تحفة العالم في شرح خطبة المعالم - ج ٢

آية الله السيّد جعفر بحر العلوم

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد جعفر بحر العلوم


المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مركز تراث السيد بحر العلوم قدّس سرّه
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

قال ابن الأثير : (الحسدُ أن يرى الرجل لأخيه نعمة ، فيتمنَّى أن تزول عنه ، وتكون له دونه.

والغبط : أن يتمنَّى أن يكون له مثلها ، ولا يتمنَّى زوالها عنه) ، انتهى (١).

قلت : أمّا الأول فحرام مطلقاً كما هو المنقول عن المشهور ، أو إظهاره كما يظهر من بعض الأخبار ، ففي مرفوعة النَّهدي عن أبي عبد الله عليه‌السلام المروية في آخر أبواب الكفر والإيمان من اُصول الكافي ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وُضع عن اُمَّتي تسع خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطُرّوا إليه ، وما استُكرِهوا عليه ، والطَيَرة ، والوسوسة في التفكُّر في الخلق ، ابوالحسن ما لم يظهر بلسان أو يد» (٢).

وروي : «ثلاث لا يسلم منها أحد : الطَيَرة ، والحسد ، والظن. قيل : فما نصنع؟ قال : إذا تطيرت فامضِ ، وإذا حسدت فلا تبغِ ، وإذا ظننت فلا تحقّق» (٣).

والبغي عبارة عن استعمال الحسد ؛ ولذا عَدَّ في الدروس من الكبائر ـ في باب الشهادات ـ بغضَ المؤمن وإظهار الحسد ، لا نفسَه (٤).

وبالجملة : ففي كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك ولعله الأظهر ، فإنَّ العقاب على حالة الحسد التي هي من القهريات مناف لقواعد العدل ، وإن دلَّت حلى خبث سريرة الحاسد ، وعلى كل حال فيستثنى من ذلك نعمة أصابها فاجر أو کافر ، وهو يستعين بها على تهييج الفتنة ، وإفساد ذات البين ، وإيذاء الخلق ، فلا

__________________

(١) النهاية في تقريب الحديث ١ : ٣٨٣.

(٢) الكافي ٢ : ٤٦٣ ح ٢.

(٣) الفائق في غريب الحديت ٢ : ٣١٢.

(٤) الدروس ٢ : ١٢٦.

٣٤١

يضرّ کراهتك لها ، ومحبَّتك لزوالها ، فإنَّك لا تحبُّ زوالها من حيث إنَّها نعمة ، بل من حيث إنَّها آلة الفساد ، ولو أمنت فساده لم يغمَّك تنعُّمه (١).

ثُمَّ إن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ، ولا تداوي أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل ، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أنَّ الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين ، وأنه لا ضرر به على المحسود في الدين والدنيا ، بل يستقع به في الدين والدنيا ، ومهما عرفت هذا عن بصيرة ، ولم تكن عدوَّ نفسك وصديق عدوَّك ، فارقت الحسد لا محالة.

أمّا كونه ضرراً عليك في الدين ، فهو أنَّك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى ، وكرهت نعمته التي قسّمها لعباده ، وعدله الَّذي أقامه في ملکه بخفي حكمته ، واستنكرت ذلك واستبشعته ، وهذه جناية على حدقة التوحيد ، وقذى في عين الإيمان (٢).

وأمّا كونه ضرراً عليك في الدنيا ، فهو أنه تتألم بحسدك وتتعذّب به ، ولا تزال في كدر وغمّ بما تراه في عدوك من نعمة أو بليَّة منصرفة عنه ، فتبقى محزوناً متشعِّب القلب ، ضیِّق النفس ، كما تشتهيه لعدوِّك ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لله در الحسد ، حيث بدأ بصاحبه فقتله».

وأمّا أنه ينتفع المحسود في الدين والدنيا فواضح ، أمّا الأول فهو أنه مظلوم من جهتك ولا سيّما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة ، والقدح فيه ، وهتك الستر ، وذكر المساوئ ، فتكون بذلك مهدياً إليه حسناتك حَتَّى تلقاه يوم

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٣٨ في معنى الحسد.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٤١ في معنى الحسد.

٣٤٢

القيامة وأنت مفلس مخروم من النعمة كما حُرّمت في الدنيا ، فأضفت له نعمة إلى نعمته ، ولنفسك شقاوة إلى شقاوتها (١).

وإمّا الثاني : فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء ، وغمُّهم ، وشقاوتهم ، وکونهم معذَّبين مغمومين ، ولا عذاب أعظم ممَّا أنت فيه من ألم الحسد ، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة ، وأن تكون في غمٍّ وحسرة (٢).

ومن نوابغ الحكم : (الحسد حسكٌ من تعلَّق به هلك) (٣).

