المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣).

[البقرة : ١٩٠ ـ ١٩٣]

ويقول سبحانه وتعالى مبينا أن القتال لأجل الاعتداء ، وأنه ينتهى بنهايته : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠) [الأنفال : ٣٨ ـ ٤٠].

فما كان الإسلام ليستبيح دماء المخالفين لأجل المخالفة ، بل يستبيحها لأنهم استباحوا دم أهله ، ولأنهم أرادوا حمل المؤمنين على تغيير دينهم ، وفتنوهم فى ذلك ، والفتنة كما قال تعالى أشد من القتل.

٢٢٥ ـ ولأن الإسلام فى مشروعية الحرب هو دفع الاعتداء ، والفتنة فى الدين ، فإن الإسلام أباح الهدنة إذا أرادها المخالفون ، وحسنها ، ودعا إليها ، وقال تعالى فى ذلك وقد أذن بالقتال العام :

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤) [التوبة : ٣ ، ٤].

وفرض الإسلام هدنة إجبارية على المسلمين إن التزم بها المخالفون ، وهى ألا يكون قتال فى الأشهر الحرم ، وهى ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب الذى بين جمادى وشعبان.

وأوجب ألا يبتدئ فيها المسلمون قتالا ، إلا أن يكون امتدادا لقتال والسكوت يضر ، ولقد قال تعالى فى ذلك : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦) [التوبة : ٣٦].

ولا قتال فى الأشهر الحرم ، ما دام المخالفون يحترمونها ، فإن انتهكوها فلا يصح لأهل الإيمان أن يظلموا فيهن أنفسهم ، ويقول سبحانه وتعالى فى ذلك : (الشَّهْرَ

٣٦١

الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤) [البقرة : ١٩٤].

ويقول سبحانه وتعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢١٧) [البقرة : ٢١٧].

والإسلام إذ يقر الهدنة والعهود والمواثيق كما تلونا من كتاب الله ، يحترم هذه المواثيق ما احترمها المخالفون المناوئون واستقاموا عليها.

٢٢٦ ـ ولا يبيح الإسلام القتل ولا القتال بالنسبة لمن يريد السلام ، والله تعالى يقول فى ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٩٤) [النساء : ٩٤].

ولقد أمر القرآن الكريم أن يحترم الميثاق بالنسبة لأهله ، ولمن لهم به صلة. ولذا قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١). [النساء : ٨٩ ـ ٩١]

إن هذا النص يدل ـ أولا ـ على ضرورة احترام المواثيق ، وكف القتال عن أهل الميثاق. والذين لهم به صلة قومية. ويكون سلمهم سلما لهم. وحربهم حربا لهم.

ويدل ثانيا ـ على أن الذين يكونون ذوى صلة بقوم بينكم وبينهم عداوة ، وحصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ، أى أنهم لم يريدوا أن يكونوا مع المؤمنين على قومهم ، ولا مع قومهم على المؤمنين ، فهؤلاء لا يقاتلون.

٣٦٢

ويدل ثالثا ـ على أن الذين يترددون فى موقفهم فهم يريدون السلامة لأنفسهم بمداهنة قومهم الذين يقاتلونهم ومداهنة المؤمنين ، فهؤلاء يحكم عليهم بالواقع ، فإن لم يقاتلوا المؤمنين فلا سبيل عليهم ، وإلا كان قتالهم حقا بذلك الموقف البادى.

وإن هذا التقسيم يدل على أن القرآن الكريم يقرر نظرية الحياد ، ويحترم المحايدين ، فلا يرفع عليهم سيفا ، فالناس على ذلك فى نظر القرآن الكريم ثلاثة أقسام :

محاربون للمسلمين : وهؤلاء يجب قتالهم لرد اعتدائهم. والأخذ بالنواصى والأقدام من غير هوادة. وهؤلاء هم المعتدون بالقتال أو بفتنة المؤمنين كما قال تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (١٤) [التوبة : ١٤]

والقسم الثانى أهل الميثاق الذين بينهم وبين المؤمنين ميثاق عدم الاعتداء ، وهؤلاء يحترم ميثاقهم ، بل يمتد احترام الميثاق إلى الذين لهم به صلة ، بحيث يكون سلمهم واحدة وحربهم واحدة.

