تحفة العالم في شرح خطبة المعالم - ج ٢

آية الله السيّد جعفر بحر العلوم

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد جعفر بحر العلوم


المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مركز تراث السيد بحر العلوم قدّس سرّه
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

ولنعم ما قاله شمس الدين المعروف بخواجة حافظ الشيرازي المتوفى سنة ٧٩١ هـ :

فراغتني وكتابي وكوشه چمني

من اين مقام بدنيا واخرة ندهم

 [ز] ـ وكذلك «هو سلاح على الأعداء» : إذ به تنقطع حُجَّة أعداء الدين ، كما بالقتال بالسلاح تنقطع شوكتهم ، وباقي فقرات الحديث واضحة.

١٦١

الحديث الثالث

طلب العلم فريضة

[٦٥] ـ قال رحمه‌الله : فصل : وروينا بالإسناد عن محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن الحسن بن الحسين الفارسي ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، ألا إنَّ الله تعالى يُحِبُّ بغاةَ العلم» (١).

(أقول) وهنا موضعان :

الموضع الأول

فيما يتعلق بسند الحديث ، والمذكور في (الكافي) بدل الحسن بن الحسين ، الحسن بن أبي الحسين ، فكأن لفظة : (أبي) ساقطة من عبارة الماتن رحمه‌الله ، وبناءً على ما في (الكافي) فهو غير مذكور في كتب الرجال (٢) ؛ ولذا حكم المجلسي في (مرآة العقول) بأن الحديث مجهول السند (٣).

نعم ، ذكر الشيخ في فهرسته في باب (الحسين) ، الحسين بن الحسن الفارسي القمّي ، له كتاب (٤) ، ولعلّ المذكور في الكافي سهو من الناسخین ، والصحيح ما في الفهرست ، وعليه فيمكن تصحيح السند بتقديم الحسين على الحسن.

__________________

(١) معالم الدين : ١٢ ، الكافي ١ : ٣٠ ح ١.

(٢) ذكره السيِّد الخوئي رحمه‌الله في كتابه معجم رجال الحديث ٥ : ٢٦٢ رقم ٢٦٩٢.

(٣) مرآة العقول ١ : ٩٨.

(٤) الفهرست للطوسي : ١٠٨ رقم ٢٠٩ / ٦.

١٦٢

[ترجمة عبد الرحمن بن زيد]

(وأمّا عبد الرحمن بن زيد) فهو من أصحاب الصادق عليه‌السلام كما في رجال الشيخ (١) ، وهو من المجاهيل ، وزيد أبوه هو ابن أسلم مولى عمر بن الخطّاب ، فيه نظر كما في (الخلاصة) نقلاً عن الشيخ رحمه‌الله (٢).

الموضع الثاني

في شرح المتن :

[أ] ـ «الفرض والوجوب» : سيّان عندنا وعند الشافعي ، والفرض آكد من الواجب عند أبي حنيفة ؛ لأنَّه خُصّ الفرض بما ثبت بدلیل قطعي ، والواجب بما ثبت بدلیل ظنّي (٣).

[ب] ـ «والبغاة» : جمع الباغي ، وهو الطالب.

(وربّما) يستدل بهذا الخبر على نفي تكليف الكُفَّار بالفروع نظراً إلى أن موردها المسلم دون مجرد البالغ.

عمل الجاهل التارك للطريقين

(وفيه) أنه لا يدل على عدم تكليف غير المسلم وعدم وجوبه عليه ، ولو سَلِمَ ، فإنَّما هو بمفهوم الَّلقب وهو كما ترى ، وقد أشرنا فيما تقدّم إلى ما هو المراد من العلم في أمثال هذه الأخبار ، ونزيدك بياناً هنا ، فنقول : لا يخفى على كلّ من أشرق نور العقل على جبهة استعداده ، أنَّ شرف الإنسان على سائر

__________________

(١) رجال الطوسي : ٢٣٦ رقم ٣٢٢٧ / ١٣٦.

(٢) خلاصة الأقوال : ٣٤٧ رقم ٢ ، رجال الطوسي : ٢٠٧ رقم ٢٦٧٦ / ٢٢.

(٣) ينظر : لسان العرب ٧ : ٢٠٣.

