عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

الحمد لله مالك الملك ، عليه العون والاتّكال. وهو نعم المولى ونعم النصير.

منذ أربع سنوات ونيّف ـ وقبل أن تنقل المكتبة الأحمدية الزاهرة إلى دمشق ـ ونحن عاكفون على تحقيق «عمدة الحفاظ» ، بعد أن اطّلعنا عليها ، وأخذنا بمجهود مؤلفها السمين الحلبي ، وبسعة ثقافته.

والذي دفعنا إلى هذا العمل الضخم إيماننا بأن تراثنا جذر تاريخنا وعلومنا ، وبأن نشرنا له اعتزاز لنا وفخار. ورغم أننا مؤمنون بعناء التحقيق ، وقلة العون ، وإجحاف المؤسسات الثقافية ، وتقصيرها في مدّ يد المساعدة للباحثين والمحققين ، فإننا آلينا على أنفسنا بين الحين والحين ، أن نسهم في إراءة النور لبعض كنوزنا الدّفينة. ولقد يسّر الله علينا نشر مجموعة نضرة من المخطوطات كدمية القصر ، أو ما كان مؤلفها حلبيا ، أو أنه ألفها حول حلب مثل «معادن الذهب في الأعيان المشرّفة بهم حلب».

وإننا إذ نفخر بالسمين الحلبي ، الذي فاق علماء زمانه بمؤلفاته وتصانيفه ، لنفخر أيضا بأن كتابين كبيرين من كتبه يطبعهما اثنان من أبناء بلدته ؛ فها هي ذي العمدة بين الأيدي ، وها هو ذا «الدرّ المصون» ينشره أحمد الخراط تباعا.

على أننا لا ندّعي الكمال في عملنا ، ولا يجرؤ أحد على ادّعائه. لكننا نؤكد إخلاصنا لتراثنا ، وصدقنا في عملنا ، وإيماننا بلغتنا ، وهذا حسبنا. ونحن على ثقة بأن كتاب العمدة سيفيد منه الباحثون واللغويون كثيرا ، ولن يبلغ مرحلة الاكتمال إلا بعد أن تصدر سائر كتبه

٢١

للاستفادة منها في رتق النّقص ، والرجوع إلى الإحالات التي نوّه بها السمين. ولا بد من الاعتراف بأن تلميذي محمد ناصر كان إلى جانبي في كثير من المواقف والآراء الدقيقة.

فله الحمد ربّ العالمين

حلب في ١٨ / شعبان / ١٤١٢ ه‍

٢١ / شباط / ١٩٩٢ م

محمد التونجي

٢٢

بين يدي المخطوطة

المؤلف

ترجمة حياته (*) :

هو أحمد بن يوسف بن عبد الدائم (١) بن محمد بن مسعود (٢) ، المعروف بشهاب الدين السّمين الحلبيّ.

أما لقبه «السمين» فلا نعلم سببا له ، سوى أنه ربما كان ضخما أو أكولا. ولعله لقب به في مصر حين نزل بها ، أو أنه حمله معه مهاجرا إليها. على أن بعض المؤرخين أضافوا على لقبه كلمة «ابن» ، فدعوه «ابن السمين» ، كما توهّموا ذلك في «النّديم» صاحب «الفهرست» فقالوا : ابن النديم. وممن ذكر أنه ابن السمين رياضي زاده صاحب «أسماء الكتب» (٣) وصاحب «شذرات الذهب». كما أنّ الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة طالع المخطوطة في المكتبة الأحمدية ، وعلّق على ورقة الغلاف وذكر أنه ابن السمين الحلبي. ويقتضي التنويه هنا بأنّ السمين الحلبي أحمد بن يوسف صاحب عمدة الحفاظ غير ابن السمين

__________________

(*) جاءت ترجمته في : بغية الوعاة : ١ / ٤٠٢ ، الدرر الكامنة : ١ / ٣٦٠ ، طبقات الشافعية للإسنوي : ٢ / ١٥١٣ ، شدرات الذهب : ٦ / ١٧٩ ، طبقات القراء : ١ / ١٥٢ ، كشف الظنون (بحسب أسماء مؤلفاته) ، أسماء الكتب : ٢٠٧. وغير ذلك من كتب الطبقات ، والأعلام ، وتاريخ الأدب ، وفهارس المكتبات ...

(١) كذا في أسماء الكتب وورقة الغلاف من النسختين ح وس.

(٢) من مقدمة الدر المصون.

(٣) هو من تحقيقنا ، نشرته دار الفكر بدمشق.

٢٣

البغدادي أحمد بن علي صاحب «مفردات القرآن» ، وغير ابن السمينة يحيى بن يحيى.

