تحفة العالم في شرح خطبة المعالم - ج ٢

آية الله السيّد جعفر بحر العلوم

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد جعفر بحر العلوم


المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مركز تراث السيد بحر العلوم قدّس سرّه
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

الحديث الخامس

العلماء ورثة الأنبياء

[٦٧] ـ قال رحمه‌الله : وعنه ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسی ، عن محمّد بن خالد ، عن أبي البختري (١) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنَّ العلماء ورثة الأنبياء ، وذاك أن الأنبياء لم يورَّثوا درهماً ولا ديناراً ، وإنَّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها أخذ حظاً وافراً ، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه؟ فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين» (٢).

أقول : وتقريب المرام في موضعين :

الموضع الأول

في حال سند الحديث : ومرجع الضمير الكليني رحمه‌الله.

[ترجمة محمّد بن خالد البرقي]

فأمّا محمّد بن خالد : فهو المعروف بالبرقي ، أبو عبد الله ، مولى أبي موسى الأشعري.

قال النجاشي : (وكان محمّد ضعيفاً في الحديث ، وكان أديباً ، حسن المعرفة بالأخبار وعلوم العرب) ، انتهى (٣).

ووثّقه المجلسي في (الوجيزة) (٤) ، وقال صاحب البُلغَة : (وابن خالد البرقي مختلف فيه ، ولعلَّ الأظهر تعديله) (٥).

__________________

(١) في الأصل : (أبي الحسن البختري) وهي لم ترد في المصدر وکتاب الكافي.

(٢) معالم الدين : ١٣ ، الكافي ١ : ٣٢ ح ٢.

(٣) رجال النجاشي : ٣٣٥ رقم ٨٩٨.

(٤) الوجيزة في الرجال : ١٥٨ رقم ١٦٦٢.

(٥) لم أعثر عليه في بلغة المحدثین.

١٨١

[ترجمة أبي الحسن البختري]

وأمّا أبو الحسن البختري : بالخاء المعجمة ، اسمه وهب بن وهب ، فعن الفضل بن شاذان أنه من أكذب البريَّة (١).

وقال الشيخ : (إنه ضعيف ، عامَّي المذهب) (٢).

وعدّه المجلسي : (غالياً) (٣).

مع ذلك فقد قال جدّي الفاضل الصالح في شرحه : (إن الحديث معتبر ، وإن كان الراوي كذوباً ؛ لأن الكذوب قَدْ يصدق) (٤).

الموضع الثاني

العلماء ورثة الأنبياء

[أ] ـ قَدْ عرفت من البيانات السابقة شرح ما يتعلق ببعض فقرات الحديث بما لا ينافي ما عليه الشيعة من توريث الأنبياء ، والمقصود من قوله عليه‌السلام : «فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه» هو التنبيه على أنه ينبغي لكم أن تعرفوا أحوال الناس حَتَّى تجدوا أهل هذا العلم لتأخذوا منه ؛ لأنَّ مدّعي العلم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كثير ، والجميع ليسوا قائلين بالصواب ، ولا آخذين له من مشكاة النبوة ، بل أكثرهم يدعون بمجرد الأهواء طالبين للتقدّم والرئاسة ، التابعين للشيطان والنفس الأمارة بالسوء وإنَّما القائلون بالحقّ ، الآخذون له من منبع الرسالة ، وهم أهل البيت الَّذين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم : «إنّي تارك فيكم الثَّقلين : كتابَ اللهِ وعترتي أهلَ بيتي».

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٥٩٧ ح ٥٥٨.

(٢) الفهرست للطوسي : ٢٥٦ رقم ٧٧٩ / ٣.

(٣) الوجيزة في الرجال : ١٩١ رقم ٢٠٣٨.

(٤) شرح اُصول الكافي ٢ : ٢٥.

١٨٢

[ب] ـ ويدل عليه قوله : «فإنَّ فينا أهلَ البيتِ عُدولاً» : فينا خبر إنَّ مقدَّم على اسمه وهو عدولاً ؛ لكونه ظرفاً ، وأهل البيت منصوب على المدح بتقدير أعني ، أو مجرور على أنه بدل لفينا ، أو مجرور بدلاً عن ضمير المتكلّم إن جُوِّز ، كما هو المنقول عن الأخفش من أنه أجاز تبديل الظاهر من ضمير الحاضر مطلقاً (١). (٢)

[ج] ـ «في كل خلف» : أي في كلّ قرن ، فإن الخلف للمرء من يكون بعده ، وكلّ قرن خلف للقرن السابق.

قال في النهاية : [في مادة (خ. ل. ف) (٣) (فيه (يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين) الخلف بالتحريك والسكون : كل من يجيء بعد من مضى ، إلا أنه بالتحريك في الخير ، وبالتسكين في الشر) ، انتهى (٤).

