المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

وقالت طائفة أخرى ، وعلى رأسهم عبد الله بن مسعود أنها تعتد بوضع الحمل ، آخذا بعموم اللفظ (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) لأنه يشمل المتوفى عنها زوجها الحامل ، كما يشمل المطلقة.

واجتماع فقهاء الصحابة على رأى فقهى يكون حجة ، وكذلك إذا لم يرد عنهم فى تفسير الآية التى تتعلق بالحلال والحرام إلا رأى واحد ، وإذا اختلفوا جاز للفقهاء المحبذين أن يختاروا من آرائهم ، ولا يخرجون عنها.

٢٤٩ ـ وإن الموضوعات التى أثرت عن الصحابة آراء فيها مختلفة من حيث قوة الأخذ برأى الصحابى فيها.

وأولها ما يتعلق بالحلال والحرام ، وقد علمت القول فيه ، إذا كان مبناه الرأى ، والقبول المطلق إذا لم يكن للرأى فيه مجال.

ومهما يكن الأمر بالنسبة لآيات الأحكام ، فإن أقوال الصحابة وأعمالهم تتبع فى فهم الآيات الخاصة بالحروب والصلح ، والمعاهدات والأمان ، وأحكام الذميين والمستأمنين ، وجمع الغنائم وتوزيعها ، وفرض الخراج والجزية.

وكان عهد الفاروق عمر رضى الله عنه عهدا خصبا لبيان الأحكام الشرعية فقررت فيه المبادئ الإسلامية المستفادة من القرآن ، وتعد معينا لفقهاء استقوا منه آراءهم فى نظم العلاقة الدولية بين المسلمين وغيرهم فى السلم والحرب ، وقد استقاها هو من فهمه لكتاب الله تعالى ، وإدراكه لمراميه.

ولذلك نجد كتب السير أخذت من ذلك المعين ، فكتاب الخراج للإمام أبى يوسف ، الأصل الذى اعتمد عليه هو عمل عمر رضى الله عنه الذى نفذ ويفهمه من القرآن الكريم.

وكذلك الإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى كتابه «السير الكبير» قد أخذ أكثره من عمل الصحابة ، وخصوصا عمل عمر الذى استنبطه من القرآن الكريم. ويعد كتاب «السير الكبير» أول كتاب ألف فى القانون الدولى الذى يقوم على قواعد العدل والرحمة ، والكرامة الإنسانية ، كذلك كتاب السير للأوزاعى ، وغيره من الكتب كان اعتمادها على ما عمل به الصحابة آخذين ذلك من فهمهم لمرامى القرآن الكريم.

ومن الموضوعات التى أثر عن الصحابة أقوال فيها فى تفسير وفهم معانيه آيات القصص فى القرآن الكريم ، وليس المروى عنهم فى ذلك كثيرا ، والصحيح النسبة إليهم رضى الله عنهم قدر ضئيل.

وذلك لأنهم ما كانوا يعنون إلا بما له أثر عملى يتعلق بالحلال والحرام ، وما له أثر فى أعمالهم ، وتنظيم جماعتهم وإقامة الحق والعدل فى الأرض.

٤٠١

وكانوا يعتمدون فى فهم القصص القرآنى على السنة الصحيحة ، وعلى تفسير القرآن نفسه بعضه لبعض وكانوا يكتفون بما جاء فى القرآن والسنة ، ولا يزيدون عليه ، لأنه هو الصحيح ، ولا يحاولون أن يعرفوا ما عداه.

ولكن لما دخل فى الإسلام اليهود والنصارى ، وبثوا فى المسلمين ما عندهم من قصص وأساطير ، وجد بين المسلمين من يعنى بالقصص غير مقتصر على القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وظهر ذلك فى آخر عصر الخلفاء الراشدين ، ولم ينظر الصحابة إلى ذلك نظرة راضية أو متغاضية ، بل نظروا إليه نظرة غير متساهلة ، لما قد يجر إليه من نشر أساطير ما أنزلها الله ، وربما أوجدت غياما على معانيه.

لقد ظهرت فى آخر عصر الصحابة طائفة من التابعين سموا القصاص ، وقد جاء على رضى الله عنه وكرم وجهه ، وأخرج أولئك القصاص من مسجد الكوفة ، وكانوا قد انتشروا فى العراق ، فكان رضى الله عنه يمنعهم إلا إذا التزموا فى قصصهم ما اشتمل عليه القرآن ، وما صح فى السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

ويروى أنه دخل المسجد ، فأخرج كل من فيه من القصاص ، ووقف عند الحسن البصرى ، فرآه لم يخرج فى قصصه عن القرآن ، والدعوة إلى هدايته.

ومن الموضوعات التى أثر عن الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم كلام فى الكونيات التى اشتمل عليها القرآن الكريم ، وعده الرواة الذين نسبوه إليهم تفسيرا للآيات الكونية ، ونقول فيه أنه لا يؤخذ به على أنه حجة إلا إذا كان صريح كلام الله تعالى ، أو قد ثبت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بسند قطعى ، أما ما يقال فيما عدا ذلك مما يتصل بالكون ، وخلق الله تعالى ، فإن خالف علما قطعيا لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالكون ، فإنه يرد إلى صاحبه.

التابعون والإسرائيليات :

٢٥٠ ـ التابعون هم تلاميذ الصحابة الذين نقلوا إلى الأخلاف أقوالهم فى التفسير ، وإن ما ذكر على أنه أقوال للتابعين عن الصحابة فيما يتعلق بالأحكام الفقهية مقبول النقل ، ويعتبر نقلهم عن الصحابة حجة عند أكثر الفقهاء على ما قررنا فى اعتبار أقوال الصحابة حجة.

ولكن التابعين إذا قالوا فى الحلال والحرام مفسرين للقرآن برأيهم ، فإنا إذا استثنينا أحمد بن حنبل وبعض المالكية ، فإن باقى الأئمة لا يعتبرون قولهم حجة فى ذاته ، إنما يكون ما أيده من دليل هو الحجة ، ويقول فيهم أبو حنيفة : إذا آل الأمر إلى الحسن وإبراهيم ، فهم رجال ونحن رجال.

٤٠٢

ولكن الكلام فى القصص والكونيات ، وبعض ما يتعلق بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم دخله الإسرائيليات ، وكثرت فى كتب التفسير وتجاوزت الحد ، ورد بعض التابعين كثيرا من الإسرائيليات.

بل إن بعض الصحابة نقل عن الإسرائيليين ، فإنه يروى أن عبد الله بن عمرو بن العاص أصاب فى واقعة اليرموك حمل زاملتين من كتب أهل الكتاب (١).