أما وفاته فلقد أجمع المؤرخون على أنها جرت سنة ٧٥٦ ه‍ ، لكنهم اختلفوا في الشهر الذي قضى فيه نحبه. أما عن سنة ولادته فلم يشر إليها أحد فيما نعلم.

ولد أحمد بن يوسف السمين في حلب ، ثم بعد أن نضج وشبّ حمل عصا التّرحال متجها إلى مصر ، كما فعل ذلك كثير من علماء حلب والشام ، لأن القاهرة كانت آنئذ حاضرة الإسلام وعاصمة الإمارة في عصر المماليك.

وسرعان ما ذاع صيته في مصر ، وانتشرت علومه ، وتوافدت عليه جموع الطلاب. فاختص بتدريس القراءات والنحو في جامع ابن طولون ، والإعادة في مسجد الإمام الشافعي. وتنقل في مساجد أخرى ، كما تنقّل في بعض الوظائف كالنظر في الأوقاف والنّيابة في الحكم (القضاء) ، وطاف بعض مدن مصر.

ومع أنّ السمين كان واسع العلم ، فإنه كان يؤمّ حلقات بعض علماء عصره كأبي حيان الأندلسي (ت ٧٤٥) ، وأخذ القراءات عن التّقيّ الصائغ (ت ٧٢٥ ه‍). وذكر السّيوطي في «البغية» أنه سمع الحديث من يوسف الدّبوسي. كما أنه ما كان يألو جهدا بالسفر لنهل بعض العلوم ، كسفره إلى الاسكندرية قاصدا الإمام العشّاب (ت ٧٣٦ ه‍) ليأخذ عنه الحروف.

توفي السمين الحلبي سنة ٧٥٦ ه‍ بالقاهرة ، بعد أن ترك لنا تصانيف ضخمة وكتبا مهمة.

مؤلفاته :

تفخر حلب الشهباء بأنها أخرجت كوكبة من العلماء الأفذاذ ، مع مسيرة التاريخ ، ممن تركوا لنا تراثا حسنا ، ما زالت أضواؤه تزين أبهاء المكتبات ، وتنير صفحاته رداه معاهد العلم.

ولقد ترك السمين مجموعة ثمينة من الكتب الضخمة ، والتي يدور أغلبها حول القرآن

٢٤

الكريم ؛ شرحه ، وغريبه ، وإعرابه. ودلت هذه المؤلفات على ثقافة واسعة يتحلّى بها السمين ، لا تقلّ عن ثقافة نبلاء علماء العصر العباسي الذهبي. ومما يؤسف له أن مؤلفاته ما زالت مخطوطة حتى اليوم ، وإن بدأ بعضها بالطبع تباعا. ومما وصل إلى أيدينا ، وتلقّطناه من الفهارس والكتب ، ومما ذكره في كتابه «عمدة الحفاظ» الذي كان من أواخر كتبه ، نذكره بحسب التسلسل الألفبائي :

١ ـ إيضاح السبيل إلى شرح التسهيل : وهو مخطوط ، بين أيدينا منه ٢٣٨ ورقة. ولم يذكره صاحب الكشف ولا غيره من أسماء الكتب. وانظر شرح التسهيل.

٢ ـ البحر الزاخر.

٣ ـ تفسير القرآن : وهو في عشرين جزءا. وهو غير معروف حتى الآن ، وقد ألفه قبل «الدر المصون» ، هذا ما ذكره محققه.

٤ ـ الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون : فرغ السمين من تأليفه سنة ٧٣٤ ه‍ بأربعة أجزاء ، وهو في إعراب القرآن الكريم. ولهذا سماه بعضهم «إعراب القرآن». ويطبعه حاليا الدكتور أحمد الخراط طباعة علمية محققة. وذكره في العمدة مرارا.

٥ ـ شرح التسهيل : مخطوطة غير معروف حتى الآن ، ويبدو أنه ألفه مرتين ؛ مرة مختصرا وأخرى مفصلا. ويسميه مؤلفه في العمدة «شرح التسهيل الكبير». ولعله ألفه في وقت مبكر من حياته العلمية.

٦ ـ شرح الشاطبية : وهو في علم القراءات. وقد سماه السمين في العمدة «العقد النّضيد في شرح القصيد» وذكره فيه مرارا. واسم الشاطبية «حرز الأماني». قال فيه ابن الجزري : «لم يسبق إلى مثله».

