المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

الإمام وهو متواتر فتكون فى معنى المتواترة ، وموافقتها للمنهاج العربى ، فلا يكون فيها ما يخالف المنهاج العربى.

القسم الثالث : الشاذة وهى المخالفة للمصحف الإمام ، ولم تثبت بسند صحيح ، ولو بطريق الآحاد.

وإنى أرى ألا يقبل إلا المتواتر.

ويجب التنبيه إلى أمر وهو أن القراءات السبع المنسوبة للقراء السبعة قيل أنها لا تخلو من شاذ مرفوض ، وإن كانت فى جملتها مشهورة ، جاء فى كتاب إعجاز القرآن للمرحوم الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعى رضى الله عنه نقلا ما نصه :

«لا تخلو إحدى القراءات من شواذ فيها حتى السبع المشهورة ، فإن فيها من ذلك أشياء».

وازن بين هذا ، وبين القراءتين اللتين زيدت فى إحداهما (واو) ، وقيل أنها موافقة للمصحف الشامى.

وفى الأخرى (من) وقيل أنها موافقة للمصحف المكى.

فائدة وجوه القراءات

٢٤ ـ إن القراءات كما ذكرنا هى ترتيل القرآن الذى علمنا الله إياه على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ علمه ربه ونسب الترتيل إلى ذاته العلية ، فقال تعالى : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان : ٣٢] ، وأمر نبيه بهذا الترتيل هو ومن اتبعه فقال تعالت كلماته : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل : ٤] فكانت القراءات التى نزل بها القرآن هى تصريف ذلك الترتيل وتنويعه ، وكما أن المعانى القرآنية صرفها الله تعالى من الاستفهام إلى التقرير ، ومن الاستنكار والتوبيخ إلى التهذيب والتأديب ، وكما صرف الله آياته كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠٥) [الأنعام : ١٠٥] فقد صرف تلاوته وترتيله ، فكان الترتيل فى التأليف الصوتى ، والتناسق فى النطق ، وتنوع ذلك التناسق من ارتفاع ومد طويل ، إلى خفض ومد قصير ، مما يشبه التأليف الموسيقى ، وإن كان أعلى لأنه ليس من صنع البشر ، ويجد القارئ فى ذلك التنويع ما يجعله يترنم بالقرآن فى إجلاله ، وروعة بيانه ودقة معانيه.

وأمر ثان يبدو فى تنويع القراءات مع ثبوت تواترها وأنها عن الله العلى القدير ، نجد أن اختيار قراءة من القراءات فى المقام الذى تناسبه يكون توضيحا للمعنى ، ومناسبا للمؤدى ، فمثلا قراءة الإمالة تكون فى الوضع اللين والخطاب الرفيق ، ويتركها القارئ الفاهم فى موضع التهديد والإنذار إلى قراءة أخرى تناسب التهديد والإنذار

٤١

الشديد ، فمثلا فى سورة الحاقة لا يعمد المرتل المدرك إلى اللين فى الوقوف على التاء ، لأنه لا يتناسب مع موضوع التهديد الذى اشتملت عليه السورة كلها ، وقد نبهنا بعض القراء الذى كان يختار اللين ، فتنبه ، وما عاود أمامنا ما كان يفعل.

وأمر ثالث فى تعدد القراءات فوق ما فيها من مراعاة مقتضى المعانى ، وفوق ما فيها من ترتيل هو موسيقى القرآن ، إن صح لنا هذا التعبير مع أن القرآن فى مقام أعلى وأسمى ، ذلك الأمر أن تنوع القراءات فيه تسهيل على القارئ العربى ، فقد تصعب عليه قراءة ، إذ لا تطاوعها طبيعته أو سليقته اللغوية.

وهناك أمر رابع فى تنوع القراءات ، وهو أن يكون مجموع القراءتين ـ وكلتاهما قرآن ـ دالا على معنيين فى لفظ واحد متلاقيين غير متضادين ، فمثلا قراءة : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] بضم الفاء يدل على أنه من العرب ، والعرب قومه ، وذوو رحمه القريبة ، أو البعيدة ، وإذا اجتمعت معها القراءة بفتح الفاء كانت الآية دالة بهذه القراءة على أنه من أوسط القوم وأعلاهم ، فالقراءتان والكلمة واحدة تدلان بالنص على معنيين غير متضادين ، وكلاهما صحيح صادق ، فالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من العرب ، وكان من أنفسهم ترتبط مشاعره بمشاعرهم يحس بما يحسون ، وهو مندمج فيهم ، وقريب منهم ، ثم كان مع هذا القرب النفسى من أعلى العرب منزلة ، وأكرمهم ، وكذلك يكون الأنبياء من أوساط الأقوام الذى يتسامون عن سفساف الأمور ، ويتجهون إلى معاليها.

وقد يقول قائل أن قراءة أنفسكم بفتح الفاء تدل على الأمرين ، فهى تدل على أنه من أعلى قريش وسطا ، وتدل على أنه منهم ، ونقول فى الجواب عن ذلك أنها تدل بالنص على الشرف ، وأنه من أعلى القوم ، ولا يفيد بالقصد والذات أنه من نفس العرب ، ومن ذاتيتهم ، وأنه يحس بإحساسهم ، لا تدل قراءة الفتح على ذلك النص ، وبيان امتزاج نفسه عليه‌السلام بأنفسهم ، وإن هذا لا بد منه ليشعر بشعورهم ، ويشاركهم بوجدانه وإحساسه ، ويجذبهم إليه بقوة الامتزاج النفسى ، كما يعينهم بالدليل ، وبالحق فى ذاته ، وبما أتاه الله تعالى من بينات باهرات.

وقد يكون اختلاف القراءة فيه كمال التوضيح البيانى من غير قصور فى إحداهما ، ولكن بالقراءتين يكون البيان كاملا ، مثل قراءة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات : ٦] فإن قوله تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) تقرأ (فتثبتوا) ولا شك أن المعنى فى القراءتين هو ألا يؤخذ الساعى بالنميمة أو الساعى بالأذى ، أو المفسد بين الناس ، لا يصدق قوله ابتداء ، وألا ينساق وراء ما يثيره القول من عاطفة جامحة أحيانا قد تدفع إلى الشر عن غير بينة ، فالله تعالت آياته ينبه إلى أنه لا

٤٢

يجوز التصديق إلا بعد التبين ، والتبين يكون بطرائق مختلفة منها ما يكون بطرق الإثبات من بينات ومنها ما يكون بالقرائن ، ومنها ما يكون بربط الأمور الواقعة بالأمر المخبر عنه ، وهكذا ، فالقراءتان : تبين إحداهما التبين بالطرق المختلفة ، والثانية تبين أن أسلم الطرق هو تعرف الأمر بما يثبت من أقوال الصادقين المؤمنين.