والمراد من العدول النافين للتحريف والانتحال هم الأئمّة عليهم‌السلام الراسخون في العلم كما هو صريح قوله عليه‌السلام في زيارة الجامعة : «ورضيَكُم خلفاءَ في أرضه ، وحُجَجّاً على بريّته ، وأنصاراً لدينه» (٥) فإنهم عليه‌السلام يذبّون عن دينه كل مخالف ، بأن يبطلوا حجّته بالبرهان الحق ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يحمل هذا

__________________

(١) إبدال الاسم الظاهر من الضمير الحاضر المتكلم مطلقاً بدون شرط إفادة الإحاطة والشمول هو رأي الكوفيين وتبعهم الأخفش. (ينظر شرح ابن الناظم : ٢٩٨ ، وشرح الأشموني ٢ : ٨ ، وشرح التصريح ٢ : ١٩٩).

(٢) حكاه عنه في تفسير أبي السعود ١ : ٦٢.

(٣) ما بين المعقوفين منا لإتمام المعنى.

(٤) النهاية في غريب الحديث ٢ : ٦٥.

(٥) تهذيب الأحكام ٦ : ٩٥ ح ١٧٧ / ١.

١٨٣

الدين في كلّ قرن عدول ، ينفون عنه تأويل المبطلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال الجاهلين كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد» (١).

وهذا على الحقيقة والأصل ، ويحتمل أن يريد بالعدول : علماء شیعتهم الَّذين يقتفون آثارهم ، ويعرفون أحكامهم ، الممتحنين ، المحتملين لعلومهم ، وهم من عناهم السيِّد السجّاد عليه‌السلام في تقسيم العلماء ، إلى أن قال :

«ولكنّ الرجلّ كل الرجل ، نعم الرجل ، هو الَّذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضا الله ، يرى الذلَّ مع الحق أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أنَّ قليل ما يحتمله من ضرائها يؤدية إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأنَّ كثيراً ممَّا يلحقه من سرائها ـ إن اتّبع هواه ـ يؤدِّيه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول ، فذلكم الرجل نعم الرجل ، فيه فتمسَّكوا ... الحديث» (٢).

وقال جدّي الصالح رحمه‌الله : (في هذا الخبر دلالة ظاهرة على أن العصر لا يخلو من حجّة ، والروايات الدالّة عليه أكثر من أن تُحصى ، وقد يُستدل بهذا الخبر على حجّية الإجماع) ، انتهى (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ١ : ١٠ ح ٥.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٥٣ ضمن خبر طويل.

(٣) شرح اُصول الكافي ٢ : ٢٨.

١٨٤

الحديث السادس

[٦٨] ـ قال رحمه‌الله : وعنه ، عن الحسين بن محمّد ، عن علي بن محمّد بن سعد رفعه ، عن أبي حمزة ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام ، قال : «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللُّجَج ، إنَّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال : إنّ أمقتَ عبيدي إليّ ، الجاهل المستخف بحقّ أهل العلم ، التارك للاقتداء بهم ، وإنّ أحبَّ عبيدي إليّ ، التقيّ الطالب للثواب الجزيل ، اللازم للعلماء ، التابع للحلماء ، القابل عن الحكماء» (١).

أقول : وتقريب المرام في موضعين :

الموضع الأول

في رجال سند الحديث : مرجع الضمير في عنه كما تقدّم.

[ترجمة الحسين بن محمّد الأشعري]

والحديث مرفوع ، والمراد من الحسين بن محمّد : هو حسين بن محمّد بن عامر ابن أخي عبد الله بن عامر ، وهو ابن محمّد بن عمران كما في (المشتركات) : (ابن محمّد بن عمران الثقة ، ويقال له : ابن عامر ، روى عنه محمّد بن يعقوب) (٢).

وقال في (الرواشح) : (هو من أجلَّاء مشايخ الكليني ، وقد أكثر من الرواية عنه في الكافي ، وصرّح باسم جدِّه عامر الأشعري في مواضع عديدة) (٣) ، ونسخ الكافي مختلفة ، ففي بعضها كما في المتن ، وفي بعضها عن علي بن محمّد بن سعد ،

__________________

(١) معالم الدين : ١٣ ، الكافي ١ : ٣٥ ح ٥.

(٢) هداية المحدثین : ١٩٦.

(٣) الرواشح السماوية : ١٧٤ ، تعليقة البهبهاني على منهج المقال : ١٤٦.

١٨٥

رفعه بإسقاط الحسين بن محمّد ، والمراد بعلي بن محمّد بن سعد في النسخة الأُولى : هو علي بن محمّد بن علي بن سعد الأشعري القمِّي المعروف بابن متویه ، والمراد به في النسخة الثانية : هو علي بن محمّد بن سعد الأشعري وهو أحد شيوخ أبي جعفر الكليني صاحب الكافي رحمه‌الله (١).

الموضع الثاني

في شرح متن الحديث :

[أ] ـ «ما في طلب العلم» : يعني من الشرف ، والكمال ، والمنافع ، والحياة الأبدية للنفس الناطقة بعد رقودها في مهد الطبيعة البشرية ، ورکودها في مرقد القوى الإنسانية ، وصدودها عن مشاهدة ما عند الحضرة الربوبية.