ولا يمكن أن يكون كل ما فى هذه الحمولة صحيحا عن أهل الكتاب الذين تمسكوا بالتوراة أو الإنجيل من بعدها ، ولا نعلم على وجه اليقين أكان ابن عمرو بن العاص لا يختار منها إلا ما يوافق الكتاب والسنة الصحيحة ، أم كان يتجاوزها إلى ما يناقضها ، أم يسير وراء ذلك.

ولكن من المؤكد أن ما فى الزاملتين لا بد أن تناقله التابعون ، وليسوا جميعا ممن يلتزمون ، ولا يسرفون فلا يمكن أن نقرر سلامة ما يأخذون.

ولقد توقف العلماء فى قبول الإسرائيليات التى راجت حول التفسير فى قبولها ، وقد قسموها إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول ما علم صدقه ، لأن القرآن يوافقه ، ولا تجافيه ألفاظه المحكمة ، أو لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم نقل عنه بسند صحيح ما يوافقه ، وهذا بلا شك لا يكذب ، ولكن لا نجد فيه غناء عن السنة ، ولا نجده يسد حاجة وخللا لو لم يوجد لا تسد ، ولذلك نرى الأولى ألا يلتفت إليه ، لأن السنة والقرآن يغنيان ، وسدا للذريعة لا يعتمد عليه ، لأن قبول بعض المروى عن اليهود الذى لا زيف فيه ، يسهل قبول الزيف ، وهو الأكثر ، وهو الذى تعمدوا به أن يفسدوا علينا أمر ديننا ، وإذا كانوا لا يستطيعون تحريف القول فيه عن مواضعه ، فإنهم يجدون فى التفسير طريقا لإفساد العقول حول معانى القرآن الكريم.

القسم الثانى : ما ثبت كذبه بيقين ، وهو ما يناقض معانى القرآن الكريم ، ويخالف الصحيح المتواتر من السنة ، أو يخالف منطق الإسلام ، وإن هذا يرد بالاتفاق. وإن المستقرئ لكتب التفسير المشتملة على الإسرائيليات يرى أن أكثر ما دس فيها من هذا القبيل.

القسم الثالث : الذى لا يأتى بما يخالف النصوص القرآنية ، ولا الأحاديث النبوية ، ولكنه فى جملته أخبار تحتمل الصدق والكذب ، ويقول ابن تيمية فى هذا القسم : لا نؤمن به ولا يمكن أن يكون فيه فائدة إسلامية ، ومن ذلك ما يذكرون حول أسماء أهل الكهف ، ولون كلبهم ، ومن ذلك أيضا وصف عصا موسى (٢).

__________________

(١) مقدمة التفسير لابن تيمية ص ٦٢ طبعة دمشق سنة ١٩٢٦.

(٢) رسالة مقدمة التفسير المذكورة.

٤٠٣

تفسير القرآن بالرأى

٢٥١ ـ ذكرنا من مصادر التفسير : اللغة ، والسنة ، والصحابة مع تلاميذهم التابعين ، وما دخل عصر التابعين من إسرائيليات دخلت التفسير وتناقلتها كتبه مع تمحيص أحيانا ، وسكوت فى كثير من الأحيان.

والمرتبة الرابعة فى التفسير تفسير القرآن الكريم بالرأى ، أى بالنظر المجرد الذى لا يخالف اللغة ، بل يستعين بمناهجها ، ولا يخالف السنة بل يعتمد على الصحيح من أسانيدها إن صحت عنده ، ولا يناقض تفسير الصحابة المأثور ، ولا أسباب النزول التى صحت بسند صحيح.

والتفسير بالرأى على هذا النحو تضاربت فيه أقوال العلماء ، فبعضهم توقف ، ومنع أن يفسر القرآن بالرأى ، بل لا بد لبيانه من علم السنة ، ومنه علم الصحابة ، وما يجتمع عليه التابعون.

وقد ناصر ذلك الرأى وشدد فى التمسك به شيخ الإسلام ابن تيمية ، فهو يقول : «أما تفسير القرآن بالرأى فحرام».

ويستدل على ذلك بأخبار منسوبة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأخبار عن الصحابة رضى الله تعالى عنهم :

(أ) ومن ذلك ما روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «من قال فى القرآن بغير علم ، فليتبوأ مقعده من النار».

ويعد ابن تيمية أن من يفسر القرآن برأيه يقول بغير علم ، ونحن نقول أن الحديث خاص بمن لم يؤت أدوات التفسير من علم باللغة ، ومصادر الشريعة ومواردها ومرامى الإسلام وغاياته ، والعلم بأساليب البيان ، والعلم بجملة المأثور عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، فهو الذى يقول بغير علم ، أما من أوتى علم اللغة والبيان وعلم الآثار وعلم الإسلام فإنه إذا قال فى التفسير معتمدا على رأيه إن لم يكن نص يعارضه ، فإن الخبر لا ينطق عليه.

(ب) ومن ذلك أيضا ما روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «من أخذ فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».

ولقد قال الترمذى فيه أنه غريب ، وقد تكلموا فى بعض رواته ، فليس سنده سليما ، ومتنه غريب.

(ج) ومن ذلك ما يروى عن كبار الصحابة من نهيهم عن القول فى القرآن إلا إذا كانت سنة صحيحة يستأنسون بها ، ورميهم بالتكلف من يحاول علم كل ما فى القرآن ،

٤٠٤

ومن ذلك ما روينا عن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال : (أى أرض تقلنى ، وأى سماء تظلنى إذا قلت فى القرآن ما لم أعلم). وقد روى عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (كنا عند عمر بن الخطاب وفى ظهر قميصه أربع رقاع ، فقرأ «وفاكهة أبا» فسأل بعض الحاضرين «ما الأب» ثم عدل عن السؤال وقال إن هذا هو التكلف فما عليك ألا تدريه).

وإن الناظر إلى ما روى مستندا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعضه ضعيف لا يصلح أن يكون حجة ، وبعضه لا يدل على منع الاجتهاد بالرأى فى فهم القرآن إن لم تكن سنة مسعفة ، وما روى عن أبى بكر إنما يدل على أن الممنوع أن يقول فى القرآن بغير علم ، وعمر رضى الله تبارك وتعالى عنه أراد أن يضرب الأمثال للناس بأن يبين لهم أن القرآن بحر عظيم عميق مملوء بالمعانى ، فلا يصح لأحد أن يدعى أنه تقصاه وعرف أطرافه ، وخشى أن يظن أحد أنه يحاول ذلك عند ما سأل عن معنى كلمة (الأبّ) فعدل عن السؤال.

ونحن لا نرى فيما ساقه ابن تيمية جزاه الله تعالى عن الإسلام خيرا ما يدل على المنع ، ولكن يدل على وجوب الاحتياط فى فهم القرآن ، وأن يكون بين يديه من دلائل العلم وبيناته ما يجعله يقول عن بينة ، ولا ينطبق عليه النهى فى قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦].