وإنه قد يكون اختلاف القراءات مؤديا إلى بيان حكم بقراءة ، وحكم متمم له بقراءة أخرى فتستفاد الأحكام فى أوجز تعبير على ما فيه من تغيير القراءة من اختلاف فى نغم الترتيل ، وموسيقا البيان القرآنى الذى يساميه.

وقد قال فى هذا المعنى الكاتب الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعى : «وثالثة تلحق بمعانى الإعجاز ، وهى أن تكون الألفاظ فى اختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنى من معانى الشريعة ، ولذا كانت القراءات من حجة الفقهاء فى الاستنباط والاجتهاد ، وهذا المعنى مما انفرد به القرآن الكريم ، ثم هو مما لا يستطيعه لغوى أو بيانى فى تصوير خيال فضلا عن تقرير شريعة».

ولذلك تجد الفقهاء فى استدلالاتهم الفقهية يقولون : الحجة فيه قراءة كذا ، وهى لا تكون مناقضة للقراءة الأخرى ، وربما تكون القراءة دالة على حكم آخر غير مناقض للحكم الذى دلت عليه القراءة المستشهد بها ، فتكون الآية بالقراءتين دالة على حكمين متلاقيين غير متناقضين ، وذلك من الإيجاز المعجز الذى لا يوجد فى كلام الناس ، ولكنه موجود فى كلام خالق الناس.

٢٥ ـ هذا ، ونختم الكلام فى القراءات بكلمة مأثورة للصحابى الفقيه عبد الله بن مسعود ، فهو يقول :

«لا تنازعوا فى القرآن فإنه لا يختلف ، ولا يتلاشى ، ولا ينفد لكثرة الرد ، وإنه شريعة الإسلام ، وحدوده وفرائضه ، ولو كان شىء من الحرفين (أى القراءتين) ينهى عن شىء يأمر به الآخر ، كان ذلك الاختلاف ، ولكنه جامع ذلك كله لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض ، ولا شىء من شرائع الإسلام ، ولقد رأيتنا نتنازع عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأمرنا فنقرأ عليه ، فيخبرنا أن كلنا محسن ، ولو أن أحدا أعلم بما أنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منى لطلبته حتى أزداد علما إلى علمى ، ولقد قرأت من لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة ، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن فى رمضان ، حتى كان عام قبض فعرض عليه مرتين ، فكنت إذا فرغ أقرأ عليه ، فيخبرنى أنى محسن».

اللهم احفظنا بالقرآن واجعله محفوظا بيننا كما وعدت إنك لا تخلف الميعاد ، ووفقنا للعمل به.

***

٤٣
٤٤

القسم الثانى

إعجاز القرآن

٤٥
٤٦

إعجاز القرآن

٢٦ ـ ذكر المؤرخون ما كان عليه العرب من تلقّ لديانات النبيين السابقين ، حتى قال قائل المؤرخين وأهل السير : إن نوحا عليه‌السلام كان بعثه فيهم ، وكذلك كان إدريس ، وصالح ، وشعيب ، وهود ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، فكانت مهدا للرسالة الإلهية.

وإذا كان لذلك أثر أو دلالة ، فهو أن العرب قوم فيهم ثقافة وأديان ، وقد وضحنا ذلك عند الكلام فى حكمة اختيار العرب لأن يكونوا موضع الرسالة الخالدة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فيما كتبنا فى سيرة الرسول عليه‌السلام).

وإذا كان العرب فى عصر الرسالة المحمدية كانت فيهم بداوة سائدة ، وحضارة قليلة ، فأكثر العرب ، أو الصحراء العربية إن استثنينا اليمن والحيرة ، وما يصاقب الفرس ، والشام ، وما يصاقب الرومان ـ كانت البداوة فيهم غالبة ولكنهم فى بدوهم وحضرهم ، فى مدرهم ووبرهم امتازوا من بين معاصريهم بالنزوع إلى الكلام الطيب ، وكانت سيادة الأمية سببا فى أن أرهفوا كلمات لغتهم وأسلوب خطابهم ، وملاحظة جرس الكلمات ، وموسيقى العبارات وانسجام الحروف ، ومؤاخاة المعانى للألفاظ ، حتى إن النطق يدل على المعنى ، وفى مترادف الكلمات ما يدل على أن المعانى كانت ملاحظة فى كل لفظ ، فالأسد يقال له أسد وليث وغضنفر ، وغير ذلك من المترادفات لمعنى السبع ، فكلمة غضنفر تقال له فى حال عنفه وفتكه ، وكلمة ليث تقال فى حالة ثباته ورباطة جأشه ، وهكذا تجد النطق متلاقيا مع المعنى ، فهما متساوقان ، المعنى ملاحظ فى النطق ، والنطق لابس للمعنى ، وكلاهما يحيط بصاحبه ويؤاخيه ولا ينفصل عنه.

وفى الأسلوب الذى يصوره الإعراب تجد الانقطاع عن النسق الإعرابى فى القول يتغير بتغيير وجه الإعراب ، من غير خطأ ، بل يقصد معنى من معانى التخصيص يكون النطق فى الانقطاع قائما مقام وضع خطوط تحت الكلمات ، كما يفعل الكاتبون غير الأميين ، وهكذا كان النطق قائما مقام خطوط الكاتبين فى تنبيهها ، وشدة الاختصاص فى دقة المعانى ، فهى بحق لغة إفصاح ، وذلك لقوة المدارك ، وعلو الأفكار ، والنزوع إلى السمو والمعالى مع الأمية وغلبة البدوية.

وقد ظهر ذلك فى أمرين : أحدهما أن الجزء الذى دخلته حضارة من البلاد العربية كاليمن والحيرة والبحرين لم تكن عندهم فصاحة كالذين لم تسيطر عليهم الحضارة فى قوة الإفصاح والبيان وسلامة التعبير ، فلم تكن اليمنية كالعدنانية. ولا لغة أهل البادية كلغة قريش ، لأن قريشا قد قاربت ، وذاقت بعض الحضارة ، وبقيت أميتها.

