المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

(ب) وأيضا فإنه لو كان العجز لأمر خارجى لا لأمر ذاتى فيه بأن تكون عندهم القدرة على أن يأتوا بمثله ولكن صرفوا ، فإن ذلك يقتضى أن يثبت أولا أنهم قادرون على مثله ، وهم أولا قد نفوا ذلك عن قدرتهم ، وليس لنا أن نفرض لهم قدرة قد نفوها عن أنفسهم ، لو كانوا قادرين لكان من كلامهم قبل نزول القرآن عليهم ما يكون متماثلا فى نسقه ونسجه ، وله مثل رنينه وصوره البيانية فى شعر أو نثر ، ولكن المتتبع للمأثورات العربية ، فى الجاهلية والإسلام لا يجد فيها ما يقارب القرآن فى ألفاظه أو معانيه أو صوره البيانية.

ولذا لجأ الباقلانى (١) فى كتابه إعجاز القرآن إلى الموازنة بين القرآن ، وبين المعروف من أبلغ الكلام فى الجاهلية ، ويقول فى ذلك «ولو كانوا صرفوا على ما ادعاه لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به فى الفصاحة والبلاغة ، وحسن النظم ، وعجيب التأليف ، لأنهم لم يتحدّوا به ، ولم تلزمهم حجته ، فإذا لم يوجد فى كلام قبله مثله علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان ...».

(جـ) وإننا لو قلنا أن الذى منع العرب من الإتيان بمثله هو الصرفة ما كان القرآن هو المعجز ، وإنما يكون العجز منهم ، ولم يكونوا عاجزين ، وإنما يكونون قد أعجزهم الله ، ولم يعجزهم القرآن ذاته ، وقد كان القرآن هو معجزة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقول بالصرفة ينفى عنه خواص الإعجاز.

وإن معجزات النبيين السابقين ما كان فى طاقة الناس أن يأتوا بمثلها فى ذاتها ، ولم يكن بصرف الناس أن يأتوا بمثلها ، فمعجزة العصا ، وتسع الآيات التى لموسى عليه‌السلام ما كان العجز من الناس بالصرف ولكن بالعجز الحقيقى. فلما ذا لا تكون معجزة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسائر المعجزات ، وهى أجل وأعظم.

(د) وإن الله تعالى قد وصف القرآن بأوصاف ذاتية تجعله فى منزلة لا تصل إليها معجزات أخرى ، فكانت هذه توجب أن يكون إعجازه ذاتيا ولقد قال تعالت كلماته :

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) [الرعد : ٣١].

ويقول جل من قائل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣) [الزمر : ٢٣].

وإذا كان القرآن بهذه الأوصاف التى وصفه بها منزله سبحانه وتعالى ، أفيقال بعد ذلك أن الناس يستطيعون أن يأتوا بمثله؟ اللهم إن ذلك بهتان عظيم.

__________________

(١) توفى سنة ٤٠٣ ه‍.

٦١

(ه) وإن مثل الذين يقولون : إن إعجاز القرآن بالصرفة ، كمثل الذين قالوا : إن القرآن سحر يؤثر.

وقد أثبت ذلك الرافعى فى كتابه إعجاز القرآن ، فقال : «وعلى الجملة فإن القول بالصرفة لا يختلف عن قول العرب إن هذا إلا سحر يؤثر ، وهذا زعم رده الله تعالى على أهله ، وأكذبهم فيه ، وجعل القول فيه ضربا من العمى (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (١٥) [الطور : ١٥].

وإن التشابه بين القول بأنه سحر أن الامتناع عن المماثلة فى كليهما من خارج الشيء لا من ذاته ، فالقول بالصرفة يفيد أن العرب لم يكونوا عاجزين. ولكن حيل بينهم وبين العمل على المماثلة ، وكذلك الأمر فى السحر يشدههم ، حتى يعجزوا.

ولقد سبق أن علل المشركون عجزهم بعد التفكير والتقدير بأنه سحر يؤثر.

قال تعالت كلماته فى شأن الوليد بن المغيرة : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢٥) [المدثر : ١١ ـ ٢٥].

هذا ما وصل إليه الوليد بن المغيرة بعد أن قدر ودبر فى ملأ من قومه ، يجيء كاتب متفلسف فيأتى بهذا القول من غير تقدير ولا تدبير.

٣٧ ـ ومهما يكن من بطلان هذه الفكرة ، فقد أدت إلى إنشاء علوم البلاغة فى ظل القرآن ، فاتجه الكاتبون إلى بيان أسرار البلاغة فى هذا الكتاب المبين ، المنزل من عند الله الحكيم ، قرآنا عربيا ، فكان هذا الباطل سببا فى خير كثير ، وكما يقول المثل السائر (رب ضارة نافعة) ، فقد تولد عن هذا الباطل دفاع حكيم ، ولدت منه علوم البلاغة العربية ، وكما تولد عن الخطأ فى تلاوة آية «علم النحو» تولدت علوم البلاغة العربية. وإن أكثر ما كتب الأولون فى البلاغة والفصاحة كان فى ظل القرآن ، ومحاولة لبيان إعجازه.

وإن أول ما كتب فى إعجاز القرآن من ناحية البيان كان فى الوقت الذى جاء فيه القول بالصرفة ، بين نفى وإثبات كما أشرنا ، وأول من عرف أنه تصدى للكلام فى الإعجاز فى نظم القرآن هو الجاحظ ، تلميذ النظام ، الذى أنكر عليه قوله ، وعابه فى منهاجه الفكرى من أنه يظن الظن ، ثم يجعله أصلا يجرى عليه القياس مصححا لقياسه

٦٢

بالمنطق ، والعيب فى أصل القول الذى بنى عليه ، لا فى الأقيسة التى أجرى بها مشابهاته ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

وقد كتب فى ذلك كتابه النظم ، وقد عابه الباقلانى ، ليدفع بذلك التسليم له بالسبق ، ولأنه معتزلى ، ولكن الجاحظ فى كتابات له كثيرة غير كتابه النظم ، كان يذكر مواضع من إعجاز القرآن فى آيات يتعرض للقول فيها ، ليبين مقامها من البيان ، فهو فى كتاب الحيوان يذكر أنه جمع آيات من القرآن يعرف مقامها فى البيان ، فهو يقول : «ولي كتاب جمعت فيه آيات من القرآن ليعرف بها ما بين الإيجاز والحذف ، وبين الزوائد والفضول والاستعارات ، فإذا قرأتها رأيت فضلها فى الإيجاز والجمع للمعانى الكثيرة ، والألفاظ القليلة ، فمنها قوله تعالى حين وصف خمر أهل الجنة (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) (١٩) [الواقعة : ١٩]» وهاتان الكلمتان جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا. وقوله عزوجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣) [الواقعة : ٣٣] جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعانى.

وهذا الكتاب الذى أشار إليه لم يكشف فى التراث الإسلامى ، ولكنه يدل على أن الجاحظ كان يتعرض لأسرار الإعجاز ، كلما لمح بريق الإعجاز فى آياته.

ولكن التعصب المذهبى يستهين بكلام الجاحظ فى إعجاز القرآن بل إنه يتحامل عليه فى كتابته كلها ، فيقول فى ذلك الباقلانى الأشعرى عن الجاحظ أحد شيوخ المعتزلة : «كذلك يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذى لا يؤخذ فيه ، والباب الذى لا يذهب عنه ، وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا ، ومنهاجه معيبا ، ونطاق قوله ضيقا ، حتى يستعين بكلام غيره ، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه ، من بيت سائر أو مثل نادر ، وحكمة ممهدة منقولة ، وقصة عجيبة مأثورة ، وأما كلامه فى أثناء ذلك ، فسطور قليلة وألفاظ يسيرة .. فإذا أردت أن تحقق ذلك فانظر فى كتبه فى نظم القرآن وفى الرد على النصارى وفى خبر الواحد ، وغير ذلك مما يجرى هذا المجرى» (١).