والقسم الثالث المحايدون الذين لا يكونون مع المؤمنين ، ولا مع أعدائهم واقعا ، لأنه ما دام الأصل فى العلاقات هو السلم إلا إذا حدث ما يوجب القتال ، فإن لم يكن منهم ما يوجبه فإنه لا سبيل لأحد عليهم.

وقد فهم بعض الذين لا يدرسون المسائل دراسة فاحصة مستقرية أنه لا موضع للحياد فى الفقه الإسلامى ، وذلك كلام من لم يمحص الحقائق لأن القرآن الكريم كما ترى جعل للحياد موضعا ، وهم الذين يعتزلون الحرب مع المسلمين أو ضدهم ، فقال إنه لا سبيل عليهم ، فكان الحياد ثابتا بنص القرآن الكريم.

٢٢٧ ـ وإذا تلونا بعض آيات القرآن الكريم التى فتحت باب القتال جهادا فى سبيل الله نجدها صرحت بأن القتال كان للاعتداء من غيرنا بطريقتين : قتل المؤمنين والاعتداء عليهم ، وإخراجهم من ديارهم ، والثانى بفتنتهم فى دينهم ، كما قال تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣٩) [الأنفال : ٣٩] أى كل إنسان يعتنق ما يعتنق لا رقيب على قلبه إلا الله تعالى ، فلا إكراه فى الدين ولا فتنة فيه.

وهنا يسأل سائل : ألم يبح القرآن القتال ، إلا دفاعا ، أو ردا للاعتداء ، ولم يبح الهجوم؟ ونقول فى الجواب عن ذلك : إن القرآن صريح فى أنه لا يباح القتال مع من ألقى السلام ، وبذلك يكون من المؤكد أن الإسلام لا يبيح الهجوم على الآمنين الذين

٣٦٣

يلقون السلام وإن ذلك حق لا ريب ؛ لأنه لا يباح الهجوم على من لا يعلن العداوة على المؤمنين ولكن هل يمنع الهجوم مطلقا؟ وللجواب على ذلك نقول :

إن الذى استنبط من صريح الآيات التى تلوناها أننا لا نحارب إلا من اعتدى علينا أو فتننا عن ديننا ، ومن الفتنة فى الدين أن يمنع المتدين من إقامة شعائر دينه ، وأن يحال بين الحق والدعوة إليه.

إنه فى هذه الحال يكون القتال ، ولكن يزاد عليها إذا قامت العداوة التى ابتدأها غير المؤمنين بالاعتداء على المؤمنين ، ومحاولة غزوهم فى ديارهم ، أو فتنتهم فى دينهم ، فإنه عندئذ يتعين قتال العدو المترصد الذى لا يألو المؤمنين إلا خبالا ويود عنتهم ، وإرهاقهم ، فلا يكون الاقتصار فى الحرب على الدفاع بأن ينتظر المؤمنون حتى يهاجمهم الأعداء ، وقد بدت عداوتهم وأعلنوها صريحة لا إبهام فيها ، إنه كما قال بطل الجهاد على بن أبى طالب : (ما غزى قوم فى عقر دارهم إلا ذلوا).

وبذلك نفسر قولنا إن المؤمنين ما قاتلوا إلا ردا للاعتداء بمثله أو توقفه ، ولقد تلونا الآيات التى تنهى عن قتل من لا يعتدى علينا ، ومن يعتزل قتالنا ، ومن يلقى علينا السلام.

وإذا ظهر الاعتداء ، وما يسكت عنه إلا للاستعداد لمثله ، كان القتال مشروعا بكل ضروبه لهؤلاء الأعداء بالهجوم على مأمنهم ، وبالقصد إلى مكامنهم ، ولذلك يقول الله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (١٠) [التوبة : ٥ ـ ١٠].

ويقول تبارك وتعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥) [التوبة : ١٣ ـ ١٥].

وترى من هذا النص أن الأساس هو الابتداء بالاعتداء. فإذا ابتدأ الاعتداء وجب

٣٦٤

القتال بكل ضروبه دفاعا وهجوما ، بل إن خير الدفاع ما كان هجوما. ولا سبيل لإنهاء القتال مع المعتدين إلا بإحدى خصال ثلاث : إما الإسلام ، وأن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، ويكونوا إخوانا ، وإما بالعهد يعاهدونه ، ويوفون به ، فما استقاموا فالعهد قائم ، وإلا فإنه ينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨) [الأنفال : ٥٨]. وإما الاستسلام. وأن يخضعوا لأهل الإيمان.