وإذا كان ابن تيمية قد عد التفسير بالرأى منهجا مهجورا أو يجب أن يهجر ، فعلى أى شىء اعتمد! إنه اعتمد على أربعة مصادر :

أولها ـ القرآن إذ إن القرآن يفسر بعضه بعضا ، فهو يبين أحيانا فى موضع ما أجمله فى موضع آخر ، ويوضح أحيانا فى موضع ما يبدو بادى الرأى أنه مبهم فى موضع آخر ، ويجمع آيات القرآن إذا تصدت لموضوع واحد يستطيع القارئ المتفهم أن يفهم بعض القرآن ببعضه.

وإن ذلك بلا شك نوع من الرأى والاجتهاد ، ولكن ابن تيمية لا يمنعه بل يوجبه كخطوة أولى.

وثانيها ـ السنة ، إذا لم يستطع القارئ أن يفهم القرآن من القرآن ، فإنه يتجه إلى السنة كما أسلفنا تحقيقا لقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤]. وقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم : «ألا إنى أوتيت علم الكتاب وأوتيت مثله معه».

وثالثها ـ ما قاله الصحابة فى تفسير القرآن ، كما ذكرنا من الأسباب فى موضعه ، وقد روى أن عبد الله بن مسعود قال : «والله الذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت».

٤٠٥

ورابعها ـ أقوال التابعين فى التفسير بتعرف ما قالوه نقلا عن الصحابة.

وتتعرف فى هذا ـ السنة بكل طرائقها ، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو المبلغ للرسالة والمفسر للقرآن لا يمكن أن يترك شيئا من القرآن قابلا للبيان ، ولم يبينه.

٢٥٢ ـ هذا منهاج المتوقفين الذين يرون أن تفسير القرآن بالرأى غير جائز ، وإنما يعتمد فى بيان القرآن على السمع وحده ، إما عن الرسول أو عن صحابته أو عن تلاميذهم ، وإن الخروج عن هذه الدائرة خلع للربقة ، وتهجم على القرآن الكريم بغير علم ، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يترك القرآن من غير بيان.

وإن هذا الكلام ينطبق كل الانطباق على الذين لا يعرفون أن السنة بيان للقرآن ولا يأخذون به بل يتركونه. وإن مثلهم فى هذا كمثل الذين يعرفون الحكم الشرعى الثابت بالسنة ، ويتركونه نسيا منسيا.

وإنه فى آيات الأحكام يجب الاتجاه إلى السنة ابتداء ولا يتجه إلى غيرها إلا على ضوء منها وتعرف لمرامى الأحكام ، وغاياتها منها ، وإذا كان ثمة رأى فعلى ضوئها وبقبس من نورها.

وإن الذين أخذوا فى تفسير القرآن بالرأى فى مقابل الذين توقفوا سلكوا مسلك الفقهاء الذين أخذوا بالقياس. إن لم يجدوا فى الموضوع نصا ، فهم لا يتركون السنة ، ولكن يأخذون بالرأى إذا لم يجدوا سنة مفسرة ، وهم لا يقتصرون على الأخذ فى غير موضع السنة ، بل إنهم عند وجود السنة لا يناقضونها ، ولا يغايرونها ، بل يأخذون بها ويسيرون فيما وراء ما ثبت بالسنة إلى ما تدل عليه الألفاظ من إشارات بيانية ، ويحاولون أن يتعرفوا من وراء ذلك الأسرار البلاغية فى القرآن الكريم.

ولذلك كان هذا المسلك مسلك الذين حاولوا تعرف إعجاز القرآن ، وعلى رأسهم الإمام جار الله الزمخشرى ومن قبله كان الإمام الطبرى عند ما كان يبدى رأيه بعد أن يسرد من الروايات الصحيح والسقيم.

والإمام حجة الإسلام الغزالى كان ممن سلكوا ذلك المنهاج ، وأثبت بالأدلة العلمية أن التفسير بالرأى من غير مناقضة للسنة ، جائز ، ويستدل على ذلك :

أولا ـ بأن القرآن فيه كل علوم الدين ، بعضها بطريق الإشارة ، وبعضها بالإجمال ، وبعضها بالتفصيل الذى يفتح الباب للفكر المستقيم ، والاستبصار فى حقائقه ، وذلك لا يكفى فيه الوقوف عند ظواهر الآيات ، ولا ظواهر أقوال السلف ، بل لا بد من التعمق من غير تكلف ، واستخراج المعانى ما دامت لا تخالف المأثور ، وهناك أمور وراء المأثور ، يسير المفسر على ضوء المأثور ، ولقد قال عبد الله بن

٤٠٦

مسعود : «من أراد علم الأولين والآخرين ، فليتدبر القرآن» وإن ذلك لا يكون بغير التعمق فى الفهم ، من غير تكلف ، وتعرف الغايات بالإشارة والمرامى.

وثانيا ـ أن القرآن الكريم فيه بيان صفاته تعالى وأفعاله ، وذكر ذاته القدسية ، وأسمائه الحسنى ، وإن فهم ذلك مع التنزيه عن المشابهة للحوادث يحتاج إلى تدبر وفهم من غير الوقوف عند الظواهر ، وجمع بين المؤتلف ونفى للقول المختلف.

ثالثا ـ أنه قد وردت الآثار تدعو إلى الفهم والتدبر فى معانى القرآن ، فقد قال كرم الله وجهه : «من فهم القرآن فسر به جمل العلم ، وذلك لا يكون إلا بالتعمق فى الفهم».

ورابعا ـ أن عبارات القرآن الكريم تدعو إلى التعمق فى الفهم ، فقد قال تعالى :

(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] ويقول مفسرو السلف : إن الحكمة هى فهم القرآن ، وإذا كان الله تعالى قد وصف فهم القرآن بأنه خير كثير ، فإنه سبحانه وتعالى يدعو القادر على إدراك هذه الحكمة لينال من علمها خيرا كثيرا.

وخامسا ـ أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، دعا لابن عباس رضى الله تعالى عنهما بالفقه فى القرآن ، فقال عليه الصلاة والسلام : «اللهم فقهه فى الدين ، وعلمه التأويل» وليس التأويل إلا التفسير العميق الذى يتعرف به القارئ ما وراء العبادات من معان دقيقة عميقة ، ولو كان كل علم التفسير مأثورا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لقال عليه الصلاة والسلام : «اللهم علمه التأويل».

وإن الغزالى لا يكتفى بسوق ما تؤدى إليه الأدلة من جواز التفسير بالرأى ، بل يتجاوز فيقول : إن المأثور من التفسير بالسنة قليل لا يشمل القرآن كله ، ويذكر أن ما يؤثر عن الصحابة فى التفسير ، إنما هو رأيهم ، وعلينا أن نتبعهم بإحسان ، فنجتهد فى تفسير القرآن مثل اجتهادهم من غير معارضة ، ولا مناقضة.