[ب] ـ «وسفك المهج» : كناية عن ارتكاب التعب والمشقَّة الشديدة في طلبه ، كما أن «خوض اللُّجَجَ» كناية عن ارتكاب المكاره والشدائد.

دانيال النبي عليه‌السلام

[ج] ـ «إلى دانيال» : وهو النبيّ من أولاد یهودا بن يعقوب ، وهو الَّذي كان في زمن بخت نصر ، وهو الَّذي تفرّد في علم النجوم والرمل ، وله كتاب (الملاحم والحوادث في الدنيا) كما رواه القطب الراوندي في القصص عن الصدوق بالإسناد عن الصادق عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) شرح اُصول الكافي ٢ : ٥٧.

(٢) قصص الأنبياء : ٢٣٤ ح ٣٠٥.

١٨٦

(وكان [قد] (١) ذهب به بخت نصر مع أطفال من أولاد الأنبياء عليه‌السلام إلى بابل ، وحُبس دانيال في الجبّ المعروف الآن بجبّ دانيال في قرية صغيرة على شاطئ نهر الفرات بأرض العراق ، وذهب أكثر الناس إلى أنها بئر هاروت وماروت ، ثُمَّ إنّ بخت نصر رأى رؤيا عجيبة أهالته ، فسأل عنها الكهنة والسحرة ، فعجزوا عن تعبيرها ، وكان دانيال مع أصحابه في السجن ، فأخبر السجّان بخت نصر بقصَّة دانيال ، فقال له : عليّ به وكان لا يدخل عليه أحدٌ إلا سجد له فأتوا به فقام بين يديه ولم يسجد ، فقال له : ما الَّذي منعك من السجود لي؟

فقال : إن لي ربّاً آتاني الحكمة والعلم ، وأمرني أن لا أسجد لغيره ، فخشيت أن أسجد لغيره فينزع منّي علمه الَّذي أتاني ويهلكني ، فأعجب به ، وقال : نِعمَ ما فعلت حيثُ وفيتَ نعمه ، ثُمَّ أخبره برؤياه التي رآها قبل أن يخبره الملك وعبّرها له ، فجعل يكرمه ويستشيره في اُموره حَتَّى كان أكرم الناس عليه ، وأحبَّهم إليه ، فحسده المجوس وذهبوا إلى إهلاکه ، فنجّاه الله تعالی) (٢).

وبخت نصر من ولد نمرود ، وهو الَّذي غزا بني إسرائيل ، وقتل منهم خلقاً كثيراً ، وسبی بعثتهم ، وغزا مصر ، ودوَّخ كثيراً من البلاد ، وهو من الكلدانيين : اُمَّةٌ قديمةُ الرئاسة ، نبيهةُ الملوك ، كان منهم النماردة والجبابرة الَّذين كان أوَّلهم نمرود من بني حام ، ولم يزل ملك الكلدانيين ببابل إلى أن ظهر عليهم الفرس ، وغلبوهم على مملكتهم ، وأبادوا كثيراً منهم ، فدُرست أخبارهم ، وطُمست آثارهم.

__________________

(١) ما بين المعقوفين منا لإتمام المعنى.

(٢) بحار الأنوار ١٤ : ٣٦٤.

١٨٧

فتح شوشتر في خلافة عمر

(وفي سنة ١٩ من الهجرة في السنة السابعة من خلافة عمر ، لمّا فرغ أبو موسی الأشعري من فتح مناذر توجَّه إلى فتح شوش ، فحاصرها ، ولمّا رأى شابور صاحب القلعة قوة الأعراب ، وعدم نهوضه بالمقاومة أرسل إلى أبي موسى من يأخذ منه الأمان لعشرة أنفس من أقاربه ، فيفتح لهم باب البلدة ، فقبل أبو موسى ذلك ، وقال للرسول : فليكتب صاحبك أسماءهم ، فكتب شابور ذلك وفتح باب الحصار وتوجَّه مع العشرة إلى أبي موسى.

فقال أبو موسى : لم يكن اسمك مكتوباً مع العشرة ، ونحن على ما وعدناك من سلامة العشرة ، والأصلح بحال المسلمين قتلك ، فقتله ، ثُمَّ دخل حصار شوش وضبط ما في خزائن شابور من الأموال ، ثُمَّ رأى باباً محكماً مقفولاً مختوماً ، فسأل عمّا وراء الباب؟ فقيل له : ليس فيه ما ينفعك ، فقال : لابدّ من الاطّلاع عليه ، فأمر بكسر الأقفال ، ودخل فرأى صخرة كبيرة مثل القبر ، وعليها جسد ميِّت وهو مكفّن بقطع من الحرير المزرکش ، مکشوف الرأس ، طويل القامة جداً ، فتعجبوا من طول قامته ، وطول أنفه أكثر من شبر ، فسأل أبو موسى عنه أهل شوش؟