١٦٣

الكائنات بجوهر العقل ، وأن ذلك الشرف إنَّما يحصل له في الحقيقة عند ما يتحلَّی بخاصيَّة العقل ـ أعني معرفة الأشياء والعمل بمقتضاها ـ ومن أهم المعارف معرفة النفس ، فمن عرف نفسه فقد عرف ربّه ، ولنعم ما قيل :

تو که در علم خودزبان باشي

عرف کردگار گي باشي

وكذلك معرفة ما يرجع إليه نفسه ، ومعرفة ربّه ، ومعرفة تكاليف الربّ الواردة على العبد ، وما عدا الأخير وهي المعارف التي تسمّى اُصول الدين عند المتكلّمين ، والحكمة الإلهية عند الحكماء ، وعلم المعرفة عند الصوفية الموحِّدين ، (وباتّفاق العلماء والمحصّلين من العقلاء أنه لا يمكن الفوز لأحد بدون هذه المعارف والعمل بموجبها.

(وجمهور العلماء) متَّفقون على عدم كفاية التقليد في معرفة اُصول الدين ، بل لابدّ فيها من الدليل ، والمراد من التقليد غير الكافي في المقام هو محض السماع من الغير ، كالخبر المحتمل للصدق والكذب ، كما أنَّ المراد من الدليل اللازم هو ما أوجب السامع اطمئناناً وسکوناً في خاطره بصدق ما سمعه ، کالأخبار الحاصلة لنا التي نصدّقها في عرفنا لما نجد فيها من أمارات الصدق ، قلا محالة تعمل بمقتضاها ، وهذا المقدار كافٍ لكلّ مكلّف في تحصيل معارف نفسه ، وعمل شخصه ، ولا يجب عليه تحصيل ما زاد عليه ، كالعلم باصطلاحات العلماء ، وأرباب النظر ، وتطبيق كلّ دليل على قانون علم الميزان ، نعم ربّما يلزم ذلك من يريد تعليم الغير أو لأجل دفع بعض الشبهات الواردة ، وما ذكرناه من هذا المقدار الواجب يمكن تحصيله لكلّ مكلّف جامع الشرائط التكليف ، سواء كان من الخواص أو من العوام ، ولا يُعذر أحد من سائر الأصناف في عدم طلبه ،

١٦٤

وترك السعي في تحصيله ، كما هو مقتضى هذا الحديث ؛ إذ لا يزاحم شغلاً ولا نافيه شغل.

(ومع ذلك) فالناس معرضون عن تحصيله ، ويعتذرون بصعوبته ، بل أكثر المنسوبين إلى العلم في زماننا مع إفناء عمرهم في قراءة الكتب وأخذ المسائل قَدْ حُرموا من الوقوف على القدر الضروري منه ، بحيث لا تجد فرقاً بينهم وبين سائر عوام الناس.

(وأمّا معرفة تكاليف الرب) ، فاللازم على المكلّف تحصيل المعرفة مقدِّمة للعمل ، إمّا بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط ، فالجاهل التارك للاحتياط والتقليد ، إمّا قاصر أو مقصِّر ، والقاصر لا يستحق العقاب على جهله وتر که التعلُّم ، وإن وجب عليه الفعل ثانياً مع انكشاف الخلاف ، وأمّا إذا طابق عمله الواقع فلا يجب عليه الإعادة ولا القضاء وكذلك المقصِّر ، نعم ، الفرق بينهما في مخالفة الواقع ، فإنَّ المقصر يستحق العقاب مع وجوب القضاء والإعادة عليه عند انکشاف المخالفة ، والقاصر لا يستحق العقاب وإن وجب عليه الفعل ثانياً ، (وهذا كلّه) بناءً على ما هو المحقَّق في محلّه من أن التقليد إنَّما يجب مقدمة للامتثال الظاهري للأحكام الواقعية ؛ لأن هذا هو المستفاد من جميع أدلّته ، وليس له وجوب نفسي ، ولا هو شرط للعمل شرطاً شرعياً.

(ويترتَّب) على ذلك أنه لو بنى الجاهل في عمله على ترك الاحتياط والتقليد ، لكنَّه اتَّفق مطابقة عمله للواقع أو لرأي المجتهد الأعلم ، صحّ ذلك منه وترتَّب عليه الأثر.

أمّا في المعاملات : فظاهر.

١٦٥

وأمّا في العبادات : فلفرض تأتّي نيَّة القربة من المقصّرين ، فإنَّ كثيراً منهم يعتقدون أن ما يفعلونه من التقصير أيضاً مقرّب ، وأن فعله خير من تركه ، وأن فيه ثواباً لكن دون الثواب المترتّب على الفرد الجامع الشرائط الصحَّة ، كما هو المشاهد من المصلّي أول الوقت مع عدم صحَّة قراءته ، وإن كان ذلك من تسويلات النفس أو الشيطان إلا أنَّ الظاهر کفایته إذا طابق العمل الواقع ، نعم ، في صورة المخالفة وعدم تحقُّق القربة ، لا إشكال في بطلان عمله ، ويُعاقب المقصر على ذلك (هذا هو الحق الحقيق) اللائق بالقبول ، وإن خالف فيه المشهور ، (والَّذي يؤيده) ما ذكره صاحب (المدارك) مصرّحاً بنسبته إلى سلطان المحقِّقين ، نصير الملَّة والدين ، من أن : (كل من أتی بواجبٍ في نفس الأمر وإن لم يكن عالماً بحكمه ، فإنَّه يصحّ ما فعله.