٧ ـ شرح معلقة النابغة : ذكر السمين في العمدة أنه ألف كتابا شرح فيه معلقة النابغة «يا دارميّة». ويقول (الورقة : ٢٦٠ / ح) : «وقد حققنا هذا في شرح هذه القصيدة المذكورة في مصنف مفرد كثير الفوائد».

٨ ـ عمدة الحفاظ : وسنفرد له حديثا خاصا بعد قليل.

٩ ـ القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز : ودعاه المؤرخون أحيانا «أحكام

٢٥

القرآن». وهو مخطوط من ٢٥٤ ورقة ، أو هذا ما تبقّى منه ، محفوظ بدار الكتب المصرية ، ولهذا ذكر الزركلي أنه «الجزء الأول منه».

١٠ ـ المعرّب : ذكره بروكلمان.

عمدة الحفاظ ؛ مضمونه ومنهجه :

المشهور أن الاسم الكامل للكتاب هو «عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ» وهو الغالب. وكذلك جاء في مقدمة «الدر المصون» ، وأعلام النبلاء ، والزركلي ، والنسخة (م) ، والنسخة (س). إلا أن مدوّن غلاف النسخة (ح) ـ وليس الناسخ الأصلي ، ويبدو أنه قيّم المكتبة الأحمدية ـ استبدل كلمة «شرح» بكلمة «تفسير».

ألفه السمين في غريب القرآن ، ورتّبه بحسب تسلسل الأحرف الألفبائية للحرف الأول فالثاني فالثالث. وكان دقيقا في عرضه. وإن حصل تقديم أو تأخير في لفظة ما ـ وهذا قليل جدا ـ أعدنا ترتيبه حتى لا يضيع على الباحث ما يريد. ونحسب أنّ مثل هذا كان بسبب نسيان الناسخ نسخ مادة ما ، فيعود إلى تسجيلها ثانية ، إذ نستبعد أن يخطئ المؤلف العالم في مثل هذا.

وكان المؤلف يشبع دراسة اللفظة إشباعا كاملا ، ويفصّل في معانيها ، ويورد اختلافاتها بحسب ورودها في آي القرآن الكريم. ونراه لا يكتفي بذلك ، بل يعمد إلى الحديث النبويّ ، أو بعض أقوال الصحابة. ولهذا نرى أنّ العمدة في غريب القرآن وغريب الحديث. ويدلّ الكتاب على ثقافة المؤلف الواسعة لغة وأدبا ، ولهذا كان يكثر من الشواهد الشعرية والنثرية دعما لما يقدم على شرحه. لكنه ما كان يذكر اسم الشاعر إلا لماما ، بل كان يسجله ـ أو ناسخه ـ خطأ أحيانا.

ولما كان السمين ضليعا في النحو والصرف ـ وانظر الدر المصون ـ فقد رأيناه يتوسّع في كثير من القضايا الصرفية والنحوية ، ويعرض آراء النحاة وعلماء القراءات ، ويعلق عليها ، ويبين نظره فيها ، وهذا مما يزيد الكتاب أهمية. إلا أنه ، مع الأسف ، يكثر من الإحالات إلى كتبه ـ وكلّها مخطوط ـ ؛ فكثيرا ما يقول : «وفيه كلام طويل حررته في غير هذا الكتاب» ، أو

٢٦

يقول : «وقد حررت هذا في غير هذا الموضوع ـ أو الموضع». وقد يذكر أسماء كتبه للإحالات ، وقد لا يفعل.

ومن واسع علمه أنه كان يشرح بعض الألفاظ ، ويورد من المفردات التي لا نجدها أحيانا في اللسان أو الجمهرة ، مما يدلّ على اعتماده كتبا لغوية غير ما هو مبذول. كما أنه قد يذكر مفردات لم ترد في القرآن الكريم ، ويبرّر ذكرها بضرورات متعددة يعدّدها ، مثل كلمة «بتّ». وهذا ما يجعل الكتاب فريدا مفيدا في شرح الألفاظ العامة ، إضافة إلى شرح ألفاظ القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف.

أما منهجه فإنه يتناول اللفظة القرآنية من الآية التي يبدأ بها المادة المجرّدة ، ثم يذكر الآية ، وبعدها يعمد إلى شرح معانيها كما وردت في القرآن. ثم يتبع ذلك بتقلبات اللفظة واشتقاقاتها واستعمالاتها ، ويبرهن لغة كما يستشهد على ذل ك بالشواهد الشعرية والنثرية. وبعد أن يطمئن إلى إيفاء معاني اللفظة في القرآن ، يعمد إلى بعض معانيها في الحديث. ويكثر عندئذ من رواية الأحاديث من غير إسناد .. مما ينفرد به عن سائر كتب غريب اللغة.