فقالوا : كان هذا الرجل مستجاب الدعوة يستسقون به أهل بابل ، فابتُلي أهل شوش بسنة مجدية ، فأرسلوا إلى بابل يطلبون أهله إرساله إليهم حَتَّى يدعو لهم بالمطر ، فأبوا من إجابة ذلك ، فأرسلوا إليهم خمسين رجلاً برسم الرهينة حَتَّى أرسلوه ، فدعى لهم ، وسقوا ببركته ، وكثر خيرهم ، فلمَّا رأوا ذلك رفعوا اليد من الأشخاص المرهونين ، وبقي الرجل عندهم إلى أن مات ، فكتب أبو موسى صورة الواقعة إلى عمر ، فسأل عمر عن حال هذا الشخص جميع الصحابة ، فلم يُعلمه أحد بحقيقة الحال إلا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : إنَّه دانيال ، وذكر قصته مع بخت نصر ، وأسارته من بيت المقدس إلى أرض بابل ، وقال لعمر : أكتب لأبي موسى أن يخرجه

١٨٨

من هذا المكان ، ويكفنه فوق كفنه ، ويصلّي عليه ، ويدفنه في محل لا تصل إليه يد أهل الشوش ، ففعل ذلك أبو موسى وحفر له قبراً في قعر نهر شوش بنى عليه بالرخام في غاية الرصانة والاستحکام ، ثُمَّ أجرى الماء عليه) (١).

قال الحموي في مراصد الاطلاع : (السُّوْس بالضم ، ثُمَّ السكون ، وسين اُخرى : بلدة بخوزستان ، وُجد فيها جسد دانيال عليه‌السلام ، فدُفن في نهرها تحت الماء ، وغُمر قبره ، وموضعه [ظاهر] يُزار) (٢).

قال السيِّد الجزائري في (الأنوار) : (ومات دانيال بناحية الشوش ، ودُفن فيها ، والشوش بلد كبير في ناحية شوشتر لكنَّها هذا (هي ـ ظ) الآن من توابع حويزة فقد خُربت وصارت تلاً من التراب ، وقد وصلنا إليها مراراً وشاهدنا فيها آثاراً غريبة ، وأطواراً عجيبة ، وقبر دانيال قريب منها تتبرَّك به الناس ، وقد شاهدوا له کرامات (وفي بعض الروايات) أن أهل الشوش شكوا إلى أحد المعصومين عليه‌السلام كثرة الأمطار ، فكتب لهم : إنَّ عظام أخي دانيال تحت السماء والسماء تهطل دموعاً عليه ، فوارَوْهُ تحت التراب حَتَّى تسكن عنكم الأمطار ، فواروه تحت التراب.

وقريب من قبره المبارك النهر الَّذي حفره شابور ذو الأكتاف ، وقد عُمل قريباً من القبر حوض كبير ، وفيه سمك كثير شاهدناها لمّا وصلنا إلى زيارته ، وقد ألفت الزائرين حَتَّى كنا نجلس إلى جرف النهر ونضع الخبز في أيدينا ، وتظهر الحيتان من الماء تأكله من أيدينا شيئاً فشيئاً.

والشوش في لغة الفرس القديمة اسم للشيء الحسن ، ولمّا بنوا الشوشتر سمَّوها بهذا الاسم ، ومعناه الأحسن يعني أنه أحسن من الشوش ، وفي قبَّته صخرة إذا وقَّف

__________________

(١) كتاب الفتوح لابن أعثم ٢ : ٢٧٣.

(٢) مراصد الاطلاع ٢ : ٧٥٥ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

١٨٩

عليها الإنسان وحرَّكها تحركت مستديرة والإنسانُ فوقها ، ثُمَّ تبقى الحركة حَتَّى ينزل الإنسان من فوقها) ، انتهى (١).

وفي باب التوبة من الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إن الله عزَّ وجلَّ أوحى إلى داود أن أئت عبدي دانيال وقل له : إنك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك ، وعصيتني فغفرت لك ، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك ، فأتاه داود عليه‌السلام ، فقال : يا دانيال ، إنَّني رسول الله إليك وهو يقول : إنك عصيتني فغفرت لك ، وعصيتني فغفرت لك ، وعصيتني فغفرت لك ، فإن عصيتني الرابعة لم أغفر لك.

فقال له دانيال : قَدْ أبلغت يا نبي الله ، فلمَّا كان في السحر قام دانيال فناجی ربَّه ، فقال : يا ربّ ، إن داود نبيَّك أخبرني عنك أنني قَدْ عصيتُكَ فغفرتَ لي ، وعصيتُكَ فغفرتَ لي ، وعصيتُكَ فغفرتَ لي ، وأخبرني عنك أنني إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي ، فوعزتك لئن لم تعصمني لأعصينّك ، ثُمَّ لأعصينّك ، ثُمَّ الأعصينّك» (٢).

قال المجلسي رحمه‌الله : (والعصيان محمول على ترك الأولى ؛ لأن دانيال عليه‌السلام كان من الأنبياء ، وهم معصومون من الكبائر والصغائر عندنا كما مرّ ، وقوله : (لئن لم تعصمني لأعصينّك) فيه مع الإقرار بالتقصير اعتراف بالعجز عن مقاومة النفس وأهوائها ، وحثّ على التوسُّل بذيل الألطاف الربانية ، والاستعاذة من التسويلات النفسانيّة ، والوساوس الشيطانية) ، انتهی (٣).