وقد قال تعالى فى ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٨) [محمد : ٧ ، ٨].

ويقول سبحانه : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٤) [محمد : ٤].

٢٢٨ ـ وننتهى من هذا التتبع إلى حقيقتين ثابتتين : إحداهما ـ أن محاربة المؤمنين لأى قوم لا تكون إلا عند اعتدائهم بإخراج المسلمين من ديارهم ، أو إيذائهم فى دينهم ، ومن الإيذاء أن يمنع الدعاة إلى الإيمان من أن يلاقوا الشعوب ، ويعرفوهم بالحق ، ومن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، لأنه لا إكراه فى الدين ، ولكن بعد أن يتبين الحق من الباطل ، والغى من الرشد ، وذلك لقوله سبحانه وتعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦].

الحقيقة الثانية أنه إذا كان الاعتداء بأى ضرب من ضروبه ، فإن باب الجهاد يفتح دفاعا وهجوما وغزوا والتقاء ، لا يمنع مانع إلا ما توجبه الفضيلة.

وقد فهم بعض الناس أن القتال فى الإسلام لا يكون إلا دفاعا. ولا يكون هجوما ، وذلك خطأ. والحق أن القتال لا يكون لقوم إلا إذا اعتدوا ، فإن كان الاعتداء حل قتالهم دفاعا وهجوما ، وهم فى الحالين المعتدون إلا أن يتوبوا أو يعاهدوا ويستقيموا.

وليس قتال المؤمنين ليكون باب الدعوة إلى الإسلام مفتوحا بعد اعتداء من المؤمنين ، بل هو رد للاعتداء ، لأن القتال لأجل الدعوة لا يكون إلا بعد أن يرسل المؤمنون دعاة للإيمان ، فإن أجاب بعضهم ، ولم يضطهد فى اعتقاده فإنه لا قتال ، ومن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها. وإن اضطهد كان الاعتداء بالفتنة ، فوجب القتال ردا للاعتداء بمثله.

وقد جاء الإسلام فى عصر الملوك المتجبرين الذين كانوا يؤذون رعاياهم فكان

٣٦٥

منهم الاضطهاد لكل من تبلغه الدعوة ويؤمن ، وما أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الجيوش إلى الشام إلا بعد أن اضطهد الروم المسيطرون المسلمين الذين أسلموا فى الشام وقتلوهم ، وما حارب الذين جاءوا من بعده الفرس إلا لأن كسرى حاول أن يرسل من يقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

ويلاحظ من يتلو آيات الأمر بالقتال أن فيها النهى عن الاعتداء. فالله تعالى يقول : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (١٩٠). [البقرة : ١٩٠]

والاعتداء المنهى عنه قسمان ـ أحدهما ـ الاعتداء بالقتال على قوم لم يعتدوا على المؤمنين وهم الذين ما جعل الله عليه سبيلا.

ثانيهما ـ الاعتداء فى القتال فيقتل من لا يقاتل ، فيقتل مثلا الشيوخ والنساء والذرية ، فإن هذا اعتداء فى القتال منهى عنه ، ولذلك يقول الله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤). [البقرة : ١٩٤]

وإن من مقتضى هذه التقوى ألا يقاتلوا من لا يقاتل ، وألا يقطعوا الأشجار ، وألا ينتهكوا الأعراض ، وألا يستبيحوا الأموال بغير حقها.

ويلاحظ أن القتال فى الماضى كان لا يتجاوز معسكر الحكام والجيوش ، والعلاقة بين المسلمين وشعوب الملك أو الرئيس القاتل قائمة ، كأنه لا حرب والسلام قائم.

إنما الحرب لمن يحادون الله ورسوله ، إذ يقول الله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) [المجادلة : ٢٢].

وأولئك الذين يحادون الله ورسوله هم الذين حاربوا المسلمين ، وأعلنوا العداوة وأخذوا يتربصون بهم الدوائر لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة.

وما عدا هؤلاء فإن السلم هى العلاقة الدائمة والمودة إن وجدت مقتضياتها. وقد نص القرآن الكريم على ذلك ، فقال تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما

٣٦٦

يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩) [الممتحنة : ٨ ، ٩].

فالمودة موصولة ما لم يكن الاعتداء ، إذ عسى أن تعود الصلة حتى بين الأعداء ، كما يقول الله سبحانه وتعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧) [الممتحنة : ٧].