ولبعضهم ، شعر :

اصبر على حسد الحسود

فإنَّ صبرَكَ قاتِلُهْ

كالنارِ تأكلُ بعضَها

إنْ لمْ تَجِدْ ما تأكُلُهْ (٤)

وقال آخر :

أيا حاسداً لي على نعمتي

أتدري على مَنْ أسأتَ الأدَبْ

أسأتَ على اللهِ في حُكْمِهِ

لأنَّك لم تَرْضَ لي ما وَهَبْ

فجازاك ربِّي بأنْ زادني

وسدَّ عليكَ وُجوهَ الطَّلب (٥)

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٤١ وما بعدها في معنى الحسد.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٤٢ في معنى الحسد.

(٣) الدر المختار ١ : ٢٤ ، والحسك : جمع حسكة ، شوكة صلبة معروفة.

(٤) نسب الشعر لابن المعتز كما في تفسير الآلوسي ٣٠ : ٢٨٤ والكنى والألقاب ١ : ٤٠٩ ، ونسبه الباعوني في جواهر المطالب ٢ : ١٢٦ لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٥) الشعر ورد باختلاف ونسب لمنصور الفقيه كما في تفسير الثعلبي ٣ : ٣٣٠ وتفسير القرطبي ٥ : ٢٥١ ، وللمعافى بن زكريا الجريري كما في تاريخ بغداد ١٣ : ٢٣١ ووفيات الأعيان ٥ : ٢٢٢.

٣٤٣

وحكى صاحب الطرائف : (أن رجلاً من العرب دخل على المعتصم ، فقرّبه وأدناه وجعله نديمه ، وصار يدخل على حريمه من غير استئذان ، وكان له وزير حاسد فغار من البدوي وحسده وقال في نفسه : إن لم أحتل على هذا البدوي في قتله أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه.

فصار يتلطّف بالبدوي حَتَّى أتى به إلى منزله ، فطبخ له طعاماً ، وأكثر فيه من الثوم ، فلمَّا أكل البدوي منه ، قال : احذر أن تقرب من أمير المؤمنين ، فيشمّ منك رائحة الثوم ، فيتأذى من ذلك ، فإنه يكره رائحته.

ثُمَّ ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين ، فخلا به وقال : يا أمير المؤمنين ، إن البدوي يقول عنك للناس : إن أمير المؤمنين أبخر ، وهلكت من رائحة فمه.

فلمَّا دخل البدوي على أمير المؤمنين جعل كمّه على فمه ؛ مخافة أن يُشمَ منه رائحة الثوم ، فلمَّا رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه ، قال : إن الَّذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح! فكتب أمير المؤمنين كتاباً إلى بعض عماله يقول له فيه : إذا وصل إليك كتابي هذا ، فاضرب رقبة حامله.

ثُمَّ دعا بالبدوي ودفع إليه الكتاب ، وقال له : امض به إلى فلان وايتني بالجواب ، فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين وأخذ الكتاب وخرج به من عنده ، فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال : أين تريد؟

فقال : أتوجَّه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان. فقال الوزير في نفسه : إنَّ هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مالاً جزيلاً.

فقال له : يا بدوي ما تقول فیمن يريحك من هذا التعب الَّذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار؟

فقال : أنت الكبير وأنت الحاكم ، مهما رأيته من الرأي أقبل (١).

__________________

(١) في المصدر : (أفعل).

٣٤٤

قال : أعطني الكتاب ، فدفعه إليه ، فأعطاء الوزير ألفي دينار ، وسار بالكتاب إلى المكان الَّذي هو قاصده ، فلمَّا قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير ، فبعد أيام تذكّر الخليفة في أمر البدوي وسأل عن الوزير ، واُخبر بأن له أياماً ما ظهر ، وأن البدوي بالمدينة مقيم ، فتعجَّب من ذلك وأمر بإحضار البدوي ، فحضر فسأله عن حاله ، فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها ، فقال له : أنت قلت عني للناس : إنّي أبخر.

فقال : معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أتحدث بما ليس به علم ، وإنما كان ذلك مكرً منه وحسداً ، وأعلمه كيف دخل إلى بيته أطعمه الثوم وما جرى له معه.

فقال أمير المؤمنين : قاتل الله الحسد ما أعدله ؛ بدأ بصاحبه فقتله ، ثُمَّ خلع على البدوي واتّخذه وزيراً ، وراح الوزير بحسده) (١).

وأمّا الثاني : أعني عنوان الغبطة ـ فلا بأس به ـ بل هو راجع ، وهو مثل من وجد درجة من الكمال يسأل الله تعالى ويطلب منه التوفيق لما فوقها.

[د] ـ «واُذنه الفهم» : فإن من خوطب بما لا يفهم كمن خوطب بما لا يسمع ، فالعلم بلا فهم كالإنسن بلا اُذن.

[هـ] ـ «ولسانه الصدق» : فإنَّ من أعظم فوائد اللّسان انتفاع الناس بمنطقه ، وإذا لم يكن صادق اللهجة فلا يُعتمد على قوله ، ولا يُعتمد بشيءٍ من منطقه ؛ فيكون كمن لا لسان له.

وفي الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يبعث نبياً إلّا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر» (٢).