ثم إن الصحابة فيما بينهم قد اختلفوا ، وكذلك التابعون من بعدهم واختلافهم دليل على أن بعض هذه الأقوال بالرأى لا محالة ، ويجوز أن يكون بعضها بالسمع ، ولكنه غير معروف ، ولو كان واجبنا أن نختار من أقوالهم عند اختلافهم ، فالاختيار أساسه الترجيح بالرأى بقبول بعضها ورد بعضها ، وذلك فى ذاته أشد من الأخذ بالرأى ابتداء ما دام غير معارض للمأثور.

٢٥٣ ـ هذا ما ساقه الغزالى من أدلة فى جواز الفهم بالرأى الذى لا يعارض السنة ولا يتزيد عليها بما يخالفها. وإن أدلته مستقيمة منتجة لما يقول ، بيد أن قوله أن المأثور عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى التفسير محدود وقليل ، إنما هو فى غير الحلال والحرام ، أما ما يتعلق بتفسير القرآن فى الحلال والحرام ، فإن ما ورد عن

٤٠٧

النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى ذلك كثير وليس قليلا ، لأنه بيان الشريعة ، وتبليغ رسالة الله ، إذ إن التكليفات لا بد أن يبينها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا يتركنا إلا وقد بين ما يجب على المكلفين فعله ، وما يجب عليهم تركه ، إما بالنص عليه ، وإما بذكر ما يدل على أصل الشرع الذى يقاس عليه ، وتناط به الأحكام ، وتقام عليه مصالح الأنام ، وأحاديث الأحكام أكثرها فى تفسير الآيات المتعلقة بالأحكام ، وأكثر الأحاديث المروية فى هذا المقام ثابتة بسند صحيح تبنى عليه الأحكام بالتحليل والتحريم.

٢٥٤ ـ والغزالى وغيره من العلماء الذين سوغوا تفسير القرآن بالرأى ، بل إن عبارتهم تومئ بوجوبه فى غير موضع الأثر المروى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بسند صحيح ، هؤلاء قد منعوا التفسير بالرأى فى موضعين يكون الرأى فيهما مذموما :

أول هذين الموضعين أن يفسر القرآن بهواه ، أو أن يحاول حمل الآيات على مذهبه أو رأيه بأن يكون له فى موضوع الآية رأى معين ، وله ميل له بطبعه ، فيتأول القرآن على وفق رأيه ليحتج به ، ولو لم يكن له ذلك المذهب ما كان يظهر له ذلك التفسير ، وإنه ليتجه ذلك الاتجاه ، ويؤول ظاهر الآية لتساير مذهبه ، وينزلها عن علياء بيانها إلى حيث رأيه.

وأحيانا يفعل ذلك غير قاصد حمل الآية على مقتضى رأيه ، ولكن امتلاء عقله وقلبه بهذا الرأى يجعله يتجه إليه غير قاصد مجرد ترجيح مخيلته ، ويلبس عليه الأمر فيظن ما قاله ظاهرا ، وما هو بظاهر.

فهذا بلا ريب تفسير بالرأى مذموم ، ويكون من المنهى عنه ، لأن القرآن الكريم فوق الآراء والمذاهب وليس خاضعا لها.

وإنه من نوع تفسير القرآن بالهوى لا بالرأى المبنى على النظر الخالص لوجه الحقيقة.

الموضع الثانى ـ الذى يكون فيه التفسير بالرأى مذموما ـ يكون فى المسارعة إلى تفسير القرآن بظواهر الآيات ، والاقتصار على هذه الظواهر من غير تعرف للمنقول فى موضوعها ، ومن غير مقابلة الآيات بعضها ببعض ، ومن غير تعرف للعرف الإسلامى الذى خصص بعض الألفاظ العربية ، ومن غير علم دقيق بأساليب الاستنباط من القرآن من حمل المطلق على المقيد ، والعام على الخاص ، ومن غير إدراك مواضع الإضمار والحذف والتقديم والتأخير. وغير ذلك من الأساليب البيانية القرآنية المعجزة.

٤٠٨

فإن ذلك يكون مذموما ، لأنه تفسير بالرأى من غير إدراك لمعانى الألفاظ فى عرف الإسلام ، وبغير مؤهلات ، واجتهاد فى الفهم من غير التسلح بأدواته ، وحينئذ يكون الخطأ ، ويكون السقط.

فهذان هما الموضعان اللذان يذم الرأى فيهما.

وفى الحق أن هذا ليس تفسيرا بالرأى المجرد ، إنما هو من الهوى أو التهجم ، والتهجم على ما لا يحسن ، والعمل فيما لا يتقن ، وذلك قبيح فى كل شىء.

الظاهر والباطن

٢٥٥ ـ يدعى بعض فرق الشيعة أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، وأن الباطن له باطن حتى يصل العدد إلى سبعة بواطن ، وأن معرفة القرآن معرفة صحيحة كاملة لا تكون إلا بمعرفة هذه البواطن ، وليس علمها عند كل إنسان ، بل أوتى العلم بالبواطن كلها الإمام المعصوم ، والأصل أن علم هذه البواطن كلها كان عند النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أودعها من بعده على بن أبى طالب ، وعلى أودعها عند موته الإمام من بعده ، وهكذا توالت النفوس فى أخذ هذه الوديعة إماما عن إمام حتى وصلت إلى الإمام المستور المغيب.

وقد تولى القاضى عبد الجبار إدحاض ذلك الرأى ، وبين أنه لا أساس له من العقل ولا النقل ، فقال عن هذا الرأى ، حكى ذلك عن قوم من الأوائل ، لأنهم زعموا أنه ينطبع فى النفس مثل المدركات ، فيعرفه المدرك ، على أن هذه الطبقة خارجة عن حد من يناظر ويتكلم ، لأنها تبنى على الحيل. وإنما تقع المناظرة من أهل الديانات ، دون من يجعل من يبتدئه ويعيده مبنيا على الخديعة والاستشكال ، والتوصل إلى استباحة المحذور ، ويرى أن المذاهب كلها واحدة ، وأن الواجب أن يظهر لكل فرقة ما يقرب به إليها ، ولا ينفر بالمخالفة إلى سائر ما يحكى عنهم ، ولو بنوا الأمر على طريقة النظر ما أقدموا على هذا القول مع وضوح فساده. ولكنهم توصلوا بذلك إلى الاحتيال على الناس ، فقالوا : إن القرآن له ظاهر وباطن ، وتنزيل وتأويل ، وإن الأثر قد ورد بأن تنزيله مفوض إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتأويله إلى على رضى الله عنه ثم إلى سائر الحجج (أى الأئمة) وأنه لا بد من معرفتهم ليصح أن يعرف مراد الله تعالى ، فجعلوا ذلك طريقا إلى القدح فى الإسلام والدين ، لأنه مبنى على القرآن والسنة ، فإذا أخرجوا من القرآن ما يعرف به الشيء ، وكذلك السنة وجعلوهما ظاهرين ، وجعلوا المرجع إلى الباطن الذى لا يعلم إلا من جهة الحجة (الإمام) ولا حجة فى هذا الزمان فقد سدوا باب معرفة الإسلام ، وطعنوا فيه ، فعظمت مضرتهم (١).

