المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

ولا شك أن فى هذا كله توجيهات نفسية لمن يتدبر ويعتبر ، ويستبصر ، وكان حقا على الذين يدرسون مجتمع الأسرة أن يجعلوا من هذا مثابة للدرس يدرسونه ، ويبنون عليه ، ويسترشدون به.

وإن قصة أسرة يوسف لم تنته هذه النهاية ، بل إن الإخوة من بعد سيلتقون ، وسيتعاتبون أو يتلاومون ، ولقد وصل يوسف عليه‌السلام فى علوه إلى أن مكن من عرش مصر ، فقد مكن الله تعالى له فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.

جاء إليه إخوته فعرفهم. ونسى بما أنعم الله به عليه مساءتهم ، ولعله استأنس بلقائهم ولم يستوحش. ولكنه طلب أخاه شقيقه ، وقال لهم : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) (٦١) ولكن شفقة الأخوة ، وشفقته بأبيه وقومه تغلب طلبه ، فيجعل بضاعتهم فى رحالهم وهم لا يعلمون ، فكانت ثمة محبة الأخوة ، ومحبة الشقيق.

رجعوا إلى أبيهم. وفى هذه الحال كانوا صادقين : (قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٦٣) ولكن ذكراه الأليمة تتحرك فيقول : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤).

ثم اكتشفوا من بعد ما جهله عليهم يوسف الصديق فتحوا متاعهم فوجدوا بضاعتهم ردت إليهم : (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) (٦٥) ، وفى هذه المرة كان يعقوب عليه‌السلام أحرص من المرة الأولى ، فأخذ موثقا ليأتينه به إلا أن يحاط بهم ، فآتوه موثقهم.

وتحركت الشفقة الأبوية عليهم جميعا ، وخشى عليهم العين ، فقال عليه‌السلام لهم : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧).

دخلوا مصر من حيث أمرهم أبوهم ، والتقوا بأخيهم ، وآوى يوسف إليه أخاه. وفاضت نفسه إليه قائلا له : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وأراد أن يبقى أخاه فلما هموا بالرحيل ، وضع المكيال المصرى فى رحل أخيه : (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ

٣٨١

مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) ثم وجده فى وعاء أخيه ، وبحكمهم أخذ أخاه وأبقاه عنده وتحركت فيهم الحال التى كانوا فيها عند ما رموا بيوسف فى الجب : قالوا : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وبذلك ثارت فى نفوسهم الغيرة القديمة ، وإذا كانت فى أول أمرها قد دفعتهم إلى القتل ، أو السير فى سبيله ، فقد دفعتهم هذه المرة إلى الكذب ورمى البرىء بالسرقة ، فأسرها يوسف فى نفسه ، ولم يبدها لهم ، فقال أنتم شر مكانا ، والله أعلم بما تصفون ، فأحسوا بالتبعة عند لقاء أبيهم ، وأرادوا أن يتشفعوا بحال أبيهم الشيخ فقالوا : (إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) (٧٩). يئسوا من أن يعودوا بأخيهم لأبيهم الشيخ ، وتعرضوا للظنون التى لها فى ماضيهم ما يؤيدها ، وهموا بالعودة ، ولكن كبيرهم كان إحساسه بالتبعة أشد من سائرهم فقال لهم : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢). عادوا إلى أبيهم وقالوا ما لقنهم إياه أخوهم الكبير الذى تخلف عنهم استحياء من لقاء أبيه ، ولكن الأب الشيخ لم يطمئن إلى ما قالوا ، وقال لهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).

وإن الأمر إذا تأزم كان من لطف الله بعباده أن يفتح نافذة من الأمل فى وسط التأزم ، فكانت تلك النافذة ، وقال نبى الله الشيخ : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وفى وسط هذه الحال استيقظ الماضى فتذكر ابنه المفقود يوسف الذى لا يعلم حاله ، أهو حى يرزق أم ميت قبر ، وقد برح به الحزن ، ويقول الله تعالت كلماته فى وصف حاله : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (٨٤) رأوا أن أباهم لا يزال يذكر يوسف ، ولا ينى عن ذلك حتى يتلف جسمه أو يموت ، وصارحوه بذلك ، فقال الشيخ الجريح القلب : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦).

وفى وسط هذه الغمة عادت إليه بارقة الأمل كما عادت أولا ، فقال بحنان الأب الشفيق : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧).

٣٨٢

استجابوا لطلب أبيهم وذهبوا يبحثون ، وإن مكان الأخ الأخير معروف عندهم وأما الأخ الذى غيبوه ، فهم لا يعلمون حاله ولا مآله.

ذهبوا إلى المكان الذى تركوا فيه الأخ الأخير ، فدخلوا على عزيز مصر «يوسف» و (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (٨٨).

هم جاءوا للبحث عن أخيهم ، ولكنهم جعلوا المدخل إليه أن يقولوا أنهم جاءوا ببضاعة مزجاة ، وهنا نجد يوسف الصديق يحن إلى جمع الشمل بعد إذ تفرق ، فيقول لهم عاتبا ، معتذرا عنهم إذ فعلوا ما فعلوا جاهلين. يقول الأخ المحب لإخوته : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) وهنا تلهمهم عاطفة الأخوة الحبيبة إلى أنه يوسف ، وإن تغيرت الأحوال ، واختفت سيم الطفولة وبدت سمة الرجولة : (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) (٩١).

وهنا تظهر الأخوة المحبة المتغاضية عن الإثم من الجاهلين ، فيقول الكريم ابن الكريم : (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢).

وقد علم حال أبيه وطب لعلاجه ، وقال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩٣).

كان الأب العطوف يحس ، وهم فى الطريق إليه بأن ريح يوسف تهب نحوه : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٩٨).