ولقد جاء من بعد نظم القرآن للجاحظ الذى كان ردا عمليا على كلام النظام الذى أدخله من الهند ، وهو مذهب الصرفة جاء بعده أول كلام واجه الصرفة فى إعجاز القرآن ، وهو كتاب إعجاز القرآن لأبى عبد الله محمد بن يزيد الواسطى المتوفى سنة ٣٠٦ هجرية أى بعد موت الجاحظ بنحو ستين سنة ، وهو صورة المجاوبة التى كانت دفعا لمذهب الصرفة الذى بلبل الأفكار ، وكان بين ممانعة من الأكثرين ، ومجاوبة من القلة ، حتى صارت نادرة ، وحتى طواه التاريخ وهو فى هذا قد طرق باب البلاغة طرقا

__________________

(١) إعجاز القرآن ص ٣٧٧.

٦٣

قويا ، وأصل الأصول المشتقة من كلام العرب ، ونظمها وطبقها على القرآن ، وثبت من التطبيق أنه أعلاها.

وهذا الكتاب يعد أصلا بنى عليه ، فقد شرحه عبد القاهر الجرجانى المتوفى سنة ٤٧١ ه‍ شرحا مطولا ، وأودع ذلك الشرح كتابا سماه المعتضد وله شرح آخر أصغر منه.

وهكذا كل كاتب يقيم بناء يكمله من يجيء بعده ، فالواسطى أكمل البناء الذى وضعه الجاحظ ، أو بنى عليه ، وترك لغيره أن يكمل البناء.

وجاء عبد القاهر الجرجانى فبنى على ما وضع الواسطى ، وكان كتابه دلائل الإعجاز قد أوفى على ما وضع الجاحظ والواسطى.

وفى الزمن الذى سار فيه الجاحظ والواسطى من بعده ، والجرجانى من بعدهما ، وانتهى إلى تلك الثروة المثرية فى باب الإعجاز البلاغى للقرآن. كانت هناك محاولة أخرى ، فى طريق مواز لذلك الطريق.

فقد وضع أبو عيسى الرمانى المتوفى فى سنة ٣٨٢ ه‍ كتابه فى الإعجاز ، فوضع بناء ثالثا ، غير بناء الجاحظ والواسطى ، ثم جاء الباقلانى المتوفى سنة ٤٠٣ ه‍ فوضع كتابه إعجاز القرآن ، ويلاحظ أن تاريخه سابق على دلائل الإعجاز ، وأحسب أن من الحق علينا أن نقول أن دلائل الإعجاز ، لم يبن على الواسطى فقط ، بل إنه أخذ من كل الينابيع التى سبقته. وإن القارئ له يجد فيه كل مزايا من سبقه ، وفيه زيادة جديرة بالأخذ ، بل أساس لعلوم البلاغة كلها مستقاة من القرآن ، وموضحة لأوجه البلاغة فيه أولا ، وعلوه على كل كلام ثانيا ، ثم فيه وضع مقاييس ضابطة لكل كلام بليغ ثالثا.

فكتاب الباقلانى ، قد تعرض للإعجاز بالمواجهة ابتداء ، ولم يسبق علم البلاغة ابتداء ، ثم يتعرض للإعجاز انتهاء ، ولكنه جعل الأصل فى الكلام الإعجاز ، ثم البلاغة تابعة له تبعية الدليل للمدلول ، والبرهان للدعوى ، والمقدمة للنتيجة.

ويلاحظ على هذا الكتاب أنه لم يشر إلى ما سبقه إلا الجاحظ ، فقد أشار إليه إشارة لا تكريم فيها ، ولكن فيها استهجان واستصغار لما كتبه ، ولم يشر أى إشارة إلى ما كتبه الواسطى ، وما كتبه الرمانى ، وقد سبقاه ، وكان ثانيهما على مقربة من زمانه ، مع أنه أخذ من الرمانى قطعا ولم يذكر اسمه.

ومهما يكن الأمر بالنسبة لمن سبقوه فى القول ، وإهمال ذكرهم فهو الكتاب الذى اختص بأن يكون فى الإعجاز ابتداء ، كما أشرنا ، وقد وفى فيه بأمهات المسائل.

ويقول فيه الرافعى المتوفى سنة ١٩٣٧ م فى كتابه إعجاز القرآن : «على أن كتاب الباقلانى ، وإن كان فيه الجيد الكثير وكان الرجل قد هذبه وصفاه ، وتصنع له ، إلا أنه

٦٤

لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره ، ولم يتحاش وجها من التأفف لم يرضه من سواه ، وخرج كتابه كما قال هو فى كتاب الجاحظ ، لم يكشف عما يلتبس فى أكثر من هذا ... وقد حشد إليه أمثله من كل قبيل من النظم والنثر ، ذهبت بأكثره ، وغمرت جملته ، وعدها فى محاسنه ، وهى من عيوبه. ثم يقول : «وكان الباقلانى ، رحمه‌الله وأثابه ، واسع الحيلة فى العبارة ، مبسوط اللسان إلى مدى بعيد ؛ يذهب فى ذلك مذهب الجاحظ. ومذهب مقلده ، على بعد وتمكن ؛ وحسن تصرف ، فجاء كتابه ؛ وكأنه فى غير ما وضع له لما فيه من الإغراق فى الحشد ، والمبالغة فى الاستعانة ؛ والاستراحة إلى النقل».

والرافعى بهذا ينقد الباقلانى ، ويصفه بمثل ما وصف هو به الجاحظ.

ومن حق العلم على العالم ألا يتنقص غيره ؛ وأن يعرف اللاحق أنه متمم لما بدأ السابق ؛ غير ناكر لفضل ، ولا باخس لحظ.

وهكذا فى عصر الباقلانى ومن بعده ؛ حتى كان آخرها تأليفا من حيث القيمة العلمية والدرجة البيانية كتاب إعجاز القرآن للرافعى رحمه‌الله تعالى ؛ وأثابه ، وجزاه عن الإسلام خيرا.

وجوه الإعجاز

٣٨ ـ نقصد بوجوه الإعجاز الأمور التى اشتمل عليها القرآن ، وهى تدل على أنه من عند الله ، وما كان فى استطاعة أحد أن يأتى بمثله ، وما كان فى استطاعة الجن والإنس أن يأتوا بمثله ، ولنتجه إلى أقوال العلماء فى هذه الوجوه ؛ ثم نتجه بعد ذلك إلى بيان ما نقصد إلى بيانه من بحثنا هذا الذى نضرع إلى الله أن يمن علينا بالتوفيق فيه كما من علينا من قبل ، فنحن نعيش فيما نكتب ونبحث تحت فيض الله تعالى وتوفيقه ، ولو لا توفيقه سبحانه وتعالى ما وصلنا إلى شىء.

يعد صاحب الشفاء أوجه الإعجاز فى القرآن فيحصرها فى أربعة :

أولها ـ حسن تأليفه ، والتئام كلمه ، وفصاحته وبلاغته الخارقة لما عند العرب.

وثانيها ـ صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ، ومناهج نظمها ونثرها الذى جاء عليه ، ووقفته عند مقاطع آية ، وانتهاء فواصل كلماته ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له ، ولا استطاع أحد مماثلة منه.

