تحفة العالم في شرح خطبة المعالم - ج ٢

آية الله السيّد جعفر بحر العلوم

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد جعفر بحر العلوم


المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مركز تراث السيد بحر العلوم قدّس سرّه
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

وذكر المدائني ، قال : لمّا جلس الرضا عليه‌السلام ذلك المجلس ، وهو لابس تلك الخِلَع ، والشعراء ، والخطباء يتكلَّمون ، وتلك الألوية تخفق على رأس الرضا عليه‌السلام ، نظر إلى بعض أصحابه الحاضرين ممَّن كان يختصّ به ، وقد داخله من السرور ما لا مزيد عليه ؛ وذلك لِما رأى ، فأشار إليه الرضا عليه‌السلام ، فدنا منه ، فقال له في اُذنه سرّاً : لا تشغل قلبك بشيء ممَّا ترى من هذا الأمر ، ولا تستبشر به ؛ فإنَّه لا يتمّ) (١).

وهذه صورة مختصرة من كتاب العهد ، الَّذي كتبه المأمون بخطّه للرضا عليه‌السلام.

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد لعلي بن موسی بن جعفر وليّ عهده.

أمّا بعدُ : فإنَّ الله عزَّ وجلَّ اصطفى الإسلام ديناً ، واختار له من عباده رسلاً ، دالّین عليه ، وهادين إليه ، يبشّر أولهم بآخرهم ، ويصدّق تاليهم ماضيهم ، حَتَّى انتهت نبوَّةُ الله إلى محمّد صلى الله عليه على فترة من الرسل ، ودروس من العلم ، وانقطاع من الوحي ، واقتراب من الساعة ، فختم الله به النبيين ، وجعله شاهداً عليهم ومهيمناً ، وأنزل عليه كتابه العزيز الَّذي لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٢).

فلمَّا انقضت النبوة ، وختم الله بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الرسالة ، جعل قوام الدين ، ونظام أمر المسلمين في الخلافة ونظامها ، والقيام بشرائعها وأحكامها ، ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة ، وحمل مشاقّها ، وخبر مرارةَ طعمها وذاقها ، مُسهِراً لعينيه ، مُنْصِباً لبدنه ، مُطيلاً لفكره ، فيما فيه عز الدين وقمع المشركين ، وصلاح الأمَّة وجمع الكلمة ، ونشر العدل ، وإقامة الكتاب والسنة ، ومنعه لك من الخفض والدَّعة ، ومهن العيش ، محبة أن يلقى الله سبحانه وتعالى مناصحاً له في دينه وعباده ، ومختارةً لولاية عهده ، ورعاية الاُمَّة من بعده ، أفضل من يقتدر عليه في دينه ، وورعه ،

__________________

(١) ورد بهذا النص في الإرشاد ٢ : ٢٦٠ ، ونور الأبصار : ١٥٥ ، وينظر نحوه في : مقاتل الطالبيين : ٣٧٥ ، روضة الواعظين : ٢٢٥ ، إعلام الورى ص : ٧٣ ، كشف الغُمَّة ٣ : ٧٠ ، بحار الأنوار ٤٩ : ١٤٥ ـ ١٤٨.

(٢) سورة فصلت : ٤٢.

٨١

وعلمه ، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقّه ، مناجياً لله تعالی بالاستخارة في ذلك ، ومساءلته العامة ما فيه رضاه وطاعته في آناء ليله ونهاره.

مُعمِلاً فكرَهُ ونظره في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العبَّاس ، وعلي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، مقتصراً ممَّن علم حاله ومذهبه منهم على علمه ، وبالغاً في المسألة ممَّن حفي عليه أمر (١) جهده وطاقته ، حَتَّى استقصى اُمورهم معرفةً ، وابتلى أخبارهم مشاهدةً ، واستبرأ أهوالهم معاينةً ، وكشف ما عندهم مسألةً ، وكانت خيرته بعد استخارة الله تعالى ، وإجهاده نفسه في قضاء حقّه في عباده ، وبلاده في الفئتين جميعاً : علي بن موسی بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ؛ لما رأى من فضله البارع ، وعمله الذائع ، وورعه الظاهر الشائع ، وزهده الخالص النافع وتخلّيه عن الدنيا ، وتفرّده عن الناس. وقد استبان له من لم تزل الأخبار عليه منطبقة ، والألسن عليه متَّفقة ، والكلمة فيه جامعة ، والأخبار واسعة ؛ ولمّا لم يزل يُعرف به الفضل يافعاً وناشئاً ، وحدثاً وكهلاً ؛ فلذلك عقد له بالعهد والخلافة من بعده ، واثقاً بخيرة الله في ذلك ، إذ علم الله تعالى : أنه فعله إيثاراً له وللدين ، ونظراً للإسلام والمسلمين ، وطلباً للسلامة وإثبات الحجَّة ، والنجاة في اليوم الَّذي تقوم فيه الناس لربِّ العالمين ، ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته ، وقوّاده وخدمه ؛ فبايعه الكلُّ مطيعين ، مسارعين ، عالمين ، بایثار أمير المؤمنين ، طاعة الله على الهوى في ولده ، وغيره ممَّن هو أشبك رحماً وأقرب قرابة ، وسمّاه الرضا إذ كان مرضياً عند الله تعالی وعند الناس ، وقد آثر طاعة الله تعالى ، والنظر لنفسه وللمسلمين ، والحمد لله رب العالمين.

كتبه بيده في اليوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان المعظَّم ، سنة إحدى ومائتين ، وهذه صورة ما على العهد مكتوباً بخط الإمام علي بن موسی الرضا :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الفعّال لما يشاء ، لا مُعقّب لحكمه ، ولا راد لقضائه. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وصلواته على نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين.

أقول : وأنا علي بن موسی بن جعفر : إنّ أمير المؤمنين عضده الله بالسداد ، ووفّقه

__________________

(١) لعلّ العبارة هكذا : (مِمَّن خفيَ عليهِ أمرُهُ) والله أعلم.