__________________

(١) المستطرف في كل فن مستظرف : ٢٩٥.

(٢) الكافي ٢ : ١٠٤ ح ١.

٣٤٥

وبإسناده عنه عليه‌السلام أيضاً ، قال : «إنَّما سُمّي إسماعيل صادق الوعد ؛ لأنه وعد رجلاً في مكان ، فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسمّاه الله عزَّ وجلَّ صادق الوعد»

ثُمَّ قال : «إن الرجل أثاه بعد ذلك فقال له إسماعيل : مازلت منتظراً لك» (١).

وفيه أيضاً بإسناده عن زياد الصيقل ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من صدق لسانه زکی عمله ، ومن حسنت نيَّته زيد في رزقه ، ومن حَسًن برّه بأهل بيته مُدَّ له في عمره» (٢).

وفيه من الدلالة على رفعة درجة الصادقين عند الله عزَّ وجلَّ ما لا يخفی ، وقال الله تعالى : هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (٣) ، وقال تعالى : وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ (٤) فمدحهم وبيّن لهم المغفرة والأجر العظيم.

وعن طريق العامة ، عن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بِمَ يعرف المؤمن؟ قال : «بوقاره ، ولين کلامه ، وصدق حديثه» (٥).

قيل : (لكلّ شيء حلية ، وحلية النطق الصدق) (٦).

قال ارسطو طاليس : (أحسن الكلام ما صدق فيه قائله ، وانتفع به سامعه) (٧).

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٠٥ ح ٧.

(٢) الكافي ٢ : ١٠٥ ح ١١.

(٣) سورة المائدة : من آية ١١٩.

(٤) سورة الأحزاب : من آية ٣٥.

(٥) الاستذکار ٨ : ٥٧٤.

(٦) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

(٧) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

٣٤٦

وقال عامر العدواني في وصيَّته : (إنّي وجدت صدق الحديث طرفاً من الغيب ، فاصدقوا) (١).

يعني : من لزم الصدق وعوّده لسانه وُفّق فلا يكاد ينطق بشيء يظنه إلا جاء على ظنَّه ، وما أحسن ما قيل في ذلك :

عليكَ بالصدقِ ولو أنَّه

أحرقَكَ الصّدقُ بنار الوعيدْ

وابغِ رضا المولى فأغبى الورى

مَنْ أسخَطَ المولى وأرضى العَبيدْ (٢)

وقال فضيل : (ما من مضغة أحبّ إلى الله تعالى من اللّسان إذا كان صدوقاً ، ولا مضغة أبغض إلى الله تعالى من اللّسان إذا كان كذوباً) (٣).

[و] ـ «وحفظه الفحص» : يعني البحث والتفتيش ؛ إذ بذلك يحفظ من الضِّياع والنسيان.

[ز] ـ «وقلبه حسن النيَّة» : فكما أنَّ الرجل إذا كان صحيح القلب تصحُّ معه حركاته وسائرُ جوارحه وأعضائه ، وتترتَّب عليها ما هو المطلوب منها ، كذلك إذا حسنت نيَّته يحسن عمله ، ويترتَّب عليه ما هو غرضه من العلم ـ أعني الحياة الأبدية ـ فالعلم العاري عن ذلك كالإنسان العاري عن القلب فلا حياة له.

[ح] ـ «وعقله معرفة الأشياء والأُمور» : فكما أن قوام الإنسان بعقله ، كذلك قوام العلم بمعرفة الأشياء والأُمور ، والمراد من الأُمور الدنيا وفناؤها ، وما يوجب الزهد فيها ، والإعراض عنها ، والتوجَّه إلى الحق.

__________________

(١) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

(٢) نسب للحريري كما في كشف الخفاء ١ : ٤٥.

(٣) لم أهتد إلى مصدر هذا القول.

٣٤٧

[ط] ـ «ويده الرحمة» : فكما أنَّ اليد الجارحة وسيلة إلى إيصال النعمة التي هي من الفواضل ، كذلك الرحمة من العالم على المحتاجين إليه في العلم ، فإنَّها وسيلة لإيصال النعمة التي هي من الفضائل بالنسبة إلى من يتعلَّم ، فإنَّ العلم مع عدم الرحمة بالمعنى المذكور كالَّذي لا يد له ، وقد قدَّمنا ما يناسب المقام في شرح الحديث الثالث عشر.

[ي] ـ «ورجله زيارة العلماء» : فكما أنَّ المرء يحصّلُ مآربه بسعي رجله ، فكذلك زيارة العلماء بعضهم بعضاً يوجب انتقال العلم من صدر إلى صدر.

[ك] ـ «وهمَّته السلامة» : والمراد بالسلامة إمّا سلامته من المعاصي ، أو سلامة الناس من شرّه وحكمته ـ بفتح الحاء والكاف ـ وهو المحيط من اللّجام المانعة من خروج الدابة عن لاحبِ الطريق (١) ، والتوجُّه إلى خلاف مقصده.