__________________

(١) المغنى ج ١٦ ص ٣٦٤ والذين يقولون لا فرق بين المذاهب والديانات بعض الصوفية الذين يدعون الوصول إلى الحقيقة ، ولعلهم من أصل باطنى.

٤٠٩

ويسوق بعد ذلك عبد الجبار الأدلة على بطلان ذلك المذهب. وإن كان لا يحتاج بطلانه إلى دليل ، ويناقش القول الذى قالوا ، لأنه يلغى اعتبار الألفاظ ، وعلى فرض بقائها يجب أن يكون علم الإمام مبينا لها ، وإن قولهم هذا يؤدى إلى أن يلتبس أمر القرآن على الأمة ، لأن الإمام مستور ، وأن القول بأن له باطنا ، لا يعرف للناس مناف لقول الله تعالى فى وصفه تعالى للقرآن بأنه هدى للناس وبأن فيه تبيان كل شىء ، وأن الناس مأمورون بالتفكر فى آياته ، وتدبره ، وهكذا.

وفى الحق أن ذلك الكلام لا موضع له من النظر ، وقد حكيناه ليتبين أوهام أولئك الناس التى لا سلطان لها من حجة أو برهان ، ولكنها مخارف الشيطان.

٢٥٦ ـ ويجب هنا أن ننبه بأن بعض العلماء يقولون أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، لا بهذا المعنى ، بل بمعنى أن القرآن يحوى من العلم ما يخفى على بعض الناس ، فأولئك لهم ظواهر الألفاظ ، أما ما عدا هذه الظواهر مما تشير إليه من علم ، فإنه لا يعرفه إلا خواص العلماء ، والراسخون فى العلم ، ولا تناقض بين الظاهر والباطن.

فالغزالى يسلم بأن للقرآن ظاهرا يفهمه كل قارئ للقرآن يعلم بأساليب البيان العربى ، مطلع على المأثور عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، وله باطن عريق يفهم من الإشارات البيانية ، وما وراء الألفاظ من معان علمية لا يدركها إلا الراسخون فى العلوم المختلفة.

والغزالى على هذا ينتهى إلى أنه لا يصح الاعتماد على العقل وحده فى فهم القرآن ، بل لا بد من الاستفادة بالنقل ، ويصح الأخذ بالنقل فى الأحكام الشرعية ، بل يجب الأخذ به ، وفى غيرها من النصوص تكون الطريقة المثلى أن يعتمد على النقل والعقل معا ، فإن ظاهر القرآن لا بد فى معرفته من نقل اللغة والسنة إن كانت سنة صحيحة.

فى ظل النقل الصحيح إن كان ، وفى ظل الدلالات اللغوية للألفاظ والأساليب البيانية ، والعرف الإسلامى لألفاظ القرآن يعمل العقل فى استخراج معانى القرآن الكريم ، المتسعة الأفق البعيدة المدى ، وفى القرآن آيات كثيرة توجه العقل إلى عمق الحقائق الكونية والنفسية ، وكلما تفتح العقل ، وأدرك ظواهر كونية إدراكا صحيحا وجد فى القرآن ما يشير إليها ، وأنه كلما اتسع أفق العقل البشرى فى فهم الكون والحقائق والشرائع اتسع فهمه للقرآن الكريم.

ولعل ذلك هو الذى أشار إليه بعض الصحابة فى أقوالهم مثل قول أبى الدرداء فيما نسب إليه «لا يفقه حتى يجعل للقرآن وجوها» ، ومن ذلك ما روى عن عبد الله بن

٤١٠

مسعود أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إن للقرآن ظاهرا وباطنا وحدّا ومطلعا» وليس الباطن المذكور فى ذلك النص الذى لا يعلمه إلا الأئمة كما يدعى الشيعة ، إنما الباطن هو الإشارات البيانية إلى الحقائق الكونية والنفسية ، وغير ذلك من المعانى التى تدركها العقول ، ويصل إليها العالم ذو البصيرة المنيرة الذى آتاه الله تعالى نفاذ عقل واستقامة فكر.

٢٥٧ ـ والغزالى يقول : المعنى الذى يؤخذ من ظواهر الألفاظ العربية ويثبت بعضه من السماع عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة هو الطريق للمعنى العميق الذى يدركه الناس كلما تقدم العلم ، واطلعوا على ظواهر الكون وكشفوا من خواصه ما كان مجهولا ، ولا سبيل لمعرفة تلك المعانى العميقة إلا بالمعانى الظاهرة المكشوفة.

ويقول الغزالى فى ذلك ما نصه : «النقل والسماع لا بد منه فى ظاهر التفسير أولا ، ليتقى موضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتتبع للتفهم والاستنباط ، واستخراج الغرائب التى لا تفهم إلا بالسماع ، ولا مطمع فى الوصول إلى الباطن قبل إمكان الظاهر ، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر ، فهو كمن يدعى البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب ، أو يدعى فهم مقاصد الأتراك من كلامهم ، وهو لا يفهم لغة الترك ، فإن ظاهر التفسير يقتضى تعلم اللغة التى لا بد منها للفهم».

والمعنى الباطن الذى يقصده الغزالى هو تحرى الدقائق التى تكون فى مطوى الألفاظ القرآنية ، والأسرار التى لا يدركها إلا العلماء الراسخون فى الإسلام ، والعلوم المختلفة ، كل بمقدار طاقته العلمية ، بعد فهم ظاهر اللفظ وما فيه من مجاز وحذف وإخبار ، وعموم وخصوص ، وإطلاق وتقييد ، وإن ذلك واضح من كلامه وضوحا بينا ، فهو يقول فى معانى القرآن :

«إنما ينكشف للراسخين فى العلم من أسراره بقدر غزارة علمهم ، وصفاء قلوبهم وتوافر دواعيهم على التدبر وتجردهم للطلب ، ويكون لكل واحد حد فى الترقى من درجة إلى درجة أعلى منها ، فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه ، ولو كان البحر مدادا والأشجار أقلاما ، فأسرار كلمة الله عزوجل لا نهاية لها ، فمن هذا الوجه يتقارب الخلق فى الفهم ، بعد الاشتراك فى معرفة التفسير ، وظاهر التفسير لا يغنى» (١).