ومثله القول في الاعتقادات الكلامية إذا طابقت نفس الأمر ، فإنَّها كافية وإنْ لم تحصل من الأدلة المقرَّرة ، حَتَّى لو أخذ المسائل من غير أهله تقليداً ، بل لو لم يأخذ من أحد وظنَّها كذلك) ، انتهى (١).

(وممَّا يدل) على ذلك ما في رواية عمّار الواردة في التيمُّم بدلاً عن الغسل حين سأله ، «كيف صنعت في سفرك حين لم تجد الماء؟ فقال : تمعّكت في التراب. فقال عليه‌السلام : ذلك صنع الحمير ، أجزأك لو صنعت كذا» (٢).

فإنَّه صريح في صحَّة العمل المطابق للواقع مع عدم العلم.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ١٠٢.

(٢) كذا والحديث روي هنا بالمعنى وليس فيه تصريح اسم عمار ، ولفظه كما في تحفة الأحوذي ج ١ ص ٣٧٨ : (حدّثنا فهد قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا عزرة بن ثابت ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : أتاه رجل فقال : أصابتنى جنابة ، وإني تمسكت في التراب! فقال : أصرت حماراً؟! وضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه ، ثُمَّ ضرب بيديه إلى الأرض ، فمسح بيديه إلى المرفقين وقال : هكذا التيمم).

١٦٦

(وكذا) لو تبيّن في موارد التجديد فساد وضوئه السابق ، بل الأمر كذلك إذا توضأ بعنوان الاحتياط فيما كان مستصحب الطهارة ، وإنَّ تأمَّل فيه بعض الفقهاء ، لكنّ الحق ما عرفت من الكفاية ، بل هو المستفاد ممَّا ورد فيه من كونه نوراً على نور فإنَّه ظاهر في إفادة الطهارة أيضاً فإذا تبيّن عدم حصول الطهارة بالوضوء الواجب لفساده کفی عنه من جهة حصول الغرض بالتجديد.

(وهذا بابٌ) واسع في الفقه يتفرَّع عليه فروع منها : ما إذا تبيَّن فساد صلاة الفرد بعد المعادة جماعة ، فإنَّه لا إشكال في سقوط الأمر بالصلاة معها كما صرّح به سيِّدنا الأُستاذ رحمه‌الله في العروة الوثقى.

(ومنها) ما هو المجمع عليه من أنّ من صام آخر يوم من شعبان بنيَّة أنه منه ثُمَّ انكشف أنه أول رمضان أجزأهُ من رمضان.

(كما قد) اجمعوا على عدم وجوب الحدِّ على من وطئ امرأة ثُمَّ ظهر كونها زوجته.

(ومن أفطر) يوم الثلاثين من شهر رمضان ثُمَّ تبيَّن كونه من شوال لم يجب عليه القضاء والكفَّارة ، سواء كان شاكّاً فيه أو معتقداً أنه من رمضان ، ولو اعتقد في يوم الشكّ في أول الشهر أنه من رمضان فأفطر فإن [تبيَّن] (١) أنه من شعبان ايضاً لم يجب عليه شيء ، كما هو صريح السيِّد الأُستاذ رحمه‌الله في العروة (٢).

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) ينظر : العروة الوثقی ، کتاب الصيام.

١٦٧

(لا يقال) : إنَّ هذه الفروع كلَّها إنَّما صِيرَ إليها لقيام الدليل عليها ؛ لأنا نقول : قيام الدليل على ذلك دليل على أنَّ للمطابقة مع الواقع مدخلية تامّة في صحَّة العمل كما هو المدّعى.

(هذا كله) في تصحيح عمل الجاهل إذا أحرز مطابقته للواقع أو لرأي الفقيه الأعلم الَّذي كان يجب عليه العمل بفتواه ، وأمّا إذا شكَّ في المطابقة ففي المعاملات قيل : يبني على الصحَّة بعد العمل ، وهو مشکل.