[ل] ـ «ومستقرُّه النجاة من الشكوك والشُّبهات» : فإنَّ العالم لا يستقر في منزله ولا يطمئنّ بعلمه إلّا إذا وصل إلى حد اليقين.

[م] ـ «وقائده العافية» : أي ما يجرُّه إلى نجاته العافية من مرض الجهل ، وسائر الأمراض النفسانية.

[ن] ـ «ومركبه الوفاء بعهد الله تعالی» : والإتيان بما أمر به ، والاجتناب عمّا نهى عنه ؛ فإنه بذلك يصل إلى مقصوده.

[س] ـ «وسلاحه لين الكلمة» : وإنَّما شبَّه لين الكلمة بالسلاح الَّذي هو آلة الدفاع ؛ لأنه يدفع بذلك عن صاحبه سَوْرَةَ المكارة.

__________________

(١) لأحب الطريق : أي واضح الطريق.

٣٤٨

[ع] ـ «وسيفه الرضا» : بالقضاء ، أو بما وقع من عدوِّه بالنسبة إليه عند ملاقاته ، فإن بذلك يندفع عنه المضرَّة العاجلة القريبة ، كما أنَّ بالسيف يُدفع العدو القريب ، رُوي في الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحبّ العبد أو كره ، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحبّ أو كره ، إلا كان خيراً له فيما أحبَّ أو كره» (١).

وفيه أيضاً بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنَّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عزَّ وجلَّ» (٢).

وفيه أيضاً بإسناده عن علي بن الحسين عليه‌السلام ، قال : «الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله ، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحبّ أو كره ، لم يقض الله عزَّ وجلَّ له فيما أحبّ أو كره إلا ما هو خير له» (٣).

وفي قوله : «إنَّ أعلم الناس ... الخ» دلالة على أنَّ الرضا بالقضاء تابع للعلم والمعرفة ، وأنه قابل للشدَّة والضعف مثلهما ؛ وذلك لأنَّ الرضا مبني على العلم بأنه سبحانه قادر ، قاهر ، عدل ، حکيم ، لطيف بعباده لا يفعل بهم إلّا الأصلح ، وأنّه المدبِّر للعالم وبيده نظامه ، فكلّما كان العلم بتلك الأُمور أتمّ كان الرضا بقضائه أكمل وأعظم ، وأيضاً الرضا من ثمرات المحبَّة والمحبّة تابعة للمعرفة إذا كملت المحبّة ، فكلّما أتاه من محبوبه التذّ به ، وهذه أعلى مدارج الكمال.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٠ ح ١.

(٢) الكافي ٢ : ٦٠ ح ٢.

(٣) الكافي ٢ : ٦٠ ح ٣.

٣٤٩

[ف] ـ «وقوسه المداراة» : فإنَّ القوس آلةٌ يُدفع بها العدوُّ البعيد ، وكذلك حسنُ الخُلُق والمداراة ، فإنَّهما يَدفع بهما صاحبهما المضرَّة الآجلة والعاجلة ؛ إذ من المعلوم أن حُسنَ الخُلُق يمنع صاحبه عن المعاصي المتعلّقة بإيذاء الخلق ، کعقوق الوالدين ، وقطع الأرحام ، والإضرار بالمسلمين ، وإساءة الجار ، فلا يقع منهم إلّا المقابلة بالمثل ـ أعني دفع الضرر وكفّ الأذى عنه ـ.

ففي الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما يقدم المؤمن على الله عزَّ وجلَّ بعمل ـ بعد الفرائض ـ أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخُلُقه» (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أكثر ما تلجُ به اُمَّتي الجنَّة ، تقوى الله وحُسنُ الخُلُق» (٢).

وفي المروي بالإسناد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «البّر وحسن الخُلق يعمِّران الديار ، ويزيدان في الأعمار» (٣).

وبالجملة : فحسن الخُلق حالة نفسانية يتوقف حصولها على اشتباك الأخلاق النفسانية بعضها ببعض ، ومن ثُمَّ قيل : هو حسن الصورة الباطنة التي هي صورة النفس الناطقة ، كما أنَّ حسن الخُلق هو حسن الصورة الظاهرة وتناسب الأجزاء ، إلّا أنَّ الأول قَدْ يكون مكسباً كما حقَّقناه سابقاً ، ويُعرف ذلك من الشخص بمخالطة الناس بالجهل ، والتودُّد ، والصلة ، والصدق ، واللُّطف ، والمبرّة ، وحسن الصحبة ، والعشرة ، والمراعاة ، والمساواة ، والرفق ، والحلم ، والصبر ، والاحتمال لهم ، والإشفاق عليهم

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٠٠ ح ٤.

(٢) الکافي ٢ : ١٠٠ ح ٦.

(٣) الكافي ٢ : ١٠٠ ح ٨.