__________________

(١) إحياء علوم الدين ج ١ ص ٢٦٣ ، ٢٦٤.

٤١١

٢٤٩ ـ هذه إشارات إلى مناهج التفسير تكلم فيها العلماء ، وعندى أنه لا يمكن الاستغناء عن الآثار فى فهم آيات الأحكام ، أما ما عداها فإن العقل له فيه مجال كبير بشرط ألا يهيم على غير نور من الشرع. ولا بد لكى يكون التفسير بالعقل مقبولا من ثلاثة شروط :

أولها ـ العلم باللغة علما سليما لكى يدرك معانى التصريف البيانى فى القرآن.

وثانيها ـ ألا يخالف المأثور عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ يكون مخالفا للمبين الأول للقرآن وهو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

والشرط الثالث ـ ألا يتعصب لفكرة أو مذهب ، ويخضع القرآن لما يتعصب له ، فيكون تفسيره خاليا من تأثير الهوى ، والله أعلم.

***

٤١٢

ترجمة القرآن

٤١٣
٤١٤

٢٥٩ ـ أجمع العلماء على أن القرآن هو اللفظ والمعنى وأن من خالف ذلك يعد قد خالف فى أمر عرف من الدين بالضرورة ، وليس المعنى وحده يعد قرآنا ، لأن التحدى كان باللفظ والمعنى ، ولما تحداهم الله تعالى طالبهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وواضح أن التحدى هنا باللفظ.

وأن جبريل عليه‌السلام نزل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلسان عربى مبين ، ولقد وصف القرآن الكريم بأنه عربى ، فقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، وقال تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) ، فالقرآن بلفظه ومعناه عربى ، ولا يصح أن يقال عن كتابة بعض معانيه بغير العربية أنها قرآن.

ومع وضوح هذه الحقيقة البدهية التى لا تختلف فيها العقول عند أهل الإيمان ، ولا تتباين فيها الأنظار ، وجد من الناس من ادعى أن معانى القرآن قرآن ، وأنه على هذا الاعتبار تجوز ترجمة القرآن الكريم على أن يكون المترجم قرآنا له كل خواص القرآن ، ويتعبد به كما يتعبد بالقرآن الذى نزل به جبريل بلسان عربى.

بل وصل التهافت فى القول إلى أن يدعى بعض الذين لا حرج على ألسنتهم ولا على قلوبهم أن يقول : إن الذى نزل به جبريل على النبى عليه الصلاة والسلام هو المعنى فقط.

وذلك كله هراء من القول ، وانحراف عن الدين ، أو خروج عنه.

وفى وسط ذلك المضطرب كان من بين الذين يتجنون على القرآن من ادعى أن الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان يرى أن القرآن هو المعنى فقط ، وبنوا على هذا جواز ترجمة القرآن عند أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه ، وأكرم مثواه ، والأصل الذى بنوا عليه دعواهم أنه رأى فى صدر حياته طوائف من الفرس قد دخلوا فى الإسلام ، وقد علموا العربية ، ولكن ألسنتهم لم تطوع للنطق بها من غير رطانة أعجمية ، بل كانت تتلوى فى مخارج الحروف العربية ، كما نجد اليوم الأعاجم الذين يعلمون اللغة العربية ، ولا تطاوعهم ألسنتهم فى النطق السليم بها ، فسوغ أبو حنيفة لهؤلاء أن يقرءوا معانى الفاتحة بلغتهم الفارسية ، وقد روى فى هذا أن أهل فارس فى عهد الصحابة قد صعب عليهم مخارج الحروف العربية ، فطلبوا إلى سلمان الفارسى أن يعبر لهم بالفارسية عن معانى الفاتحة ففعل ، حتى لانت ألسنتهم وقرءوا القرآن باللغة العربية ، وقد اشترط أبو حنيفة لجواز ذلك ألا يكون الشخص مبتدعا بهذا العمل ، أى أنه يترك القراءة بالعربية مع القدرة على النطق الصحيح بها ، وإخراج الحروف من مخارجها ، ليقرأ معانيه بلغة أخرى فارسية أو أوربية.

وقد روى عن أبى حنيفة أنه رجع عن هذا الرأى ، روى هذا نوح بن أبى مريم الجامع ، وهو الذى رجحه الأكثرون ، وإن النظرة التاريخية الفاحصة تجد ترجيح هذه

٤١٥

الرواية له سبب واضح ، وهى تساير الحقيقة التاريخية ، وهو أن أبا حنيفة الفقيه المدرك ، قرر جواز قراءة المعانى بالفارسية على أنها دعاء مقارب للفاتحة فى معانيه. فلما لانت الألسنة ودخل الناس من أهل فارس وغيرها فى دين الله أفواجا ، ورأى أن المبتدعين هم الذين يتخذون القرآن مهجورا ، وهم الذين يستبيحون تلك الرخصة التى رخصها ، حرم ما كان قد استحسن.

٢٦٠ ـ ومهما تكن الفتوى من الناحية التاريخية فإن الفقهاء اختلفوا فى أصل هذه الفتوى أمؤداها أن أبا حنيفة اعتبر الترجمة دعاء ، وليست قرآنا ، أم أنه اعتبرها قرآنا ، وهل مؤدى ذلك أن يكون أبو حنيفة قد اعتبر القرآن هو المعنى دون اللفظ.

ونقول فى الإجابة عن هذا السؤال أن من المقطوع به أن أبا حنيفة لم يعتبر القرآن الذى نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم هو المعنى فقط ، فذلك ما لم يقله أحد من أهل الإيمان ، لأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أقرأه جبريل اللفظ ، ولم يوح إليه بالمعنى وحدها ، اقرأ قوله تعالى مع ما تقدم : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) [القيامة : ١٦ ـ ١٩]

فهل بعد هذا النص القاطع يستطيع أحد أن يدعى على أبى حنيفة الورع التقى أنه يقول أن الذى نزل على محمد ، وتلقاه عن جبريل الأمين ـ وهو روح القدس ـ هو المعنى فقط ، إن ذلك غير معقول.

وبقى السؤال الأول : هل يمكننا أن نفهم من هذا أن أبا حنيفة أقر قراءة القرآن بغير العربية ممن يعرف العربية ، ولا يجيد إخراج الحروف من مخارجها ، إنه يعتبر المعنى ذاته قرآنا مع إقراره بأن الذى نزل على محمد اللفظ والمعنى.

نقول : إن الأكثرين من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين يقولون أن أبا حنيفة اعتبر المترجم مجزئا للصلاة فى الحدود التى رسمناها فى دور من أدوار اجتهاده الفقهى ، ولكنه لا يعده قرآنا قط ، ولذا لم يقل أنه تجب سجدة التلاوة بالجزء المترجم إذا كان فى معنى آية لها سجدة تلاوة ، وأجاز أن يمس غير المتوضئ الجزء المترجم ، ولا حرج عليه ، وتقرأ الحائض والنفساء المعنى المترجم ، ولا إثم فى ذلك ، لأنه ليس قرآنا.