وفي العبادات المؤقتة إذا شك في خارج الوقت لا يجب عليه القضاء لأن القضاء مرتَّب على الفرات وصدق الفوت مع الشك في المخالفة والمطابقة غير معلوم ، وهو أيضاً مشكل ؛ لأنَّ الفوت أمر عدمي ؛ إذ هو عبارة عن عدم الإتيان ، وهو موافق للأصل ، ولا يحتاج في إثباته إلى الأصل حَتَّى يكون من الأصل المثبت. وإذا شكَّ والوقت باق فالأقوى وجوب الإعادة تحصيلاً لليقين بالفراغ بعد اليقين بالشغل ، ولا مجرى القاعدة الشكّ بعد الفراغ هنا مع فرض كونه شاکّاً في الصحَّة والفساد من حين العمل ؛ لبنائه على ترك التقليد.

وبعبارة أخرى: الصحَّة والفساد يدوران مدار المخالفة والموافقة للواقع ، وهو غير معلوم له من أول الأمر ، والله العالم.

(ثُمَّ إن الناس) كما أنَّهم تسامحوا في مرحلة تحصيل المعارف الإلهية ، كذلك تسامحوا في تحصيل المعرفة بالتكاليف أيضاً.

[في ذمّ حب الرئاسة والعمل بها]

(وبالجملة) فالناس غير باذلين جهدهم في كسب العلوم ، والسبب الواقعي في ذلك أنهم لم يتصوروا غاية العلوم كما هي ، بل جعلوا الغاية القصوى من

١٦٨

تلك العلوم تحصيل المال والجاه والاعتبار الدنيوي ، ونهاية ذوي الهمم من أهل هذه الطبقة هي الشهرة وخفق النّعال ، ولا يرومون الوصول إلى ما فوق ذلك ، (وهؤلاء) هم المعنيون بما ورد في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إياكم وهؤلاء الرؤساء الَّذين يترأسون ، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك» (١).

وفيه أيضاً بإسناده عن جويرية بن مسهر ، قال : اشتددت خلف أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال لي : «يا جويرية ، إنّه لم يهلك هؤلاء الحمقى إلا بخفق النّعال خلفهم» (٢).

والخفق : صوت النعل ، أمّا هلاکه ؛ فلأنه يورث الفخر ، والعجب ، والتكبُّر وغيرها من المهلكات ، وأمّا إهلاکه ، فإنَّ الرئيس المقدّم والأمير المعظّم إذا ضلّ عن العدل ، وعدل عن الطريق تبعه كافة العوام ؛ خوفاً من بطشه ، وطمعاً في جاهه وماله ، فضلّوا بمتابعته ، وأضلّهم عن سبيل الرشد بسيرته القبيحة.

(هذا) إذا كان الرئيس جاهلاً ظاهراً ، وكذا إذا كان عالماً غير عادل ؛ فإنَّه كثيراً ما تعتريه شبهة ، وتعترضه زلة ، فيضلّ بها عوام المؤمنين ، فإنَّهم يقلّدونه في ظاهر أحواله ، ويعتمدون عليه في أقواله ، بل ربّما يقولون في أنفسهم : إذا فعل هو هذا ، فنحن أولى به منه ، كما قيل :

إذا كان ربُّ البيتِ بالطَّبلِ مُولَعاً

فشيمةُ أهلِ البيتِ كُلِّهم الرَّقصُ

 (ومن ثَمّ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أخاف على اُمَّتي زلة عالم» (٣).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٩٧ ح ٣.

(٢) الکافي ٨ : ٢٤١ ح ٣٣١.

(٣) شرح اُصول الكافي ٩ : ٣٠١.

١٦٩

وفي الكافي أيضاً بإسناده عن الرضا عليه‌السلام أنه ذكر رجلاً ، فقال : إنَّه يحبُّ الرئاسة ، فقال : «ما أتيان ضاريانِ في غنمٍ قَدْ تفرَّقَ رِعاؤُها بأضرَّ في دينِ المُسلمِ من (١) الرئاسة» (٢).

وفيه من التبعيد من طلب الرئاسة ما لا يخفى ؛ لأنها تهلك دينه وتفسده ؛ لأن الرئاسة متوقّفة على العلم بالأُمور الشرعية ، والأخلاق النفسانية ، وتهذيب الظاهر والباطن من الأعمال والأخلاق الباطلة ، وتحليتهما بالأعمال والأخلاق الفاضلة ، او تطويع النفس الأمّارة للنفس المطمئنّة ، وتعديل القوَّة الشهرية والغضبية ، ورعاية العدل في جميع الأُمور ، وهذه الأُمور لا توجد إلّا في المعصوم ، ومن وفَّقه الله تعالی من أوليائه.