٨٢

للرشاد ، عرف من حقّنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاماً قُطعت ، وأمّن نفوساً فُزعت ، بل أحياها بعد أن كانت من الحياة آيسة ؛ فأغناها بعد فقرها ، وعرفها بعد نکرها ، مبتغياً بذلك رضا ربِّ العالمين ، لا يريد جزاء من غيره. وسيجزي الله الشاكرين ، ولا يضيع أجر المحسنين.

وإنه جعل إلي عهده والإمرة الكبرى ، إنْ بقيتُ بعدَه ، فمن حلّ عقدة أمر الله بشدّها ، أو قصم عروة أحبّ الله اتّساقها ، فقد أباح الله حريمه ، وأحلّ محرمة ؛ إذا كان بذلك زارياً على الإمام ، منتهكاً حرمة الإسلام ، وخوفاً من شتات الدين ، واضطراب أمر المسلمين ، وحذر فرصة تنتهز ، وعلقة (١) تبتدر.

وجعلت لله تعالى على نفسي عهداً إن استرعاني أمر المسلمين ، وقلَّدني خلافة العمل فيهم عامّة ، وفي بني العبَّاس بن عبد المطلب خاصة ، أن أعمل فيهم بطاعة الله وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أسفك دماً ، ولا اُبيح فرجاً ولا مالاً ؛ إلا ما سفكته حدوده ، وأباحته فرائضه ، وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي ، جعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكّداً ، يسألني الله عنه ؛ فإنه عزَّ وجلَّ يقول : وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (٢) ، وإن أحدثت ، أو غيَّرت ، أو بدَّلت ، كنت للعزل مستحقاً وللنكال متعرضاً ، وأعوذ بالله من سخطه ، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته ، والحول بیني وبين معصيته في عافية لي وللمسلمين.

والجامعة ، والجفر يدلان على ضدِّ ذلك. وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم ، إن الحكم إلا لله يقضي بالحق ، وهو خير الفاصلين.

ولكنّي امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاءه والله تعالى يعصمني وإيّاه ، وأشهدت الله على نفسي ، وكفى بالله شهيداً ، وكتبت بخطّي بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، والحاضرين اولياء نعمته ، وخواص دولته : الفضل بن سهل ، وسهل بن الفضل ، والقاضي يحيى بن أكثُمَّ ، وعبد الله بن طاهر ، وثمامة بن الأبرش ، وبشر بن المعتمر ، وحمَّاد بن النعمان. وذلك في شهر رمضان ،

__________________

(١) كذا وفي بعض المصادر : (وبائقة) وفي غيرها : (وناعقة).

(٢) سورة الأسراء : ٣٤.

٨٣

سنة إحدى ومائتين.

صورة رقم شهادة القاضي يحيى بن أكثُمَّ : شهد يحيى بن أكثُمَّ على مضمون هذا المكتوب : ظهره ، وبطنه ، وهو يسأل الله أن يعرف أمير المؤمنين ، وكافة المسلمين بركة هذا العهد والميثاق.

وكتب بخطه في التاريخ المبين فيه صورة رقم شهادة عبد الله بن طاهر ، أثبت شهادته فيه بتاريخه عبد الله بن طاهر.

وصورة رقم شهادة حمّاد : شهد بذلك حمّاد بن النعمان بمضمونه : ظهراً ، وبطناً ، وكتبه بيده في تاريخه.

وصورة شهادة ابن المعتمر : شهد بمثل ذلك بشر بن المعتمر.

وعلى الجانب الأيسر : بخط الفضل بن سهل : رسم أمير المؤمنين بقراءة هذه الصحيفة ، التي هي صحيفة العهد والميثاق : ظهراً وبطناً ، بحرم سیِّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بين الروضة والمنبر ، على رؤوس الأشهاد ، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم ، وسائر الأولياء والأخيار ، بعد أخذ البيعة عليهم ، واستيفاء شروطها بما أوجبه أمير المؤمنين من العهد لعلي بن موسی الرضا ؛ لتقوم به الحجَّة على جميع المسلمين ، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين ، وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه (١).

وفي كشف الغُمَّة : «وممّا تلقته الأسماع بالاستماع ، ونقلته الألسن في بقاع الأصقاع : أنَّ الخليفة المأمون وجد في يوم عيدٍ انحراف مزاج ، أحدث عنده ثقلاً عن الخروج إلى الصلاة بالناس ، فقال لأبي الحسن علي الرضا عليه‌السلام : يا أبا الحسن قم وصلّ بالناس.

__________________

(١) أورد تمامها الإربلي رحمه‌الله في كشف الغُمَّة ٣ : ١٢٤ وقد اختصرها المؤلف رحمه‌الله كما في أولها ، فلاحظ.

٨٤

فخرج الرضا عليه‌السلام وعليه قميص قصير أبيض ، وعمامة بيضاء لطيفة ، وهما من قطن ، وفي يده قضيب. فأقبل ماشياً يؤم المصلِّين ، وهو يقول : السلام على أبويّ آدمَ ونوحٍ ، السلام على أبويّ إبراهيمَ وإسماعيلَ ، السلام على أبويّ محمّد وعليٍ ، السلام على عباد الله الصالحين.

فلمّا رآه الناس هرعوا إليه ، وانهالوا عليه ؛ لتقبيل يديه.

فأسرع بعض الحاشية إلى الخليفة المأمون ، فقال : يا أمير المؤمنين تدارك الناس ، واخرج وصلّ بهم ؛ وإلّا خرجت الخلافة منك.

فحمله على أن خرج بنفسه ، وجاء مسرعاً ، والرضا عليه‌السلام بعد من كثرة الزحام عليه لم يخلص إلى المصلى ، فتقدَّم المأمون وصلَّى بالناس» (١).

وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام عن تميم القرشي ، عن أبيه ، عن أحمد بن علي الأنصاري ، قال : «سألت أبا الصلت الهروي ، فقلت له : كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه‌السلام ، مع إكرامه ومحبته له ، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟

فقال : إنَّ المأمون إنّما كان يكرمه ويحبُّه لمعرفته بفضله ، وجعله له ولاية العهد من بعده ، ليري الناس أنه راغب في الدنيا ، فيسقط محلُّه من نفوسهم. فلمَّا لم يظهر منه في ذلك للناس إلا ما ازداد به فضلاً عندهم ، ومحلّا في نفوسهم ، جلب عليه المتكلّمين من البلدان ، طمعاً من أن يقطعه واحد منهم ، فيسقط محلُّه عند العلماء ، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامَّة ، فكان لا يكلّمه خصم من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، والصابئين ، والبراهمة ، والملحدين ، والدهرية ، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين له ، إلّا قطعه وألزمه الحجّة.

وكان الناس يقولون : والله إنه أولى بالخلافة من المأمون.

وكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه ، فيغتاظ من ذلك ، ويشتدُّ حسده.

__________________

(١) کشف الغُمَّة ٢ : ٥٨.

٨٥

وكان الرضا عليه‌السلام لا يحابي المأمون من حق ، وكان يجيبه (١) بما يكره في أكثر أحواله ؛ فيغيظه ذلك ، ويحقده عليه ، ولا يظهره له.

فلمّا أعيته الحيلة في أمره اغتاله ، فقتله بالسمّ) ، انتهى (٢).

في سمّ المأمون له عليه‌السلام

قال في البحار : (اعلم أن أصحابنا والمخالفين اختلفوا أنّ الرضا عليه‌السلام هل مات حتف أنفه ، أو مضى شهيداً بالسمّ؟ وعلى الأخير : هل سمّه المأمون لعنه الله أو غيره؟

والأشهر بيننا أنه عليه‌السلام مضى شهيداً بسمّ المأمون.

ويُنسب إلى السيِّد علي ابن طاووس أنه أنكر ذلك ، وأنكره الإربَلَي رحمه‌الله ، في (کشف الغُمَّة). وردّ ما ذكره المفيد بوجوه سخيفة ، حيث قال : بعد إيراد كلام المفيد : بلغني ممَّن أثقُ بهَّ أن السيِّد رضی الدین علي بن طاووس رحمه‌الله كان لا يوافق على أن المأمون سقى عليّاً عليه‌السلام السمّ ، ولا يعتقده.

وكان رحمه‌الله كثير المطالعة ، والتنقيب ، والتفتيش على مثل ذلك. والَّذي كان يظهر من المأمون ، من حنوه عليه ، وميله إليه ، واختياره له دون أهله وأولاده ممَّا يؤيد ذلك ويقرِّره.

وقد ذكر المفيد رحمه‌الله شيئاً ما يقبله عقلي ، ولعلّي واهم. وهو أن الإمام كان يعيب ابني سهل عند المأمون ، ويقبِّح ذكرهما إلى غير ذلك. وما كان أشغلَهُ باُمور دينه وآخرته ، واشتغاله بالله عن مثل ذلك.

وعلى رأي المفيد رحمه‌الله : إن الدولة المذكورة من أصلها فاسدة ، وعلى غير قاعدة مرضية ؛ فاهتمامه عليه‌السلام بالوقيعة فيهما ، حَتَّى أغراهما بتغيير رأي الخليفة عليه‌السلام ، فيه ما فيه ، ثُمَّ إن نصيحته للمأمون وإشارته عليه بما ينفعه في دينه لا توجب أن تكون سبباً

__________________

(١) في الأصل : (وكان يحابيه) وفي بعض المصادر : (وكان يجبهه) وما أثبتناه من المصدر.

(٢) عیون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٦٥.

٨٦

لقتله ، وموجباً لركوب هذا الأمر العظيم منه. وقد كان يكفي في هذا الأمر أن يمنعه من الدخول عليه ، أو يكفّه عن وعظه.

ثُمَّ إنا لا نعرف أن الإبر إذا غُرست في العنب صار مسموماً ، ولا يشهده القياس الطبَّي. والله أعلم بحال الجميع ، وإليه المصير. وعنده تجتمع الخصوم) ، انتهى (١).

قلت : وممَّن منع من صحَّة نسبة ذلك إلى المأمون : الصدوق أيضاً في العلل ، والعيون ، فإنه بعد نقل الرواية المتضمنة لسرقة الصوفي ، ورفع أمره إلى المأمون ، ومكالمة المأمون مع الرضا عليه‌السلام في شأن ذلك الصوفي ، وأنه احتجب المأمون عن الناس ، واشتغل بالرضا عليه‌السلام حَتَّى سمّه ، فقتله. وقد كان قتل الفضل بن سهل ، وجماعة من الشيعة.

قال رحمه‌الله : (روي هذا الحديث كما حكيته ، وأنا بريء من عهدة صحَّته) ، انتهى (٢).

وكيف كان فهو موهون من حيث مخالفته لمذهب المشهور ، والأخبار ناطقة بخلافه ، ولذا ترى المجلسي رحمه‌الله أخذ في ردّ ما استند إليه الإربلّي : (بأن الوقيعة في ابني سهل لم يكن للدنيا حَتَّی يمنعه عنه الإشتغال بعبادة الله تعالی ، بل كان ذلك لما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورفع الظلم عن المسلمين مهما أمكن. وکون خلافة المأمون فاسدة أيضاً لا تمنع منه ، كما لم تمنع غيره من الإرشاد إلى ما فيه مصالح المسلمين في الغزوات وغيرها.

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٩ : ٣١١ ، كشف الغُمَّة ٣ : ٧٦ ، الإرشاد ٢ : ٢٦٩ ، وينظر إلى ما كتبه الشهيد السيِّد علي القاضي في إثبات سمّه في هامش الأنوار النعمانية ٤ : ٧٩ ـ ٨٢.