٤٧

الأمر الثانى ـ فى المسابقات البيانية التى كانت تعقد فى الأسواق فى موسم الحج فى عكاظ ، ومجنة ، وذى المجاز ، فقد كانت فيها تجارة المادة ، وتجارة البيان معا ، فقد كان فى الأولى زاد الجسم ، وفى الثانية زاد النفس ، كما ظهر ذلك فى الشعر ومسابقاته ، فمن معلقات تعلق فى أستار الكعبة ، وحوليات يقطع الحول فى نسج خيالها ، وصوغ عباراتها التى تصغى إليها الأفئدة.

ولو أنك وازنت بين العرب وغيرهم ممن هم فى مثل حالهم من البداوة الغالبة ، لوجدتهم فى السماك الأعزل وغيرهم فى الحضيض الأوهد ، فلا يزال الحاضرون من غير العرب يجدون فى شعر زهير بن أبى سلمى حكمة البيان الشعرى ، وفى شعر امرئ القيس قوة الوصف وفورة الشباب ، وفى شعر عنترة قوة البأس ولطف التشبيب والغزل ، وفى شعر طرفة قوة النفس الثائرة ، وهكذا لو وازنت بين هذه الآثار ، وما بقى من شعر اليونان والرومان لوجدتها لا تقل عنها فى إحكام الفكرة ، وسلامة التفكير ، ولكن تزيد عليها فى حلاوة النغم ، وتساوق الفكر ، وتآخى الألفاظ مع المعانى.

نعم إن الأدب القصصى فى اليونان كثير ، وهو خلاصة ما عندهم ولبه ، وهو عند العرب قليل أو أقل من القليل ، والسبب فى ذلك هو أن هذا ثمرة الكتابة التى تتيح للكاتب فرصة التأليف وتلفيق الوقائع ، بحيث تكون كل واقعة لفق الأخرى مسلسلة معها ، فى خيال متسق ، وهكذا.

أما العرب الذين غلبت عليهم الأمية مع تذوق القول ، وتخير خيره ، واستهجان هجينه ، فإن أدبهم يكون باللمح السريع ، والنظر الخاطف أحيانا ، والمستبصر المتدبر فى أكثر الأحيان عند الذين أوتوا فكرا وعقلا وإدراكا ، وفى الجملة لا وسط بين كلامهم وجنانهم ، ولا زمن مستغرق بين خاطرهم وقولهم ، فتكون خيالاتهم فيها جمال اللمح ، وقوة اللحظ ، وسرعة الإدراك.

٢٧ ـ ولذلك أجمع المؤرخون فى القديم والحديث على أن العرب لهم مآثر فى البيان ، وذوق الكلام ، والتفريق بين كريمه وسقيمه ، وجميله وهجينه.

ولنترك الكلمة للقاضى عياض المتوفى سنة ٥٤٤ ه‍ يصف بيانهم فى كتابه الشفاء ، فهو يقول : «خصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم ، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان ، ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب ، وجعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة ، وفيهم غريزة وقوة ، يأتون منه على البديهة بالعجب ، ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديها فى المقامات وشديد الخطب ، ويرتجزون به بين الطعن والضرب ، ويمدحون ويقدحون ، ويتوسلون ويتوصلون ، ويرفعون ويضعون ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال ، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآلئ ، فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب ، ويذهبون الإحن ويهيجون الدمن ، ويجرءون الجبان ... منهم البدوى ذو اللفظ الجزل والقول الفصل ، والكلام الفخم والطبع

٤٨

الجوهرى ، والمنزع القوى ، ومنهم الحضرى (أى ساكن المدن) ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف فى القول القليل الكلفة ، الكثير الرونق ، والرقيق الحاشية» إلى آخر ما ذكره عياض فى بيان بلاغة العرب ، ومقدار إدراكهم لجمال الكلمات فى رنينها ، كما يدرك الصير فى رنين الحلى الكريمة غير الزائفة ، من بين ما يعرض له.

تلك كانت حال العرب فى جاهليتهم ، كانت جهلا بالدين مع بقايا ملة إبراهيم ، وليسوا جهالا فى البيان ومعرفة أسرار البلاغة يدركونه بلحظ الحال ، لا بإمعان عقل وطول تفكير ، يدركونه بنغماته ومعانيه فى لمح الفكر ، من غير طول المكث.

لذلك كان المناسب لمثل هؤلاء الذين تلقوا دعوة محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخاطبهم القرآن الكريم ابتداء أن تكون المعجزة من النوع الذى يحسنونه ، ليعرفوا مقدار علوه عن الطاقة ، فالمعجزة بلا شك تناسبهم فوق مناسبتها لموضوع الرسالة وعموم أزمانها وخلودها إلى يوم القيامة ، وقد بينا ذلك فى أول الكلام ، فإذا كانت معجزة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نوع الكلام السامى فوق طاقة الناس فإنها تكون مناسبة لمن تلقوها فى أول أمرها ومناسبة لخلودها.

إننا لا ننفى الآن ، ولم ننف من قبل أنها مناسبة لعصر نزولها ، ولكننا نقول أيضا أنها مناسبة لموضوع الرسالة وخلودها ، وبقائها إلى يوم القيامة.

إن القرآن فى أعلى درجات البيان من حيث لفظه ، ومن حيث نغماته ، ومن حيث مغازيه ومن حيث الصور البيانية التى تكون فى ألفاظه وعباراته ، حتى إن كل عبارة تلقى فى الفكر والخيال بصورة بيانية كاملة فى روعتها ، ودقة تصويرها ، بل إن كل كلمة لها صورة بيانية تنبثق منها منفردة ، وبتآخيها مع أخواتها فى العبارة تتكون صورة بيانية أخرى ، فوق أن الرنين الموسيقى تنفعل به الأسماع إلى القلوب فى معان محكمة ، وحقائق بينة ، وشرائع منظمة للعلاقات والسلوك الإنسانى القويم ، الهادى إلى الصراط المستقيم.

التقى فى المعجزة الكبرى للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى القرآن المبين ـ معنيان ، أصيب بهما هدفان :

أولهما ـ أنه المناسب الذى يعرف به العرب معنى الشيء الخارق لما عرف ، الخارج عن طاقتهم ، فإنه لا يدرك أثر ذلك إلا هم ، ولا يعرف مقامه إلا من على شاكلتهم من معرفة مقام القول ، ومنزلة البيان.