ويستطيع القارىء أن يرجع إلى مطلع الكتاب ليطّلع على فهرسة دقيقة هي من صنعه وتبويبه ، تدل على حصافته وإحصائه. ولا نكاد نرى لفظة في القرآن الكريم إلا أولاها شرحا ودرسا.

بين العمدة والكتب الأخرى :

لم يكن السمين أول من ألّف في غريب القرآن والحديث بشكل خاص أو عام ؛ فقد سبقه الهرويّ والسجستانيّ والفراء والأخفش وشمر وابن الأثير والراغب الإصبهاني ، إلا أنه كان أوسعهم جمعا جميعا ، وأكثرهم شرحا مفصلا. ومع أنه اعترف بمن سبقه ، ومع أنه كان ينقل عنهم ويشير إلى ذلك أحيانا ، إلا أنه لم يعجبه عمل أغلبهم ؛ فقد قال في الورقة الأولى من الكتاب : «غير أنهم لم يتموا المقصود من ذلك ، لاختصار عباراتهم وإيجاز إشاراتهم». وهذا حقّ لمسناه في أثناء تحقيقنا للعمدة ، وسيلمسه القارىء في دراساته ومراجعاته.

إلا أن السمين اعتمد كتاب «المفردات» للراغب اعتمادا يكاد يكون كليا ؛ فقد ابتلعه وهضمه وصبّ نسغه بين ثنايا كتابه. وما ترك لفظة تقريبا إلا نقلها أو علق عليها ، مما يدل على

٢٧

أن كتاب المفردات كان في متناول يده مباشرة حين ألف «عمدة الحفاظ». وكان أحيانا يسجل اسم الراغب وأحايين لا يذكره. وقد يقول : «قال بعضهم» أو «قال بعض أهل اللغة» ، وهو إنما يعني الراغب نفسه. وهو غالبا إذا ذكره فلينتقده ، ويجرّح رأيه ، أو يهاجم نقله.

على أننا نرى ـ بحقّ ـ أن كتاب عمدة الحفاظ أوسع أفقا وثقافة ومادة من كتاب المفردات ؛ فهو أولا من حيث الحجم يبلغ أربعة أضعاف ونيّفا. وثانيا قلّما يستشهد الراغب بالأحاديث والأشعار ، في حين أن السمين يكثر منها. وقلّما يتعرّض الراغب لمسألة لغوية أو نحوية أو صرفية ، في حين أن السمين واسع الباع فيها.

كما أن الراغب لم يذكر كلّ مفردات القرآن الكريم مثل كلمة «ألات». ثم هو كثير الاختصار ، وفي مفرداته تقديم وتأخير. ناهيك عن أنه لا يراعي تسلسل الحرف الثاني والثالث من اللفظة ؛ فقد تجد بخل قبل بخس ، وبدل وبدن قبل بدأ.

على أن هذه النقول سهّلت علينا توثيق المتن ، وحسّنت من التصويب والقراءة ، وعملت على خدمة الكتاب ، ولا سيما إذا تذكرنا أن الناسخين لم يكونوا مخلصين في نقولهم ، أو على الأقل لم يكونوا ـ من الناحية العلمية ـ على مستوى النص.

نسخ عمدة الحفاظ :

من حسن حظ التراث العلمي الحلبي أن حفظت المكتبة الأحمدية مؤلفات نادرة. وقد نقلت مؤخرا إلى مكتبة الأسد بدمشق. ومن جملة هذه الكنوز الدّفينة نسختان كاملتان من كتاب عمدة الحفاظ ، استطعنا الاطلاع عليهما ودراستهما ، ومن ثمّ تصويرهما. وقد تجّمع لدينا ثلاث نسخ حسنة تقريبا ، ولكنّ واحدة منها لم تكن بخطّ المؤلف. فتخيّرنا الأقدم ، والأكمل ، والأفضل أمّا ، وجعلنا الأخريين رافدتين.

١ ـ النسخة الأم : ودعوناها (ح) نسبة إلى حلب ، وهي مخطوطة محفوظة في خزانة المكتبة الأحمدية تحت رقم ١١٥ / خاص ، مؤلفة من ٤٤٠ ورقة ، أبعاد الصفحة منها ١٠* ٢٤ سم ، ناسخها عبد الرحمن بن محمد المنشاوي ، نسخها «يوم الخميس الثامن أو التاسع من ذي الحجة ختام عام سنة واحد وثلاثين وألف».