(٢) علل الشرائع ١ : ٢٣٩ ح ١ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٦٣ ح ١ ، لا يمكن أن يُأخذ رأي الشيخ الصدوق رحمه‌الله هنا على الإطلاق فهو مفيد بحصَّة هذه الرواية ، فهي غير صحيحة عنده وربما لضعف في السند أو اختلاف في المضمون فالشيخ هنا يردّ الرواية ولا يرد حادثة السمّ ، فالأولى أن لا يعمم رأيه رحمه‌الله على الحادثة.

٨٧

ثُمَّ إنه ظاهر أن نصيحة الأشقياء ووعظهم بمحضر الناس لا سيما المدَّعين الفضل والخلافة ، ممَّا يثير حقدهم ، وحسدهم ، وغيظهم. مع أنه لعنه الله كان أول أمره مبنياً على الحيلة والخديعة ؛ لإطفاء نائرة الفتن الحادثة من [خروج] (١) الأشراف والسادة من العلويين في الأطراف ، فلمَّا استقر أمره أظهر كيده) (٢).

وأمّا دعوی عدم شهادة القياس الطبِّي على غرس الإبرة في العنب ، وصيرورة العنب مسموماً : فهو إنما يتم مع خلو الإبرة من المواد السمومية ، وأمّا مع غمسها في السمّ ، ثُمَّ غرسها في العنب ؛ فلا بعد في تأثيره ، بل يكون مؤثّراً قطعاً.

قال السيِّد الأجل السيِّد عبد الله الجزائري (٣) في مسألة الاستخراج من الجفر : (لا ريب أنه أشرف وأوثق من الاستخراج من النجوم والرمل ، والإصابة فيه أكثر ، إلى أن قال : ورأيت بعض المهوسين بهذا العلم عملاً منسوباً إلى الرضا عليه‌السلام ، سُئل نفسه : كيف حال الرضا مع المأمون؟ ـ كتبه في سطر ، ثُمَّ كتب حروفاً من السؤال مفصولة في سطر آخر ، ثُمَّ أخذ نظائرها في سطر ثالث ـ وساق العمل في سطور متعدِّدة إلى أن حصل الجواب : (يسمُّهُ المأمون في عنب). قال : فأخذت ذلك دستوراً ، ونسجت على منواله ، وعملت أعمالاً رأيت منها العجائب.

ومن وجوه إعجاز القرآن المعلومة بهذا العلم الشريف : أنك إذا عملت في قوله تعالى : مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ بالأعمال الجفرية ، خرج الجواب : يُحْيِيهَا الَّذي

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) بحار الأنوار ٤٩ : ٣١٤.

(٣) هو حفيد السيِّد نعمة الله الجزائري ، له الإجازة الكبيرة ، ت ١١٧٣ هـ.

٨٨

أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ (١). وفي قوله تعالى : مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَخَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٢).

قال : وهذا كلّه من الشواهد المعتبرة على وثاقة هذا العلم ، وأنه من الأسرار المكنونة التي لا يمسّها إلا المطهَّرون).

هذا إتمام الكلام في سبب وفاته ، وأن الحق ما اختاره أجلاء أصحابنا الإمامية من أنه عليه‌السلام مضى شهيداً بسمّ المأمون ، عليه لعائن الله أبد الآبدين.

خاتمة شريفة

في فضيلة بقعته ، ومحلّ دفنه ـ صلوات الله عليه ـ ومن بنی قبَّته ، وشيّد أثاره فاعلم : أن من جملة الأخبار الدالة على فضيلة تلك الأرض المقدسة ، والبقعة المباركة ما رواه الشيخ رحمه‌الله في باب الزيارات من التهذيب : «أنَّ الرضا عليه‌السلام قال : إنَّ بخراسان لبقعة من الأرض يأتي عليها زمان تصير مختلف الملائكة ، فقال : فلا يزال فوج ينزل من السماء وفوج يصعد ، إلى أن يُنفخ في الصور.

فقيل له عليه‌السلام : يا بن رسول الله وأيّ بقعة هذه؟ فقال : هي أرض طوس ، وهي والله روضة من رياض الجنَّة ... الخ» (٣).

روي أيضاً عن الصادق عليه‌السلام : «أربع بقاع ضجّت إلى الله من الغرق في أيام الطوفان ، قال : البيت المعمور فرفعه الله إليه ، والغري وکربلا وطوس» (٤).

قال في الوافي : (ولمّا ضجّت تلك البقاع ، وكان ضجيجها إلى الله من جهة

__________________

(١) سورة يس : من آية ٧٨ ، ٧٩ تباعاً.

(٢) سورة الزخرف : من آية ٩.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ١٠٨ رقم ١٩٠ / ٦ ، والمؤلف رحمه‌الله نقله بالمعنى وما أثبتناه من المصدر.

(٤) تهذيب الأحكام ٦ : ١١٠ رقم ١٩٦ / ١٢ ، والمؤلف رحمه‌الله نقله بالمعنى وما أثبتناه من المصدر.

٨٩

عدم وجود من يعبد الله على وجهها ، فجعلها الله مدفن أوليائه) (١).

فأول مدفن بُني في تلك الأرض المقدَّسة سناباد ، بناها اسکندر ذو القرنين صاحب السدّ ، وكانت دائرة إلى زمان بناء طوس.

قال في معجم البلدان : (طوس مدينة بخراسان ، بينها وبين نيسابور نحو عشرة فراسخ ، وتشتمل على مدينتين : يقال لإحداهما الطابران ، وللأُخرى نوقان. ولهما أكثر من ألف قرية ، فتحت في أيام عثمان ، وبها قبر علي بن موسی الرضا ، وبها أيضاً قبر هارون الرشيد.

وقال مسعر بن المهلهل : وطوس أربع مدن : منها اثنتان كبيرتان ، واثنتان صغيرتان ، وبهما آثار أبنية إسلامية جليلة ، وبها دار حميد بن قحطبة ، ومساحتها ميل في مثله ، وفي بعض بساتينها قبر علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وقبر الرشید) ، انتهى (٢).