وثالثها ـ ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات وما لم يكن ولم يقع فوجد كما ورد على الوجه الذى أخبر كقوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] ، وكقوله : (غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى

٦٥

الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ٢ ـ ٤]. إلى آخر ذلك من الأمور المغيبة التى أخبر القرآن عنها قبل وقوعها. فوقعت كما أخبر.

ورابعها ـ ما أخبر به من أخبار القرون والأمم البائدة. والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذى قطع عمره فى تعلم ذلك ، فيورده النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجهه ويأتى به على نصه ، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه ، وأن مثله عليه الصلاة والسلام لم ينله بتعليم. وقد علموا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمى لا يقرأ ولا اشتغل بمدارسة.

هذا ما ذكره القاضى عياض المتوفى سنة ٥٤٤ ه‍ فى وجوه الإعجاز. ونجد الأمرين الأولين يتعلقان بالناحية البيانية فى القرآن ، وإن كان أولهما يتعلق بتأليف كلماته وتناسقها مع فصاحتها وسلامتها وخلوها من الحوشى ، والثانى بصورة النظم ومع تخالف حقيقتهما نجد كلا منهما ينتهى إلى الناحية البيانية.

أما الأمران الآخران. فإنهما يتعلقان بصدق الأخبار التى اشتمل عليها القرآن الكريم ، بيد أن الأول يتعلق بالإخبار عن الغيب فى المستقبل الذى لا يعلمه إلا الله تعالى ، والثانى يتعلق بالإخبار عن الماضى.

٣٩ ـ وذكر القرطبى سنة ٦٨٤ ه‍ فى تفسيره أن أوجه إعجاز القرآن عشرة :

١ ـ منها النظم البديع المخالف لكل نظم معهود فى لسان العرب وغيرهم لأن نظمه ليس من نظم الشعر فى شىء ، ولذلك قال رب العزة : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩].

٢ ـ ومنها الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.

٣ ـ ومنها الجزالة التى لا تصح من مخلوق بحال من الأحوال ، وتأمل ذلك فى سورة (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١) ... إلى آخرها [ق : ١].

وقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧] إلى آخر السورة ، وقد ضرب على ذلك الأمثلة الكثيرة.

وهذه الأمور الثلاثة كما نقل القرطبى عن ابن الحصار من النظم والجزالة لازمة فى كل سورة بعيدة عن سائر كلام البشر وبها وقع التحدى والتعجيز.

٤ ـ ومنها التصرف فى لسان العرب على وجه لا يستقل به عربى ، حتى يقع منها للاتفاق من جميعهم على إصابته فى وضع كل كلمة وكل حرف فى موضعه (باعتبار أن القرآن الكريم فيه الكلمات من لهجات العرب ، أو لغاتهم).

٦٦

٥ ـ ومنها الإخبار عن الأمور التى تقدمت فى أول الدنيا إلى وقت نزوله على أمى ما كان يتلو من قبله من كتاب ، ولا يخطه بيمينه ، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها ، والقرون الخالية فى دهرها ، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر عليهما‌السلام ، وحال ذى القرنين فجاءهم وهو الأمى الذى لا يقرأ ولا يكتب ، وليس له بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته ، قال القاضى ابن الطيب (١) : ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن العلم. وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ، ولا مترددا إلى المتعلم منهم ، وما كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه ـ علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحى.

٦ ـ ومنها الوفاء بالوعد المدرك بالحس فى العيان ، فى كل ما وعد الله سبحانه ، وينقسم : إلى أخباره المطلقة كوعد الله بنصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإخراج الذين أخرجوا.

والقسم الثانى وعد مقيد بشرط. كقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣].

٧ ـ ومنها الإخبار عن المغيبات فى المستقبل التى لا يطلع عليها إلا بالوحى ، فمن ذلك ما وعد الله به نبيه عليه‌السلام أنه سيظهر دينه على كل الأديان ، بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة : ٣٣] ففعل ذلك.

٨ ـ ومنها ما تضمنه القرآن من العلم الذى هو قوام الأنام فى الحلال والحرام وسائر الأحكام.

٩ ـ ومنها الحكم البالغة التى لم تجر العادة بأن تصدر فى كثرتها وشرفها من آدمى.

١٠ ـ ومنها التناسب فى جميع ما تضمنته ظاهرا وباطنا من غير اختلاف ، قال الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]. وبعد أن ذكر القرطبى هذه العشرة قال :

«قلت : فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله تعالى عليهم ، ووجه حادى عشر قاله النظام وبعض القدرية أن وجه الإعجاز هو المنع من معارضته والصرف عند التحدى بمثله ، وأن المنع والصرفة هو المعجزة ، دون ذات القرآن ، ذلك أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله ، وهذا فاسد ؛ لأن الإجماع قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز ، فلو قلنا أن المنع والصرفة هو

__________________

(١) المتوفى سنة ٤٣٥.

٦٧

المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزا وذلك خلاف الإجماع ، وإذا كان كذلك علم أن نفس القرآن هو المعجز ، وأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه ، فلما لم يكن كذلك مألوفا معتادا منهم دل على أن المنع والصرفة لم يكن معجزا».

٤٠ ـ ومن هذا نرى أن القرطبى قد أتى بوجوه كثيرة عدها من إعجاز القرآن ، وقد ذكر عشرة ، وإنه لكى يكون استقراؤه كاملا لا نقص فيه أتى بالصرفة ، وعدها وجها من الوجوه عند بعضهم ، وقد رددناها كما ردها هو ، وانتهى إلى أن إعجاز القرآن ذاتى وليس من أمر خارج. وأقمنا كما أقام الدليل على ذلك ، مما لا يجعل موضعا لهذا القول ، وبينا مصدرها الهندى ، وأنها فكرة دخيلة على المسلمين ، والحقائق تخالفها ، والوقائع تجافيها.

ولكن يجب أن يلاحظ فيما أحصاه القرطبى ، والقاضى عياض أمران :

١ ـ أولهما ـ أن الأقسام التى ذكراها يتداخل بعضها فى بعض ، أو أنهما جعلا ما يتعلق بالنظم جزءا منه خاصا بفصاحة القول وجزءا يتعلق بالنظم وجزءا يتعلق بالأسلوب ، وجزءا يتعلق بالجزالة ، وجزءا يتعلق بالتصرف فى القول ، وكل ذلك يتعلق بالمنهج البيانى القرآنى ، وهذه الكلمة تجمع تلك الأقسام كلها ، فلا تخرج من عمومها خارجة.

والأمر الثانى : أن بعض هذه الوجوه تحدى بها القرآن الكريم ، فقد تحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله ولو عشر سور مفتريات ، والوجوه الأخرى لم يتحد بها القرآن الكريم ، وإن كانت من عند الله تعالى العليم الحكيم مثل إخباره عن أمور مغيبة فى المستقبل ، ثم وقوعها كما أخبر الله سبحانه وتعالى فى كتابه.

وإخباره عن الأمم السابقة ، وإخباره عن شأن عبد الله الصالح مع موسى نبى الله تعالى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ، ومثل قصة أهل الكهف ، وذى القرنين. فذكر هذا فى القرآن الذى نزل على أمى لا يقرأ ولا يكتب ولم يجلس إلى معلم دليل على أنه من عند الله سبحانه وتعالى.

ومن هذه الأحكام الشرعية التى اشتمل عليها القرآن ، فإنها لا يمكن أن تكون من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل هى من عند الله.