وثانيهما ـ أن كونه من نوع الكلام الموحى به الباقى الخالد الذى حفظه الله تعالى ، ووعد بحفظه إلى يوم القيامة كما تلونا من قبل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ

٤٩

لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩] وذلك يناسب رسالته التى هى خاتم الرسائل الإلهية التى جاء بها محمد رسول الله تعالى خاتم النبيين ، بصريح القرآن الكريم ، فلا نبوة بعد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فكان المناسب أن تكون المعجزة من نوع الكلام الخالد الباقى ، كما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من نبى إلا أوتى ما مثله آمن عليه البشر ، وكان الذى أوتيته وحيا أوحى به إلى ، وإنى لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا إلى يوم القيامة» كما روينا من قبل ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وإنه معجزة للخليقة كلها ، وفيه الدليل على أنه من عند الله للناس أجمعين ، فهو إن جاء بلسان العرب ، وفيه أعلى درجات البيان العربى ، يشتمل فى ثناياه على ما يعجز الناس أجمعين ، فإذا كان قد أعجز العرب ببيانه فقد أعجز الناس أجمعين بمعانيه وشرائعه ، وما اشتمل عليه من علوم ، بل بمبانيه أيضا. قال منزله عز من قائل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) [الإسراء : ٨٨] تعالت كلمات الله تعالى.

تلقى العرب للقرآن

٢٨ ـ كلف محمد عليه الصلاة والسلام أن يستعد للقاء الرسالة الإلهية لينشر التوحيد والخلق المستقيم والعبادة الخالصة لله تعالى بين الناس ، وكان تكليفه بالقرآن وأول نزوله ، فقال له جل جلاله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥). [العلق : ١ ـ ٥]

تقدم محمد للدعوة إلى ربه معتمدا على أمرين بعد تأييد الله تعالى له وإعزازه ، ومصابرته وأخذهم بالحسنى.

اعتمد أولا على الحق الذى يدعو إليه ، فالحق ذاته قوة لا تعدلها قوة عند النفوس التى لم تتعوج بمفاسد العصبية ، أو التقليد المصم عن الحق ، فذكر لهم التوحيد ، وقد كانوا على إدراك له فى الجملة كما بينا عند الكلام فى القسم التاريخى عن بقاء بعض المأثورات عن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وكان التنبيه إلى أن الأوثان لا يعقل أن تعبد ، وإزالة ما حولها من أوهام ، وما علق بها من خرافات ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد بين ذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أكمل وجه.

٥٠

واعتمد مع نور الحق فى ذاته على نور القرآن المبين الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو فى هدأة الداعى الرشيد يدعوهم إلى هجر عبادة الأوثان ، ويقرأ عليهم القرآن الكريم ، ففي دعوة الحق وفى القرآن البرهان القاطع والضوء اللامع.

كانوا ينفرون من الحق المجرد ، لأنه يخالف ما ألفوا ، وما وجدوا عليه آباءهم : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١٧٠) [البقرة : ١٧٠].

ولكنهم إذا استمعوا إلى القرآن تحيرت الأفهام ، واضطربت أحوالهم بين قديم ألفوه ، وحق فى القرآن عرفوه ، فهم يحاورون فى الحق ، ولكن لا يدرون ما ذا يدفعون به القرآن الذى يحمله ويدعو إليه وإلى ما جاء به ، وإنهم بذوقهم البيانى يجدون أنه فوق كل كلام ، ولا يمكن أن يجرى به لسان من ألسنتهم وأمثالهم ، بل لا يمكن أن يأتى به محمد من عنده ؛ لأنهم من قبل عرفوا كلامه ، وقد رأوه عاليا فى جوامع كلمه ، ولكن القرآن أعلى من طاقة الإنسان ومن طاقة محمد ذاته.

ما ذا يقولون فيه؟ أيقولون أنه باطل وقد كبروا ما هو دونه من قصيد ورجز ، إن فى ذلك كانت الحيرة ، وهم من الناحية البيانية لم يتهافتوا ولم يسفوا فى القول ؛ وإذا كان فيهم حمقى حاولوا أن يجاروه ، أو ادعوا أنهم يجارونه ، وعرضوا ما قالوا ، فنال الاستضحاك والسخرية ، وزاد القرآن الكريم مكانة وتقديرا ، وما كان لأمثال أبى سفيان والوليد بن المغيرة أن يسفوا بأنفسهم ذلك الإسفاف ، بل إنه لم يسف إلى هذا عمرو ابن هشام (أبو جهل) لأنه يعلم مقدار علوه ، فلا يتهافت إلى إنكار مكانته فى البيان ، فهو يستبيح أذى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذى أصحابه ، ولا يستبيح الطعن فى مقام القرآن البيانى ؛ لأنه يلحقه الطعن بالأذى والتصغير ، ولا يلحق محمدا الذى نزل القرآن عليه وخاطب به الناس أجمعين ، ولنذكر لك أخبار من سمع القرآن ، وخر بين يديه صاغرا مع شدة العداوة والملاحاة واللدد والخصومة ، والبقاء على الكفر ، والإصرار على الشرك.

٢٩ ـ (أ) سمعه الوليد بن المغيرة فرق له رقة لم تعرف فيه نحو الإسلام فخشى أبو جهل (عمرو بن هشام) أن يسير فى الطريق القويم إلى الإسلام ، فأنكر عليه أبو جهل حاله ، ولكنه لم يستطع أن يقول فى القرآن شيئا ، فقال له الوليد :

«والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار منى ، أعرف رجزها وقصيدها ، والله ما يشبه الذى يقوله شيئا من ذلك ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق. وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، ما يقول هذا بشر».

ولقد اجتمعت قريش عند الوليد يتذاكرون ما ذا يقولون فى القرآن. وقد رأوا العرب يفدون ، ويستمعون إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيبلغ القرآن منهم أعماق نفوسهم ، فكيف

٥١

يصدونهم عن ذكر الله ، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ، فأتمروا ، واجتمعوا حول الوليد ، ليتعلموا ما ذا هم قائلون لمنع الحق ، وقد قال لهم أولا الحق على ريب فى نفسه.

قال لهم الوليد العارف الضال : إن وفود العرب ترد ، فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بعضا.

قالوا : نقول «كاهن».

قال : والله ما هو بكاهن ، ما هو بزمزمته ، ولا سجعه.

قالوا : «مجنون».

قال : ما هو بمجنون ، ولا بخنقه ، ولا بوسوسته.

قالوا : فنقول «شاعر».

قال : ما هو بشاعر ، قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ، ومبسوطه ومقبوضه ما هو بشاعر.

قالوا : فنقول «ساحر».

قال : ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده.