وكان حميد بن قحطبة والياً على طوس من قبل هارون ، فبنى في سناباد بنياناً ومحلاً لنفسه ، متی خرج إلى الصيد نزل فيه ، وحميد هذا هو الَّذي قتل في ليلة واحدة ستين سيِّداً من ذرِّية الرسول بأمر من هارون الرشيد ، كما هو في العيون (٣).

قال ابن عساكر في تاريخه : (حميد بن قحطبة ، واسمه زياد بن شبيب بن خالد بن معدان الطائي ، أحد قوّاد بني العبَّاس ، شهد حصار دمشق ، وكان نازلاً علی باب توما ، ويقال على باب الفراديس ، وولي الجزيرة للمنصور ، ثُمَّ ولي خراسان في خلافة المنصور ، وأقرّه المهدي عليها حَتَّى مات ، واستخلف ابنه عبد الله ، وولي مصر

__________________

(١) الوافي ١٤ : ١٥٩٨ بيان ١٤٦٦٩ / ٤ باختلاف يسير.

(٢) معجم البلدان ٤ : ٤٩.

(٣) عیون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٠٠ ح ١.

٩٠

في خلافة المنصور في شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين ومائة ، سنة كاملة ، ثُمَّ صُرف عنها ، وكانت وفاة المترجم سنة تسع وخمسين ومائة) ، انتهى (١).

وأمّا أصل بناء القُبَّة المنورة ، فالظاهر أنها كانت في حياته عليه‌السلام مشهورة بالبقعة الهارونية ، كما هو مروي في العيون من أنه : دخل دار حمید بن قحطبة الطائي ، ودخل القُبَّة التي فيها قبر هارون الرشيد (٢).

وأيضاً عن الحسن بن الجهم ، قال : (حضرت مجلس المأمون يوماً ، وعنده علي بن موسی الرضا عليه‌السلام، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام ـ وذكر أسئلة القوم ، وسؤال المأمون عنه عليه‌السلام وجواباته ، وساق الكلام ـ إلى أن قال : فلمَّا قام الرضا عليه‌السلام تبعته ، فانصرف إلى منزله ، فدخلت عليه ، وقلت له : يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الحمد لله الَّذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين ما حمله على ما أرى من إكرامه لك ، وقبوله لقولك.

فقال عليه‌السلام : يا بن الجهم ، لا يغرنّك ما ألفيته عليه من إكرامي ، والاستماع منّي ، فإنه سيقتلني بالسمّ وهو ظالم لي ، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من آبائي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاکتم عليّ هذا ما دُمْتُ حيّاً.

قال الحسن بن الجهم : فما حدّثت أحداً بهذا الحديث إلى أن مضى الرضا عليه‌السلام بطوس مقتولاً بالسمّ [ودُفن في دار حمید بن قحطبة الطائي في القُبَّة التي فيها قبر هارون الرشيد إلى جانبه] (٣)) (٤).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ١٥ : ٢٨٩ رقم ١٨٠٧.

(٢) عیون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤٧ ح ١.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٦ ح ١.

٩١

وبالجملة ، فالظاهر أن سناباد كانت بلدة صغيرة بطوس ، وكانت لحميد بن قحطبة فيها دارٌ وبستانٌ ، ولمّا مات هارون الرشيد في طوس دُفن في بيت حمید ، ثُمَّ بنى المأمون قُبَّة على تربة أبيه ، ولمّا توفي (١) الإمام عليه‌السلام دُفن بجنب هارون في تلك القُبَّة التي بناها المأمون ، فلا وجه لما هو الشائع على الألسن أن قبَّته المباركة من بناء ذي القرنين.

ولعلَّ وجه الشبهة أنّ (مرو شاه جان) الَّذي هو من أعظم بلاد خراسان ، هو من بناء ذي القرنين كما ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان ، وكان فيها سریر سلطنته ، ومن حسن هوائه كان يسمّيه بروح الملك ، بكسر اللام ، وباعتبار تقديم المضاف إليه اشتهر بشاه جان (٢).

وفيه أيضاً : (وقد رُوي عن بريدة بن الحصيب أحد أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا بريدة إنه سيُبعث من بعدي بعوث ، فإذا بُعثت ، فکن في بعث المشرق ، ثُمَّ كن في بعث خراسان ، ثُمَّ كن في بعث أرض يقال لها مرو ، إذا أتيتها فانزل مدينتها ؛ فإنَّه بناها ذو القرنين ، وصلّى فيها عزير ، أنهارها تجري بالبركة ، على كل نقب منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهلها السوء إلى يوم القيامة) (٣).

وقال بعض : هي خير بقاع الأرض من بعد الجنات الأربع التي هي : سعد سمرقند ، ونهر أبلة ، وشعب بوّان ، وغوطة دمشق ، من حيث طيب الفواكه والغلّة ، وجمال النساء والرجال ، والخيل الجياد التي توجد فيها ، وسائر الحيوانات.

__________________

(١) كذا وكان الأجدر أن يقول رحمه‌الله : (قتل) أو (استشهد) فهي من سهو القلم.

(٢) معجم البلدان ٥ : ١١٣ ، وفي ٤ : ٤٩ منه ذكر وصف قصر ضمن مادة (ط. و. س) دون ذكر شاهجان.

(٣) معجم البلدان ٥ : ١١٣.

٩٢

كانت مرو دار الإمارة للملوك من آل طاهر ، ومن المحتمل أنَّ إسکندر حيث كان من المقرَّبين عند الله ، اُلهم من عالم الغيب أنه يُدفن في هذه البقعة من الأرض أحد الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، فبنى هذه البلدة ، وسمَّاها سناباد كما رواه الصدوق رحمه‌الله في إكمال الدين ، وفيه : يقتله عفریت متكبِّر ، ويُدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح ذو القرنين ، ويُدفن إلى جنب شرّ خلق الله (١).