وقد كتبنا فى هذه عدة بحوث فى إحدى المجلات (١) الإسلامية ، بعنوان (شريعة القرآن دليل على أنه من عند الله) جمعتها إحدى الهيئات الإسلامية فى رسالة ،

__________________

(١) مجلة «المسلمون» ومجلس الشئون الإسلامية هو الذى جمع البحوث وترجمها إلى الإنجليزية والفرنسية.

٦٨

ونشرتها ، وترجمتها إلى الفرنسية والإنجليزية ، وقد أقمنا الدليل على أن تلك الشريعة المحكمة لا يمكن أن يأتى بها أمى لا يقرأ ولا يكتب ، وقد نشأ فى بلد أمى ليس به مدرسة ولا مكتب دراسة ، وهى فى إحكامها لا يمكن أن تكون إلا من عند الله تعالى.

وكتبنا بحثا وازنا فيه بين شريعة القرآن وقانون الرومان فى الملكية بالخلافة ، وذكرنا أن قانون الرومان قد تكون فى نحو ثلاثة عشر قرنا ، ومع ذلك هو فى الملكية بالخلافة لا يوازن بشريعة القرآن إلا إذا وازنا بين عصا هشة وسيف بتار ، فلا يمكن أن يأتى به محمد من عنده ، بل هو من عند الله تعالى.

والأوربيون القانونيون يرون فى قانون الميراث فى القرآن أن العقل البشرى لم يصل إلى الآن إلى خير منه ، ونحن لهذا نقرر أن ما ذكره القرطبى غير الصرفة يدل على أن القرآن كله جملة وتفصيلا هو من عند الله سبحانه وتعالى العليم الخبير.

ولكن نرى أن الله تعالى تحدى العرب أن يأتوا بمثله ولو مفترى ، فكان التحدى للعرب ابتداء بالمنهج البيانى للقرآن ، وهو الذى استرعى ألبابهم. ولعله لم تكن بلغت مداركهم العقلية والقانونية أن يعرفوا مدى ما فى أحكام القرآن من تنظيم سليم للمجتمع ، فيه المصلحة الإنسانية العالية التى تعلو على تفكير البشر ، وإن كان فيهم ذوق بيانى يذوقون به الألفاظ الفخمة القوية فى رنينها ، المصورة للمعانى فى أحوالها الصوتية وتكون حروفها ، ومرامى عباراتها ، ويدركون فى ذلك المعنى السليم من غير إجهاد فيدركون ما هو جيد المعنى فى ذاته من غير أن يتعرفوا فلسفة قانونية أو عقلية أو كونية ، وفى القرآن ما يرضيهم ويملأ نفوسهم ، ويعجزون عن أن يأتوا بمثله.

وإن القرآن فيه الشريعة الباقية الخالدة ، وهو يخاطب الأجيال كلها ، والأجناس كلها العرب والعجم ، والبيض والسود والأحمر والأصفر ، فليس ما فيه من الإعجاز خاصا بالعرب ، وإنما إعجازه يعم الجنس البشرى كله لأنه يخاطب الجميع ، ويطالب الناس قاطبة بأحكامه. وفيه البينات المثبتة لكل جنس.

وعلى ذلك نقسم وجوه الإعجاز التى اشتمل عليها القرآن إلى قسمين :

أولهما : ما يتعلق بالمنهاج البيانى ؛ وهذا النوع من الإعجاز أول من يخاطب به العرب ، لما ذكرنا فى صدر كلامنا من أنه جاء بلغتهم ، ولأنهم كانوا بمقتضى بداوتهم مع استقامة تفكيرهم ، ومع وجود نبوات سابقة فيهم أبقت بعض العلم ، وبمقتضى ثقافتهم اللسانية وعنايتهم بلغتهم كانوا أكثر الناس إدراكا لمعنى الإعجاز فى القرآن من ناحية بيانه ، ونغمه ، وجزالته ، وكذلك كان الأمر منهم ، وكانوا هم المخاطبين أولا به ، وبعجزهم قام البرهان الأول.

٦٩

القسم الثانى : الإعجاز بما اشتمل عليه من ذكر لأخبار السابقين ، ولأخبار مستقبلة ، وقعت كما ذكر ، واشتماله على علوم كونية وحقائق لم تكن معروفة فى عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أتى بها القرآن ، وتقررت حقائقها من بعد. وكذلك ما اشتمل عليه من شرائع أثبت الوجود الإنسانى أنها أصلح من غيرها وأنها وحدها العادلة ، وأن هذا النوع معجزة للأجيال كلها ، وهو يحتاج فى بيانه إلى مجلدات ضخام ، ولذلك نتجه ابتداء إلى القسم الخاص بالبلاغة ، وهو الأول.

الإعجاز البلاغى

٤١ ـ أخذنا أولا من أسباب الإعجاز ذلك السبب ، لأنه الواضح بالنسبة للعرب ، لأنه هو الذى شده به العرب عند أول نزوله فحيرهم ، وهم المدركون لأساليبه ، العارفون لمناهجه ، الذين يذوقون القول بأسماعهم ، ويدركونه بعقولهم ، ويعرفون مواضع الكمال ، ومواضع النقص فى كل ما يسمعون من شعر ، حتى أنهم يتجهون إلى مواضع الحسن ، والمآخذ التى تؤخذ بلقانة فطروا عليها ، ولباقة عرفوا بها.

ولنسق لك مثلا من نقدهم ، فلقد عرض بيتان فى سوق عكاظ على الخنساء لحسان بن ثابت رضى الله عنهما ، فلمحت بقوة الملاحظة الناقدة ما فيها من عيوب تخفى إلا على من يذوق الكلام ذوقا ، ويدرك معانيه وألفاظ بأرب وفكر مستقيم.

قال حسان رضى الله عنه :

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بنى العنقاء وابني محرق

فأكرم بنا خالا ، وأكرم بنا ابنما

فقالت الخنساء : ضعفت افتخارك ، وأنزرته فى ثمانية مواضع ، قالت : قلت لنا الجفنات ، والجفنات ما دون العشر ولو قلت الجفان لكان أكثر ، وقلت : الغر ، والغرة البياض فى الجبهة ، ولو قلت البيض ، لكان أكثر اتساعا. وقلت يلمعن ، واللمعان شىء يأتى بعد الشيء ، ولو قلت : يشرقن لكان أكثر ؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان ، وقلت بالضحى ، ولو قلت بالدجى لكان أبلغ فى المديح ، لأن الضيف أكثر طروقا بالليل ، وقلت أسيافنا ، والأسياف دون العشرة ، ولو قلت سيوفنا لكان أكثر ، وقلت يقطرن ، فدللت على قلة القتل ، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم ، وقلت دما ، والدماء أكثر من الدم ، وفخرت بمن ولدت. ولم تفتخر بمن ولدوك أه (١).

سقنا ذلك الخبر ، وهو صورة لما كان عليه الذوق البيانى ، وإن كان هنالك شك فى روايته ، فإنه يدل على أن روح النقد بالذوق المرهف كان مشهورا بين العرب وكثيرا.

__________________

(١) هامش إعجاز القرآن للرافعى ص ٢٥٥.

٧٠

وأذكر أن نقاد العرب كانوا يستنكرون بيت امرئ القيس الذى يقول فيه فى معلقته :

أغرك منى أن حبك قاتلى

وأنك مهما تأمرى القلب يفعل

فقد قالوا أن البيت لا يصدر من عاشق برح به الحب ، وأحس بلطف العشق ، وقالوا : إن الغانية إذا لم تعتز بالحب ففيم تعتز ، كأنه يقول لها : إن كنت مغرورة بحبى فإنى تاركك ، وهكذا ، وما ذلك شأن المحب اللهج.