قالوا : فما تقول أنت؟

قال : ما أنتم بقائلين فى هذا شيئا ، إلا وأنا أعرف أنه باطل ، وإن كان أقرب القول أنه ساحر ؛ فإنه سحر يفرق بين المرء وابنه ، والمرء وأخيه ، والمرء وزوجته ، والمرء وعشيرته. [فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس].

(ب) ولنذكر خبر عتبة بن أبى ربيعة ، فقد سمع القرآن وهو على الشرك. ومن كبراء قريش ، فأدرك بذوقه البيانى مقام القرآن ، وقال مقالة الحق : «والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط ما هو بالشعر ولا بالكهانة».

(ج) وقد ورد فى حديث إسلام أبى ذر الغفارى أنه قال : «ما سمعت بأشعر من أخى أنيس ، لقد ناقض اثنى عشر شاعرا فى الجاهلية ، أنا أحدهم ، وقد انطلق إلى مكة ، وجاء أنيس إلى أبى ذر بخبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو ذر : فما يقول الناس؟ قال :

يقولون شاعر كاهن ساحر. لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعته على أوزان الشعر فلم يلتئم ، وما يلتئم على لسان أحد ، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون».

(د) إن كبار المعارضين للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خافوا على أنفسهم من أن يؤثر القرآن فيهم واستحبوا الكفر على الإيمان واستحبوا العمى على الهدى ، ولذلك تفاهموا فيما بينهم ألا يسمعوا لهذا القرآن ؛ لأن الذين يسمعونه يتأثرون بما فيه من علو بيان ، وإنه فوق طاقة البشر ، ووجدوا الناس يؤمنون به فرادى ، ومنهم كبراء كانوا ذوى مقام وجبروت.

٥٢

فوجدوا الإيمان يقوى ويكثر أهله ، والشرك يضعف وينقص عدده ، تفاهموا على ألا يسمعوا لهذا القرآن كما أشرنا. وأن يهرجوا بالقول عند سماعه ، ولقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك ، فقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) [فصلت : ٢٦].

(ه) ولقد كانوا إذا تلا عليهم القرآن لا ينقده كبراؤهم ، وإن كان السفهاء السفسافون منهم يتطاولون لحمقهم ، أما الذين أوتوا حظا من الإدراك ، ولو أعمتهم العصبية وأبعدتهم عن الإيمان ، فإنهم يفرون من مواجهة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥].

(و) وإن الله سبحانه وتعالى لم يتركهم فى هذا العجز الصامت الذى يفرون فيه من المواجهة ، ولا يريدون المناصبة ، بل يكتفون بالسكوت العاجز ، ويحاولون التمويه على غيرهم ، كما كفروا فى أنفسهم بالحق ، وقد عرفوه ، بل تحداهم أن يأتوا بمثله ، ليثير حميتهم أو يؤمنوا به. وليبين ضعفهم أو يستسلموا ، فقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) [يونس : ٣٨] أى أنه إذا كان قد نسبه لله تعالى افتراء وهو منه ، فمحمد منكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، وادعوا شهداء لكم أو عليكم.

وادعوا أن ما فيه غير صادق فتحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بمفترى يكون فى مثل بيانه ، فقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣) [هود : ١٣].

٣٠ ـ وننتهى من ذلك إلى حقيقتين ثابتتين نشير إليهما بالإجمال ، وسنتعرض ببعض التفصيل عند الكلام عن وجوه الإعجاز.

الحقيقة الأولى : أن قريشا مع شدة ملاحاتها للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومع أن القرآن قد ذكر آباءهم بغير ما يحبون ، وذكر أوثانهم بغير ما يؤمنون ، لم يتحركوا لأن يقولوا مثله ، وأذعنوا لبلاغته وقوته ، وما أسلم عمر بن الخطاب إلا بعد أن قرأ فيه ، وكذلك جبير بن مطعم ، وإن القرآن تحداهم أن يأتوا بمثله فما فعلوا ، بل ما تحرك العقلاء منهم لأن يفعلوا حتى لا يسفوا فى تفكيرهم وهم أمام رجل كبير فى قومه وعقله ، ومعه آيات الله تعالى البينات ، فدل هذا على عجز مطلق.

الحقيقة الثانية : أن القرآن جذب العرب إلى الإيمان بما فيه من روعة ، وقوة بيان ، وإيجاز معجز وأقوال محكمة ، وقصص تطول وتقصر ، وهى مملوءة بالعبرة فى طولها وقصرها ، وإطنابها الرائع وإيجازها الذى لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أوفاها بالعبارة الناصعة ، والإشارة الواضحة ، فما كان الإيمان نتيجة تحد للمقاويل منهم وعجز ، وإن

٥٣

كان العجز ثابتا ، وإنما كان الإيمان ثابتا بالقرآن فهو الذى جذب إلى الإيمان بما فيه من بيان أدركوا أنه فوق طاقة البشر ، وأنه حقائق ثابتة كما قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥) [الحديد : ٢٥].

وإن الثابت مع ذلك أنه لم يحاول أحد من أهل البيان أن يأتى بمثله. ولم يعرف ذلك ، وإذا كان التاريخ قد ذكر شيئا من هذه المحاولة ، فإنه كان فى أيام الردة من مسيلمة الكذاب وأشباهه ، وإن هذا الجزء الذى رواه التاريخ الذى روى تلك الكلمات التى حاول بها مسيلمة الكذاب أن يجارى فيها القرآن ، يبين مقدار إدراك المشركين ، إذ لم يحاولوا المجاراة ، حتى لا يسفوا ، ويكونوا أضحوكة بين العرب ، وموضع سخرية ، يسخرون بعقولهم ، ولننقل لك ما نقله الباقلانى (١) فى إعجاز القرآن ، ليتعجب وليتبصر الناظر ، كما قال الباقلانى ، فإنه على سخافته قد أضل ، وعلى ركاكته قد أزل ، لأن الزلل سابق على سماعه ، والكفر سابق على ابتداعه ، وميدان الجهل واسع ، والحماقة لها أهل ، وميدانها عندهم ، ونحن إذا قلنا أن المشركين ضلوا ، فهم فى عقولهم كانوا أوسع إدراكا ، وإن جحدوا.

انظر ما قال الجهول يحاكى القرآن «والليل الأطخم ، والذئب الأدلم ، والجذع الأزلم ، ما انتهكت أسيد من أحرم» ، لقد قال هذا لفض خلاف وقع فى قوم أصحابه : إنه ليس جديرا بأن يسمى كلاما فضلا عن أن يكون له فصاحة أو بلاغة أو أى نوع من الإدراك البيانى.