ولا نقف طويلا عند ارتداد البصر إلى نبى الله يعقوب عليه‌السلام بعد أن ابيضت عيناه من الحزن ، أهو بسبب الفرحة الشديدة ، أم هو خارق للعادة ، وما ذاك بغريب على الأنبياء. ونحن نميل إلى الثانى ، فإن يوسف عليه‌السلام كان متأكدا ، ولم يكن متظننا له.

جاءت الأسرة إلى مصر حيث سلطان يوسف عليه‌السلام ، والتقت على المحبة. بعد أن فرقتها غيرة الجهل : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ

٣٨٣

نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠).

[يوسف : ٩٩ ، ١٠٠]

٢٣٧ ـ لم نتتبع قصة الصديق نبى الله يوسف من وقت أن رموه فى الجب ، وأردنا أن نربط بين أجزاء الأسرة لنعرف مقدار ما يتبين من القرآن من حال النفوس فى ميعة الشباب وجهالته ، وما يكون منها بعد أن تسكن عواصف الغيرة. وتتوافر بواعث الرحم.

ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم عشاء يبكون ، ورجحنا أن يكون بكاء حقيقيا ، وليس كدموع التماسيح كما يقولون. وقلنا أنها انفعالة الرحم. وإن لم يكن لها أثر عملى. إذ كانوا يستطيعون أن يعودوا ويستنقذوه من الجب الذى ألقوه فيه ، ويظهر أنهم كانوا بين عاطفتين متضاربتين : عاطفة الرحم الجامعة ، والغيرة الملحة الباعثة على البغضاء ، فذرفت عيونهم بالعاطفة الأولى ، وأقعدتهم الثانية عن أن يزيلوا ما فعلوا ، وما ارتكبوا فى حق أخيهم.

ونترك أولئك الإخوة فى حيرتهم ، واضطراب عواطفهم ، ولنتجه إلى الأب المكلوم الذى فقد ولده ، فإنا نلاحظ فيه ثلاث عواطف ، كل واحدة تجرى على لسانه :

أولاها ـ ألم الفراق الذى أصاب نفسه ، لقد كان ولده الحبيب المقرب الصغير ، والصغر ذاته يجلب المحبة ويجعله أكثر قربا ، وآثر بالمحبة من غير أن يفقد أحد من أولاده محبته ، فالحب الأبوى يقبل الاشتراك ، ولكن فى تفاوت بالسن ، وبالقرب ، وبالخلق ، وبالمخائل التى تدل على الانفراد بمزايا دون غيره.

والثانية ـ أن الذين كرثوه بهذه الكارثة التى هدت كيانه ، وجعلت عيناه تبيضان من الحزن ، هم أولاده ، وأفلاذ كبده ، فلا يمكن أن يكونوا أعداءه ، ولا يمكن أن يبغضهم ، لأن بغضهم يكون ضد الفطرة ، وتلك حال لا يصبر عليها إلا أولوا النفس القوية التى هى نفوس الأنبياء والصديقين ، وفى الموقف الذى وقفه الشيخ من إحساسه بالألم من أولاده ، مع إحساسه بعاطفته مجال للدرس والتحليل ، وجه القرآن الكريم إليه أنظار الدارسين والفاحصين.

الثالثة ـ أن يعقوب عليه‌السلام كان فى قلبه إحساس عميق بأنه سيلقى ابنه فى المستقبل إن لم يكن فى القريب العاجل ، ففي البعيد الآجل ، فهو إذ يتهم أبناءه ، ويقول لهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) يقول أيضا صابرا : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) ويقول وقد غاب عنه ابنه الثانى بعد أن تباعد الزمان ، وأن يكون قد غمى على الموضوع النسيان : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٨٣) [يوسف].

٣٨٤

وإن ذلك الإحساس الكريم الذى يتغلغل فى النفس المؤمنة موضع تحسن دراسته ، وتعرفه ، ولا شك أن هذا ليس من خواص الأنبياء ، بل طبيعة فى النفوس المؤمنة الطاهرة الملهمة من غير وحى ، إنما هو الصفاء النفسى.

وإن قصة إخوة يوسف مع أخيهم وأبيهم وموقف أبيهم ، وهو الحامل للأسى من غير أن يقف من أبنائه موقف تنبيه للواجب الذى يتخذ عند ما تصاب الأسرة ، فيكون على كبيرها أن يجمعها ولا يفرقها ولا يذهب به فرط محبته وأساه ، إلى تبديل المحبة بالعداوة.

٢٣٨ ـ نعود إلى الأولاد الذى آذوا أخاهم ، ولجت بهم الغيرة ، لقد اعتراهم الندم ابتداء وإن لم يظهر له أثر عملى.

ولكنهم علموا مقدار خطئهم عند ما بلغوا أشدهم ، أدركوا مقدار ما فقدوا من أخ ، وإن لم يكن كإحساس أبيهم ، بل إحساسهم تشوبه بقايا الغيرة وقد تبينت عند ما أحسوا بأن أخاهم الثانى تسبب فى تأخير بضاعتهم.

وإن الغيرة كما نرى فى كلامهم تثير النفس ، فلا تندفع إلى البغضاء فقط ، بل إلى الكذب ، ولكنهم على كل حال كانوا فى كبرهم يغلب عليهم حنان الأخوة ولشدة ما كانت فرحتهم عند ما علموا أن عزيز مصر هو أخاهم ، وقد قالوا وهم فى طريقهم (نَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا).

إن قصة يوسف فى أسرته هى قصة أسرة ، فرقت الغيرة بعض عناصرها ، فكانت حكمة الأب الحانى هى التى منعت المأساة من أن تسير إلى غاية من الضلال ، بل وقف بها فى أقصر حدودها ، وهى تبين كيف تعود المحبة بسيادة العقل ، وفعل السن ، وإثارة المودة.