٣٥٠

[ص] ـ «وجيشه محاورة العلماء» : فإنَّها تقوِّي علمه وتعينه كمعاونة الجيش للسلطان ، فكما أن السلطان يحفظ ثغوره بالجيوش ، كذلك العالم يحفظ مسالك قلبه من هجمات جيش الجهل ، واستيلاء جنود الشيطان عليها بالمحاورة مع العلماء ، والمذاكرة مع الفضلاء ، فإنَّ لكلّ علم أسراراً لا يطّلع عليها من الكتب ، فيجب أخذها من العلماء ؛ ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خذ العلم من أفواه الرجال» ونهی عن الأخذ ممَّن أخذ علمه من الدفاتر ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يغرّنَّكم الصّحفيون» ، وأمر عليه‌السلام بالمحادثة في العلم والمباحثة ، فإنَّها تفيد التفس استعداداً تامّاً لتحصيل المطالب واستخراج المجهولات.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تذاكروا وتلاقَوا وتحدَّثوا ، فإنَّ الحديث جلاء القلوب ، فإن القلوب لَتَرِينُ كما يَرِينُ السيف ، وجلاؤه الحديث».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ الله عزَّ وعلا يقول : تذاكُرُ العلم بين عبادي ممَّا تحيى عليه القلوب الميِّتة ، إن هم انتهوا فيه إلى أمري» (١).

وفي آداب المتعلّمين : (لا بدّ لطالب العلم من المطارحة والمناظرة ، فينبغي أن يكون بالإنصاف ، والتأنّي ، والتأمُّل ، فيحترز عن الشغب والغضب ، فإنّ المناظرة والمذاكرة مشاورة ، إنما يكون لاستخراج الصواب ، وذلك إنَّما حصل بالتأمُّل والإنصاف ، ولا يحصل بالغضب والشغب.

وفائدة المطارحة والمناظرة أقوى من قائدة مجرد التكرار ؛ لأن فيه تكرار مع زيادة.

قيل : (مطارحة ساعة خير من تكرار شهر) ، لكن إذا كان منصفاً سليم الطبع.

__________________

(١) أوردها العلّامة الحلي في تحرير الأحكام ١ : ٣٩ الفصل السابع.

٣٥١

وإيَّاك والمناظرة مع [متعنّت] غير مستقيم الطبع ، فإنَّ الطبيعة مسترقة ، والأخلاق متعدية ، والمجاورة مؤثّرة) ، انتهى (١).

[ق] ـ «ومالُهُ الأدب» : لأن بالأدب يحصل له الألفة والمحبة مع معلّمه ومتعلّمه وسائر الناس ، فهو بمنزلة البضاعة له يتّجر به ، والمراد بالذخيرة ما يحرزه لوقت الحاجة ، فإن اجتناب الذنوب نافعة في يوم القيامة.

[ر] ـ «وزادُهُ المعروف» : شبَّهه بالزاد من حيث إنَّ الزاد ما يُتَّخذ للسفر الجسماني ، وبدونه يهلك المسافر ولا يصل إلى كعبة مقصوده ، فكذلك السفر إلى الله لا بدَّ له من زاد روحاني وهو المعروف ـ أعني الأعمال الموافقة لقانون الشرع ـ وضدُّه المنكر ـ أعني الأعمال الخارجة عن قانون الشريعة المحمّدية ـ ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر واجبین عقلاً ونقلاً.

أمّا الأول ؛ فلأنَّهما لطفٌ ، وهو واجب على مقتضى قواعد العدل.

وأمّا الثاني : فكثير في الكتاب والسُّنة ؛ أمّا الكتاب كقوله تعالى : وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (٢).

وقوله تعالی : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (٣).

وأمّا السُّنة فكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر ، أو لَيُسَلِطَنَّ اللهُ شرارَكم على خيارِكم ، فيدعوا خيارُكم فلا يُستجاب لهم».

__________________

(١) آداب المتعلمين : ٩٥.

(٢) سورة آل عمران : من آية ١٠٤.

(٣) سورة آل عمران : من آية ١١٠.

٣٥٢

ومن طرق أهل البيت عليهم‌السلام فيه ما يقصم الظهر ، فليقف عليه من أراده في فروع الكافي ، ووجوبهما على الكفاية في أجود القولين ؛ للآية السابقة ولأن الغرض شرعاً وقوع المعروف ، وارتفاع المنكر من غير اعتبار مباشر معيَّن ، فإذا حصلا ارتفع وهو معنى الكفائي (١).

وذهب الشيخ في (المبسوط) (٢) ، وابن حمزة في (الوسيلة) إلى كونهما من فروض الأعيان (٣) ، استدل عليه بالرواية السابقة ، حيث إنَّ الخطاب فيه للعموم وفيه نظر بیّن ، فإنَّ الواجب الكفائي يُخاطب به جميع المكلَّفين كالعيني ، وإنَّما يسقط عن الكل بقيام البعض ، فجاز خطاب الجميع به ، ولا شبهة على القولين في سقوط الوجوب بعد حصول المطلوب ؛ لفقد شرطه الَّذي منه إصرار العاصي ، وإنما تختلف فائدة القولين في وجوب قيام الكل به قبل حصول الغرض وإن قام به من فيه الكفاية وعدمه.