العلاقة فى السلم والحرب

٢٢٩ ـ الإسلام هو دين الوحدانية. ودين الوحدة الإنسانية. وقد تلونا من قبل الآيات القرآنية التى تقر الوحدة الإنسانية بين الناس أجمعين ورأينا أنه بمقتضى هذه العلاقة يكون الأصل هو السلم ، ولكن الناس مختلفون أجناسا وقبائل وألسنة وأقاليم :

وتلك آيات الله تعالى فى الأرض. فقد قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (٢٢) [الروم : ٢٢].

وقد نظم الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم هذه العلاقة على أساس المساواة ، كما صرحت الآية الكريمة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) [الحجرات : ١٣] والمساواة أساس التعارف ، كما أن التعارف يقتضى المودة والتعاون فى كل أمور الحياة ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

والعدالة أساس العلاقات الإنسانية. كما تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٣٥). [النساء : ١٣٥]

ويقول سبحانه وتعالى فى العلاقة الإنسانية العامة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٨) [المائدة : ٨].

والأمر بالعدالة عام فى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ). [النحل : ٩٠]

وإن العدالة توجب المعاملة بالمثل ، إن اعتدوا قاومنا الاعتداء ، وقد قال تعالى فى ذلك : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١٢٦). [النحل : ١٢٦]

٣٦٧

ومع أن الله تعالى أمرنا برد الاعتداء بمثله فى قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ، أمرنا بالتقوى ، فقال سبحانه : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤) [البقرة : ١٩٤] ، ولذلك يجب علينا عند المعاملة بالمثل أن نستمسك بالفضيلة ، فإن الفضيلة هى القانون العام فى كل معاملة إنسانية ، فإذا كان العدو يقتل الذرية لا نقتلها ، وإن كان ينتهك الأعراض لا ننتهكها ، وإن كان يخرب ديار الآمنين لا نخربها ما وسعنا ذلك. وهكذا.

وإن الإسلام قرر مبدأ الوفاء بالعهد وشدد فيه القرآن ، فقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٣٤). [الإسراء : ٣٤]

ولقد قرر القرآن الكريم أن الوفاء بالعهد فى ذاته قوة ، فقال تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٩٤) [النحل : ٩١ ـ ٩٤].

وإن هذا النص الكريم يدل على أربعة أمور :

أولها ـ أن نقض العهد يؤدى إلى الزلل ، ومع الزلل الضياع ، فهو ليس حكمة ، ولا تدبيرا ، ولكنه خطل.

وثانيها ـ أن العهد الذى يوثق بيمين الله أو بإشهاد الله تعالى عليه هو عهد الله إذ اتخذ الله كفيلا ، فمن ينقضه فإنما ينقض عهد الله تعالى الذى وثقه بكفالته.

وثالثها ـ أن العهد فى ذاته قوة ، والتزامه قوة ، ولذا شبه من ينقضه بحال الحمقاء التى تغزل غزلا وتفتله ، ثم تنقضه أنكاثا أى أجزاء صغيرة ، فالعهد يثبت السلم ، وفى السلم قوة وقرار ، والنقض إزالة له.

ورابعها ـ أنه لا يصح أن تكون سعة الأرض ، وزيادة السلطان سببا فى الغدر ، ولذلك قال سبحانه وتعالى فى بواعث الغدر أن تكون أمة هى أربى من أمة أى أوسع أرضا ، وأكثر عددا ، وأقوى سلاحا ، فلا يصح أن يكون التوسع باعثا للغدر ، لأنه يؤدى لا محالة إلى الضعف.

٣٦٨

وهذا التشدّد فى الوفاء بالعهد لأنه فى ذاته عدالة ، ولأن العهد فيه حد للحقوق ، وخصوصا إذا كان بين متكافئين ، ولا يصح أن يكون الاستعداد وأخذ الأهبة سببا فى ذاته للنقض. ولكن إذا قامت أمارات تدل على أن استعداد المعاهد وأهبته نذير خيانة. وعلى المؤمنين أن يأخذوا حذرهم كما قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (٧١) [النساء : ٧١]. وفى هذه الحال يطبق قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨). [الأنفال : ٥٨]

وإذا كان هناك ما يجب الاحتياط له فإنه يكون عند عقد العهد. فلا يصح الاطمئنان إلى عهد من عرفوا بالخيانة. فإن العهد معهم نوع من الاغترار. ولذلك كان يجب تعرف حال الطرف الذى يعاهده قبل العهد. ولذلك حذر الله تعالى من العهد مع بعض المشركين الذين يقول سبحانه فيهم : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (١٠) [التوبة : ٨ ـ ١٠].