وقد سأل بعض موالي علي بن الحسين عليه‌السلام أبا عبد الله عليه‌السلام أن يكلّم الولاة على أن يولّيه في بعض البلاد ، وأقسم بأيمان مغلّظة أن يعدل ولا يظلم ولا یجور ، فرفع أبو عبد الله عليه‌السلام رأسه إلى السماء فقال : «تناولُ السماء أيسرُ عليك من ذلك» (٣).

__________________

(١) في الأصل زيادة : (طلب) وما أثبتناء من المصدر.

(٢) الكافي ٢ : ٢٩٧ ح ١.

(٣) نقل المؤلف الحديث بالمعنى ، ولفظه كما في الكافي ج ٥ ص ١٠٧ ح ٩ : «علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن داود بن ربي قال : أخبرني مولي لعلي بن الحسين عليه‌السلام قال : كنت بالكوفة ، فقدم أبو عبد الله عليه‌السلام الحيرة ، فأتيته قلت له : جُعلت فداك لو کلّمت داود بن علي أو بعض هؤلاء ، فأدخل في بعض هذه الولايات ، فقال : ما كنت لأفعل ، قال : فانصرفت إلى منزلي فتفكرت ، فقلت : ما أحسبه منعني إلا مخافة أن أظلم أو أجور ، والله لأتينّه وأعطينّه الطلاق والعتاق والأيمان المغلّظة ألّا أظلم أحداً ولا أجور ولأعدلنّ ، قال : فأتيته فقلت : جعلت فداك إنتي فكرت في إبانك عليّ فظننت أنك إنما منعتني وكرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم وان كل امرأة لي طالق وكّل مملوك لي حرٍّ عليّ ، وعليّ إن ظلمت أحداً أو جرت عليه وإن لم أعدل؟ قال : كيف قلت : قال : فأعدت عليه الأيمان ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : تناول السماء أيسر عليك من ذلك».

١٧٠

(وروی) مسلم بإسناده عن أبي ذرّ ، قال : «قلت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألا تستعملني؟ قال : فضرب بيديه على منكبي ثُمَّ قال : يا أبا ذر ، إنّك ضعيف ، وإنَّها أمانة ، وإنَّها يوم القيامة خزي وندامة ، إلّا من أخذها بحقّها وأدّى الَّذي عليه فيها» (١).

ومن هنا لمّا سمع بعض العلماء يقول : (أين الزاهدون في الدنيا والراغبون في الآخرة؟ فقال له : اقلب الكلام وضع يدك على من شئت) (٢).

وعن الحسن البصري ، قال : (مرض سلمان مرضه الَّذي مات عنه ، فدخل عليه سعد يعوده وقال : يا سلمان کیف تجدُك؟ قال : فبكي.

فقال : ما يبكيك؟ فقال : والله ما أبكي حبّاً للدنيا ، وإنَّما أبكي لهذه الأساور حولي.

فقال سعد : فنظرت فو الله ما رأيت إلا إجّانَة ومطِهَرَة) (٣).

(ورُوي) : (أنه لمّا بُعث إلى المدائن ركب حماراً وحده ، ولم يصحبه أحد ، ووصل إلى المدائن خبر قدومه ، فاستقبله أصناف الناس على طبقاتهم ، فلمَّا رأوه قالوا له : أيُّها الشيخ أين خلّفت أميرنا؟ قال : ومن أميركم؟ قالوا : الأمير سلمان الفارسي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال : لا أعرف الأمير ، وأنا سلمان الفارسي ، ولست بأمير ، فترجّلوا له ، وقادوا إليه النجائب والمراكب.

__________________

(١) صحيح مسلم ٦ : ٦.

(٢) لم أهتد إلى مصدر هذا القول ، وفي كشف الغُمَّة ج ٢ ص ٢٩٨ ، ما نصّه : «وعن زرارة بن أعين قال : سمع قائل في جوف الليل وهو يقول اين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فهتف به هاتف من ناحية البقيع يسمع صوته ولا يرى شخصه : ذاك علي بن الحسين عليه‌السلام».

(٣) روضة الواعظين : ٤٩٠ باختلاف يسير.

١٧١

فقال : إن حماري هذا خير لي وأوفق ، فلمَّا دخل البلد أرادوا أن ينزلوه دار الإمارة ، فقال : مالي ودار الإمارة ولست بأمير ، فنزل على حانوت في السوق ، وقال : ادعوا صاحب الحانوت ، فاستأجره منه وجلس هناك يقضي بين الناس ، وكان معه وطاء يجلس عليه ، ومِطهَرة يتطهَّر بها للصلاة ، وعكّازة يتعمّد عليها في المشي ، فاتفق أن سيلاً وقع في البلاد ، فارتفع صباح الناس بالويل والعويل ويقولون : وا أهلاه ، وا ولداه ، وا مالاه ، فقام سلمان ووضع وطاءه على عاتقه ، وأخذ مِطهَرته وعكّازته وارتفع على صعيد ، وقال : هكذا ينجو المخفُّمون يوم القيامة) (١).