٢٨

ويبدو لنا أن الناسخ كثير المتاهات والعثرات ، قليل الخبرة اللغوية ، لا يحسن موازين الشعر ، ولا يتحلّى بالأناة العلمية. لذا رأينا نقصا وسقطا وأخطاء وتبديلا وخللا قلما يجبره الرافدان. ولو لا الرويّة والمصادر التي بين أيدينا لا نعدمت الفائدة من إخراج العمدة. على أننا لا نريد إضاعة جهده بكلمات ـ كما يفعل السطحيون أو الك سالى من النقاد ـ فلولا نسخته لما رأى الكتاب النور. وكان الناسخ إذا شعر بأنه أخطأ ـ وهذا قليل ـ رأيناه يضع حرف «الطاء» فوق الكلمة التي يشكّ بها ؛ ففي حديث السيدة عائشة عن «البضع» ذكر : «وله حصن زين». فأحسّ بأن المعنى لم يستقم فوضع حرف الطاء فوقها. ولعل هذا الحرف اصطلاح منه مختصر من الكلمة «خطأ». إلا أن الناسخ لم يعان بالبحث ، بل كان يكتفي بالإشارة وهذا من أضعف الإيمان .. وتنبّهه مع ذلك لا يساوي أخطاءه.

ويبدو أن النسخة (ح) تملّكها غير شخص ، أو طالع بها اكثر من باحث ، لذا جاءت محلّاة بهوامش وتعليقات بعضها مفيد ، وبعضها الآخر لا علاقة له بالمتن. فما جاء في الهامش من خط الناسخ أنزلناه في مكانه ، وما جاء تعليقا مفيدا أنزلناه في مكانه من الحاشية. وما لم يكن بذي قيمة لم ندونه ، من ذلك هامش الورقة ٦٤ ، في تعريف المعلّق لاسم الجنس والفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس.

ولقد تكررت أسماء بعض المهمّشين أحيانا ، ولعل أبرزهم : حسن جلبي (حلبي) ، منادي ، مختار ، سيد.

٢ ـ النسخة س : ودعوناها كذلك نسبة إلى مكتبة الأسد. وهي محفوظة في خزانة المكتبة الأحمدية تحت رقم ٥٢ / خاص بالعثمانية. وتضم هذه النسخة ٤١٨ ورقة ، أبعاد الصفحة منها ١٠* ٥٠ ، ٢٢. كتبها «إبراهيم بن الشيخ رجب بن نصوح بك الغازي .... في ديار المصرية .. في خامس عشر رجب الفرد من سنة ست وخمسين وألف».

ومع أن خطّ (س) أجمل من خط النسخة (ح) إلا أن الاعتماد عليها كان أقلّ أهمية. وأفادتنا كثيرا لتوضيح رسم لفظة ، أو رأب نقص. وتبقى رديفا مهما ومتمما للنسخة الأم. ويبدو أن الناسخين نسخا عن أصل واحد ، ولعله من خط المؤلف بالنظر إلى كمالهما ، إلا أن داء العصر العثماني ـ والذي هو الجهل ـ كان متفشيا بين جماعة الناسخين ، مما جعل الناسخين يقعان في مطبّات محيّرة وأخطاء فادحة ، حتى في نسخ الآيات الكريمة بله الشواهد

٢٩

الشعرية؟ والخير في كلّ واحدة في طريقة قراءة الأصل المنقول عنه. على أن الهوامش في هذه النسخة نادرة ، وإن وجد بعضها فعديم الفائدة.

٣ ـ النسخة م أو د : نسخة محفوظة في مكتبة المدينة المنورة ، أهدانا إياها مشكورا صاحب دار المأمون للنشر ، على أمل الاستفادة منها. وقد صورها بآلة تصوير يدوية على شكل لوحات فوتوغرافية. وقد جاءت النسخة ناقصة في مواضع متفرقة ، إضافة إلى التصاق بعض اللوحات ببعضها الآخر. لكنها ردفت الأمّ وأسعفتها في كثير من المعضلات.

ولو كانت النسخة كاملة ، ولو جاءتنا في حلّة علمية مناسبة ، لاعتبرناها أما ولقلّت أخطاؤنا واجتهاداتنا ، ذلك أن الناسخ نقلها عن نسخة المؤلف ؛ فقد جاء في ختام الجزء الثاني قوله : «كان الفراغ من نقل هذا الجزء الثاني من العمدة من خط مؤلفها تغمده الله برحمته نهار الخميس أوائل شهر ذي القعدة من شهور سنة أربع وتسعين وتسعماية على يد الفقير الحقير إبراهيم بن أحمد بن محمد الشهير بابن الملا الشافعي العباسي البكري ...».