وفى ذلك درس حكيم للأسر التى تصاب بمثل هذه ، وفيه أيضا دروس نفسية عميقة لمن يطلبها.

المجتمع المصرى فى عصر يوسف :

٢٣٩ ـ ألقى يوسف فى الجب ، وصارت حياته عرضة لكل مفترس. وقد ذكرنا آخذين مما تلونا أنه لم تصبه رعدة الخوف ، وألقى فى قلبه الاطمئنان ، وألهمه الله تعالى أنه ناج ، وأنه سينبئ إخوته بأمرهم ، فى وقت يكونون فيه فى البأساء ، وهو فى السراء ، ويكون هو العزيز بعناية الله تعالى وهم الأذلاء.

ولم يمكث فى الجب طويلا ، بل جاء جماعة ممن يسيرون فى الصحراء ، وألقوا فى الجب دلوهم ليستنبطوا ماء ، فرأوا غلاما استبشروا به ، وكان فى ذلك الزمن وما

٣٨٥

قبله وما بعده يفرض الرق على كل غريب ، حتى جاء الإسلام فألغى هذا وغيره ، وقد أخذوه بضاعة ، وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة ، ولم يكونوا راغبين فى بقائه.

وقد توسم الذى اشتراه من مصر فيه الخير ، وقال لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، وبذلك ربى فى كلاءة ربه كما صنع مع موسى ، إذ ألقاه إخوته فى الجب حسدا وإيذاء ، كما ألقت أم موسى ولدها وقد وضعته فى التابوت حرصا أو فرارا به من الموت.

وبهذه المحبة التى أضفاها الله على من اشتراه مكن الله ليوسف فى الأرض ، وألهمه الحكمة ، وعلمه تأويل الأحاديث والرؤى ، ولما بلغ أشده آتاه الله تعالى حكمة وقدرة على الحكم على الأشياء والأشخاص ، وصبرا وإدراكا.

آل أمره إلى أن يكون فى بيت حاكم مصر ، وأن يكون خازن أسراره ، ومتصلا بامرأته. على أن يكون خادما خاصا.

وهنا نجد القرآن فى تلك القصة الواقعة يصور لنا نفس المرأة المترفة الفاكهة فى العيش والنعيم.

رأت على القرب منها فتى جميلا ذا فتوة وقوة ، فراودته عن نفسه ، وغلقت الباب ونادت طبيعته البشرية. قالت له أقبل ، ولكنه فى خلق النبوة يقول لها (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) ، فالخلق يمنعه والوفاء يصده.

ولكنها أخذت فى الإغراء ، وأرادت أن توقظ فيه الغريزة ، ولعلها أيقظتها ولكن غلبه نور الهداية على الغريزة الدافعة ، إذ رأى نور الحق ، وهو نور ربه.

وفى هذه الصورة الواقعة صورة الحياة المترفة كيف تفسد النفوس؟ وكيف يغرى بالرذيلة وجود الخدم الأقوياء فى خدمة ذوات الخدر ، وكيف تكون الإرادة الصابرة كابحة للغريزة الجامحة وحائلة بينها وبين الشر.

تلك حال جديرة بالدرس على ضوء القرآن.

وتجىء من بعد تلك المعركة بين الهوى الجامح ، والحكمة والإرادة القوية ، وهو يذهب إلى الباب فارا من الرذيلة ، وهى تذهب وراءه تجره إليها ، وتكون المفاجأة لها. وسرعان ما تكشف عن خلق المرأة وهو مسارعتها إلى اتهام البرىء إذا لم تحقق رغبتها ، بل شهوتها ، فتستعدى عليه زوجها وتثير فيه الحمية ، لقد وجدا سيدها لدى الباب الذى يتسابقان إليه ، هو ليفر وهى لتشده إليها.

(قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) شكت ظلما. وحكمت ظلما ، ولكنه حكم ليس فيه الموت ، لأنها ترجوه لها بعد ذلك.

٣٨٦

ولكن يوسف يدفع التهمة الكاذبة بالقول الصادق : (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).

صارت القضية موضع نظر ، وقد وجد الشاهد الحسى الذى يشهد له. فقد قدّ قميصه ، وقت الاستباق إلى الباب.

فاستشهدا بذلك الشاهد ، فقال الحكم الذى حكم : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) ، لأنه يقد وهو مقبل عليها ، وهى تدفع عن نفسها : (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، فرأوا القميص قدّ من دبر ، فهو كان يفر وهى تجذبه بشد قميصه (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (٢٨).

عرفت البراءة ، وأن يوسف كان فريسة كيد النساء ، وتلك حال يوجه القرآن الكريم إليها لدراستها.

وهنا نجد السيد يبدو متسامحا ، ولعله وجد معذرة لها فى جمال يوسف وكماله ، فاكتفى بأن قال : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٢٩).

ونجد فى هذا الموقف توجيها للدراسات النفسية فى المرأة وفى الرجل العفيف ، وفيما ينبغى ملاحظته فى داخل البيوت وأكنانها.

إذا خرج الخبر عن اثنين شاع ، ولو تواصوا بالأسرار ، فإن الخبر قد شاع فى المدينة وتناولته جماعات النساء ، وإنهن ليهمهن أمر الحب والمحبين (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٠).

شاعت الأقوال فى المدينة ، وتناولته الجماعات ، وعلمت امرأة العزيز بما يقلن ، وما يدبرن وينشرن من أقوال ، وهى تعلم قلوبهن ، وما يستهويهن.