ولذلك يقول الأكثرون من فقهاء المذهب الحنفى أن ما قرره أبو حنيفة إن هو إلا ترخص للذين لم تقوّم ألسنتهم تقويما عربيا سليما ، فسوغ لهم أن يقرءوا المعانى حتى تقوم ألسنتهم ، وعلى أنه دعاء لا على أنها قرآن ، ولم يعرف عنه قط أنه سوغ فى غير الفاتحة.

٤١٦

وعلى هذا لا يجوز لأحد يبنى على ما روى عن أبى حنيفة جواز ترجمة القرآن إلى لغة من اللغات على أن يكون المترجم قرآنا ، ومهما يكن ، فإن الرأى الذى ينسب إلى أبى حنيفة قد رجع عنه ، وهو خارج عن رأى الفقهاء أجمعين ، فلم يسوغ أحد قراءة معانى الفاتحة بالفارسية أو غيرهما ، بل أجازوا الدعاء لمن لا يعرف العربية ولم يجد من يأتم به ليغنيه عن القراءة.

وتكرر القول بأنه رجع عنه ، وقلنا أنه الذى يتفق مع السياق التاريخى ، إذ إن أبا حنيفة عاش سبعين سنة ابتدأت سنة ٨٠ وانتهت سنة ١٥٠ والمعقول أنه رأى الألسنة الفارسية لم تقوم ، فسوغ لهم من قبيل الرخصة الدينية فقط أن يقرءوا المعانى لسورة الفاتحة على أنها دعاء تقوم ألسنتهم ، فلما رأى الألسنة قومت ولانت واستقامت ، وخشى البدعة ، إذ يجد المبتدعة السبيل لبدعتهم ، فرجع عن رأيه ، ولا يصح الاعتماد على رأى رجع عنه صاحبه.

٢٦١ ـ ولو تركنا فتوى أبى حنيفة ، وقد علمنا من الفتوى أنه لم يعتبر ترجمة القرآن قرآنا لها قدسية القرآن يجب أن نتجه إلى موضوع الترجمة فى ذاته ، ولكى نقرر الحق فيه يجب أن نجيب عن هذه الأسئلة الثلاثة :

السؤال الأول : أيمكن ترجمة القرآن.

السؤال الثانى : أتسوغ الترجمة على أن الترجمة قرآن أو ليست بقرآن.

السؤال الثالث : ما السبيل لتعريف غير المسلمين بالقرآن ، واطلاعهم على معانيه.

وإنا نجيب عن هذه الأسئلة جملة : إن ترجمة القرآن غير ممكنة ، وقد تصدى لذلك العلماء الأقدمون ، فقرر ابن قتيبة وغيره من العلماء أن كل كلام بليغ لا يمكن ترجمته ببلاغته من لغة إلى أخرى ؛ ذلك أن الكلام البليغ له معنيان مجتمعان ، أحدهما أصلى ، وهو المقصد الذى انبنى عليه الكلام وما سبق له من قصة أو حكم أو عظة.

والثانى بلاغى ، وهو إشارات الكلام ومجازاته ، وما يثيره من صور بيانية ، وما يحيط به من أطياف ، كالتى تحيط بالصور الحسية ، وبهذا كله تعلو الرتب البلاغية ، ويسمو البيان.

وبتطبيق هذه القاعدة على القرآن الكريم وهو فى درجة من البلاغة لا ينهد إليها أى كلام إنسانى قط ، فإن ترجمته مستحيلة على أن يكون قرآنا فيه كل خواصه البلاغية.

ولذلك قال العلماء الأقدمون بالإجماع أنه لا يمكن ترجمة القرآن بمعانيه الأصلية ، والمعانى البيانية اللاحقة لها ، فما فيه من أوامر ونواه وأخبار وقصص يمكن

٤١٧

ترجمته ، فيترجم أصل النهى والأمر ، ووقائع القصة ، ولكن العبارات التى سبق بها القول وما فيه من صور بيانية ، وإشارات تعلو بالكلام إلى أسمى المنازل حيث لا يكون له شبه ولا مثيل ، فإن ذلك لا يمكن ترجمته.

ولقد قال الشاطبى فى هذا المعنى بعد أن قسم معانى الكلام البليغ إلى معان أصلية ومعان خادمة هى ما تشير إليه المجازات والتشبيهات والإشارات البيانية ، ومطويات الكلام ومراميه البعيدة ، قال بعد هذا التقسيم : «إذا ثبت هذا لا يمكن من اعتبر هذا الوجه أن يترجم كلاما من الكلام العربى بكلام الأعاجم فضلا عن أن يترجم القرآن وينقله إلى لسان غير عربى إلا مع فرض استواء اللسانين فى اعتباره عينا ، فإذا ثبت ذلك فى اللسان المنقول إليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر ، وإثبات مثل ذلك بوجه بين عسير جدا».

ونزيد على الشاطبى أنه إذا توافق اللسانان فإنه بعد ذلك لا يوجد فى اللسان الآخر من تكون عبارته كعبارة القرآن المعجز للبشر أجمعين الذى إن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وقد نفى ابن قتيبة إمكان ترجمة القرآن على الوجه الثانى ، أما الوجه الأول فقد قال فيه : «فأما عن الوجه الأول فهو ممكن ، ومن جهة صح تفسير القرآن ، وبيان معناه للعامة ، ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه ، وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام ، فصار أهل الاتفاق حجة على صحة الترجمة بالمعنى الأصلى» (١).

وبهذا يتبين أن ترجمة القرآن غير ممكنة.

ولا تسوغ ترجمة القرآن ، واعتبار هذه الترجمة ـ قرآنا ، فإن ذلك يؤدى إلى ألّا يحفظ القرآن من التحريف والتبديل ، بل يعتريه ما اعترى التوراة والإنجيل من تحريف وتبديل ، فالأناجيل ضاع أصلها العبرى ، ولم يبق إلا ترجمتها اليونانية ، أو بالأحرى ترجمة بعضها ، والسبب فى ذلك هو ترجمتها من العبرية ، وهكذا يكون القرآن الكريم لو سوغنا ترجمته ، ولكن الطريق مسدود ابتداء لأن الترجمة غير ممكنة ، فكان القرآن محفوظا : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩].

٢٦٢ ـ وهنا يرد أمران منبعثان من السؤال الثالث الذى ذكرناه ، وهو كيف نوصل علم القرآن إلى أهل الألسنة الأخرى ، ذانكم الأمران أولهما أن كثيرين من الأوربيين والأمريكان وغيرهم ، والمغرضون فيهم أكثر من طالبى الحقائق ـ كتبوا معانى القرآن بغير العربية وسموها قرآنا وحرفوا فيها الكلم عن مواضعه ، والأجانب يعتبرونها قرآنا ،

__________________

(١) المعارف لابن قتيبة.