وقد أسميناها في بادىء الأمر (م) نسبة إلى المدينة المنورة ، غير أن بعد الشّقّة في الاستفادة منها جعلنا ننسى ذلك فدعوناها ثانية في القسم الآخر من الكتاب (د) نسبة إلى دمشق مركز دار المأمون. وهذا أحد اعتذاراتنا للقارىء.

٣٠

منهجنا في التحقيق

حاولنا جهدنا أن نحسن قراءة المخطوطة قدر الطاقة ، وأن نقرئها قدر الإمكان ، وهذا وحده جهد مضن. وبعد أن أنجزنا نسخ المخطوطة ومقارنتها بأختيها الأخريين رجعنا إلى أهمّ مصادر السمين في تأليفه. وعدا مؤلفاته كان لا بد لنا من الرجوع إلى كتب غريب القرآن ، وغريب الحديث ، وعلى رأسها المفردات ، ومعاني القرآن للفراء والأخفش. كما أنه استفاد كثيرا من اللسان لابن منظور فخصصناه لثقته. لكننا لم نتوقف عنده وحده ، بل عدنا إلى أبرز المعجمات وكتب اللغة. كما أنه أفاد كثيرا من شروح ألفاظ الحديث من النهاية لابن الأثير ، فاخترناه لهذا ولدقته وثقته وسهولة تناوله وكثرة أقوال الصحابة والتابعين فيه.

ولما كان أغلب شواهده الشعرية لغويا ، ولما كان السمين نفسه أستاذ لغة ، فقد تتبعنا شواهده في كتب اللغة وكتب النحو ، ناهيكم عن الدواوين والمجموعات. وشيئا فشيئا ازداد عدد المصادر وتضخمت بطاقاتها. ولن نذكر في ختام الكتاب إلا جانبا منها. لكننا لم نشأ أن نعلق كثيرا ـ كما يفعل بعض العلماء ـ على المسائل النحوية والصرفية ، فهذا يتطلب كتابا آخر وتفصيلا أوسع. ولو فعلنا ذلك لكان عملنا أشبه بعمل المصنفين في العصر العثماني في التعليقات والتهميشات.

وحاولنا تقليب القراءة للوصول إلى طريق السلامة ، فأضفنا ما رأيناه يناسب السياق ، ورأبنا ما كان صدعا ، وطوينا عن سقط القلم صفحا فلم نبال به. وحاولنا التقويم والتصويب .. وعلّقنا وشرحنا بشكل موجز علمي كاف ، أو أحلنا لمن يشاء التوسع في ميدانه.

٣١

وضبطنا النصّ ضبطا سليما ، وجهدنا أن يكون ضبطا على ما هو أعمّ وأسير ، من غير تعرض للشاذّ أو النادر إلا في القليل ، راحة للقارىء.

ويبدو أن السمين ألف كتابه بثلاث مجلدات ، كما تبيّن لنا من النسخة (م) ، ولم نر إشارة تذكر في الأخريين. إلا أننا رأينا الحجم ضخما ، ولا يسعه ثلاث ، فقسمناه إلى أربع مجلدات. وخصصنا النصف الرابع منه للفهارس العلمية التي نراها ضرورية ، ونخصها بفهارس الأعلام ، وفهارس الأشعار. ولم نر حاجة إلى فهرسة آي القرآن والحديث فهي كثيرة جدا ، وتنضوي تحت كلّ لفظة مشروحة.

رموزنا في الكتاب :

ح : نسخة الأحمدية ، الأم.

س : نسخة ثانية من الأحمدية ، رافد.

م أو د : نسخة المدينة المنورة ، رافد.

[] : إضافة المحقق ، أشير إلى ذلك أو لم يشر.

() : جمع لاختلاف رواية الجمل أو سقطها من بعض النسخ.

/ : علامة بدء الورقة في النسخة ح.

٣٢

٣٣

٣٤

٣٥
٣٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله المتفضّل بإنزال القرآن هدى للناس ، وبيّنات من الهدى والفرقان. أنزله بأفصح لسان ، وأوضح بيان ، وأسطع برهان ، وأقوم تبيان ، وأبلغ حجّة ، وأبين محجّة. ذا حكم بالغة وحجج لامعة. أخباره لا تتعارض ، وأحكامه لا تتناقض ، وفوائده لا تعدّ ، وفضائله لا تحدّ. وجواهر بحاره لا تحصى ، ودرر معانيه لا تستقصى. عجزت الفصحاء عن معارضته ، ونكصت (١) الألبّاء عن مناقضته. وكيف لا يكون كذلك وهو كلام ربّ العالمين ، المنزّل به الروح الأمين ، على قلب سيد المرسلين ، وأفضل الأولين والآخرين ؛ محمد خاتم النبيّين؟ أرسله بآياته ، وأيّده بمعجزاته ، والكفر قد طمت (٢) بحاره ، وزخر تيّاره. وعبدت الأوثان ، وأطيع الشيطان. فلم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجاهد في الله حقّ جهاده ، ويدعو إليه الثّقلين من عباده. ويدأب في إيضاح السّبل ، ويصبر صبر أولي العزم من الرسل ، إلى أن أنجز الله وعده ، فعبد وحده ، وهزم الشيطان وجنده ، وفلّ شباته (٣) وحدّه ، صلّى الله عليه ، وعلى آله الأطهار ، وصحابته الأخيار ، ما تعاقب الليل والنهار ، وسلّم ، وشرّف ، وكرّم.