أعدت لهن متكأ ولعلها كانت وليمة إذ أعطت كل واحدة منهن سكينا وقالت أخرج عليهن : (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) ، وأعلنت هواها ورغبتها الشديدة ، وإصرارها ، وقد رأتهن يعذرنها ، وقالت : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) وهنا نجد النفس المؤمنة تقاوم طغيان المرأة وتحكمها فيقول :

٣٨٧

(رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٣).

تشايع القول وكثر ، وصارت امرأة العزيز قالة الجماعات ، فكان لا بد أن يستر الموقف ، وستره فى الجماعات الظالمة ، أو الجماعات المتسترة تكون على المظلوم دائما ، ولا تكون على الظالم أبدا. وذلك أن يسجنوه تخفيفا للشائعة ، أو توجيها لها لغير أهلها : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف].

٢٤٠ ـ هذه قصة فيها تكشف النفوس عن خبيئاتها ، وهى توجيهات لتالى القرآن الكريم إلى حقائق النفوس ، رجالا ونساء أتقياء وفجارا.

دخل يوسف ، فى حياة جديدة ، بعيدة عن كل مظاهر الزينة وبهجتها ، وإذا كان الغلام ردف النعمة بعد أن ذاق البلاء ، ابتداء ، فقد جاءه البلاء مرة أخرى ، ولكنه فى هذه المرة ينزل إلى الضعفاء ويعاشرهم. يتصل بنفوسهم ، وعلمه الله تعالى تأويل الرؤيا.

يدخل معه السجن فتيان : (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣٦) ، وهنا تبدو خوارق العادات والدعوة إلى الله على يد نبى الله يوسف عليه‌السلام يقول : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (٤٢) [يوسف : ٣٦ ـ ٤٢].

لا شك أن علم يوسف من غير معلم ، وتأويله للأحلام من غير ملقن. بل بالإلهام المجرد من خوارق العادات التى تجرى على أيدى الأنبياء.

خرج السجين الناجى من السجن ، وصار ملازما للملك ، ولكن فرحة الخروج والاتصال أنسته زميله فى السجن فزادت المدة ليزداد تعلما من أحوال الناس ، حتى وجد حاجة الملك إلى من يؤول رؤياه. فتذكر صاحبه عند الحاجة إليه ، وهذه كلها

٣٨٨

أحوال نفسية ينبه القرآن إليها ، وكان تأويل الرؤيا ، والتنظيم الاقتصادى الذى استلهمه يوسف الصديق من الرؤيا ، ولنذكر الأمر كما جاء فى القرآن : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (٤٩) [يوسف : ٤٥ ـ ٤٩].

كان ذلك التأويل الصادق مصحوبا ببيان الترتيب الاقتصادى سببا فى أن الملك رغب فى الاستعانة به ، قال ائتونى به ، فامتنع السجين الأبى عن الذهاب حتى تثبت براءته : (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فعرف الملك حالهن ، فسألهن : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٥٥) [يوسف : ٥١ ـ ٥٥].

٢٤١ ـ هذه وقائع وقعت من وقت أن دخل يوسف السجن إلى أن خرج منه مستوليا على خزائن يديرها بحكمته ، ويسير نظامه بإرادته ، وتعلمه من ربه ، وهو نبى يوحى إليه ، وكل واقعة من هذه فيها تنبيه إلى ناحية من نفس الإنسان ، وارتباطه بالمجتمع الذى يعيش فيه ، فدخوله السجن لكمال خلقه ، وكمال جسمه وما كان حوله ، وما يفعله الحكام ليدرءوا عن سمعتهم ، ما ينالها من سوء صادق ، ويكشف فيه عن نفس المرأة ، وسيطرة العاطفة عليها ، وكيف دفعتها عاطفتها فى موقفها الأول من مراودته ، ثم ما كان من إصرارها بعد أن أخذت المعذرة المسوغة من النسوة ، ثم ما كان من عاطفة المحبة التى انتقلت من مراودة إلى اعتراف ، وإلى استغفار.

وفى الحقيقة أن الدارس الذى يريد معرفة أطوار النفوس ، وما يعروها سواء أكانت نفوس رجال أم نفوس نساء يجد فى القرآن معينا لا ينضب من الحقائق النفسية التى تكون محور دراسته.

ولكنا لا نريد أن يطبقوا ما يعلمون من علم النفس على القرآن ويحملوا ألفاظه ما لا تحتمل ، ولكن أن يجعلوه مرشدا يحكم على عملهم ، لا أن يكون عملهم الحكم عليه ، والله سبحانه وتعالى هو الموفق والهادى إلى سواء السبيل.

٣٨٩
٣٩٠

تفسير الكتاب

٣٩١
٣٩٢

٢٤٢ ـ كان بعض أساتذتنا ـ رحمهم‌الله ـ يرى أن القرآن الكريم لا يحتاج إلى تفسير إلا فى بعض الألفاظ الغريبة على القارئ ، فإنه يستعين عليها بالمعاجم تبينها ، أو بالأحرى تقربها للقارئ ، وإلا بعض آيات الأحكام والمجملات المبينة بالسنة ، فإنها تفصلها وتوضح بالعمل والقول مراميها وغايتها ، وما عدا ذلك فإنه بين لا يحتاج إلى بيان ، إلا أن يكون متشابها لم يعرف بيانه بسنة ثابتة السند فإن هذا لا تفسير له ، ومن الحق أن يقول فيه التالى لكتاب الله سبحانه وتعالى : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ، وكما قال تعالى فى الراسخين فى العلم : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨) [آل عمران : ٧ ، ٨]. هذا نظر أستاذنا الكبير بلل الله تعالى ثراه.

ولا شك أن قول هذا له سند من القرآن الكريم ، فقد وصف بأنه مبين أى بين ، والبين لا يحتاج إلى تبيين ، ووصف آياته بأنها بينات ، فقد قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦) [المائدة : ١٥ ، ١٦].

