقرّب به إلى الله ، كما زعموه بعلا ، أو سمّوه (٤) بما كانوا يقولون إنّه سيّدهم وعظيمهم. قيل : كان صنما من ذهب وفضة مذكورة في التفسير.

وقيل : البعل من تجب طاعته ، وقيل : من معنى الزوج أيضا. والبعل : الكلّ (٥) على أهله ، وذلك لأنّ العالي على غيره يستبعل عليه أمره ونهيه فسمي بعلا لذلك. وفي الحديث : «أنّ رجلا قال [للنبيّ صلّى الله عليك وسلم](٦) : أبايعك على الجهاد. فقال : هل لك من بعل؟» قال الهرويّ : البعل : الكلّ. يقال : صار بعلا على أهله أي كلا وعيالا. وقيل : هل بقي عليك من تجب طاعته عليك كالوالدين والأهل والولد؟ قلت : هذا الثاني ظاهر ، وأمّا الأول فلا معنى له في الحديث إلا أن يكون : هل لك من تجب عليك نفقته؟ بسبب كونه كلا وعيالا على غيره؟ ولتصوّر الاستعلاء سمّوا الأرض العالية على غيرها

__________________

(١) في ح : يعبل ، وفي س : بعيل.

(٢) النهاية : ١ / ١٤١.

(٣) ١٢٥ / الصافات : ٣٧.

(٤) في الأصل : سمو.

(٥) انظر شرحا لها بعد سطور في المتن.

(٦) من حديث الزكاة ، وروايته كما في النهاية (١ / ١٤١) «ما سقي بعلا ففيه العشر».

٢٤٠