أما بعد ، فإنّ علوم القرآن جمّة ، ومعرفتها مؤكّدة مهمّة. ومن جملتها المحتاج إليها ، والمعوّل في فهمه عليها ، مدلولات ألفاظه الشريفة ، ومعرفة معانيه اللطيفة ؛ إذ بذلك يترقّى إلى معرفة أحكامه ، وبيان حلاله وحرامه ، ومناصي أقواله ، وإشارة مواعظه وأمثاله. فإنّه نزل

__________________

(١) نكص عن الأمر : أحجم عنه.

(٢) في ح : ظلمت.

(٣) الشباة : حدّ كلّ شيء.

٣٧

بأشرف لغة ؛ لغة العرب المحتوية على كلّ فنّ من العجب.

وقد وضع أهل العلم ، رحمهم‌الله تعالى ، في ذلك تصانيف حسنة ، وتآليف مجرّدة متقنة ، ك «غريب» الإمام الحبر الربّانيّ أبي عبيد أحمد بن الهرويّ ، وك «غريب» محمد بن بكر بن عزيز السّجستانيّ (١) ، وك «مفردات الألفاظ» لأبي القاسم ، الراغب الإصبهانيّ. غير أنّهم لم يتمّوا المقصود من ذلك لاختصار عباراتهم (٢) ، وإيجاز إشاراتهم. على أن الراغب ، رحمه‌الله قد وسّع مجاله ، وبسط مقاله بالنسبة إلى من تقدّمه ، وحدا بهذا الحد ورسمه. غير أنّه ، رحمه‌الله تعالى ، قد أغفل في كتابه ألفاظا كثيرة ، لم يتكلّم عليها ، ولا أشار في تصنيفه إليها ، مع شدّة الحاجة إلى معرفتها ، وشرح معناها ولغتها ، مع ذكره لبعض موادّ لم ترد في القرآن الكريم ، أو وردت في قراءة شاذّة (٣) جدا ، كمادّة (ب ظ ر) في قوله [تعالى](٤) : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ)(٥) ، وهذه لا ينبغي أن يقرأ بها البتّة. فمّما تركه ، مع الاحتياج الكليّ إليه ، مادة (ز ب ن) وهي في قوله تعالى : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ)(٦). ومادة (غ وط) وهي في قوله تعالى : (مِنَ الْغائِطِ)(٧). ومادة (ق ر ش) وهي في قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ)(٨). ومادة (ك ل ح) وهي في قوله تعالى : (كالِحُونَ)(٩). ومادة (ه ل ع) وهي في (١٠) قوله تعالى (١١) : (هَلُوعاً)(١٢). ومادة (ل ج أ)

__________________

(١) هو محمد بن عزيز السجستاني ، أبو بكر. اشتهر بكتاب «غريب القرآن» الذي رتبه على حروف المعجم ، وكان مفسرا. توفي سنة ٣٣٠ ه‍.

(٢) وردت الكلمة في س مفردة ، وكذلك التي بعدها «إشارتهم».

(٣) وفي س : شاذية.

(٤) الكلمة ساقطة من ح.

(٥) في س : بطون ، والمعنى لا يستقيم به.

(٦) ١٨ / العلق : ٩٦.

(٧) ٦ / المائدة : ٥ ، وغيرها.

(٨) ١ / قريش : ١٠٦.

(٩) ١٠٤ / المؤمنون : ٢٣.

(١٠) الكلمة ساقطة من س.

(١١) الكلمة ساقطة من ح.

(١٢) ١٩ / المعارج : ٧٠.