وقال تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (١) [يوسف : ١].

وقال تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (١) [الحجر : ١].

وقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥) [الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥].

وقال تعالى : (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) (١) [النمل : ١].

ويقول جل شأنه : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) [الجاثية : ٢٥].

وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) [النور : ٣٤].

وإن هذا كله يدل على أن القرآن بين ، وكيف يحتاج الكلام البين إلى من يبينه ، إنه يبين نفسه ، وهذا بخلاف المجمل من آيات الأحكام ، فإنه قد جاء النص بأنه يبينه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فقد قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤].

٢٤٣ ـ هذه نظرة خاطرة لأحد شيوخنا ، ولعل الذى دفعه إلى ذلك القول ما تورط فيه بعض المفسرين من نقل إسرائيليات قد تفسد المعنى الذى يبدو بادى الرأى

٣٩٣

من الآيات الكريمات ، وأن بعض كتب التفسير التى تأخذ ذلك المأخذ ، وتتجه إلى الإكثار من القصص ، والأساطير الإسرائيلية تضع ستارا كثيفا بين الآية الكريمة ونورانيتها المشرقة ، فهو رحمه‌الله تعالى وجزاه عن العلم خيرا يريد أن يجد التالى للقرآن الإشراق والنور من غير حجب يحجبها من روايات ما أنزل الله بها من سلطان.

وإن لذلك القول وجاهته ، وإنك بلا شك لو تتبعت أكثر آيات القرآن الكريم التى لم تتعرض للأحكام العملية ، تجدها واضحة بينة ، وإن استبهمت علينا بعض الكلمات لبقايا العجمة فينا ، فإن المعاجم تحل لنا إشكالنا ، وهو لعيب فينا وليس لإبهام فى القرآن ينافى وصفه بأنه مبين ، وآياته بينات.

وإذا كان ثمة موضع للتفسير ، فإنه يكون بتوجيه الأنظار لأسرار القرآن البيانية ، والمرتبة العليا البلاغية التى لا تناهد ، ولا تسامى ، وليس فى قوة أحد من البشر أن يأتوا بمثلها.

وإن الزمخشرى حاول ذلك فى تفسيره ، ووصل فى كثير من الآيات إلى توجيه القارئ إلى الأسرار البلاغية ، ونهج من بعده من سلك ذلك المسلك ، وحاول محاولته.

ونحن نرى أن هذه محاولات ناجحة فى جملتها. وفى كثير من آيات الكتاب ، ولكنا لا نحسب أنهم وصلوا إلى الغاية أو أدركوا نهايته ، فإنه كتاب الله العزيز الحكيم ، لا تتناهى معانيه ، ولا يحاط بكل مغازيه ، وإن تلك المحاولات مفاتيح للنور ، ولكنها ليست النور.

٢٤٤ ـ بعد هذه المقدمة التى لا بد أن نذكرها لنعرف مدى الجهود التى تبذل ، والغاية التى تغيا عند محاولة التفسير ، وإن كنا نؤمن بأن القرآن كتاب مبين ، لا يحتاج إلى بيان ، ولكنا نحتاج إن كان فى قدرتنا إلى أن نتعرف أسرار بلاغته ، وموضع فصاحته ، ونقارب ، ولا نحد ، ونسدد وإن كنا لا ندرك ، ولا تصيب سهامنا ، ولا نصل إلى حال يكون معها يقين بأن ما وصلنا إليه هو سر الإعجاز ، وغاية البيان.

وبجوار الذين قالوا : إن القرآن مبين بذاته لا يحتاج إلى من يبينه ، ويفسره ، كان من يرى أن القرآن يتعبد به ، ويتلى تلاوة ، ولا تتعرف معانيه إلا بتعريف من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

ولا شك أن ذلك القول غريب ، ولكن وجدناه فى كتب المعتزلة ، وجدنا القاضى عبد الجبار يذكره فى كتابه المغنى ، ويستدل على بطلانه فيقول : «الذى قدمناه الآن يدل على فساد قولهم» ، أى أننا لا نطلب دلالة القرآن ، لأنا قد بينا أنه يقع منه تعالى على

٣٩٤

وجه يدل على المراد ، كوقوعه من أحدنا إذا تكامل على شرط دلالته ألا يصح منه تعالى أن يخاطب به وهو موضوع لفائدة إلا وهو يريدها ، وإلا كان فى حكم العابث ، وقد ذكر شيخنا أبو هاشم رحمه‌الله أنه إذا لم يكن معنى يستدل به عليه ، أو به وبغيره ، فلا فرق بين كونه على هاتين الصفتين ، وبين أن يكون الكلام من المخاطب بهذه الصفة» ، أى أنه إذا لم يكن له دلالة ، فلا فرق بين أن يكون عربيا أو عجميا من يقرؤه.

ثم يقول : «ولا خلاف بين المسلمين أن القرآن يدل على الحلال والحرام ، والكتاب قد نطق بذلك ، لأنه تعالى قال : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) ، وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) [النساء : ٨٢] وقال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام : ٣٨] وقال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] وقال تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ) ، إلى غير ذلك مما بين به أنه يفيد ، فيكف يصح مع ذلك ما قالوه» (١).