__________________

(١) لم أعثر عليه في الأنوار النعمانية ، وينظر عن مرقده : مراقد المعارف ١ : ٢٨٤ رقم ٩٧.

(٢) الكافي ٢ : ٤٣٤ ح ١١.

(٣) مرآة العقول ١١ : ٣٠٥.

١٩٠

وفي (مجمع البحرين) : (دانيال النبي بكسر النون ، كان غلاماً يتيماً لا أب له ولا اُمّ ، ربّته عجوز من بني إسرائيل ، وقد أسره بخت نصر وعزيراً ، فأنجاهما الله من العذاب ، ومات دانيال بناحية السوس. وقد وُجد خاتمه في عهد عمر ، وكان على قصّه أسدان وبينهما رجل يلحسانه ، وذلك أن بخت نصر لمّا أخذ في تتبُّع الصبيان وقتلهم ، ووُلد هو ألقته اُمُّه في غيضة رجاء أن ينجو منه ، فقيّض الله له أسداً يحفظه ولبوة ترضعه وهما يلحسانه. فلمَّا كبر صوّر ذلك في خاتمه حَتَّى لا ينسى نعمة الله عليه) (١).

وفي کشکول شيخنا البهائي نقلاً عن خط الشهيد رحمه‌الله ، يرفعه إلى دانيال النبيّ ، قال : (إذا أراد أحدكم يعلم أن حاجته تقضى أم لا ، فليقبض على شيء من الحبوب ويضمر حاجته ، ويأخذ ثماناً ثماناً من الحبوب المقبوضة ، فإن بقي في يده واحدة فهي للزهرة فالحاجة مقضية ، وإن بقي اثنتان فهي للمريخ فإنَّها لا تقضى ، وإن بقي ثلاث فهي للذئب يكون نحساً لا تقضى ، وإن بقي أربع فهي لزحل فإنها لا تقضى ، وإن بقي خمس فهي للمشتري فإنها تقضي سريعاً ، وإن بقي ست فهي للقمر فإنها تقضى ، وإن بقي سبع فهي لمطارد تقضي حسناً ، وإن بقي ثماني فلا تعرض لها بوجه من الوجوه فإنها وقعت في التوقُّف) (٢).

[د] ـ «والمقت» : هو الإبغاض.

[هـ] ـ «المستخف بحق المعلم» : فيه دلالة على أن الجاهل على إطلاقه ليس مبغوضاً ، بل إنَّما يكون كذلك إذا كان متصفاً بما ذُكر من الاستخفاف والترك ،

__________________

(١) مجمع البحرين ٢ : ٦٠.

(٢) لم أهتد إليه في كشكول البهائي.

١٩١

والا فالجاهل المعظّم لأهل العلم ، المقتدي بهم المحب لهم والمتعلّم منهم ، هو من أهل المحبَّة دون المقت.

[و] ـ «والتقي» : الَّذي هو من أحبّ عباد الله إليه ، هو الخائف منه تعالی ، المتجنب عن معصيته بالتزام أوامره ، واجتناب نواهيه ، الطالب للثواب الجزيل ، الحاصل لذلك له من العمل بما يوجبه ، وعمدته تحلية الظاهر بالأفعال الجميلة ، وتخلية الباطن من الأخلاق الرذيلة.

[ز] ـ «اللازم للعلماء» : وهم أهل العلم من الشيعة ، وفيه دلالة على أن الفضيلة والشرف إنَّما تكون في ملازمة العالم الحلِّيم السليم من مقتضيات القوَّة الغضبية والشهوية ، وبعبارة اُخرى : من صدق قوله فعله ، ومن لم يكن كذلك فليس بعالم ، فقد قال الصادق عليه‌السلام : «اطلبوا العلم وتزيَّنوا معه بالحلم والوقار ، وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم ، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ، ولا تكونوا علماء جبّارين فيذهب باطلُكم بحقّكم» (١).

وعن الرضا عليه‌السلام : «أنَّ من علامات الفقيه الحلم والصمت» (٢).

وقال بعض الشرّاح : (اختلفت أقوال الأكبر في الفرق بين العالم والحكيم ، فقيل : العالم طبيب الدين بأدوية الحق والصدق والتصفُّح والتعطف.

وقيل : من يخلّص الناس من أيدي الشياطين.

وقيل : هو من لان قلبه ، وحسن خلقه ، ورقّ ذكره ، ودقّ فکره ، ولا يطمع ولا يبخل.

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٦ ح ١.

(٢) عیون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٤ ح ١٤.

١٩٢

وقيل : الحكيم هو الَّذي يطلب ما ينفعه ، ويترك ما يضرّه ، ويقرب منه ما قيل : هو العدل الأخذ بالحق والصواب قولاً وعملاً.

وقيل : من لا يغضب على من عصي ، ولا يحقد على من جفا.

وقيل : هو من كان كل أفعاله صواباً ، ولا يدخل في اختياره خلل ولا فساد.