ولنعم ما قاله دعبل الخزاعي رضي‌الله‌عنه :

أربع بطوسٍ على قبرِ الزَّكيِّ إذا

ما كُنتَ تَرفَعُ من دینٍ على فطَرِ

قبرانِ في طوس : خيرُ الناسِ كلَّهمُ

وقبرُ شرِّهُمُ، هذا مِن العِبَرِ

ما ينفعُ الرجسَ من قبرِ الزكيّ وما

على الزكيِّ بِقُربِ الرجسِ من ضَرَرِ

هيهاتَ كلُّ امرئٍ رهنٌ بِما كَسَبَتْ

بهِ يداهُ فَخُذْ ما شِئْتَ او فَذَرِ

وعليه ، فإن إسكندر لم يبنِ القُبَّة ، بل إنَّما هو المُمَصّر لتلك البلدة (٢).

وفي الخرائج : (رُوي عن الحسن بن عبَّاد ـ وكان كاتب الرضا عليه‌السلام ـ قال : دخلت عليه ، وقد عزم المأمون بالمسير إلى بغداد ، فقال : يا بن عبَّاد ما ندخل العراق ولا نراه ، فبكيت وقلت : آيستني أن آتي أهلي وولدي. قال عليه‌السلام : أمّا أنت فستدخلها ، وإنَّما عنيت نفسي. فاعتلَّ وتوفّي في قرية من قرى طوس

__________________

(١) کمال الدين : ٣١٠ ضمن خبر اللوح.

(٢) ديوان دعبل الخزاعي : ١٠٦ ، معجم البلدان ٤ : ٥٠ ، ورواية الديوان :

أربع بطوس على قبر الزكي بها

إن كنت تربعُ من دين على وطر

قبران في طوس : خير الناس كلّهم

وقبر شرّهم ، هذا من العبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا

على الزكي بقرب الرجس من ضرر

هيهات كلّ امرئ رهن بما كسبت

له يداه ، فخذ ما شئت أو فذر

٩٣

[قال الراوندي رحمه‌الله :] (١) وقد كان تقدّم في وصيته أن يُحفر قبره ممَّا يلي الحائط ، بينه وبين قبر هارون ثلاثة أذرع. وقد كانوا حفروا ذلك الموضع لهارون ، فكُسرت المعاول والمساحي ، فتركوه ، وحفروا حيث أمكن الحفر ، فقال : أحفروا ذلك المكان ، فإنَّه سيلين عليكم ، وستجدون صورة سمكة من نحاس وعليها كتابة بالعبرانية ، فإذا حفرتم لحدي ، فعمّقوه وردّوها ممَّا يلي رجليَّ.

فحفرنا ذلك المكان ، فكانت المحافر تقع في الرمل الليّن بالموضع ، ووجدنا السمكة مكتوب عليها بالعبرانية : (هذه روضة علي بن موسى ، وتلكَ حفرةُ هارون الجبَّار) فرددناها ، ودفناها في لحده عند موضع قاله) (٢).

ومن المعلوم أن حفر الأرض ، وعمل سمكة من نحاس وكتابة ، لا يكون إلا من إنسان (٣) ، وبالجملة ، فالظاهر أن الحفر المزبور من آثار إسكندر ذي القرنين دون القُبَّة المنوَّرة.

قال في مجالس المؤمنين عند ترجمة الشيخ كمال الدين حسين الخوارزمي : (إنه مسطور في التواریخ ، وفي الألسنة ، والأفواه خصوصاً عند أهل خراسان ، أنه مدّة أربعمائة سنة لم تكن عمارة لائقة على قبر الإمام علي بن موسی ، وبعض الآثار التي كانت توجد عليه هي من أساس حميد بن قحطبة الطائي ، الَّذي كان في زمان هارون الرشيد حاكماً في طوس من قبله ، ولمّا توفّي دفنه في داره ، ومن بعده دفنوا الإمام عليه‌السلام في تلك البقعة بجنب هارون) (٤).

__________________

(١) ما بين المعقوفين منا لإتمام المعنى.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ٣٦٧.

(٣) ينظر عن أمر وصيته عليه‌السلام : بحار الأنوار ٤٨ : ٢٧٦.

(٤) مجالس المؤمنين ٢ : ١٧٥ ضمن ترجمته الواقعة في ص ١٦٢.

٩٤

ويظهر من الخبر المروي عن الرضا عليه‌السلام : «أنّي اُدفن في دار موحشة ، وبلاد غريبة» (١) ، أنه في مدة أربعمائة سنة المذكورة ، لم تكن في حوالي مرقده الشریف دار ولا سكنة ، وكانت نوقان في كمال العمران مع أنه ما بين (٢) نوقان وسناباد من البعد إلا حدّ مدّ الصوت.

وقال في (کشف الغُمَّة) : (إن امرأة كانت تأتي إلى مشهد الإمام عليه‌السلام في النهار وتخدم الزوَّار ، فإذا جاء الليل سدّت باب الروضة وذهبت إلى سناباد) (٣).

وربّما يقال : (إن بعض التزيينات كانت توجد في بناء المأمون من بعض الديالمة إلى أن خرّبه الأمير سبکتکین ، وذلك لتعصُّبه وشدّته على الشيعة ، وكان خراباً إلى زمان يمين الدولة محمود بن سبکتکين) (٤).

قال ابن الأثير في (الكامل) في ضمن حوادث سنة ٤٢١ هـ : (وجُدّد عمارة المشهد بطوس الَّذي فيه قبر علي بن موسی الرضا عليه‌السلام والرشيد ، وأحسن عمارته ، وكان أبوه سبکتکین أخربه ، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره ، فمنعهم من ذلك ، وكان سبب فعله ؛ أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في المنام وهو يقول له : إلى متى هذا؟ فعلم أنه يريد أمر المشهد ، فأمر بعمارته) (٥).

__________________

(١) ينظر : أمالي الصدوق : ١٢٠ ح ١٠٩ / ٨.

(٢) كذا والأولى أن يقول رحمه‌الله : (مع أنه لم يكن بين) ليستقيم المعنى.

(٣) لم أعثر عليه في كشف الغُمَّة وربّما نقله رحمه‌الله من هامش نسخة أخرى للكتاب كانت عنده ، فيها تعاليق لأحد المتأخرين.