٤٢ ـ هؤلاء الذواقون للبيان الذين مرنت أسماعهم ، وألسنتهم على القول البليغ وإدراك مراميه ، يستوى فى ذلك أهل المدر وأهل الوبر ، فأهل الوبر استفرغوا ذكاءهم فى تعرف الكلام البليغ ، والترنم بالشعر رجزه وقصيده ولم يكن عندهم ما يزجون فيه وقتهم إلا سماع الكلام الطيب ، وترديده ، وروايته ونقله. ويرطبون به ألسنتهم فى حلهم وترحالهم ، وانتجاعهم إلى مواطن الكلأ ، وينابيع المياه ، قد صفت نفوسهم صفاء السماء التى تظلهم مع قوة الشكيمة التى اكتسبوها من وعورة الصحراء ولأوائها ، وقسوة الحياة وغلظتها ، ومع الرضا والقناعة التى اتسمت بها النفس العربية.

وأهل المدر وهم سكان القرى كأهل مكة والطائف ويثرب ، وقد كانوا قوما تجرا. من غير أن يخلوا من الشكيمة العربية ، وقد كانت القبائل تجىء إليهم ، أو يلتقون بهم فى مواسم الحج وأسواقه التى كانت تعقد لتبادل السلع ، وتبادل الفكر ، والكلم المحكم ، ويكون التبارى بين الشعراء والخطباء. وكانت مكة وما حولها تشبه بعض الحدائق العامة فى البلاد الأوربية تلقى فيها الخطب ، ويتبارى فيها المتكلمون ، وحسبك أن تعلم أن قس بن ساعدة الإيادى ألقى خطبته التى ذكر فيها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عكاظ فى موسم الحج.

هؤلاء الذين كانت الكلمة البليغة تقع من نفوسهم موقع الموسيقى فتطربهم ، والقصيدة الطويلة فتهزهم ، وكان حداؤهم لإبلهم رجزا ، وتدليلهم لأبنائهم أنماطا من البيان ، هؤلاء هم الذين خاطبهم القرآن فرأوا فيه نوعا من البيان لم يعرفوه من قبل ، فانجذبوا إليه ، وأقروا بتأثيره ، ولم يستطيعوا أن يماروا فيه ، بل خروا صاغرين أمام بلاغته ، معترفين بأنه يسمو على قدرهم ، ويعلو على طاقاتهم ، كفروا بما يدعو إليه ، ولم ينكروا تأثيره ، لاحوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى دعوته إلى التوحيد ، وتماروا فيه ، مع بداهته ، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا من القرآن ، ولما دبروا وقدروا فى أمره ، قالوا : إنه سحر يؤثر. وذلك يتضمن الإقرار باستيلائه على نفوسهم وعلوه على كلامهم وإن كان من نوعه ، وسمو معانيه وإن كانت حروفه فى صياغة من حروفهم وكلماتهم.

٧١

وجوه الإعجاز البلاغى

٤٣ ـ إن كل شىء فى القرآن معجز من حيث قوة الموسيقى فى حروفه ، وتآخيها فى كلماته ، وتلاقى الكلمات فى عباراته ، ونظمه المحكم فى رنينه ، وما وصل إليه من تأليف بين الكلمات ، وكون كل كلمة لفقا مع أختها ، وكأنما نسيج كل واحدة قطعة منه تكمل صورته ، وتوحد غايته ، ومعانيه تجدها مؤتلفة مع ألفاظه ، وكأن المعانى جاءت مؤاخية للألفاظ ، وكأن الألفاظ قطعت لها ، وسويت على حجمها.

ثم هو الذى يدركه كل ذى قوة فكرية بمقدار إدراكه ، والمعنى صحيح فى كل إدراك صحيح ، وفى كل ذى طاقة سليم ، بلا تخالف ، يسمعه المؤمن فيقر به ويؤمن بما جاء فيه ، ويسمعه المخالف فيدرك الحق من ثنايا كلماته ومعانيه إن أخلص فى جانب الحق ، وإن لم يؤمن فإنه يدرك ما فى القرآن من خواص لا يصل إليها كلام كائنا من كان قائله.

جاء فى كتاب الشفاء للقاضى عياض : «حكى أن عمر بن الخطاب رضى الله تبارك وتعالى عنه كان يوما نائما فى المسجد فإذا هو برجل قائم على رأسه يتشهد شهادة الحق فاستخبره ، فقال له : إنى من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها ، وإنى سمعت رجلا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأملتها ، فإذا قد جمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة وهى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ) [النور : ٥٢] ، وحكى الأصمعى أنه سمع كلام جارية فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت أو يعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧) [القصص : ٧] ، فجمع فى آية واحدة بين أمرين ، ونهيين ، وخبرين ، وبشارتين. فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته غير مضاف إلى غيره على التحقيق» (١).

هكذا نرى كل إعجاز القرآن من نواح شتى ، ربما تعز على الاستقراء ، ففي موسيقاه لا يسع سامعه إلا أن يصغى بقلبه ، وقد رأيت كيف كان العرب يتفقون على ألا يسمعوا لهذا القرآن ويلغوا فيه ثم يذهب إليه المتفقون فرادى فيلتقون جماعة.

ولقد كان لموسيقى القرآن ونظمه روعة عند كل سامع ، حتى من لا يفهم العربية ، فإن لكلماته ونظمه ومده وغنه ، ونهاية فواصله ، ووقفه ـ ما يسترعى من لا يفهم العربية ، وإذا كان لا يفهم معنى الكلمات. فإن النغم يعطيه صورا رائعة.

__________________

(١) الشفاء للقاضى عياض ص ١٦٩.

٧٢

وإن كل كلمة من كلماته تعطى صورة بيانية ، وكل عبارة تجتمع من كلمات لها صورة بيانية رائعة تصور المعانى كالصورة الكاملة فى تصويرها ، التى تتكون أجزاؤها من صور ، وتتجمع من الصور صورة متناسقة.

وإنه لأجل هذا يصعب على الكاتب أن يأتى بكل وجوه الإعجاز البيانى ولكنه يقارب ولا يباعد.

ولنذكر ستة وجوه نتكلم فيها عسانا نصل إلى تقريب معانى الإعجاز من غير حد ولا استقراء كامل وهى :

١ ـ الألفاظ والحروف.

٢ ـ الأسلوب ، وما يكون من صور بيانية.

٣ ـ التصريف فى القول والمعانى.

٤ ـ النظم وفواصل الكلم.

٥ ـ الإيجاز المعجز والحكم والأمثال والإخبار عن الغيب.

٦ ـ جدل القرآن.

١ ـ ألفاظ القرآن وحروفه

٤٤ ـ قبل أن نخوض فيما اختصت به ألفاظ القرآن الكريم من جمال ودقة وإحكام ، وما اشتملت كل كلمة مع أخواتها وجاراتها من صور بيانية لكل واحدة منفردة ، ثم ما اشتملت عليه مجتمعة من معنى ذلك ، نذكر أن العلماء اختلفوا قديما وامتد خلافهم إلى المتأخرين ، تكلموا واختلفوا فى أساس الفصاحة أو البلاغة ، وهما غير مختلفين فى الماصدق ، وإن اختلفوا فى التعريف اللفظى لحقيقة الفصاحة وحقيقة البلاغة.