وما أبعد ما بين هذا القول وما ذهب إليه صاحب (المستند) رحمه‌الله من اختصاص ذلك بالمجتهد ، بتقريب : أنَّ أخبار الأمر بالمعروف وإنْ كانت عامَّة ، إلّا أنَّها مختصّة بمثل خبر مسعدة بن صدقة : «سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأُمَّة جميعاً؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، فقيل له : ولم؟ فقال : إنَّما هو على القويّ المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعيف الَّذي لا يهتدي سبيلا ... إلى أن قال عليه‌السلام : والدليل على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ :

__________________

(١) الروضة البهية ٢ : ٤١٣ باب الأمر بالمعروف.

(٢) كذا والصحيح أنه قاله في النهاية.

(٣) النهاية : ٢٩٩ ، الوسيلة : ٢٠٧.

٣٥٣

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (١) ، فهذا خاص غير عام .. الحديث» (٢).

قلت : والأقوى جواز ما عدا الحبس حسب مراتبه الأهون فالأهون ، وتخصيص أخباره بخبر مسعدة لا يستلزم ما ذكره ؛ إذ الظاهر منه جوازه بمراتبه لكلّ قوي مطاع عالم وإن لم يكن مجتهداً ، بل يمكن أن يقال بجواز الحبس لغير المجتهد أيضاً ، لكن الأحوط اختصاصه به ، نعم يجوز له الإذن لغيره ، واللّازم على المأذون الاقتصار على مقدار الإذن في الكيفية ، وعلى كل حال فلا يجب ذلك إلّا بشروط أربعة : العلم بأن ما يأمر به معروفاً وما ينهى عنه منكراً ، وأن يجوز تأثير الإنكار ، وأن لا يظهر من الفاعل أمارة الإقلاع ، وأن لا يترتَّب على أحدهما مفسدة. ولو توقَّف على الضرب جاز قطعاً ، وسيأتي ما يدل عليه من کلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولو افتقر إلى الجرح والقتل لم يجز قطعاً إلا بإذن الإمام أو نائبه الخاص أو العام.

[ش] ـ «ومأواهُ المُوادعة» : لهذه الدنيا الفانية وعدم الركون إليها.

[ت] ـ «ودليله الهدی» : كما أنَّ للإنسان المسافر في عالم الجسم دليلاً يدلّه ولولاه لتاه في البيداء ، ونكب عن الطريق فضلّ عن مقصوده ، كذلك للعلم دليل يهدي صاحبة إلى كعبة مقصوده ، وهو هدى الله تعالى بسبب الأنبياء والأوصياء ، ولا بد للمسافر من رفيق حَتَّى قيل : الرفيق ثُمَّ الطريق ، ورفيق العلم محبَّة الأخيار.

__________________

(١) سورة آل عمران : آیة ١٠٤.

(٢) الكافي ٥ : ٥٩ ح ١٦ ، مستند الشيعة ١٧ : ١٧٩.

٣٥٤

الحديث السابع والعشرون

من تعلم العلم وعمل به

[٩٤] ـ قال رحمه‌الله : عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من تعلَّم العلم ، وعمل به ، وعلّم لله ، دُعي في ملكوت السموات عظيماً ، فقيل : تعلّمَ لله ، وعَمِلَ لله ، وعلَمَ لله» (١).

أقول : مرجع الضمير كما تقدّم ، وقد تقدّم شرح كلّ واحد من رجال السند ، فالكلام في شرح المتن :

[أ] ـ الدعاء هنا بمعنى : التسمية ـ أي سُمِّي عظيماً ـ قال في (النهاية) : (دعوته زيداً إذا سمَّيته) (٢).

[ب] ـ والمراد بملكوت السماء ملكها ، والفاء في (فقيل) للتفصيل والتفسير مثل قوله تعالى : وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ (٣) ، وبقية فقرات الحديث واضحة لا تحتاج إلى بيان.

[في فضيلة الفقه ومنزلته]

[٩٥] ـ قال رحمه‌الله : «فصل : ولمّا ثبت أنَّ كمال العلم إنَّما هو بالعمل ، تبيّن أنه ليس في العلوم ـ بعد المعرفة ـ أشرف من علم الفقه ؛ لأن مدخليته في العمل أقوى ممَّا سواه ؛ إذ به تعرف أوامر الله فتُمتثل، ونواهيه فتُجتنب ؛ ولأنَّ معلوماته ـ أعني :

__________________

(١) معالم الدين : ٢ ، الكافي ١ : ٣٥ ح ٦.

(٢) النهاية في غريب الحديث ٢ : ١٢١.

(٣) سورة هود : من آية ٤٥.

٣٥٥

أحكام الله تعالى ـ أشرف المعلومات بعد ما ذكر. ومع ذلك فهو الناظم لأُمور المعاش ، وبه يتمُّ كمال نوع الإنسان» (١).