(٤) لم أهتد إلى مصدر قوله.

(٥) الكامل في التاريخ ٩ : ٤٠١.

٩٥

ثُمَّ إن هذه العمارة قَدْ هدمت عند تطرق قبائل غز ، وجُدّدت في عهد السلطان سنجر السلجوقي (١).

قال في مجالس المؤمنين : (وإنَّ القُبَّة العالية ، والبناء المعظّم الموجود الآن من أثار شرف الدين أبي طاهر القمِّي ، الَّذي كان وزيراً للسلطان سنجر.

قال : وكان بناء الوزير المزبور بإشارة غيبية ، وأن تعيين المحراب الواقع في المسجد فوق الرأس إنما كان بإشارة من الإمام عليه‌السلام ، وتعيين علماء الشيعة) ، انتهى (٢).

وفي سنة ٥٠٠ هـ أمر السلطان سنجر السلجوقي بصناعة الكاشي الَّذي يفوق في الجودة حلي الصين ، وأن يُكتب عليه الأحاديث النبوية والمرتضوية ، وتمام القرآن ، وكان الكاتب لهما عبد العزيز بن أبي نصر القمِّي.

ومن عجيب أمر ذلك ، أنه حُملت تلك الآلات على النوق ، واُرسلت من قم ، فجاءت بطيّ الأرض إلى حوالي خراسان ، ونزلت في منخفض من الأرض بقرب البلدة المقدَّسة ، فمرّ جماعة من المارة على تلك الناحية ، فاطّلعوا على صورة الحال ، فحملوها إلى سيد النقباء السيِّد محمّد الموسوي ، فبنى بها الهزارة الرضوية.

وكان السلطان سنجر ابن الملك شاه السلجوقي مع سعة ملکه قَدْ اختار هذا المكان على سائر بلاده ، ومازال مقيماً به إلى أن مات ، وقبره به في قُبَّة عظيمة ، لها شبَّاك إلى الجامع ، وقُبَّته زرقاء تظهر من مسيرة يوم ، بناها له بعض خدمه بعد موته ووقف عليها وقفاً لمن يقرأ القرآن ، ويكسو الموضع (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٨ : ٣٢٥.

(٢) مجالس المؤمنين ٢ : ١٧٥.

(٣) لم أهتد إلى مصدر قوله.

٩٦

قال في (المعجم) : (وتركتها أنا في سنة ٦١٢ هـ على أحسن ما يكون) (١).

واستمر بناء سنجر إلى زمان جنكيز خان ، فهدمه تولي خان بن جنكيز خان ، وذلك في سنة ٦١٧ هـ (٢).

قال ابن الأثير في (الكامل) في ما يتعلق بأحوال التتار الَّذين هم جند جنكيز : (إنه لمّا فرغوا من نيسابور ، سیّروا طائفة منهم إلى طوس ، ففعلوا بها كذلك أيضاً ، وخرَّبوها وخرَّبوا المشهد الَّذي فيه الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام والرشید حَتَّى جعلوا الجميع خراباً). ومثله في (شرح نهج البلاغة) (٣).

وفي الكتيبة الذهبية الواقعة في منطقة القُبَّة المنوَّرة ما صورته :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من عظائم توفيق الله سبحانه أن وفق السلطان الأعظم ، مولی ملوك العرب والعجم ، صاحب النسب الطاهر النبوي ، والحسب الباهر العلوي ، تراب أقدام خدّام هذه الروضة المنورة الملكوتية ، مروّج آثار أجداده المعصومين ، السلطان ابن السلطان ، أبا المظفر شاه عبَّاس الحسيني الموسوي الصفوي بهادرخان ، فاستدعى بالمجيء ماشياً على قدميه من دار السلطنة إصفهان إلى زيارة هذا الحرم الأشرف.

وقد تشرّف بزينة هذه العتبة من خُلَّصِ ماله في سنة ألف وعشر ، وتمّ فيسنة ألف وستَّ عشرة.

وفي موضع آخر من القُبَّة مكتوب ، وهو من إملاء المحقّق الخونساري :

__________________

(١) معجم البلدان ٥ : ١١٤.

(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.

(٣) الكامل في التاريخ ١٢ : ٣٩٣ ، شرح نهج البلاغة ٨ : ٢٣٥.

٩٧

من ميامين منن الله سبحانه الَّذي زيَّنَ السماء بزينةٍ الكواكب ، ورصّع هذه القباب العُلا بدرر الدراري الثواقب ، أن استعد السلطان الأعدل الأعظم ، والخاقان الأفخم الأكرم ، أشرف ملوك الأرض حسباً ونسباً ، وأكرمهم خُلُقاً وأدباً ، مروّج مذهب أجداده الأئمّة المعصومين ، ومحيي مراسم آبائه الطيبين الطاهرين ، السلطان ابن السلطان ابن السلطان بن السلطان ، سليمان الحسيني الموسوي الصفوي بهادر خان ، بتذهيب هذه القُبَّة العرشية الملكوتية وتزيينها ، وتشرّف بتجديدها وتحسينها ؛ إذ تطرّق عليها الانكسار ، وسقطت لِبَناتُها الذهبية التي كانت تشرق الشمس في رابعة النهار ، بسبب حدوث الزلزلة العظيمة في هذه البلدة الطيِّبة الكريمة في سنة أربع وثمانين وألف ، وكان هذا التجديد سنة ستّ وثمانين وألف ، كتبه محمّد رضا الإمامي.

ومكتوب على جبهة الباب الواقع في قبلة المرقد الشريف :

لقد تشرّف بتذهيب الروضة الرضوية التي يتمنّى العرش لها أمر النيابة ، وأرواح القدس تخدم جنابه ، السلطان نادر الأفشاري رحمه‌الله الملك الغفّار سنة ١١٥٥ هـ.