قال بعض علماء البيان وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجانى المتوفى سنة ٤٧١ ه‍ : إن اللفظ والحروف ليس لهما أثر فى كون الكلام بليغا أو غير بليغ ، إنما الأثر فى مجموع ما يدل عليه النظم ، وشكل النظم ليس هو المؤثر وحده ، إنما تساوق المعانى وتلاقى الألفاظ وتآخيها فى تكوين هذا المعنى المؤثر ، فيقول رضى الله عنه فى كتابه دلائل الإعجاز ما نصه :

«ينبغى أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها فى التأليف ، وقبل أن تصير إلى الصورة التى بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا ، وتؤدى فى الجملة معنى من المعانى التى لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة ، وبناء لفظة على لفظة ، هل

٧٣

يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل فى الدلالة ، حتى تكون هذه أدل على معناها الذى وضعت له من صاحبتها على ما هى مرسومة به ، ثم يقول رضى الله عنه :

«هل يقع فى وهم أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية ، أو أن تكون حروف هذه أخف وامتزاجها أحسن. وهل تجد أحدا يقول هذه اللفظة فصيحة ، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم ، وحسن ملاءمة معناها لمعانى جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها ، وهل قالوا : لفظة متمكنة ومقبولة ، وفى خلافها قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها ، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم ، وأن الأولى لم تلتق بالثانية فى معناها ، وأن الثانية لم تصلح أن تكون لفقا للتالية فى مؤداها ، وهل تشك إذا فكرت فى قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤) [هود : ٤٤] فتجلى لك منها الإعجاز ، وبهرك الذى ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة ، والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض ، وإنه لم يعرض لها الشرف إلا من حيث لاقت الأولى الثانية ، والثالثة الرابعة ، وهكذا إلى أن تستقر بها إلى آخرها ، وأن الفضل نتج مما بينها ، وحصل من مجموعها ، إن شككت فتأمل : هل ترى لفظة بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت من الفصاحة ما تؤديه ، وهى فى مكانها من الآية ، (ابْلَعِي) واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها ، وإلى ما بعدها ، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها ... ومعلوم أن مبدأ العظمة فى الآية فى أن نوديت الأرض ، ثم أمرت ، ثم كان النداء بيا دون أى .. ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال ابلعى الماء ... إلى آخر ما قال.

ويستدل على أن الكلمة ليس لها فصاحة ولا بلاغة فى ذاتها أن الكلمة تروق فى موضع ولا تروق فى آخر فى كلام الناس ، فلو كانت الكلمة إذا حسنت كان حسنها من ذاتها ، لاستحسنت دائما ، وما استهجنت أبدا.

وينتهى من هذا إلى أن جمال الكلام ليس فى توالى ألفاظه فى النطق ، بل إن تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذى اقتضاه العقل.

ويسترسل الجرجانى فى إثبات أن الكلمات ليست لها فصاحة ذاتية ، إنما بلاغتها فى اجتماعها مع غيرها فى تلاقى المعانى ، وأنه ليس للألفاظ ولا للحروف حسن ذاتى منفرد ، ولا قبح ذاتى منفرد ، إنما حسنها فى تلاقيها مع أخواتها فى الدلالة وتساوق المعانى وما تنتجه من صور بيانية ، ومراتب أهل البيان فى مقدار قدرتهم على اختيار الألفاظ المتآخية فى معانيها. ويفهم من كلامه أن النظم لا يلتفت إليه وحده إنما يلتفت

٧٤

إلى معانيه أيضا ، وأنه يريد من النظم الكلمات لا ذات الكلام كله برناته القوية ، أو الهادئة التى تنساب فى النفس ، وتتغلغل فيها حتى تصل إلى أعماقها.

٤٥ ـ هذا رأى الجرجانى ، وله مقامه ، يقصر البلاغة والفصاحة على الأسلوب ومجموع العبارات التى تتضافر فى الدلالة على معان متآخية ، وتتآخى الألفاظ فى الدلالة على هذه المعانى.

وهناك فريق آخر ، ومن هؤلاء الجاحظ ، يرون للحروف وللكلمات فصاحة ، عند ما تتلاءم حروفها ولا تتجافى مخارجها ولا يكون فيها تكرار فلا فصاحة فى مثل ما رواه الجاحظ :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

فإن تكرار الحروف جعلها غير متلائمة ، وغير سهلة فى النطق.

وقد عقد ابن الأثير فى كتابه (المثل السائر) فصلا قيما ذكر فيه فصاحة الكلمات وقبحها ، فى رنينها وفى تآخى حروفها ، وقال : إن من الكلمات ماله نغمة أوتار ، ومنها ماله صوت حمار ، وضرب على ذلك الأمثال ، فقال : إن كلمة السيف لها مرادف ، وهو الخنشليل ، فهل هما متماثلتان فى الفصاحة والنغمة الصوتية ، ومثل كلمة غصن ، وكلمة عسلوج بمعنى الغصن ، فهل هما متماثلتان فى النغمة وسهولة النطق.

ويبدو من كتاب إعجاز القرآن للباقلانى أنه يرى أن للكلمات ذاتها فصاحة خاصة ، وأن تخيرها يدل على قدرة قائلها ، وعلو بيانه ، فإذا كانت المعانى البلاغية لجملة القول ، ففي اختيار الألفاظ المتناسبة فى موسيقاها ، وفى نغمتها وفى رنتها قوية أو هادئة على حسب المقام ، فللفظ دخل فى الاختيار. ويقول الباقلانى فى ذلك :

«قد علم أن تخير الألفاظ للمعانى المتداولة المألوفة ، والأسباب الدائرة بين الناس أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة ، وأسباب مؤسسة مستحدثة ، فإذا برع اللفظ فى المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع فى المعنى المتداول المتكرر ، والأمر المتقرر المتصور ، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع فى الوجوه التى تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ، ويراد تحقيقه بأن التفاضل فى البراعة والفصاحة ، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعانى والمعانى وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر ، فالبراعة أظهر».

ثم يقول :

«وأنت ترى جمال الكلمة من القرآن يتمثل فى تضاعيف كلام كثير ، وهى غرة جبينه ، وواسطة عقده ، والمنادى على نفسه بتميزه ، وتخصصه ، برونقه وجماله ، واعتراضه فى حسنه ومائه» (١).

__________________

(١) إعجاز القرآن للباقلانى ص ٦٤.

٧٥

ومن هذا النقل يتبين أن الباقلانى يرى أن ألفاظ القرآن غرة فى كل كلام ، وأن لها رونقا ، وأن لها دخلا فى إعجازه ، وأن صورة الكلمة ومخارج حروفها لها روعة ذاتية ؛ لأن ذلك من عند العزيز الحكيم.