وهو يقول فى الحكم فى هذا الخلاف أيضا :

«والليل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس».

وكان يقول : «ضفدع بنت ضفدعين ، نقى ما تنقين ، أعلاك فى الماء وأسفلك فى الطين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها».

وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان ، وكانت تتنبأ ، فاجتمع مسيلمة معها ، فقالت له : ما أوحى إليك قال أوحى إلى «إن الله خلق النساء أفواجا ، وجعل الرجال لهن أزواجا ، فنولج فيهن فقسا إيلاجا ، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا ، فينتجن سخالا نتاجا» فقالت أشهد أنك نبى (٢).

٣١ ـ هذه تفاهات القول التى نقلت عن الذين حاولوا معارضة القرآن. وقد أسفوا فى القول ، وهبطوا فى التفكير ، مما لم يرد أن ينحدر إليه أرباب البيان من قريش ،

__________________

(١) توفى سنة ٤٠٣ ه‍.

(٢) إعجاز القرآن للباقلانى ص ٢٤٠ (طبع دار المعارف تحقيق أحمد صقر).

٥٤

لأنهم يعرفون مقام ما يسمعون من كلام رب العالمين ، استطاعوا أن يجحدوا الحق وقد عرفوه ، ولم يستطيعوا أن ينزلوا بمقامهم من الإدراك البيانى فيفندوا بيانهم وذوقهم الكلامى ، وإن ارتضوا أن يفسدوا عقائدهم ، ويكابروا فى دينهم ، ويكذبوا رسالة ربهم.

وقد يقول قائل : إن التاريخ الإسلامى لم يرو غير الذين صدقوا وآمنوا فحذفوا ما كانت فيه معارضة للقرآن الكريم ، وذلك كلام قيل من الأفاكين ، ويرده أمران :

أولهما ـ أنه ما كان يمكن أن يعم الإيمان ، وثمة معارضون للقرآن فى جد لا لهو فيه ، ولا عبث.

ثانيهما ـ أن أعداء الإسلام كانوا فى كل زمان منذ ظهر محمد إلى أن قبضه الله تعالى ، ودخل الناس فى دين الله تعالى أفواجا أفواجا ، فالزنادقة كانوا منبثين فى مشارق الأرض ومغاربها ، لا يألون المسلمين وبالا ، وكانوا أعداء الإسلام فى أوساط المسلمين وبين ظهرانيهم فبثوا الأفكار المنحرفة ، والأقوال الهادمة ، والمذاهب المخربة ، وأولئك ما كانوا ليستروا الكلام الذى عورض به القرآن ، إذ يرون فيه هدم الأصل ، وأقصى ما استطاع أولئك الزنادقة أن يفعلوه هو أن يدعوا أن عبد الله بن المقفع (١) اتجه إلى أن يكتب كتابا يعارض به القرآن ، وهو إن صح كلامهم فيه يدل على أنه نوى ولم يفعل ، ولو فعل لنظرنا إلى ما أتى به. وإننا نشك فى أصل صحته ، ولكنهم يريدون أن يثيروا الغبار ، والغبار قد يغشى الأعين المريضة ، وإن كان قد أراد هذا فهو دليل على حمقه ، ويثبت زندقته التى اتهم بها ، وأنه أشاع ذلك توهينا ، وإن علم أن المحاولة فوق طاقة البشر.

سر الإعجاز

٣٢ ـ عجز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ثابت ثبوتا لا مجال للريب فيه ، لا يرتاب فيه مؤمن ولا يجحده ، ولا يمارى فيه إلا من يهمل عقله ، ويسقط من حساب المفكرين ، فعلى ذلك تواترت الأخبار ، واتفقت الأمصار ، لا فرق بين عدو وولى.

وإنه واضح من سياق الأخبار المتواترة أن عجزهم اقترن بثلاثة أمور :

أولها ـ إعجابهم بعلوه عن أن يصل إليه أحد من البشر ، ولم يحاول أحد من عقلاء المشركين أن يسف فيحاول المحاكاة إلا من اتصف بالحماقة فكانت حماقته ضعفين أحدهما فى محاولته ، وثانيهما فى نتائج هذه المحاولة ، إذ جاء بلغو من القول لا يحتسب فى عداد الكلام ، فضلا عن أن يناهد أبلغ كلام أنزله الله تعالى فى البشر.

__________________

(١) توفى سنة ١٥٨ ه‍.

٥٥

ولقد سببوا عجزهم بأنه يعلو ولا يعلى عليه ، وأن له حلاوة ، وعليه طلاوة ، وأن أعلاه مثمر ، وأسفله مغدق. وقد قال ذلك المغيرة فى جمعهم فما أنكروا عليه حكمه على القرآن الذى سمعه ، ولكن أنكروا عليه أنه تحت تأثير هذا ترك جماعتهم ، وكأنهم أقروه على الوصف الذى وصف به القرآن ، ولكن أنكروا عليه الإيمان ، وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم كما وصفهم القرآن الكريم.

ثانيها ـ أنهم كانوا مع شركهم ، واستكراه نفوسهم لعدم الإقرار به ينجذبون إليه ، ويريدون أن يسمعوه ، استطابة لما فيه من لفظ ذى نغم يجذب وعبارات مشرقة ونظم منفرد أجمل من سمط اللآلئ ، ولأنهم عرفوا ميلهم إلى استماعه ، وأثره فى نفوسهم ، تواصوا ألا يسمعوه ، وأن يلغوا عند سماعه ، ولكن الذين تواصوا ذلك التواصى ذهب كل واحد منهم منفردا ، ولكن الاستخفاء استعلن ، عند ما التقوا جميعا ، ورأوا أنفسهم مجتمعين ، وليس كل منهم منفردا ، وقد علموا أن التواصى على عدم الاستماع لا جدوى فيه ، فتواصوا على الجحود والإنكار ، فلم يكن تواصيهم على الحق ، ولكن كان على الباطل.

ثالثها ـ أن أشدهم عنادا كان أقربهم إيمانا إذا قرئ القرآن صغى قلبه إلى الإيمان ، وإلى الاستجابة لداعيه ، فقد سمع أبو ذر الغفارى القرآن ، فآمن ، وسمعه أخوه أنيس فأذعن لعلو بلاغته عن مستوى البشر ، وسمعه جبير بن مطعم فآمن ، وقرأه عمر ابن الخطاب فانخلع قلبه من الشرك وطغيانه إلى الإيمان ، وأن يكون فاروق الإسلام الذى كان إيمانه فارقا بين الاستخفاء والإعلان ، بين ظهور الحق وخفوته.