وكُتب بعده :

ثُمَّ بمرور الأعوام ، ظهر عليها الاندراس ، فأمر السلطان ابن السلطان والخاقان ابن الخاقان ، ناصر الدین شاه قاجار خلّد الله ملکه ، بالتزيين بالزجاجة (بالزجاج ـ ظ) والبلُّور ؛ لتصير نوراً على نور.

وأرسل السلطان قطب شاه الدكني طاب ثراه ألماسةً كبيرة بقدر بیضة الدجاجة هدية إلى الضريح الرضوي ، ولمّا استولى عبد المؤمن خان رئیس طائفة الأزبكية على خراسان ، نهبها من الخزانة في جملة ما نهب.

٩٨

ولمّا زار السلطان شاه عبَّاس الصفوي خراسان في الدفعة التي مشى فيها على قدمه ، وكانت مدّة خروجه من إصفهان ودخوله خراسان ثمانية عشر يوماً ، أهدى له بعض الخواتين الأزبكية تلك الألماسة ، ولمّا بلغه أن الألماسة من الأعيان الراجعة إلى الخزانة الرضوية ، أمر ببيعها في استانبول ، واشترى بقيمتها أملاكاً وأنهاراً تُصرف منافعها على تلك البقعة ، وكان ذلك بإجازة بعض العلماء (١).

وحكى بعض المؤرِّخين ، عن محمّد بن عبد الله الكوفي ـ وكان حاكماً في نوقان (٢) ـ : (أن بعض ملوك الريّ أرسل رجلين إلى نصر بن أحمد ببخارى ؛ لتبليغ أمر ، وكان أحدهما شيعياً من أهل ريِّ ، والأخر سنيّاً من أهل قم ، فلمَّا وصلا إلى طوس ، قال الشيعي للسنّي : لا بدّ لنا من زيارة الرضا عليه‌السلام ، ثُمَّ التوجُّه إلى بخاری.

فقال له صاحبه : إنَّ السلطان أرسلنا في شغل مهم ، ولا يناسب لنا الاشتغال بغيره ما لم نفرغ من مهمَّة السلطان ، فتوجَّها إلى بخاری وعملا بالمقصود ، ولمّا وصلا إلى طوس عند المراجعة ، قال الشيعي لصاحبه السنّي : فلنذهب إلى زيارة مرقد علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، فأبى صاحبه من ذلك وقال : إني خرجت من قم وكنتُ سنيّاً ، ولا أحبّ أن أرجع إلى بلدي وأنا رافضي.

فلمَّا سمع ذلك سلّم إليه ما في راحلته من أسباب ومتاع ، وركب دابته مخففاً ، وتوجَّه نحو المرقد الشريف قاصداً تقبيل العتبة ، والتشرّف بتلك الروضة المقدَّسة ، فلمَّا جاء الليل التمس من الخادم أن يبيت داخل الروضة ، وأن يجعل مفاتیح الروضة

__________________

(١) لم أهتد إلى مصدر قوله.

(٢) نوقان : بالضم ، والقاف ، وآخره نون : إحدی قصبتي طوس لأن طوس ولاية ولها مدينتان إحداهما طابران والأخرى نوقان ، وفيها تُنحت القدور البرام ، وقد خرج منها خلق من العلماء ... وبنيسابور قرية أخرى اسمها نوقان. (معجم البلدان ٥ : ٣١١).

٩٩

عنده ، فأجابه على ملتمسه ، ودفع إليه المفاتيح ، وذهب إلى أهله ، فاشتغل الرجل بالتضرّع إلى الله تعالى ، والطواف حول مرقد الإمام ، والاشتغال بقراءة القرآن على الرأس الشريف ، وحينما كان يقرأ ، سمع صوت قارئ آخر يقرأ معه حيث يقرأ من السور والآيات ، فلمَّا سمع ذلك الصوت مع علمه بعدم وجود أحد غيره قطع القراءة ، وأخذ يتجسّس ويدور حول الضريح ؛ ليطّلع على حقيقة الحال ، فلم يرَ أحداً ، فعاد إلى قراءة القرآن ، فسمع ثانياً ما كان يسمع ، فأصغى إصغاءً جيداً.

فتبيّن له أن الصوت من داخل المرقد الشريف ، ومن شدَّة شوقه إلى تلك النغمة ، أخذ يجدّ في قراءة القرآن من أول الفاتحة إلى سورة مريم ، فلمَّا وصل إلى قوله تعالى : يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـٰنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا (١) ، سمع من المرقد الشريف قراءة الآية هكذا : يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـٰنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا (٢) ، فلمَّا أصبح وقد ختم القرآن خرج من الروضة متوجِّهاً إلى نوقان ، وسأل القرّاء عن منشأ القراءة ، فقالوا : لا بأس بهذه القراءة من حيث اللفظ والمعنى غير أنّا لم نظفر في قراءة أحد من القرّاء بهذه القراءة.

ثُمَّ لمّا حضر نيسابور ، سأل عن هذه القراءة قرّاء نيسابور ، فقالوا : لم نسمع بهذه القراءة ، ثُمَّ لمّا حضر الري ، سأل القرّاء بها ، قالوا : أنت من أين أخذت هذه القراءة؟

__________________

(١) سورة مريم : آیة ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) قرأ الحسن وقتادة والجحدري واُبي بن كعب ومعاذ القارئ وأبو المتوكّل : (یحشر المتقون). ينظر : البحر المحيط ٦ : ٢١٧ ، مجمع البيان ١٦ : ٧٠ ، مختصر شواذ القراءات : ٨٦ ، واتحاف فضلاء البشر : ٣٠١ ، والمحرر الوجيز ٩ : ٥٣٤ ، والكشّاف ٢ : ٢٩٢ ، وزاد المسير ٥ : ٢٦٣ ، ومعجم القراءات القرآنية ٥ : ٣٩٦.

وقرأ الحسن وقتادة والجحدري واُبي بن كعب ومعاذ القارئ وأبو المتوكّل : (ويُساق المجرمون). ينظر : زاد المسير ٥ : ٢٦٣ ، ومعجم القراءات القرآنية ٥ : ٣٩٦.

١٠٠