٣٨

وهي في (١) قوله تعالى : (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً)(٢). ومادة (س ر د ق) وهي في (٣) قوله تعالى : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها)(٤). ومادة (ح ص ب) وهي في (٥) قوله تعالى (٦) : (حَصَبُ جَهَنَّمَ)(٧) «حاصبا» (٨). ومادة (م ر ت) وهي في (٩) قوله تعالى (١٠) : (وَمارُوتَ)(١١). ومادة (س ف ح) وهي في قوله تعالى (١٢) : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً)(١٣). ومادة (ن ض خ) وهي في (١٤) قوله تعالى : (عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)(١٥). ومادة (ق د و) وهي مذكورة في قوله تعالى : (مُقْتَدُونَ)(١٦) ، (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)(١٧). إلى غير ذلك ممّا لست بصدده الآن.

ولم أورد ذلك ، علم الله ، غضّا منه ، ولا استقصارا له ؛ فإنّ القرآن العظيم معجز كلّ بليغ. وإنما قصدت التّنبيه على ذلك ، ومعرفة ما هنالك.

فلما رأيت الأمر على ما وصف ، والحال كما عرف ، ورأيت بعض المفسّرين قد يفسّر اللفظة بما جعلت كناية عنه ، كقولهم في قوله تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ)(١٨). هي

__________________

(١) الكلمة ساقطة من س ، وذكر المادة «م ل ج».

(٢) ٥٧ / التوبة : ٩.

(٣) الحرف ساقط من س.

(٤) ٢٩ / الكهف : ١٨.

(٥) الحرف ساقط من س.

(٦) الكلمة ساقطة من ح.

(٧) ٩٨ / الأنبياء : ٢١.

(٨) ٦٨ / الإسراء : ١٧ ، وغيرها.

(٩) الحرف ساقط من س.

(١٠) الكلمة ساقطة من ح.

(١١) ١٠٢ / البقرة : ٢.

(١٢) الكلمة ساقطة من ح.

(١٣) ١٤٥ / الأنعام : ٦.

(١٤) الكلمة ساقطة من ح.

(١٥) ٦٦ / الرحمن : ٥٥.

(١٦) ٢٣ / الزخرف : ٤٣.

(١٧) ٩٠ / الأنعام : ٦.

(١٨) ٦٠ / الإسراء : ١٧.

٣٩

أبو جهل. أو بغايتها وقصارى أمرها (١) وكقولهم في قوله تعالى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ)(٢) هي كلمات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، إلى غير ذلك مما ليست موضوعة له لغة. استخرت الله القويّ ، الذي ما ندم مستخيره ، واستجرت الله بكرمه ، الذي ما خاب مستجيره ، في أن أحذوا حذو القوم ليتمّ عليّ بركتهم ، وألحق بالحشر في زمرتهم. فأذكر المادة ـ كما ستعرف ترتيبه مفسّرا معناها. وإن عثرت على شاهد من نظم أو نثر أتيت له تكميلا للفائدة. وإن كان في تصريفها بعض غموض أو ضحته بعبارة سهلة إن شاء الله. (وإن ذكر أهل التفسير اللفظة وفسّروها بغير موضوعها اللغويّ ، كما قدّمته ، تعرّضت إليه أيضا) (٣) لأنه ، والحالة هذه ، محطّ الفائدة.

ورتّبت هذا الموضوع على حروف المعجم بترتيبها الموجودة هي عليه الآن. فأذكر الحرف الذي هو أول الكلمة ، مع ما بعده من حروف المعجم ، إلى أن ينتهي ذلك الحرف مع ما بعده ، وهلمّ جرّا إلى أن تنتهي ، إن شاء الله تعالى ، حروف المعجم جميعها.

ولا أعتمد إلا على أصول الكلمة دون زوائدها ؛ فلو صدّرت بحرف زائد لم أعتبره ، بل أعتبر ما بعده من الأصول مثل : «أنعمت» تطلبه من (٤) باب النون لا من باب الهمزة. ومثل : «نعبد» و «نستعين» يطلبان من باب العين لا من باب النون. ومثل : «مكرم» يطلب من باب الكاف لا من باب الميم. وكذلك لو عرض في المادة حذف أوّلها فإنّني أعتمده دون ما بعده مثل : «يعدهم» يطلب من باب الواو لأنه من الوعد ، لا من العين. وكذلك لو عرض فيه البدل ، فإنني أعتبر أصله مثل : «إيمان» من باب الهمزة لا من باب الياء ، لأنّها فيه عارضة ، إذ أصله «إإمان» كما ستعرفه لمن شدّ ... (٥) من علم أسموه إعرابا وتصريفا ، فهو الذي ... (٦).

__________________

(١) وفي س : قصارى أمراها.

(٢) ٤٦ / الكهف : ١٨.

(٣) ما بين قوسين ساقط من ح.

(٤) وفي ح : في.

(٥) الكلمة مبهمة في الأصل.

(٦) فراغ في الأصل.

٤٠