إن هذه الأمور التى اقترنت بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله دلت على أمرين بدهيين.

أولهما ـ أن الأساس فى عجزهم هو ما فيه من بلاغة ورنة قول ، ونغمة بيان أدركوها بذوقهم البيانى ، وهم الذين يذوقون بأسماعهم ، كما يذوق الإنسان الطعام بفمه ، وأنه لم يكن عجزهم سلبيا ، بل كان من كثيرين منهم إيجابيا يتبعه العمل ويقترن بالإيمان بأنه من عند الله تعالى ، أى أن وجه الإعجاز فيه أمر ذاتى فيه ، وليس منعا سلبيا.

الأمر الثانى ـ الذى تدل عليه هذه الأمور التى اقترنت بالعجز عن محاكاته ، هو أن القرآن من بيانه العالى الذى لا يعالى ، فيه من العلوم ما لم يكونوا يعرفونه ، فيه الشرائع المحكمة التى تنظم العلاقات بين الآحاد الأقربين وغيرهم ، فيه علم الميراث ، وفيه علم الأحكام المختصة بالأسر ، وفيه بيان خلق الإنسان من سلالة من طين ، وفيه توجيه النظر إلى الكون وما يشتمل عليه ، وفيه من الحقائق ما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ، الذى خلق فسوى ، والذى أحاط بكل شىء علما.

٥٦

وفيه القصص والعبرة ، وما كانوا يعلمون شيئا من ذلك من قبله. فيه قصة أبى الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام ، وقصة بناء الكعبة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) [البقرة : ١٢٧] ، وفيه أنباء البلاد العربية التى تعلن آثار الأقوام عما أنزله الله تعالى بهم ، وفيه قصة موسى عليه‌السلام ، وفيه قصة مريم ، وتربيتها ، وكيف اختصموا فى كفالتها ، وكيف يستخدمون القرعة بالسهام لتكون كفالتها لمن تكون السهام له : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤) [آل عمران : ٤٤].

قرءوا ذلك وسمعوه ، فكان العجز لهذه الأمور الذاتية ، لا لأمور أخرى ليست من القرآن.

الصرفة

٣٣ ـ عرف العرب أنهم عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن ، وعللوا عجزهم بما استرعاهم ما فيه من حلاوة اللفظ ، وطلاوة المعنى والتركيب ، وعمق ما اشتمل حتى إنه مغدق فى جذوره كلما تكشف القارئ عن عمقه رأى ما لا يصل إليه البشر ، وكلما اتجه إلى أعلاه وجد ثمرا شهيا.

هذا أمر ظاهر ، ولكن الفلسفة التى تسيطر على عقول بعض الناس ، ولا تكون فيها ثمرة ناضجة قد يتجهون بها إلى كل ما يرونه بديئا فى التفكير سواء أكان متصلا بالحق المجرد أم لم يكن متصلا ، وسواء أكان متفقا مع الإيمان والواقع أم لم يكن ، بل إن المتفلسفين ربما اتجهوا إلى الفكرة ، لا لأصالتها ، ولكن لغرابتها ، ولا لأنها لا بد منها لتحقيق الحق وإبطال الباطل ، ولكن للترف العقلى ، لا يفرقون بين أمر يتصل بالإيمان وأمر لا صلة له بالإيمان.

وإن بعض المتفلسفين من علماء المسلمين اطلعوا على أقوال البراهمة فى كتابهم «الفيدا» وهو الذى يشتمل على مجموعة من الأشعار ليس فى كلام الناس ما يماثلها فى زعمهم ، ويقول جمهور علمائهم أن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها ، لأن براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها.

يقول فى ذلك أبو الريحان (١) البيرونى فى كتابه «ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة» ما نصه :

«إن خاصتهم يقولون أن فى مقدورهم أن يأتوا بأمثالها ، ولكنهم ممنوعون من ذلك احتراما لها».

__________________

(١) توفى سنة ٤٣٠ ه‍.

٥٧

ولم يبين البيرونى وجه المنع ، أهو منع تكليفى يسبقه الإيمان بهذه الكتب وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواح أخرى ، أم هو منع تكوينى بمعنى أن براهما صرفهم بمقتضى التكوين عن أن يأتوا بمثلها ، والأخير هو الظاهر لأنه هو الذى يتفق مع قول جمهور علمائهم ، وما اشتهروا من أن القول بالصرفة نبع فى واديهم.

٣٤ ـ وعند ما دخلت الأفكار الهندية فى عهد أبى جعفر (١) المنصور ، ومن والاه من حكام بنى العباس ، تلقف الذين يحبون كل وافد من الأفكار ويركنون إلى الاستغراب فى أقوالهم فدفعتهم الفلسفة إلى أن يعتنقوا ذلك القول ، ويطبقوه على القرآن ، وإن كان لا ينطبق ، فقال قائلهم : إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن ما كان عجزهم لأمر ذاتى من ألفاظه ومعانيه ونسجه ونظمه ، بل كان لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله.

وإن رواج تلك الفكرة يؤدى إلى أمرين : أولهما ـ أن القرآن الكريم ليس فى درجة من البلاغة والفصاحة تمنع محاكاته ، وتعجز القدرة البشرية عن أن تأتى بمثله ، فالعجز ليس من صفات القرآن الذاتية.

وثانيهما ـ الحكم بأنه ككلام الناس لا يزيد عليه شىء فى بلاغته ، أو فى معانيه.

وإن مذهب الصرفة قد وجد من يقوله من علماء الفلسفة الكلامية وغيرها ، بل وجد من يقوله من بين الذين أنكروا الرأى فى الفقه ، وهو مع جموده فى الفقه ، من أبلغ الكتاب والشعراء.

ولنترك الكلمة للباقلانى المتوفى سنة ٤٠٣ ه‍ فى كتابه إعجاز القرآن ، قال رضى الله تبارك وتعالى عنه :

«فإن قيل فلم زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرفهم فى أجناس الفصاحات ، وهلا قلتم أن من قدر على جميع هذه الوجوه بوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادرا ، وإنما يصرفه عنه ضرب من الصرف ، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرب من المنع ، أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله تعالى من الدلالة ، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة ، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما ، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى ، وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة» (٢).

__________________

(١) ثانى خلفاء بنى العباس توفى سنة ١٥٦ ه‍.