وقيل : ليس الحكيم الَّذي يجمع العلم الكثير ، لكن الحكيم الَّذي يعرف صواب ما لَهُ وما عَليهِ.

وقيل : الحكماء للأخلاق کالأطباء للأجساد.

وقيل لعالم : مَن الحكيمُ؟ قال : من تعلَّق بثلاث فيها علم الأولين والآخرين ، قيل : وما هي؟ قال : تقديم الأمر ، واجتناب النهي ، واتّباع السنَّة.

وكيفَ تريدُ أن تُدعى حكيماً

وأنت لكلّ ما تهوی رَکوبُ

لعلَّ العُمرَ أكثرُهُ تولَّی

وقد قَرُبَ الرَّدى فمتى تَتوبُ

ورُوي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «العلم نهر ، والحكمة بحر ، والعلماء حول النهر يطوفون ، والحكماء في وسط البحر يغوصون ، والعارفون في سفن النجاة يخوضون» ، ولكون الحكماء أعظم شأناً ، وأرفع مكاناً ، رغّب في قبول العلم عنهم ، والأخذ منهم) ، انتهى (١).

ومن كلام الحكيم زيتون الأكبر : (لا تخف موت البدن ، وخف موت النفس ، فقيل له : لم قلت ذلك والنفس لا تموت؟ فقال : إذا انتقلت النفس الناطقة من حد

__________________

(١) شرح اُصول الكافي ٢ : ٦٠.

١٩٣

النطق إلى حد البهمي ، وإن كان جوهرها لا يبطل ، فإنها قَدْ ماتت من العيش العقلي) (١).

ومثل هذا الكلام ما رُوي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «للجسم ستة أحوال : الصحَّة ، والمرض ، والموت ، والحياة ، والنوم ، واليقظة وكذلك الروح فحياتها علمها ، وموتها جهلها ، ومرضها شكّها ، وصحَّتها يقينها ، ونومها غفلتها ، ويقظتها حفظها» (٢).

ا ولا يخفى ما في كلامه عليه‌السلام من الحقائق الحكمية والمسائل الفلسفية ، فانظر أيُّها اللبيب إلى ما في هذا الحديث من شرف فضيلة العلم وكماله ، حيث بالغ فيه :

(أولاً) : بأنه لا ينبغي أن يعوق عنه شيء من شدائد الدهر ونوائبه ، ولا يكون ذلك مانعاً من تحصيله.

(وثانياً) : بأن الاستخفاف بالعلماء من أعظم الكبائر الموجبة لمقت الله تعالی وسخطه.

(وثالثاً) : أن ملازمتهم من أعظم القربات الموجب لأعلى درجات محبته.

__________________

(١) الملل والنحل ٢ : ٩٩.

(٢) التوحيد للصدوق : ٣٠٠ ح ٧.

١٩٤

[ترجمة المولى محمّد صالح المازندراني]

وفي رياض العلماء (١) في أحوال جدّنا العالم الرباني المولى محمّد صالح المازندراني : (أن أباه المولى أحمد المازندراني كان في غاية من الفقر والفاقة ، فقال يوماً لولده : إنّي لا أقدر على تحمل نفقتك ، ولابد لك من السعي للمعاش ، وأنت في سعة من حاجتي ، فاطلب لنفسك ما تريد.

فهاجر المولى المزبور إلى أصبهان وسكن في المدرسة ، وكان للمدارس وظائف معيَّنة من طرف السلاطين ، يُعطى كل الطلبة على حسب رتبته ، ولمّا كان المولى المعظم أول أمر تحصيله ، كان سهمه منها في كل يوم غازين ، وهما غير وافيين لمصارف أكله ، فضلاً عن سائر لوازم معاشه ، ومضى عليه مدّة لم يتمكّن من تحصيل ضوء لمطالعته ، وكان يقنع بسراج بيت الخلاء ، وكان يطالع بمعونته واقفاً على قدميه إلى الصباح حَتَّى صار في مدة قليلة قابلاً للتلقّي من المولى محمّد تقي المجسي ، فحضر في مجلس درسه في عداد العلماء الأعلام ، إلى أن فاق عليهم ، وكان للمولى الجليل اُستاذه شفقة تامَّة عليه ، وكان يعتمد على جرحه وتعديله في المسائل ، وفي خلال ذلك حصل له رغبة في التزويج ، وعرف ذلك منه اُستاذه رحمه‌الله.

فقال له يوماً : إن أذنت لي أزوِّجك امرأة ، فاستحيى ، ثُمَّ أذن له فدخل المولى في بيته وطلب بنته آمنة الفاضلة المقدسة المجتهدة البالغة في العلوم حدّ الكمال ، وقال : عيّنت لك زوجاً في غاية من الفقر ، ونهاية من الفضل والصلاح والكمال ، وهو موقوف على إذنك ورضاك.

__________________

(١) لم ترد هذه الحكاية في كتاب رياض العلماء ، وتقع ترجمته فيه في ج ٥ ص ١١٠ ، وإنما ذكرها الشيخ النوري رحمه‌الله في كتابه الفيض القدسي ناقلاً قبلها ترجمة زوجته آمنة بيكم عن كتاب رياض العلماء ، فسرى الاشتباه ، فلاحظ.