ويفهم من هذا الكلام أن ثمة من الناس من يرى أن القرآن للتلاوة والتعبد بتلاوته ، وقراءته فى الصلاة ، كما يفعل الأعاجم الذين لا يعرفون العربية وأنه يسوق الأدلة لبطلان هذا القول فيقول : «وبين شيوخنا أنه لو لم يكن له معنى لا يكون معجزا ، لأن إعجازه هو بما يحصل من المزية والرتبة فى قدر الفصاحة ، ولا يكون الكلام فصيحا إلا بحسن معناه وموقعه واستفاضته كما لا يكون فصيحا إلا بجزالة لفظه ، ولو أن واحدا من المتكلمين ألّف الكلام المهمل جملة ، وتكلم بها من غير مواضعة لم يعد من الكلام الفصيح ، كما لو كان فى معناه ركاكة لم يكن منه ، وكما لو رك لفظه لم يعد فى ذلك ، فكيف لمن أقر أنه معجز أن يزعم أنه لا معنى له ، وأنه لا فائدة منه» (٢).

هذا كلام القاضى عبد الجبار ، ولو لا نقله لهذا الكلام ما تصورنا أن يوجد من يقول إن القرآن لا يطلب معناه ، وأن القصد منه التعبد بالتلاوة فى الصلاة ، وخارج الصلاة.

ولعل الذى دفع هؤلاء إلى ذلك القول إن صح نقله أنهم يتوقفون خشية أن ينحرف بهم الفكر ، فيصرفوا معانى القرآن إلى غيرها لانحراف فى التفكير ، أو تزيد عليه ، فرأوا أن يكتفوا بالتلاوة والتعبد بها واقفين عند ذلك ، حتى لا يقولوا على الله بغير علم.

ومهما يكن مقصدهم فإن ذلك الرأى إذا قاله قائل لا يؤخذ به ، ولا نعلم أحدا قاله إلا ما تعلمنا من المغنى.

٢٤٥ ـ إن القرآن مقصود بمعانيه ، وبتلاوته ، وترطيب الأسماع به ، وبالتعبد به وبألفاظه ، فكل ما اشتمل عليه مقصود لذاته ، لا بالتبعية لغيره ، فهو مأدبة الله تعالى.

__________________

(١) الجزء السادس عشر من كتاب المغنى ص ٣٥٦.

(٢) الكتاب المذكور ص ٣٥٧.

٣٩٥

وقد يقول قائل : إذا كان القرآن بينا ، وإنه لكذلك ، فما مكان التفسير فى ذلك ، لأن التفسير لا يكون إلا عند حاجة للتبيين ، والقرآن الكريم ، كما تلونا من قبل كتاب مبين ، وقرآن مبين ، وبلسان عربى مبين ، وهل يستغنى عنه.

ويبدو لى أن العربى الذى لم تلتو لغته برطانة غير عربية ، ويفهم العربية لا يحتاج إلى تفسير إلا فيما يتعلق بآيات التكليف العملى والأحكام العملية وما يستنبط من القرآن وإنها لتتفاوت فى ذلك تفاوتا كبيرا.

ومهما يكن فإن التفسير علم يدرس ، وهو مفيد ، وهو قائم منذ عهد التابعين إلى اليوم.

وله بلا ريب فوائده ، وله غاية إن سلك المفسر الطريقة المثلى ، وإن جعل المفسر مرامى القرآن هى المقصودة ، ولا يتجه بكتاب الله إلى تحريف المعانى ، والانحراف عن المقاصد ، وإنه لا بد من التفسير لأمور كثيرة :

(أ) العمل على ربط معانى القرآن بما ورد فى السنة الصحيحة من بيانه ، وفى ذلك استعانة بالمبين للقرآن وهو الحديث ، ووضعه فى مواضعه ، حتى لا تضل الأفهام فى فهم معانى الأحكام ، ولأن بعض ألفاظه يشترك بين عدة مدلولات والسنة النبوية هى التى تحدد المدلول المراد.

(ب) وإن الذين يقرءون القرآن لبسوا جميعا فى مستوى العربى الذى يدرك معانى الألفاظ بمجرد استماعها ، ومن الألفاظ ما فيه بعض الغرابة حتى على بعض العرب ، بل بعض كبارهم ، ولقد روى أن عمر بن الخطاب ، وهو أمير المؤمنين لم يتبين عنده معنى لفظ «أبّا» فى قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) (٣١) [عبس : ٣١] فقد سأل عن معنى الأب ، واستكثر رضى الله تعالى عنه على نفسه ألا يغيب عنه معنى لفظ من ألفاظ القرآن.

هذا عمر رضى الله عنه يغيب عنه معنى لفظ من ألفاظ كتاب الله تعالى ، فكيف تكون حال من دونه من الصحابة علما ، وكيف تكون حالنا نحن الذين دخلنا العربية وفينا العجمة التى غلبت الفصحى فى كل مكان.

(جـ) ولا بد من بعد ذلك من تفسير إلى اللغات غير العربية ، أو يفسر القرآن ابتداء بغير العربية على أنه تفسير فسره واحد ، أو اشترك فيه جماعة. ويكون المترجم هو التفسير الذى يذكر معنى القرآن على وجهة نظر المفسر ، لأن القرآن أعلى كلام بليغ فى الوجود ، والكلام البليغ لا يمكن ترجمته من لغة إلى لغة محتفظا ببلاغته ، لأن البلاغة تتضمن إشارات بيانية ، ونغمات فيها موسيقى ، وحلاوة ألفاظ ، وتآخيها ، وجمال أسلوبه ، وتساوق معانيه ، ولا يتوافر لأحد من الناس أن ينقل كل الصفات

٣٩٦

البيانية والبلاغية للألفاظ القرآنية ، وقد حاول فى اللغة الفرنسية بعض العلماء الأوربيين المتخصصين فى العربية ترجمة القرآن برتبته البلاغية ، فقضى فى محاولة ترجمة آية مدة طويلة وأثبت دون ذلك.