وإن المتأخرين ممن كتبوا فى إعجاز القرآن رأوا أن فى الكلمة فى القرآن بلاغة خاصة بأدائها ، بمدها وغنها ، وبأصواتها الموسيقية ، وبنغماتها الحلوة ، فلا يمكن أن يكون التآخى بينها وبين أخواتها فى المعانى فقط ، بل إن التآخى ، كما هو ثابت فى المعانى ثابت فى الموسيقى ، وإذا كان الله تعالى قد اختار للقرآن ترتيلا يبدو فيه نغمه ومده ، ورنين ألفاظه ، فلا بد أن تكون ألفاظه قد اختيرت لمزية فى كل كلمة لا فى مجموعها فقط ، ومن أنصار الرأى الذى نظر إلى فصاحة الكلمة الرافعى رحمه‌الله تعالى ، ورضى عنه فى كتابه إعجاز القرآن ، فقد قال :

«لما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه فى كلماته ، وكلماته فى جمله ألحانا لغوية رائعة كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة ، قراءتها هى توقيعها ، فلم يفتهم هذا المعنى ، وأنه أمر لا قبل لهم به ، وكان ذلك أبين فى عجزهم ، حتى أن من عارضه منهم كمسيلمة جنح فى خرافاته إلى ما حسبه نظما موسيقيا أو بابا منه ، وطوى عما وراء ذلك من التصرف فى اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البيانى ، كأنه فطن أن الصدمة الأولى للنفس العربية ، إنما هى فى أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها ، وليس يتفق ذلك فى شىء من كلام العرب. إلا أن يكون وزنا من الشعر أو السجع ، وهو بهذا لا يرى رأى الجرجانى فى أن الكلمات ليس لها مزايا خاصة ، والله أعلم».

٤٦ ـ هذان رأيان يبدو أنهما متعارضان فى كون فصاحة الكلمة جزءا من البلاغة أو الفصاحة ، وإن لم يكن بينهما فرق ، فالأول لا ينظر إلى الجزء وهو الكلمة ، بل لا ينظر إلا إلى المجموع المؤتلف ، والآخر ينظر إلى الأجزاء وإلى المجموع معا ، بل لا يرى المجموع يكون بليغا إلا إذا انتهى إلى ألحان مؤتلفة ، من حروف فى كلمات ، متآلفة ، وكلمات فى أسلوب مؤتلف فى نغماته وترتيله ، وتناسق بيانه.

ولا شك أن الكلمة وحدها من غير أن تكون فى مجموعة ليس لها بلاغة ولا مؤدى ، فكلمة شجر من غير أن تكون فى كلام ليس لها مؤدى إلا أن تكون فى جملة مفيدة تؤدى معنى وتكون بحروفها وقوتها أو لينها متآخية مع أخواتها من الكلام ، ولكن لا بد للكلمة مع الكلمات الأخرى من أن تكون متلاقية فى لحن القول والمراد منه ، وتحقيقه ، فهى وحدها لا تؤدى منفردة ، ولكن بضمها إلى أخرى يكون المعنى القوى ، ويكون النغم الجميل ، ويكون الترتيل الذى يملأ النفوس ، وتطمئن به ، وتقشعر منه الأبدان إن أنذر ، وتهدأ إن بشر ، وتتفكر العقول إن دعا إلى التأمل.

٧٦

ومن أنصار هذا المذهب الخطابى المتوفى سنة ٣٨٨ ه‍ فهو يقول فى رسالته : «واعلم أن القرآن إنما صار معجزا ، لأنه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن نظوم التأليف ، متضمنا أصح المعانى من توحيد له عزت قدرته ، وتنزيه له فى صفاته ، ودعاء إلى طاعته ، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم ، وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم ، وأمر بمعروف ، ونهى عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها واضعا كل شىء منها فى موضعه الذى لا يرى شىء أولى منه ولا يرى فى صورة العقل أليق منه» (١).

وفى الحقيقة ـ أن الخطابى ينظر إلى الأسلوب على أساس أن الألفاظ قوامه ، وهى دعامة بنيانه ، حتى أن القرآن الكريم لو حاولت أن تنزع كلمة من جملة لتضع غيرها المرادفة لها لاختل البناء واضطرب ، وهو يقول فى ذلك : «اعلم أن عمود هذه البلاغة التى تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التى تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذى إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذى يكون منه فساد الكلام ، وإما ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة ، ذلك أن فى الكلام ألفاظا متقاربة فى المعانى ، ويحسب أكثر الناس أنها متساوية فى إفادة بيان مراد الخطاب».

وبهذا انتهى إلى أن الألفاظ فى الكلام البليغ لها مقصد خاص من المتكلم ، إما لنغمتها وإما لمعناها أو هما معا. ولا يكون مرادفها صالحا لأن يحل محلها.

٤٧ ـ وكون كل كلمة لها لحن قائم بذاته لا نحسب أن الجرجانى ينكره ، ولكن مذهبه البلاغى باعتباره من علماء البيان يجعله يتجه إلى العبارة المتآلفة ، والأسلوب الذى تتلاقى معانيه. ولا يتجه ابتداء إلى الألفاظ ، ولعله أيضا يقبل أن تكون الألفاظ متآخية النغم مؤتلفة الألحان متلاقية فى الترتيل. وهو يقرره على أنه فرض مقبول فيقول رضى الله عنه فى تلاؤم الحروف فى الكلمات :

«إن أخذنا بأن يكون تلاؤم الحروف فى الكلمات وجها من وجوه البلاغة وداخلا فى عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة لم يكن لهذا ضرر علينا ، لأنه ليس بأكثر من أن يعمد إلى الفصاحة فيخرجها من حيز البلاغة والبيان ، وأن تكون نظيرة لها ، وفى عداد ما هو شبيههما من البراعة والجزالة وأشباه ذلك مما ينبئ عن شرف النظم ، وعن المزايا التى شرحت لك أمرها ، وأعلمتك جنسها ، أو يجعلها اسما مشتركا ، يقع تارة لما تقع عليه تلك ، وأخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ مما يثقل على اللسان ، وليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده ، وإن تعسف متعسف فى

__________________

(١) رسالة الخطابى ص ٩ فى ضمن رسائل ثلاث فى إعجاز القرآن ، والخطابى توفى سنة ٣٨٨ ه‍.

٧٧

تلازم الحروف ، فبلغ به أن يكون الأصل فى الإعجاز ، وأخرج سائر ما ذكروه فى أقسام البلاغة من أن يكون له مدخل أو تأثير فيما له كان القرآن معجزا. كان الوجه أن يقال له : إنه يلزمك على قياس قولك أن يجوز أن يكون هنا نظم للألفاظ ، وترتيب لا على نسق المعانى ، ولا على وجه يقصد به الفائدة ، ثم يكون مع ذلك معجزا وكفى فسادا».

وينتهى القول فى هذا إلى أن الخلاف بين الجرجانى والخطابى والجاحظ وغيرهما يكون فى أمرين غير جوهريين :

أولهما : أن الجرجانى لا يعتبر للألفاظ منفردة فصاحة أو بلاغة إلا فى ضمن كلام مجتمع ، وحينئذ يكون التآخى أولا وبالذات فى المعانى ، وكون الألفاظ واضحة الدلالة على هذه المعانى ، والتآخى يكون فى المعانى ابتداء.

ثانيهما : ألا يعتبر الفصاحة غير البلاغة ؛ لأن الفصاحة عند من يفرقون بين الفصاحة والبلاغة تكون فى تلاؤم الحروف وتلاؤم الكلمات للألفاظ كما قال ابن الأثير : جمال أوتار أحيانا ، وغير ذلك أحيانا.

وإن ذلك اختلاف اصطلاح ، ولا مشاحة فى الاصطلاح ، إنما المشاحة تكون فى المعانى الجوهرية ، لا فى الاصطلاح ولا فى الأمور الشكلية.

ويسلم الجرجانى بأن للألفاظ جمالا ، وأنها فى النظم تكون لنغماتها وألحانها مساعدات للمعانى ، ولكنه يمنع منعا مطلقا ، ونحن معه ، أن تكون الألفاظ وحدها والكلمات منفردة سببا للإعجاز ، إنما الإعجاز يكون فى أمور كثيرة منها تناسق الكلمات ، وما تشعه من معان وأخيلة بيانية فى وسط أسلوب مكتمل البنيان يلتقى بنغمه وفواصله ، وصوره البيانية ، مع الألفاظ المحكمة ، والمعانى السليمة التى لم يكن للناس عهد بها من قبل.