١٩٥

فقالت الصالحة : ليس الفقر عيباً في الرجال ، فهيّأ والدها المعظَّم مجلساً عالياً زوجها منه ، فلمَّا كانت ليلة الزفاف ودخل عليها ورفع البرقع عن وجهها ونظر جمالها عمد إلى زاوية وحمد الله شكراً واشتغل بالمطالعة.

واتفق أنه ورد على مسألة مشكلة لم يقدر على حلّها ، وعرفت ذلك الفاضلة آمنه بیکم بحسن فراستها وتدبيرها ، فلمَّا خرج المولى المذكور من الدار للبحث والتدريس عمدت إلى تلك المسألة وكتبتها مشروحة مبسوطة ، ووضعتها في مقامه ، فلمَّا دخل الليل وصار وقت المطالعة وعثر المولى على المكتوب وحلّ ما أشكل عليه ، سجد لله شكراً واشتغل بالعبادة إلى الفجر ، وطالت مقدمة الزفاف إلى ثلاثة أيام ، واطّلع على ذلك والدُها المعظَّم فقال له : إن لم تكن هذه الزوجة مرضية لك اُزوّجُك غيرها.

فقال : ليس الأمر كما توهم ، بل المقصود أداء الشكر ، كُلَّما أجهد نفسي في الحياة لا أبلغ أداء ذرَّة من هذه العناية الربانية.

قال رحمه‌الله : الإقرار بالعجز غاية الشكر) ، انتهى (١).

وله من المصنفات الفائقة والتحريرات الرائقة ما لا يخفى على أهل الكمال حسنها ، كحاشية معالم الأُصول ، وشرح الزبدة ، وشرح اُصول الكافي ، وشرح قصيدة البردة ، توفّي بإصفهان سنة ١٠٨١ هـ ودُفن في مرقد المجلسي رحمهما الله.

__________________

(١) أورد هذه الحكاية الشيخ النوري رحمه‌الله في كتابيه الفيض القدسي : ٢٣٣ عن كتاب مرآة الأحوال جهان نما ، وفي خاتمة المستدرك ٢ : ١٩٦.

١٩٦

الحديث السابع

افضل العالم على العابد

[٦٩] ـ قال رحمه‌الله : وعنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، وعن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، جميعاً عن أبي عمير ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : (عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد» (١).

أقول : وشرح المقام في موضعين :

الموضع الأول

في شرح سند الحديث : مرجع الضمير كسابقه.

[ترجمة محمّد بن أبي عمير]

(وابن أبي عمير: هو محمّد بن أبي عمير زياد بن عيسى ، أبو أحمد الأزدي ، من موالي المهلَّب بن أبي صفرة ، وقيل : مولى بني اُميَّة ، والأول أصح.

بغدادي الأصل والمقام ، لقي أبا الحسن موسی عليه‌السلام وسمع منه أحاديث ، كنّاه في بعضها ، فقال : يا أبا أحمد ، وروى عن الرضا عليه‌السلام ، كان جلیل القدر ، عظيم المنزلة عندنا وعند المخالفين.

والجاحظ يحكي عنه في كتبه ، وقد ذكره في المفاخرة بين العدنانية والقحطانية ، وقال في (البيان والتبيين) : حدّثني إبراهيم بن داحية ، عن ابن أبي عمير. وكان وجهاً من وجوه الرافضة ، وكان حُبس في أيام الرشيد فقيل : لِيَلِيَ القضاء ، وقيل : إنه وُلّي بعد ذلك ، وقيل : بل لِيدلَّ على مواضع الشيعة وأصحاب موسی بن جعفر عليه‌السلام ، ورُوي أنه ضُرب أسواطاً بلغت منه ، فكاد أن يقرّ العظيم الألم ، فسمع محمّد بن يونس بن عبد الرحمن وهو يقول : اتق الله يا محمّد بن أبي عمير ، فصبر ففرّج الله عنه.

__________________

(١) معالم الدين : ١٣ ، الكافي ١ : ٣٣ ح ٨.

١٩٧

ورُوي أنه حبسه المأمون حَتَّى ولّاه قضاء بعض البلاد ، وقيل : إنَّ اُخته دفنت كتبه في حالة استتاره وكونه في الحبس أربع سنين ، فهلكت الكتب ، وقيل : بل تركتها في غرفة ، فسال عليها المطر فهلكت ، فحدّث من حفظه ، وممّا كان سلف له في أيدي الناس ، فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله) (١).

وربّما أورد بعضهم على الأصحاب كالمصنِّف والسيد محمّد صاحب المدارك بأن محمّد بن أبي عمير يروي عن غير الثقة أيضاً (٢) ، فكيف تنظيم مراسيله في سلك الصّحاح ، وفيه أن المذكور أنه لا يرسل إلا عن ثقة ، لا أنه لا يروي إلا عن ثقة ، فتأمّل جيداً ، وقَدْ صنّف كتباً كثيرة ، مات سنة ٢١٧ هـ.