أقول : المستفاد من عبارة المصنِّف رحمه‌الله تفضيل علم الكلام على علم الفقه ، وهو كذلك عقلاً ونقلاً ، ولا ينافيه جعل العبادة غاية للخلق في قوله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٢) ؛ إذ لو لم يفسّر بالمعرفة نصّاً أو جمعاً لقلنا : إنَّ العبادة حقّها امتثال المعبود على وجه يليق بما يطلب من الطرق ، لا ما يفعل كيف ما اتَّفق ، وهذا لا يحصل إلا بالمعرفة ، وأن الشرف الذاتي للعلم إنَّما هو بالنظر إلى ضدَّه ـ أعني : الجهل ـ وأمّا تقدم بعضه على بعض في الشرف ، إنَّما يعرض له بالنظر إلى الغير لا بالذات كتقدُّم موضوعه ؛ لأنَّ العلم بحال ما هو أشرف ، أشرف معنى من العلم بحال ما ليس كذلك ، وموضوع علم الكلام هو ذات الباري تعالی ، ولا شكَّ أنَّه أشرف الموجودات ؛ فلذلك كانت له المرتبة الأولى من الشرافة بالنسبة إلى علم الفقه ، وهو أشرف العلوم من بعده.

قال جدّي في الدرة :

وأنَّ علمَ الفقهِ في العلومِ

كالقَمَرِ البازغِ في النُّجوم

بِنورِهِ مِنْ بَعدِ شَمسِ المَعرِفَةْ

معالِمُ الدينِ عدَتْ مُنْكَشِفَةْ (٣)

__________________

(١) معالم الدين : ٢٢.

(٢) الذاريات : ٥٦.

(٣) الدرة النجفية : ٢.

٣٥٦

والمراد بقوله رحمه‌الله : «شمس المعرفة» : معرفة الله تعالی حسب ما ينبغي ، وسائر اُصول الدين والمذهب ممَّا هو مذكور في الكلام ، وحاصل ما استدل به المصنِّف رحمه‌الله على تقدم الفقه على بقية العلوم الإلهية وجوه :

الأول : إن كلّ علم يتبعه عمل ، فكمال ذلك العلم بترتب ذلك العمل عليه ، وحيث إن علم الفقه به تُعرف أوامر الله تعالی ونواهيه ، وبه يعرف أن مخالفتهما توجب العذاب الأليم والوصول إلى الجحيم ، فلا يرتكبه العاقل ، بخلاف سائر العلوم ؛ فإنَّ تخلُّفَ العمل عنها يوجب فوات ما هو الغاية لها من زوال الحياة في الطب مثلاً ، وحفظ اللّسان عن الخطأ في النحو ، وهكذا ، فعلمُ الفقه أقوى في ترتُّب ما هو من شرائط کماله عليه ، وما كان كذلك يكون أشرف ممَّا ليس كذلك.

الثاني : إنَّ معلومات هذا العلم أشرف من معلومات سائر العلوم بعد علم الكلام ، فإنَّها عبارة عن أحكام الحلال والحرام التي هي نواميس الشارع المقدّس.

الثالث : إنه الناظم لأُمور المعاش ؛ وذلك لأن كمال الإنسان إمّا بجلب نفعٍ أو بدفع ضرر ، والأول إمّا عاجل أو آجل ، فجلب النافع العاجل : المعاملات ، والأطعمة والأشربة ، والنكاح ، وجلب النافع الآجل : بالعبادات ، ودفع الضرر بالقصاص وما شابهه.

٣٥٧

الحديث الثامن والعشرون

تحديد العلم الحقيقي

[٩٦] ـ قال رحمه‌الله : وقد روينا بطرقنا ، عن محمّد بن یعقوب ، عن محمّد بن الحسن وعلي بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عيسى ، عن عبيد الله بن عباد الله الدِّهقان ، عن درست الواسطي ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي الحسن موسی عليه‌السلام ، قال : «دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسجد فإذا جماعة قَدْ أطافوا برجل ، فقال : ما هذا؟ فقيل : علّامة.

فقال : وما العلّامة؟ فقالوا له : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها ، وأيام الجاهلية ، والأشعار العربية.

قال : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذاك علم لا يضرّ من جهله ، ولا ينفع من علمه.

ثُمَّ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنَّما العلم ثلاثة : آيةٌ مُحكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سُنَّةٌ قائمة ، وما خلاهن فهو فضل» (١).

أقول : واستيعاب المرام في موضعين :

الموضع الأول

في أحوال رجال السند :

[الترجمة إبراهيم الأنماطي]

إبراهيم : هو ابن عبد الحميد الأسدي الكوفي الأنماطي ، أخو محمّد بن عبد الله بن زرارة لأُمّه (٢) ، الثقة كما صرّح بذلك الشيخ في (الفهرست) (٣) ، ولرواية

__________________

(١) معالم الدين : ٢٢ ، الكافي ١ : ٣٢ ح ١.

(٢) رجال النجاشي : ٢٠ رقم ٢٧.

(٣) الفهرست للطوسي : ٤٠ رقم ١٢ / ١٢.