نظرات فى ألفاظ القرآن

٤٨ ـ إن الألفاظ فى ضمن الأسلوب البيانى الرائع ، ونعتقد مؤمنين أن كل لفظ فى القرآن له معنى قائم بذاته ، وفيه إشعاع نورانى يتضافر مع جملته ، ويساعد بعضه بعضا فى المعانى العامة للأسلوب والعبارات الجامعة. وإن العبارات مجتمعة يساعد بعضها بعضا.

ولسنا نستطيع إحصاء تلك النواحى فى جمال ألفاظ القرآن إحصاء ، ولكنا نضرب من الأمثال على مقدار طاقتنا ، ومن غير أن نصل إلى أقصى الغاية وإنما نسدد ونقارب ، بل المقاربة فوق طاقتنا ، وقد سبقنا إلى تلك المحاولة فحول البيان.

٧٨

اقرأ قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل : ١١٢].

وإذا قرأنا ، ورددنا البصر كرتين ، وجدنا كل كلمة فى حيزها لا تفارقه ، ولو فارقته لوجدناه فارغا لا يملؤه غيرها ، ولنبتدئ بالإشارة إلى ما فى كل كلمة مما اختصت به.

الأولى : كلمة (آمِنَةً) فالأمن معناه عدم الخوف من مغير يغير عليهم ، أو عدو يساورهم ، ولعل ذلك إشارة إلى مكة أو أن هذه القرية هى هى ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (٦٧) [العنكبوت : ٦٧] ، فتجد فى هذه الكلمة إشارة إلى نعمة ليست لغيرهم ، واختصوا بها دون الناس أجمعين.

الثانية : كلمة (مُطْمَئِنَّةً) فمعنى الاطمئنان يتصل بالنفس فهى قد منحها الله تعالى القرار والسكون والدعة من غير ضعف ، ومع هذه الدعة كان هو يقويها ويثبتها ، مع ما أعطاهم الله من سلطان أدبى على العرب ، وهم ملتقى اجتماعهم ومستقر شعائرهم الدينية ومقامهم الكريم الطيب فكل هذا يشع من كلمة مطمئنة.

الثالثة : (يَأْتِيها رِزْقُها) فإن هذا يشير إلى سهولة الحياة. وأنه لا يأتيهم كسائر العرب بانتجاع الكلأ ، والتنقل فى الصحراء لا ينالون الحياة إلا بشق الأنفس ، وبذوقهم فى طلبهم الرزق حر الحياة وقرها.

الرابعة : كلمة (رغدا) فالرغد هو الرزق الطيب المذاق المريء غير الوبيء وهو الواسع الكثير ، فهم فى رزق يأتيهم سهلا طيبا ، واسعا مريئا لا وباء فيه.

ولكنهم كفروا بهذه الأنعم كلها فأى صورة بيانية أروع من هذه الصورة ، وتجد الكلمات الأربع متآخية فى معانيها ، متلاقية فى ألحانها منسجمة فى نغماتها ، وكل كلمة منها تعطى صورة بيانية ، فآمنة فيها صورة البلد الذى لا يساوره عدو فى وسط موطن فيه يتخطف الناس ، ومطمئنة يشير إلى الاطمئنان النفسى الساكن القار كالماء الساكن الذى لا تعبث به الرياح. ويأتيها رزقها طيبا من كل مكان ، تشير إلى المكانة التجارية التى يأتيها الخير من كل بلد قاص ودان ، وأن لهم رحلة الشتاء والصيف.

وإن مجموع الكلمات مع ما تشعه كل واحدة من معان وصور ، يصور حال جماعة من الناس على هذه الأمور المجتمعة غير المفترقة ، وكلها فيوض من أنعم الله تعالى ، ومع ذلك تكفر هذه النعم ، فلا تشكر بل تجحد الحق ولا تؤمن ، وهنا تجىء الصورة الثانية من عقاب ومؤاخذة على ما ارتكبوا من كفر بأنعم الله ، ونجد أن كلمة

٧٩

أنعم فيها فصاحة وصورة بيانية. إذ إنهم لم يكفروا بواحدة ، بل كفروا بها كلها ، فكان الجحود أشد ، والضلال أبعد ، ولكلمة أنعم نغمة هادئة مع سعة المعنى فى الكلمة ، إذ إنها نعم متضافرة ، وفيوض خير من الله تعالى متكاثرة.

هذه حال ما أفاض الله تعالى به عليهم ، كانت فيها صور النعم واضحة كلا وجزءا فى كل كلمة سيقت لذلك. فلننتقل من الآية الكريمة إلى الصورة التى حلت محل الأولى ، ولننظر إلى الكلمات السامية كلمة كلمة ثم ننظر إلى الصورة التى تتكون من هذه الكلمات التى كانت كل منها صورة قائمة بذاتها ، وهى أيضا جزء من الصورة الكبرى التى يكونها المثل القرآنى السامى.

الكلمة الأولى : أذاقها الله : فى التعبير بأذاق إشارة إلى أن الإيلام مس نفوسهم ، وبعد أن كانوا فى ترف صاروا يذوقون الضر.

يقول الزمخشرى (١) فى معنى الإذاقة : «قد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها فى البلايا والشدائد ، وما يمس الناس منها ، فيقولون ذاق فلان البؤس والضرر ، وأذاقه العذاب ، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر» ونرى من التعبير والتقابل أنهم بعد ما سكن قلوبهم من اطمئنان ، وما كان من العيش الرغد ذاقوا الجوع ، وبما منحوا من أمن ذاقوا الخوف ، وهكذا تجد التقابل.

والكلمة الثانية : لباس الجوع والخوف ، فيها صورة بيانية رائعة ، فهى تصور الجوع والخوف كأنه لباس لبسهم وأحاط بهم إحاطة الدائرة بقطرها ، لا يخرجون منه إلا إليه ، ولا يدورون إلا فى دائرته ، وإن ذلك بلا ريب يفيد الإحاطة الشاملة الكاملة التى لا يستطيعون منها فكاكا ، وهذا يفيد استمراره وتجدده آنا بعد آن ، ولقد قال الزمخشرى : «وإن اللباس قد شبه به لاشتماله على اللابس ، ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث ، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، كأنه قيل ما غشيهم من الجوع والخوف».

ومهما يكن تصوير إمام البلاغة الزمخشرى من أن التعبير باللباس يفيد أنه غشيهم وأحاط بهم فإن فى الكلام صورة بيانية تصور حالهم بعد الأنعم التى أنعم بها عليهم ، وكفروا بها من أنهم فى صورة من كان لابسا للجوع والخوف ، وهم يذوقون ، كمن يلبس ملبسا كله قتاد ، يجرح أجسامهم ، ويدمى جلدهم ، بيد أن هذا لا يدمى الجلد ، ولكن يمس الحشا بالجوع ، والنفس بذهاب الأمن والاستقرار ، وإنا نجد أن هذه الصورة البيانية التى يصورها القرآن قد تضافرت الكلمات فى تكوينها فاشترك فيها التعبير بأذاقهم ، والتعبير باللباس ، وكون اللباس جوعا وخوفا ، ولباس الجوع والخوف أشد

__________________

(١) هو محمود بن عمر الزمخشرى إمام عصره فى اللغة والتفسير والحديث توفى سنة ٥٣٨ ه‍.

٨٠