(د) وأن القرآن الكريم له عدة قراءات متواترة ، وكل قراءة ، وهى متلاقية فى معانيها ، وليست يقينا متضاربة ، بل إن بعض القراءات تزيد معانى عن القراءة الأخرى ، أو توجه معناها فى اتساق محكم دقيق لا خلل فيه ، بل لا يتصور قط أن يكون فيه خلل ، وإن التفسير المحكم هو الذى يذكر ذلك التلاقى. فمثلا قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] فقد قرئت بضم الفاء ، وهى تدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام من العرب أنفسهم ، وليس غريبا عنهم ، وقرئت بفتح الفاء ، وهى تدل على أنه من أعلاها نسبا وخلقا ومكانة وشرفا ، وبضم القراءتين يكون المعنى أن الرسول عليه الصلاة والسلام من أعلى العرب.

هذه بعض الأسباب التى توجب أن يكون للقرآن تفسير ، وإن كان بينا مفهوما ، وهناك وجه للتفسير لا بد من الإشارة إليه ، وهو بيان الأسرار التى تضمنتها ألفاظ القرآن ، وتضمنها علم الكتاب من غير إرهاق للألفاظ ، ولا إعنات لمعانيه.

وإن من كتب التفسير ما حاول الكاتبون لها بيان الأسرار البلاغية فى بعض ألفاظ القرآن كالزمخشرى كما أشرنا ، ومن جاء بعده من المفسرين الذين نهجوا منهاجه وزادوا عليه ، وقالوا فى آيات مثل قوله. وثمة آيات لم يتعرض لبيان أوجه البلاغة فيها.

مناهج التفسير :

٢٤٦ ـ إن المناهج فى التفسير تختلف باختلاف ما يستعين به المفسر من مصادر التفسير ، وإن الذى يمكننا أن نحصيه من مصادر التفسير للقرآن أربعة : (أولها) المأثور عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (ثانيها) المأثور من أقوال الصحابة الكرام ، وتلاميذهم الذين اتبعوهم بإحسان ، ونقلوا تفسيرهم ، كمجاهد الذى نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما ، (ثالثها) اللغة ، إذ هى فى ذاتها أداة التعبير ، ولا يمكن الاستغناء عنها فى أى منهاج من مناهجه ، فهى لا تعد مصدرا مستقلا ، إذ هى تدخل فى كل المصادر.

(رابعها) الرأى وهو يعتمد ابتداء على اللغة ، وعلى مصادر الشريعة ومواردها ومراميها ، وغاياتها وأسرار القرآن ، وتعرف وجوهه.

ولا شك أن اللغة هى الأساس الأول لكل هذه المصادر ، ولا نقصد باللغة ما تومئ إليه المعاجم فقط ، فإن تفسير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمكن أن يكون مخالفا للعربية ومعانيها ، لأنه العربى الذى ينطق بجوامع الكلم ، وليس فى الكلام العربى ما يكون أصدق مصدر للاستعمال العربى الصحيح من أقوال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٩٧

٢٤٧ ـ ولننتقل من بعد إلى الكلام فى المصادر الثلاثة الأخرى.

فأولها ـ وهو أعظمها السنة لأنها الشارح الأول للكتاب الكريم ، وإن أحكام الحلال والحرام لا تفصيل لها إلا فى السنة ، وهى المصدر الوحيد لها ، ومن خالف تفسير السنة للحلال والحرام فى القرآن ، فهو من المفترين على القرآن الكريم. ويكون داخلا فى نهى قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [النحل : ١١٦] ؛ وذلك لأن هذا القسم من القرآن الكريم تكفلت به السنة النبوية ، لأن هذا من تبليغ الرسالة المحمدية وهو معناها. ومن يعارضها إنما يعارض تبليغ الرسالة النبوية ، ويفترى على الله الكذب ، فكل ما فى القرآن من أحكام فقهية سواء أكانت تتعلق بالعبادات أم كانت تتعلق بتنظيم المجتمع الإنسانى الذى يبتدئ بالأسرة ويتدرج إلى الجماعات ثم الأمة وعلاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المسلمين بغيرهم من الأمم فى السلم والحرب ـ كل هذا بيان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو حجة علينا يجب اتباعه.

والصحاح التى بين أيدينا فيها بيان الأحكام الشرعية بيانا كاملا كما وردت فى السنة.

هذا ، ويجب التنبيه إلى أن الاتجاه إلى تفسير القرآن من غير اعتماد على السنة والاستعانة بها فى هذا الباب خروج على الشريعة ، فقد قال الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦] ، والذين يتركون السنة زاعمين أنهم يأخذون بالقرآن يهجرون القرآن والسنة معا ، ويحاربون تبليغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لرسالة ربه.

ويلاحظ أن السنة قسمان : سنة متواترة : رواها جمع عن جمع حتى تصل الرواية إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا النوع من السنة يجب الأخذ به فى بيان الأحكام ، وبيان معانى العقائد التى اشتمل عليها القرآن الكريم لأنها ثابتة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بسند قطعى لا شبهة فيه ، والعقائد لا تثبت إلا بدليل قطعى الدلالة وقطعى السند ، ولذلك يقول الشافعى لمن يخالف الأحاديث المتواترة ، ويسميها أحاديث العامة ، يقال له «تب».

والقسم الثانى : أحاديث الخاصة كما يسميها الشافعى رضى الله تعالى عنه وهى التى لم يبلغ سندها حد التواتر ، ويسميها علماء السنة أحاديث الآحاد ، ولو رواها اثنان أو ثلاثة ما دام رواتها لم يبلغوا حد التواتر الذين يؤمن تواطؤهم على الكذب.