[ترجمة سيف بن عميرة]

وأمّا سيف بن عميرة النخعي : عربي ، كوفي ، ثقة ، روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي الحسن عليه‌السلام.

له كتاب يرويه جماعات من أصحابنا ، كذا قال النجاشي (٣).

الموضع الثاني

في شرح متن الحديث :

[أ] ـ قال جدّنا الصالح رحمه‌الله : (أن المراد بهذا العالم ، صاحب الحكمة النظرية والعلمية) (٤).

__________________

(١) رجال النجاشي : ١٥ رقم ١٤ ، و ٣٢٦ رقم ٨٨٧ ، خلاصة الأقوال : ٢٣٩ رقم ١٨.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٢٤٦.

(٣) رجال النجاشي : ١٨٩ رقم ٥٠٤.

(٤) شرح اُصول الكافي ٢ : ٣٥ ، ولعلّ الصحيح : والعمليّة.

١٩٨

[ب] ـ «أفضل من سبعين ألف عابد» : لأن عقل العابد الجاهل راقد في مراقد الطبيعة ، وعقل العالم سائر في معالم الشريعة ، وبه نری حقائق الأشياء كما هي ، وبه تُعرف الشرائع من الأوامر والنواهي.

وأيضاً نفع العابد لو تحقق يرجع إلى نفسه ، ونفع العالم يرجع إليه وإلى جميع الخلائق.

وأيضاً العالم وارث الأنبياء ، وقائم مقامهم ، فنسبته إلى غيره كنسبة الأنبياء إلى غيرهم.

وأيضاً العابد في عرنية العقل الهيولاني ، والعالم في مرتبة العقل بالفعل أوفوقها ،ومزية الثانية على الأُولى لا تخفى على ذي بصيرة.

وحده الوجوه تفيد أن العالم أفضل من العابد ، وأمّا كونه أفضل من خصوص هذا العدد ، أعني سبعين ألف عابد ، فعقولنا قاصرة عن إدراك سر ذلك ، والعلم به مختص بأهل الذكر عليه‌السلام وإنَّما الواجب علينا التسليم ، ويحتمل أن يكون الغرض [من هذا العدد] مجرد إفادة الكثرة الخارجة عن إحاطة الحصر كما هو المتعارف من استعمال هذه العبارة) (١).

(وبالحري بالمقام) ذكر ما رواه الكليني رحمه‌الله باسناده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان عابد في بني إسرائيل لم يقارف من أمر الدنيا شيئاً ، فنخر إبليس نخرة ، فاجتمع إليه جنوده فقال : من لي بفلان؟ فقال بعضهم : أنا له ، فقال : من اين تأتیه؟ قال : من ناحية النساء.

قال : لستَ له ، لم يجرِّب النساء.

قال آخر : فأنا له من ناحية الشراب واللَّذات.

__________________

(١) شرح اُصول الكافي ٢ : ٣٥ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

١٩٩

قال : لست له [ليس هذا بهذا].

قال آخر : فأنا له.

قال : من أين تأتيه؟ قال : من ناحية البرّ.

قال : انطلق فأنت صاحبه ، فانطلق إلى موضع الرجل ، فقام حذاه يصلّي.

قال : وكان الرجل ينام والشيطان لا ينام ، ويستريح والشيطان لا يستريح ، فتحوَّل إليه الرجل وقد تقاصرت إليه نفسه ، واستصغر عمله ، فقال : يا عبد الله بأي شيء قويت على هذه الصلاة؟ فلم يجبه ، ثُمَّ أعاد عليه ، فقال : يا عبد الله ، إنّي أذنبت ذنباً وأنا تائب منه ، فإذا ذكرت الذنب قويتُ على الصلاة.

قال : فأخبرني عن ذنبك أعمله وأتوب ، فإذا فعلته قويتُ على الصلاة؟ قال : اُدخل المدينة فسل عن فلانة البغيَّة ، فاعطها درهمین ونَلْ منها.

قال : ومن أين لي درهمان؟ وما أدري ما الدرهمان؟ فتناول الشيطان من تحت قدمه درهمين ، فناوله إيَّاهما ، فقام فدخل المدينة بجلابيبه يسأل عن منزل فلانة البغيَّة ، فأرشده الناس وظنوا أنه جاء يعظها ، فجاء إليها فرمى إليها بالدرهمين.

وقال : قومي فقامت ودخلت منزلها وقالت : اُدخل ، وقالت : إنك جئتني في هيئة ليس يأتي مثلي في مثلها ، فاخبرني بخبرك؟

فأخبرها ، فقالت له : يا عبد الله ، إن ترك الذنب أهون من طلب التوبة ، وليس كل من طلب التوبة وجدها ، وإنما ينبغي أن يكون هذا شيطاناً مُثّلَ لك ، فانصرف فإنك لا ترى شيئاً ، فانصرف وماتت من ليلتها ، فأصبحت فإذا على بابها مكتوب : أحضروا فلانة فإنها من أهل الجنَّة ، فارتاب الناس ، فمكثوا ثلاثاً

٢٠٠