وفي الكافي أيضاً بسنده ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ملعون من ترأس ، ملعون من همّ بها ، ملعون من حدث بها نفسه» (٢).

والترؤُس ادِّعاءُ الرئاسة بغير حق ، فإنَّ التفعُّل غالباً يكون للتكلّف.

[وفي حديثٍ آخر له عليه‌السلام في الكافي] (٣) قال : «إيَّاك والرئاسة ، وإياك أن تطأ أعقاب الرجال ، قال : قلت : جُعلت فداك أمّا الرئاسة فقد عرفتها ، وأمّا أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلّا ممَّا وطئت أعقاب الرجال ، فقال لي : ليس حيثُ تذهب ، إياك أن تُنَصّبَ رجلاً دون الحجَّة ، فتصدّقه في كل ما قال» (٤).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وإن شراركم من أحبّ أن يوطأ عقبه ، إنه لابد من كذّاب أو عاجز الرأي» (٥).

__________________

(١) نفس الرحمان : ١٣٩ ، باختلاف يسير.

(٢) الكافي ٢ : ٢٩٨ ح ٤.

(٣) ما بين المعقوفين منا لإتمام المعنى.

(٤) الكافي ٢ : ٢٩٨ ح ٥.

(٥) الكافي ٢ : ٢٩٩ ح ٨.

١٧٢

وذلك ؛ لأن حبّ الرئاسة أشد الفسوق وأعظمها ، إذ كلّ فسق غيره يعود ضرره إلى الفاسق ، وهذا الفسق يعود ضرره إلى تخريب الدين ، وإلى الفاسق ، والخلق أجمعين ، وقد قال الله تعالى : تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١).

وإن كثيراً من المعتنين بطلب العلم من أرباب العمائم قَدْ أكثر من أسباب جلب العوام ، واقتداء الأنام ، وهو في مرحلة المعرفة معتمداً على التقليد المحض ، بحيث يساوي معرفته معرفة الأطفال والعجائز ، ومشاهدة هذه الأحوال ربّما منعت بعض الأذكياء من السلوك في مسالك العلم ، واليأس من الفوز بالسعادة الحقيقية ، عصمني الله وإياك من الزلل.

__________________

(١) سورة القصص : آیه ٨٣.

١٧٣
١٧٤

الحديث الرابع

كمال الدين طلب العلم

[٦٦] ـ قال رحمه‌الله : وعن محمّد بن یعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن عيسی ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عمّن حدّثه ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «أيُّها الناس اعلموا أنَّ كمال الدين طلب العلم والعمل به ، [ألا] وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ، إنَّ المال مقسوم مضمون لکم ، قَدْ قسّمه عادل بینکم [وضمنه] ، وسَيَفِي لكم ، والعلم مخزون عند أهله ، وقد اُمرتم بطلبه من أهله ، فاطلبوه» (١).

أقول : شرح الحديث يتمُّ في موضعين :

الموضع الأول :

في رجال السند

[ترجمة الحسن بن محبوب السراد]

(فأمّا ابن محبوب) فهو الحسن بن محبوب السراد ، ويقال له : الزراد ، ویکنّی أبا علي ، مولى بجيلة ، كوفي ، ثقة.

روي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، وروى عن ستين رجلاً من أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ، وكان جليل القدر ، ويعدّ من الأركان الأربعة في عصره (٢).

وهو ممَّن أجمعت العصابة عليه (٣) ، ومات رحمه‌الله سنة ٢٢٤ هـ وهو من أبناء خمس وسبعين سنة (١) ، وصّرح بتوثيقه غير واحد من علماء الرجال ، كالنجاشي في (الفهرست) ، والعلّامة في (الخلاصة) ، والكاظمي في (المشتركات) (٢).

__________________

(١) معالم الدين : ١٣ ، الكافي ١ : ٣٠ ح ٤ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) الفهرست للطوسي : ٩٦ رقم ١٦٢ / ٢.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٨٣٠ رقم ١٠٥٠.

١٧٥

[ترجمة هشام بن سالم الجواليقي]

(وأمّا هشام) بن سالم فهو المعروف بالجواليقي الجعفي (٣).

قال في (الخلاصة) : ثقة ، ثقة (٤).

وقال ابن طاووس : ظاهر أنه صحيح العقيدة ، معروف الولاية ، غير مدافع ، انتهى (٥).