٣٥٨

الأجلّاء عنه ، وهو مرمي بالوقف ولا يضرّ بوثاقته (١) ؛ ولذا صرّح بوثاقته غير واحد من أهل الفن (٢) ، كابن شهر آشوب (٣) ، والعلّامة والمجلسي ، وصاحب (البُلغَة) (٤).

الموضع الثاني

في ما يتعلق بشرح المتن :

[أ] ـ «فقال ما هذا» : (ما) للاستفهام وطلب التصوُّر ، وهو على قسمين :

الأول : أن يكون المطلوب بها شرح الاسم ، وهو مقابل التعريف الحقيقي الَّذي هو القسم الثاني المنقسم على أربعة أقسام كما سنذكره ، وحينئذ فالجواب بلفظ دلالته على المطلوب أظهر وأشهر كقولهم : (سعدانة نبت) (٥) ؛ إذ المقصود منه شرح الاسم وإيضاحه ، يعني : تفسیر مدلول اللفظ بما يعيّن مسمَّاه من بین المعاني المخزونة في الخاطر ، وليس فيه تحصیل مجهول من معلوم.

الثاني : أن يكون المطلوب بها بيان ماهيّة الشيء وحقيقته ، سواء أكان ذلك الشيء ذاتاً مثل : (ما الإنسان) ، أم وصفاً مثل : (ما العلم) ، أم مركَّباً منهما مثل : (ما الإنسان العالم) ، وحينئذ فالجواب إمّا بالفصل القريب والجنس القريب ، كقولك :

__________________

(١) خاتمة المستدرك ٤ : ١٩ وفيه تعداد الرواة عنه.

(٢) قال الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة (ط ـ الإسلامية) ٢٠ : ١٢٠ عنه ما نصّه : (إبراهيم بن عبد الحميد ، ثقة ، له أصل يرويه ابن أبي عمير وصفوان ، وله كتاب النوادر قاله الشيخ وذكره في رجال الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام وقال : إنه واقفي ، وقال النجاشي : له کتاب يرويه عنه ابن أبي عمير ، ونقل الكَشِّي الوقف عن نصر بن الصباح ، وعن الفضل بن شاذان : أنه صالح ، والعلّامة نقل الجميع ، ولا يخفى ضعف الوقف وعدم ثبوته ، وقد وثّقه ابن شهر آشوب ولم يذكر الوقف).

(٣) المذكور في معالم العلماء : ٤١ رقم ٥ وفي خلاصة الأقوال : ٣١٤ رقم ٦ هو إبراهيم بن صالح الأنماطي الأسدي ، فالخلط في الاشتراك واضح لأولي الألباب.

(٤) الوجيزة في الرجال : ١٤ رقم ٣٠ ، بلغة المحدثین : ٣٢٣.

(٥) سعدانة : نبات ذو شوك يُضرب به المثل في طيبه ، وجمعه السعدان.

٣٥٩

(حيوان ناطق) في جواب (ما الإنسان) ، وإمّا بالفصل القريب والجنس البعيد ، كقولك : (جسم ناطق) في جواب (ما الإنسان) ويُسمَّى الأول : حدّاً تاماً ، والثاني : حدّاً ناقصاً , وإمّا بالخاصة مع الجنس القريب ، كقولك : (حیوان کاتب) أو (ضاحك) في جواب (ما الإنسان) وإمّا بالخاصة مع الجنس البعيد ، كقولك : (جسمٌ نامٍ کاتب) أو (ضاحك) في جواب (ما الإنسان) ، ويسمى الأول : رسماً تامّاً ، والثاني : ناقصاً ، وهذه الأقسام الأربعة مقابل القسم الأول ، فاغتنم.

والظاهر أن المراد هنا هو القسم الثاني الَّذي هو من قسم التعريف الحقيقي ، لأنَّ المقصود هو السؤال عن حقيقة ذلك المتَّصف بالوصف ، الباعث لاجتماع الخلق عليه

[ج] ـ «فقيل : علّامة» : أي هو رجل موصوف بكثرة العلم ، والتاء فيه للمبالغة في وصف العلم ، بناءً على أنَّ كثرة الشيء فرع تحقُّق أصله ، كما أنَّ التأنيث فرع التذكير.

[د] ـ «بأنساب العرب» : هو علم تُعرف به أنساب الناس ، وقواعده الكلّية والجزئية وفائدته الاحتراز عن الخطأ في نسب الإنسان ، وهو علم مشهور طويل الَّذيل ، وقد صنّفوا فيه كتباً كثيرة ، وأحسن من كتب في هذا الفن هو الاهم النسابة هشام بن محمّد بن السائب الكلبي المتوفى سنة ٢٠٤ هـ ، بل هو الَّذي فتح هذا الباب ، وضبط علم الأنساب.

[م] ـ «ذاك علم لا يضرّ من جهله» : أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله التنبيه على أن العلم الحقيقي هو الَّذي يضرّ جهله في الآخرة ، وينفع اقتناؤه في يوم المعاد ، ويُعد الجهل به نقصاً في نظر العلماء ، لا الَّذي يستحسنه العوام ويكون مصيدة للحطام.

٣٦٠