(٢) إعجاز القرآن للباقلانى ص ٤١ (طبع دار المعارف).

٥٨

ونرى من هذا أن القائلين بهذا القول يشككون فى مرتبة القرآن وكونه من عند الله تعالى من غير أن يقدموا دليلا ، بل إن القصد الذى يبدو من لحن القول والدعوى هو التشكيك المجرد فى علو البلاغة القرآنية ، ومن وراء ذلك التشكيك ما يريدون من توهين ثم دعاوى بأنه من صنع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهكذا يسير الخط من احتمالات تنافى الواقع إلى توهين لأمر القرآن ، إلى ادعاء أنه ليس من عند الله.

٣٥ ـ وإن القول بالصرفة نبت أول ما نبت فى رواق الفلسفة الكلامية ، قاله شيخ من شيوخهم ، وهو إبراهيم بن يسار الشهير بالنظام المتوفى سنة ٢٢٤ ه‍. فهو أول من جاهر به ، وأعلنه ودعا إليه ، ولا حى عنه كأنه مسألة من مسائل علم الكلام ، ونقول أنه أول من جهر به ولا نقول أنه أول من فكر فيه ، أو أول من ابتدأ القول به ، لأن الأفكار لا يعرف ابتداؤها وهى تتكون فى خلاياها ، بل لا تعرف إلا بعد أن تظهر ، ويجاهر بها.

جاهر بها ، وكان ذا فصح وبيان وحجة وبرهان ، وإن لم يكن مستقيم الفكر ، بل إنه يظن الظن ، فيحسبه يقينا ثم يبنى عليه ويقايس ، ويصحح القياس والتنظير بين الأشياء ، بينما الأصل ذاته يحتاج إلى قياس صحيح.

ولقد نقده تلميذه الجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥ ه‍ الذى كان معجبا بشخصه ، غير آخذ برأيه ، وقال فيه ذاكرا عيبه :

«إنما عيبه الذى لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسه على العارض والخاطر ، والسابق الذى لا يوثق بمثله ، فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذى قاس عليه ، كان أمره على الخلاف ، ولكنه كان يظن الظن ثم يقيس عليه ، وينسى أن بدء أمره كان ظنا ، فإذا أتقن ذلك وأيقن جزم عليه ، وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر فى صحة معناه ، ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت ، وكأن كلامه خرج مخرج الشهادة القاطعة فلم يشك السامع أنه إنما حكاه عن سماع قد امتحنه ، أو عن معاينة قد بهرته».

لم يوافق التلميذ أستاذه ، لم يوافق الجاحظ شيخ الكتاب المسلمين وأكبر ناقد بين الناقدين شيخه ، وإذا كان إبراهيم بن يسار قد اشتهر بالبيان وسرعة الجواب ولسن القول ، فقد اشتهر الجاحظ بأنه ذواق الكلام وصير فى البيان ، فإن خالف من يتسرع فى الخبر ، ويبنى عليه ، فهى مخالفة الخبير العارف بتصريف القول ، وأفانين التعبير والتفكير.

ولم يكن رد الجاحظ على شيخه رد المجادل المحاور ، ولكنه كان بالعمل. فقد كان أول من كتب فى إعجاز القرآن من الناحية البيانية ، ليكون الرد على الصرفة ببيان الإعجاز الذاتى.

٥٩

ولقد أشار إلى رد الجاحظ الذين كتبوا فى الإعجاز ومنهم الباقلانى ، وممن نسب إليه القول بالصرفة الشريف المرتضى من الشيعة ، وفسر الصرفة بأن الله تعالى سلبهم العلوم التى يحتاج إليها فى معارضة القرآن والإتيان بمثله. ومؤدى كلامه أنهم أوتوا المقدرة على المعارضة بما كانوا عليه من بيان وبلاغة وفصاحة ، فهم قادرون على النظم ، والعبارات ، ولكن ليست عندهم المقدرة بسبب أنهم لم يعطوا العلم الذى يستطيعون به محاكاة القرآن فى معناه.

وإن هذا القول ينافيه أن الله سبحانه وتعالى طالب بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات وأعفاهم من أن يكون كلامهم مشتملا على ما فى القرآن من علم ، واقتصر على التحدى بالنظم والعبارة واللفظ.

فهذا القول نوع من الصرفة ، ونفى للإعجاز الذاتى ، ويختلف مع ما اشتمل عليه القرآن.

وممن قالوا بالصرفة الفقيه البليغ العنيف المتشدد ابن حزم (١) الأندلسى. فقد قال فى كتاب الفصل فى سبب الإعجاز : «لم يقل أحد أن كلام غير الله تعالى معجز ، لكن لما قاله الله تعالى ، وجعله كلاما له ، أصاره معجزا ، ومنع من مماثلته» ثم قال : وهذا برهان كان لا يحتاج إلى غيره.

وإن ذلك الكلام يبدو بادى الرأى غريبا من ابن حزم ، ولكن المتأمل فيه يجده سائر على مذهبه فى نفى الرأى والحكم بظاهر القول من غير تعليل ، فالاتجاه إلى تعليل الإعجاز بأن السبب فيه بلاغته التى علت عن طاقة العرب ، والتى جعلتهم يخرون صاغرين بين يديه من غير مراء ولا جدال يعد تعليلا ، وهو من باب الرأى الذى ينفيه ، والتعليل الذى يجافيه ، فلا بد أن يبحث عن سبب غير ما ذكر الله تعالى.

٣٦ ـ وإننا نرى أنه بعد كلام النظام صارت فكرة الإعجاز بالصرفة مجال اختلاف بين العلماء ما بين مقرر لها ومستنكر. وقد آن لنا أن نبين بطلان هذه الفكرة من أساسها ، وإن دلائل البطلان قائمة ثابتة مأخوذة من الوقائع التاريخية والموازنات الحقيقية الثابتة.

(أ) منها ، ما ذكرنا من قبل أن العرب عند ما تلقوا القرآن راعهم بيانه ، وأثار إعجابهم أسلوبه وعباراته ، وقالوا : ما رأينا مثله شعرا ولا نثرا ، فكان العجز لذاته ، لا لشىء خارج عنه ، وما لنا نفترض ما لم يقولوا وما لم يفعلوا ، وما لم يقدروا ، إلا أن يكون ذلك تمويها ، وإنكارا للواقع المستقر ، بفرض وهمى.

__________________

(١) توفى سنة ٤٥٦ ه‍.

٦٠