٢٣٠ ـ هذا ما أردنا أن نقتبسه من آى الذكر الحكيم فى أحكام الحلال والحرام ، وما نقلنا كل ما اشتمل عليه القرآن العظيم. ولكن نقلنا ما يرى التالى للقرآن المقتبس من نوره. وما فصلنا الأحكام التى تعرضنا لنقلها من كتاب الله ، فإن تفصيلها يحتاج إلى نقل ما جاء فى السنة ، وما اختلف الفقهاء فى ظل النور القرآنى فى دلالة بعض الألفاظ ، فإن الكلام فى ذلك يخرجنا عن مقصدنا. وهو الإشارة إلى علم الكتاب الكريم الذى يدل على إعجازه. والله سبحانه وتعالى الهادى إلى سواء سبيل.

علم الكون والإنسان فى القرآن

٢٣١ ـ القرآن الكريم ، تكرر ذكر الكون فيه لأنه كما بيّنّا اتخذ من خلق كل من فى الوجود دليلا على من أنشأه ، فكان بمقتضى النهج النورانى لا بد أن الكون وما فيه من خلق عظيم يدل على منشئه وحده سبحانه وتعالى ، ولا تكاد تجد سورة من القرآن مكية أو مدينة خلت من ذكر الكون ، وما يتصل به.

وإن ذلك فيما نحسب يوجه نظر الإنسان إلى أنه جزء صغير من هذا الكون ، ليربطه به ، وليتعرف أسراره ، وأحواله ، وليعرف أنه وهو الصغير قد سخر الله تعالى له هذا الكون الكبير ، ولقد قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).

وأن ثمة حقائق مذكورة فى القرآن يستبصر بها كل متعرف لهذا الكون دارس له.

٣٦٩

فالله تعالى يقول : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٢٩) [الشورى : ٢٩].

وفى القرآن الكريم ما يومئ إلى محاولة الإنسان الارتفاع فى الفضاء فالله تعالى يقول : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦) [الرحمن : ٣٣ ـ ٣٦].

واقرأ آيات القرآن فى السحاب ، وإرساله ، وأحواله ، فإنك تجد توجيها إلى ما لم يكن الناس من قبل يتجهون إليه ، ودلت المشاهدات على أنه واقع ، اقرأ قوله تعالى فى وصف السحاب : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣) [النور : ٤٣].

وترى من هذا تشبيه السحاب الذى أزجاه الله تعالى بالجبال ، وهذا لا يبدو للسائر على سطح الأرض ، ولا للواقف على آكامها ومرتفعاتها وما كان ذلك معلوما عند العرب ، ولكن الذى يرتفع فوق السحاب فى الطائرات التى تقطع أجواز الفضاء يرى السحاب جبالا.

وأن هذا بلا شك نوع من العلم بالكون فوق ما فيه من دلالة على إعجاز القرآن. إذ إن ذلك الوصف لا يمكن أن يكون من محمد ، لأنه لم يرتفع حتى يكون فوق السحاب ، فلا بد أن يكون الوصف بعلم الله تعالى ، والكلام كله من عنده سبحانه وتعالى ، لا من عند محمد.

وأنت ترى أوصافا كثيرة للأرض والسماء لا تكون من الأمى الذى لا يقرأ ولا يكتب ، أو لا يعلم علوم الكون وما يجرى فيه ، وما كانت معروفة عند العلماء فى عصر نزول القرآن ، كالعلم بطبقات الأرض والسماء ، ذكرها القرآن ، والباحثون لا يزالون دائبين فى البحث عنه ، وعلمهم يصدق بالقرآن ، اقرأ قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢) [الطلاق : ١٢].

واقرأ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩) [البقرة : ٢٩] ، وقوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ

٣٧٠

مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤) [الملك : ١ ـ ٤].

واقرأ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (١٦) [نوح : ١٥ ، ١٦].

وترى النص الكريم يفرق بين الشمس والقمر ، فيجعل الشمس هى السراج الذى يضيء ، والقمر نورا مقتبسا من غيره. وهو الشمس.