وهذا النوع من الأحاديث يعمل به فى تفسير الآيات التى تتعلق بالأحكام لأنها تفيد غلبة الظن بالنسبة للصدق ، وقد ثبت ذلك عن الصحابة رضى الله عنهم ، ولأن

٣٩٨

النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرسل رسله إلى الأقاليم آحادا ، ولا يرسلهم جماعات.

ولا يلزم الأخذ بأحاديث الآحاد فى تفسير الآيات التى تتعلق بالعقائد من ضرب الأمثال ، وذكر أسرار الكون من خلق السموات والأرض ، ومن سير الشمس والقمر ، وتسخير الرياح ، والأنهار والبحار ، وغير ذلك ، فإن ما يتعلق وكل ما ورد فيه من السنة أخبار آحاد أو رواتها غير ثقات لا يعتبر حجة فى تفسير القرآن وفهمه ، بحيث يجب الأخذ به ، ومخالفته تكون مخالفة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، فإنه من الثابت أن ما يجيء فى السنة مخالفا للمقررات العلمية القاطعة ، ويكون من أحاديث الآحاد يرد وتبطل نسبته إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، فليس معنى رده تكذيب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، إنما معنى رده أنه لم تصح نسبته إلى النبى ، وهو الصادق. ونقول مقالة الصديق خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التى رددها الشافعى ، وهى قوله : «أى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى ، إذا قلت فى القرآن ما لم أعلم».

وإن دراسة الآيات الكونية للعقل والاستقراء والتتبع مقام فى إدراكها ، ما لم تخالف نصا قرآنيا أو حديثا نبويا متواترا ، وليس فى الأحاديث المتواترة ما يعارض هذه الدراسة قط ، والله أعلم.

وهنا أمر آخر يتعلق بالقصص القرآنى ، ونقول فيه : إن القرآن يفسر بعضه بعضا فى هذا القصص ، وما يجيء ـ من السنة من زيادة على القرآن فى هذا يقبل منه ـ ما لا يناهض القرآن ، وما يزيد يقبل ما دام السند صحيحا ، وليس ثمة ما يرده سندا أو متنا ، ولا يجب الإيمان بالزيادة بحيث يكفر من ينكرها ما دامت أحاديثها لم تصل إلى مرتبة التواتر. ولكن ما لم يكن مطعن فيها يؤخذ بها على أساس الاطمئنان إليها.

هذه هى السنة ، وهى تعد المرتبة الأولى فى تفسير القرآن الكريم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

٢٤٨ ـ أما المرتبة التى تلا مرتبة السنة فهى أقوال الصحابة فى فهم معانى القرآن الكريم ، فكلامهم فى هذا له اعتبار فى فهم الكتاب العزيز لما يأتى :

(أ) أن الصحابة هم الذين سمعوا القرآن الكريم ابتداء ، وهم الذين شاهدوا وعاينوا ، وتلقوا التفسير عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، وكان ما يبهم عليهم يسألون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عنه ، ويروى عن ذى النورين عثمان رضى الله تعالى عنه ، أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان كلما تلا عليهم طائفة من الآيات تولى تفسيرها لهم ، فكان تفسيرهم أقرب إلى السنة ، بل يعده الكثيرون من السنة ، ما دام لا يمكن أن يكون للرأى فيه مجال.

٣٩٩

(ب) أنهم الذين شاهدوا أسباب النزول ، وعلموا فى أى موضع نزلت آى الكتاب الكريم ، وأسباب نزولها ، ولا شك أن أسباب النزول طريق معبد لفهم الكثير من الآيات الكريمات ، لأن أول ما ينطبق عليه المعنى للآية القرآنية هو ما كان سببا لنزولها ، ثم يعمم الحكم بعموم اللفظ ، جريا على قول الفقهاء فى محكم قواعدهم (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).

(ج) وإن الصحابة أعلم الناس بمعانى الألفاظ القرآنية من العرب ، ومن أعلم الناس بلغة العرب ، وما يكون غريبا بالنسبة لنا ، لا يكون غريبا بالنسبة لهم ، والألفاظ معروفة معانيها لهم.

وإن المتتبع للمأثور عن الصحابة فى تفسير القرآن الكريم يرى الرائى بادى النظر أنه قسمان :

أحدهما : ما اعتمد فيه على المأثور عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا يكون سنة نبوية وتفسيرا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا مجال للريب فى نسبته إذا كان السند إلى الصحابى صحيحا ، وذلك فى تفسير الآيات التى ليس للرأى فيه مجال ، فتفسيرهم يكون حديثا إذا نسبوه مرفوعا للنبى عليه الصلاة والسلام ، ويكون موقوفا إذا لم يسندوه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولكن لا يمكن أن يكون للعقل فيها مجال ، ولا يمكن أن يقولوا فى موضع لا مجال للعقل فيه إلا بقول المبلغ صلى الله تعالى عليه وسلم ، آخذين بقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦) [الإسراء : ٣٦].

والقسم الثانى : ما يكون للرأى فيه مجال ولا يسندونه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، بل هو مجرد الرأى منهم وإنهم فى هذا قد يختلفون ، وذلك فى بعض الأحكام الفقهية التى لم يرد فيها نص من الكتاب ببيان الحكم ، ومن ذلك قولهم فى عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا ، فقد اختلف الصحابة فى تفسير آيات العدة ، ففريق منهم ، وعلى رأسهم على بن أبى طالب أعمل الآيتين الواردتين وهما قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [البقرة : ٢٣٤] ، والآية الثانية هى قوله تعالى فى سورة الطلاق : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤]. فقال هذا الفريق من فقهاء الصحابة أنها تعتد بأبعد الأجلين أى تعتد بوضع الحمل إذا كان بعد مضى أربعة أشهر وعشر ، وتعتد بالأشهر إذا كان وضع الحمل قبل انتهاء المدة.

٤٠٠