وفي الكافي ، في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه ، رواية دالة على فساد عقيدته (٦) ، وكان العلّامة رحمه‌الله بنى على ضعف تلك الرواية بحيث لا يوجب قدحها في الرجل (٧).

[ترجمة أبي حمزة الثمالي]

(وأمّا أبو حمزة) الثمالي فاسمه ثابت بن دينار ، ثقة. قال النجاشي : (إنه لقي عليَّ ابن الحسين عليه‌السلام ، وأبا جعفر عليه‌السلام ، وأبا عبد الله عليه‌السلام ، وأبا الحسن عليه‌السلام وروى عنهم ، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث) (٨).

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٩٧ رقم ١.

(٢) رجال النجاشي : ١٢٠ ، خلاصة الأقوال : ٩٧ رقم ١ ، هداية المحدثین : ٤٠.

(٣) رجال النجاشي : ٤٣٤ رقم ١١٦٥.

(٤) خلاصة الأقوال : ٢٨٩ رقم ٢.

(٥) التحرير الطاووسي : ٥٩٩ رقم ٤٥٥.

(٦) الكافي ١ : ١٠٠ ح ٣.

(٧) ينظر عن ترجمته بالتفصيل : معجم رجال الحديث ٢٠ : ٢٢٤ رقم ١٣٣٦٠.

(٨) رجال النجاشي : ١١٥ رقم ٢٩٦.

١٧٦

[ترجمة أبو إسحاق السبيعي]

(وأمّا السبيعي) فهو أبو إسحاق بن کلیب ، على ما ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب أبي محمّد الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام (١) ، وروى عنه أبو حمزة الثمالي ، وقيل : هو عمر ـ أو عمرو ـ بن عبد الله بن علي السبيعي ، وهو موافق لما في شرح الكرماني لصحيح البخاري (٢) ، وعليه فهو من الثقات ، بل من أخصّ الخواص.

قال في مجمع البحرين : (روی محمّد بن جعفر المؤدِّب أن أبا إسحاق واسمه عمرو بن عبد الله السبيعي ، صلّی أربعين سنة صلاة الغداء بوضوء العتمة ، وكان يختم القرآن في كُلّ ليلة ، ولم يكن في زمانه أعبد منه ولا أوثق في الحديث عند الخاص والعام ، وكان من ثقات علي بن الحسين عليه‌السلام ، ووُلد في الليلة التي قُبض فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وله تسع وتسعون سنة ، وهو من هَمْدان) ، انتهى (٣).

وفي رجال الوسيط أنه وابن يونس من العامّة ، ولعل بما قاله الذهبي في میزان الاعتدال إن أبا إسحاق السبيعي من أئمّة التابعين بالكوفة وأثباتهم (٤) وهو ليس بقاطع عليه بالخلاف ؛ إذ لعله قَدْ خفي مذهبه لشدَّة التقية ، على أنه ااَّفق له اولغيره مدح رجال الشيعة كأبان بن تغلب وغيره بأعظم من هذا (٥).

__________________

(١) رجال الطوسي : ٩٦ رقم ٩٥٦ ، وفي المطبوع ذكر أبا إسحاق السبيعي فقط ، وابن كليب بعده رقم فهو على ذلك شخص آخر ، فلاحظ.

(٢) ذكره عنه المازندراني في شرح اُصول الكافي ٢ : ٨.

(٣) مجمع البحرين ٣ : ٢٥٠.

(٤) میزان الاعتدال ٣ : ٣٧٠ رقم ٦٣٩٣.

(٥) تلخيص الأقوال ، للأسترآبادي ، (مخطوط).

١٧٧

وفي (القاموس) : (السبيع ، كأمير ، السبيع بن سبع ، أبو بطن من هَمْدان ، ومنهم : الإمام أبو إسحاق عمرو بن عبد الله ، ومحلّة بالكوفة منسوب إليهم) (١).

وقال ابن الأثير في النهاية : (السبيع ، هو بفتح السين وكسر الباء : محلّة من محالّ الكوفة منسوبة إلى القبيلة ، وهم بنو سبيع من هَمْدان) (٢).

وقوله : عمّن حدثه يوجب إرسال الحديث.