واقرأ قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(٦٢). [الفرقان : ٦١ ، ٦٢]

ويقول سبحانه وتعالى فى خلق السموات والأرض ، وأدوار خلقهن : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). [الأعراف : ٥٤]

ولقد بين القرآن أن السموات والأرض كانتا شيئا واحدا ، وأن الأرض انفصلت عن السماء وتكونت فيها القشرة الأرضية ، وكان عليها الماء ، ومنه كانت الأحياء التى خلقها الله تعالى ، واقرأ فى ذلك :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) (٣٢). [الأنبياء : ٣٠ ـ ٣٢]

وترى أن النص الكريم صريح فى أن السموات والأرض كانت كونا واحدا ، وفصل الله تعالى جزءا منه وهو الأرض ، وكانت فيها هذه الحياة التى يحياها الحيوان والطير فى السماء ، والسمك فى الماء ، والزرع فى الفيحاء.

وإذا كان العلماء اليوم يقررون أن الكون ابتدأ خلقه بالسديم ، وهو يشبه الدخان ، فقد صرح القرآن الكريم قبل ذلك ، وقبل أن يعلموا ، فقال الله تعالى فى خلق السموات والأرض : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً

٣٧١

لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢) [فصلت : ٩ ـ ١٢].

ونقف وقفة قصيرة عند هذه الآيات البينات ، فنرى الله سبحانه وتعالى يبين لنا أن الأرض خلقها فى يومين ، واليوم هنا كما أشرنا من قبل ليس هو اليوم الذى نعرفه ، إنما هو الدور فى التكوين ، وهو كونها من السموات رتقا ، وهذا دور ، ثم انفصالها وهذا دور ثان ، ودوران آخران للأرض جعل فيها رواسى عالية ، وهى الجبال ، وخلق فيها الماء وما تبعه من خلق للأحياء من حيوان ونبات ، فكانا أربعة أدوار.

ويبين سبحانه أن السماء والأرض كانت دخانا ، وهو ما نحسب أنه السديم الذى يقوله العلماء.

٢٣٢ ـ وإن القرآن الكريم فيه إشارات بينات إلى علم الكون ، ونعتقد أن الذين درسوا علوم الكون فى السموات والأرض وما بينهما لو تتبعوا آيات القرآن الكريم التى تعرضت لذكر الكون لوجدوا حقائق كثيرة مما وصل إليه العلم الحديث قد تعرض لها القرآن بالإشارة الواضحة التى تجمل ولا تفصل ، وهى فى كلتا الحالتين صادقة كل الصدق بينة لمن يطلب الحقائق الصادقة. وإن بضاعتنا فى علوم الكون محدودة لا تسمح لنا بالخوض فى كلام تفصيلى فى هذا ، وقد رأينا كثيرين من العلماء المخلصين المحققين قد تعرضوا لهذا ، فمنهم من بيّن طبقات الأرض ، كما أشار القرآن ، ومنهم من بيّن غير ذلك.

ونحن نرحب ببيانهم ، ولكن لا بد من ملاحظتين :

الملاحظة الأولى : أنهم يحاولون أن يحملوا القرآن نظرياتهم ، وعليهم أن يفهموه كما تبين ألفاظه ، وكما تومى إشاراته ؛ وذلك لأنهم أحيانا يحملون القرآن ما لا يتحمل ويرهقون ألفاظه بالتأويل ، وأحيانا يأتون بنظريات لم تكن قد حررت من بعد من الشك والنظر ، وقد تتغير ، ولا يصح أن يبقى القرآن تتردد معانيه باختلاف النظريات. بل إن الواجب أن ندرس ما فى القرآن على أنه حقائق ، فما وافقه من العلوم قبلناه.

الملاحظة الثانية : أن ندرس الكون فى القرآن على أنه حقائق ثابتة هى مواضع التسليم من المؤمن بالله تعالى وبالقرآن ، فلا نجعل حقائق موضع نظر ، بل إن الإيمان بالقرآن يوجب الإيمان بكل ما اشتمل عليه ، ولا يصح لنا أن نترك ظاهر القرآن ونتجه إلى تأويله إلا أن يكون الظاهر يقبل التأويل ، وتكون حقائق العلم الثابتة تقتضى الأخذ بالتأويل الذى يحتمله القرآن من غير تعسف ولا خروج بالألفاظ إلى غير معانيها.