٤١٨

ومن الواجب أن تصحح هذه التراجم بترجمة صحيحة سليمة للقرآن الكريم ترد الحق إلى نصابه.

والأمر الثانى : أن عند بعض الأوربيين والأمريكان نزعات تتجه بهم إلى تعرف القرآن وما يشتمل عليه ، وإن كثيرين من الشرقيين المسلمين لا يعرفون معانى القرآن وإن كانوا غير فاهمين لما يتلون.

ومن الواجب أن نعرف المسلمين بمعانى القرآن معجزة الإسلام ، ومنهم من يحفظه كله ، وكلهم يحفظون بعضه ليصححوا صلاتهم ، وإن هؤلاء من حقهم على المسلمين الذين يجيدون العربية ، ويفهمون لغتهم أن ينقلوا إليهم معانى القرآن ليفهموا معنى ما يتلون من كتاب الله تعالى.

ونقول بالنسبة لهؤلاء الأعاجم من المسلمين أنهم يتلون القرآن الكريم ، ومن السهل أن يكتب لهم فى هامش المصاحف التى بأيديهم معانى الألفاظ القرآنية ، فيقرءون القرآن ، ويستطيعون أن يفهموه ، وقد فعل كثيرون منهم ذلك ، وما يكون بالهامش لا يعد ترجمة ، بل يكون تفسيرا للمفسر.

وأما بالنسبة لغير المسلمين الذين يريدون أن يعرفوا ما فى القرآن ، ونحن نقرر أن من الصد عن سبيل الله تعالى إلا نطلعهم على ما فى القرآن من تكليف وعظات وإرشاد ، ولكن السبيل إلى ذلك ليس ترجمة القرآن ذاته ، فإن ذلك متعذر ، لأن القرآن له معان رائعة تختلف فى إدراكها على الوجه الأكمل للعقول ، وكل عقل يدرك منها بمقدار ثقافته ، وما يدلى به من حبال المعرفة وطاقة الفهم.

وإنما السبيل هو الاتجاه إلى أحد أمرين ، إما بيان المعانى الأصلية التى اشتمل عليها القرآن مبينة بأقوال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبذلك يعرفون حقائق الإسلام ويستضيئون بنور القرآن.

والاتجاه الثانى : أن يفسر القرآن تفسيرا موجزا مختصرا موضحا لمعانى الآيات ، وأن يتولى كتابة هذا التفسير جماعة علمية معروفة بأنها من أهل الذكر ، ويذكر التفسير منسوبا إليهم ، ومسمى بأسمائهم مضافا إليها ، ويترجم ذلك التفسير على أنه ترجمة تفسير فلان ، وفلان ، وأن نحتاط عند النشر ذلك الاحتياط لكيلا يفهم أحد أن هذه الترجمة هى القرآن ، أو هى معانى القرآن ، بل يشار إلى أنها ترجمة لمعانى القرآن على ما ذكره وفهمه أولئك المفسرون ، فإن معانى القرآن على الحقيقة لا يعلمها كاملة إلا منزل القرآن ، ومن نزل عليه الفرقان ، ومن بعد يدرك كل عالم بمقدار طاقته ، وإن القارئ المتفهم للقرآن الطالب لمعانيه يجد أمامه نورا ، كلما قوى بصره استنارت

٤١٩

بصيرته ، وكلما علا إدراكه علا فهمه للقرآن ، وعلم منه ما لم يكن يعلم ، وفهم من بعض أسرار إعجازه ما لم يكن يفهم من قبل.

وإنه لكمال الاحتياط يجب أن يكون النشر بحيث لا يفهم أنه ترجمة لآى القرآن مباشرة ، بل يكون الطبع على الوجه الآتى :

(أ) يطبع المصحف فى وسط الصفحة وترقم آياته بأرقام أفرنجية ، ويكتب حوله تفسير كل آية مرقما برقمها الذى رقمت به الآية ، بحيث يكون القرآن مكتوبا بلغة القرآن ، والتفسير مكتوبا باللغة العربية.

(ب) يكتب تفسير باللغة التى ترجم إليها التفسير مرقما بالأرقام التى رقمت بها آيات المصحف ، وبحيث يفهم القارئ غير العربى أن ما يقرؤه هو ترجمة تفسير للقرآن ، وبحيث يفهم تفسير كل آية من رقمها الذى رقمت به فى المصحف ، وفى التفسير ، وإن هذا النظام الفكرى ، والطابعى يحقق مقاصد ثلاثة :

أولها ـ وضع تفسير موجز باللغة العربية يمكن طبعه مع المصحف من غير ترجمته ، وذلك مقصد سليم مطلوب فى ذاته ، يسهل على القارئ العربى فهم القرآن ، وهو يتلوه أو يستمع إلى من يتلوه ، وبذلك تتحقق العظة ، ويتحقق الاعتبار ، ويكون الانتفاع كاملا لمن يعرف العربية.

ثانيها : أن يقرأ القارئ الأعجمى القرآن الذى يحفظه من غير أن يفهم ، وبإيجاد التفسير بلغته يتمكن من فهم القرآن ، ويسهل عليه ذلك أن يعرف العربية إن اتجه إلى معرفتها ، لأنه حفظ كثيرا من عباراتها القرآنية وفهم معناها ، وقد نفذت ذلك فعلا بعض البلاد الإسلامية ، فالإيرانيون قد كتبوا تفسيرا للقرآن باللغة الفارسية طبع فى هامش المصحف الشريف ، وكذلك فعل الأفغانيون ، والباكستانيون.

ولو كان التفسير العربى الذى تكتبه طائفة من أهل الذكر ، ترجم إلى لغات أولئك لكان العمل أسلم وأتقن وأجدى.

المقصد الثالث ـ الذى يحققه ذلك العمل الجليل هو تصحيح ما سموه تراجم للقرآن فى اللغات الأوربية ، وبيان وجه الخطل فيها وإبطال التحريفات لمعانيه الجليلة ، فإن بعض الذين تولوا الترجمة لم يكن مقصدهم العلم لذات العلم ، بل كان مقصد الكثيرين منهم تشويه معانى القرآن الكريم ، وفوق ذلك فإن الأوربيين يجدون السبيل لرؤية القرآن ، فإن أرادوا أن يمشوا فيه مخلصين أدركوه ، وآمنوا به واهتدوا.

وإن قصدوا إلى النور بعيون ضالة ، وقلوب مريضة ، ونفوس أركست فى الهوى ، فلن يزدادوا إلا عمى ، قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

٤٢٠