الموضع الثاني

اختصاص علي عليه‌السلام بإمرة المؤمنين

في شرح متن الحديث :

[أ] ـ «قال : سمعت أمير المؤمنين» : هذا لقب خُصّ به علي بن أبي طالب كما هو متفق عليه بين علماء الإمامية ، ثبتت له هذه المرتبة من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل لُقِّب به وآدم بين الروح والجسد ، كما رواه من العامّة ابن شیرویه في فردوس الأخبار (٣) ، ومع ذلك فقد زعمت العامّة مشاركة الأول والثاني معه عليه‌السلام في هذا اللَّقب ، بل جعلوا ذلك من أوليات الثاني ، وقالوا : أوَّل من لقِّب بأمير المؤمنين هو عمر (٤) ، وللسيد رضي الدين علي بن طاووس الحسني رحمه‌الله كتاب (اليقين باختصاص مولانا أمير المؤمنين بإمرة المؤمنين) قَدْ جمع فيه من طرق العامّة المعتبرة والكتب المعتمدة عندهم مائتي وعشرين حديثاً بأسانيد مختلفة متعددة ،

__________________

(١) القاموس المحيط ٣ : ٣٦.

(٢) النهاية في غريب الحديث ٢ : ٣٣٨.

(٣) فردوس الأخبار ٢ : ١٩٧ ح ٥١٠٤.

(٤) فتح الباري ٧ : ٢٨٥ ، عمدة القاري ١٧ : ١٦٠.

١٧٨

ممَّا يدل على تخصيص هذا اللقب بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، واعترف رحمه‌الله بأنه لم يستوعب جميع الأخبار.

[ب] ـ «والعمل به» : إعلم أن كلّ علم من علوم الدين يقتضي عملاً لو لم يأت به لكان ذلك العلم ناقصاً ، حَتَّى مُثّل العلم بوجوده تعالى ، وقدرته ، ولطفه ، وإحسانه ، يقتضي طاعةً في أمره ونهيه ، والعلم بوجود الجنَّة والنار يقتضي العمل الموجب لحصول الأوَّل والنجاة من الثاني ، فلا وجه للاختصاص بالعلم المتعلّق بكيفية العمل كما هو المنقول عن بعض الناظرين إلى هذا الحديث (١).

[ج] ـ «أوجب عليكم من طلب المال» : فيه دلالة على أمرين :

الأول : طلب المال ، وعلى قدر الكفاف واجب قطعاً ، وبه يحصل الاستعانة بالعبادات والطاعات كما ورد : لولا الخبز ما صلَّينا ولا صمنا (٢).

ولا ينافي الزهد المطلوب في دار الدنيا ؛ لأن المراد به كما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «قُصر الأمل ، وشكر كلّ نعمة ، والورع عمّا حرّم الله عزَّ وجلَّ» (٣).

وكيف يكون الزهد في ترك الحلال وقد قال الصادق عليه‌السلام : «لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكفُّ به وجهه ، ويقضي به دينه ، ويصل به رحمه» (٤).

__________________

(١) شرح اُصول الكافي ٢ : ٩.

(٢) الكافي ٥ : ٧٣ ح ١٣ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) ينظر : نهج البلاغة ١ : ١٣٠ والحديث نقل بالمعنی.

(٤) الکافي ٥ : ٧٢ ح ٥.

١٧٩

الثاني : طلب العلم أوجب وأوكد من طلب المال ، والمراد به الوجوب العقلي العيني ، أي أحسن وأليق بأنفسكم ، والدليل عليه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد : «يا کميل العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق» (١).

[د] ـ ويمكن أن يُجعل قوله عليه‌السلام : «إنَّ المال مقسوم» : بيان لأرجحية طلب العلم ؛ إذ يعد الالتفات إلى قوله تعالى : نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (٢) ، وقوله تعالى : وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا (٣) لا ينبغي لعاقل أن يصرف عزيز أوقاته ، وثمین ساعاته في جلب الأموال ، وتحصيل الأسباب ، ويترك طلب العلم الَّذي فيه حياة القلب والبقاء الأبدي ، فإن العلم غذاء الروح وحياته الباقية التي لا انقطاع لها (الناس موتی وأهل العلم أحياء) (٤).

[هـ] ـ «فاطلبوه من أهله» : وهم الأئمّة الَّذين هم أهل الذكر كما قال تعالى : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٥).

وحاصل هذه الرواية أن الرزق من لوازم الحياة ، فالإنسان غير مختار في ترکه ، بل مأتيّ إليه وإن فرّ عنه ، وما كان بهذه المثابة من ملازمة الوجود لا ينبغي الجهد في تحصيله ، بخلاف العلم فإنه ليس من شرائط الوجود والحياة ، بل يحصل بالطلب والابتغاء من أهله ، فينبغي المبالغة في طلبه وتحصيله من أهله.

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ : ٣٦ وفي الأصل : (والعلم يزكو ويزداد).

(٢) سورة الزخرف : من آية ٣٢.

(٣) سورة هود : من آية ٦.

(٤) الدر المختار ١ : ٤٣ ، من شعرٍ ينسب لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٥) سورة النحل : من آية ٤٣.

١٨٠