٣٧٢

وإننا بهذه الدراسة العميقة المسلمة بحقائق نفتح مغاليق فى العلم ، ونتكشف الحقائق الكونية بهداية من القرآن ، على أنه المرشد لها ، وليس التابع ، ولا الخاضع ، وكتاب الله تعالى هو كتاب الحق والصدق والعلم ؛ لأنه من عند الله الذى لا يخفى عليه شىء فى السماء ولا فى الأرض ، وهو كتاب الوجود ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

الإنسان فى القرآن

٢٣٣ ـ ذكر الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من طين ، وخلق الجن من نار ، وقد بين ذلك فى أصل الخليقة ، وقد ذكر الله تعالى فى آيات وسور مختلفة وكلها سيقت بالبيان المتناسق فى موضعها وموضوعها ، ولنذكر من غير اختيار آيات كريمات فى موضع منها ، قال تعالى فى سورة البقرة :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦). [البقرة : ٣٠ ـ ٣٦]

وإن هذا النص الكريم يبين ثلاث حقائق كانت مع الإنسان :

(أولاها) أنه أوتى استعدادا لعلم الأشياء أى علم الكون وما فيه ، لأن الله تعالى سخرها له ، ولا يتحقق ذلك التسخير إلا إذا أودع الله تعالى نفسه القدرة على العلم بها ، ولذلك أنبأ الملائكة بأسمائها.

(الثانية) أن فى طبيعة الإنسان الاستعداد للإغراء ، ومن هذه الناحية جاء إبليس. فأغرى أبوى الإنسان بالأكل من الشجرة ، وقد نهاهما الله تعالى ؛ ولكنهما تحت تأثير ذلك الإغراء نسيا نهى الله كما قال تعالى فى وصف آدم أبى الخليقة : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) [طه : ١١٥].

٣٧٣

الحقيقة الثالثة : أن آدم نزل هذه الأرض ، وقد تلا كلمات الله تعالى ليكون مثالا للفضيلة ، ويستمسك بها ، ولكن كان معه فى الأرض إبليس يغرى ذرية آدم ، ويغويها ، كما قال تعالى عنه : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣) [ص : ٨٢ ، ٨٣]

هذا بيان الله تعالى فى ابتداء خلق الإنسان.

ولقد بين سبحانه من بعد ذلك خلق الإنسان بالتناسل ، فقال تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤].

ويقول سبحانه وتعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) [الإنسان : ٢ ، ٣].

ويقول تعالى فى خلق النفس الإنسانية فى الإنسان : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) [الشمس : ٧ ، ٨].

ويقول سبحانه فى القوة المدركة فى الإنسان التى بها يكون التكليف والحساب والثواب والعقاب : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠) [القيامة : ٣٦ ـ ٤٠].

ويذكر سبحانه وتعالى خلق القوى الإنسانية فى القرآن ، فيقول تعالت قدرته :

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٨) [النحل : ٧٨].

ويذكر سبحانه فى كتابه الكريم أدوار الإنسان فيقول تبارك وتعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (٧٢) [النحل : ٧٠ ـ ٧٢].

٣٧٤

وذكر الله خلق الإنسان ، وما عهد إليه من تكليفات فى ثنايا القرآن الكريم. وقد ذكر الكون على أنه مسخر للإنسان يكشف منه أسرار الوجود التى يكون فى طاقته أن يعلم بها ، ويذكر خلق الإنسان ، وما أودعه الله تعالى من قوى ليعبد الله تعالى وحده.

ويذكر سبحانه وتعالى أنه بمقتضى ذلك التكوين النفسى والعقلى وكل القوى التى خلقها سبحانه وتعالى قد أخذ عليه عهدا أن يكون ربانيا لله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٧٤) [الأعراف : ١٧٢ ـ ١٧٤]

وبذلك يبين سبحانه أن المواهب الإنسانية التى خلقها الله فى الإنسان عهد بينه وبين ربه ، فإن استجاب لفطرته ارتفع. وإن خالف واتبع الشيطان هوى ، وبين سبحانه وتعالى كيف يهوى فيقول سبحانه بعد الآية السابقة :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩) [الأعراف : ١٧٥ ـ ١٧٩].

النفس الإنسانية فى القرآن :

٢٢٧ ـ إذا اتجه التالى للقرآن إلى دراسة النفس الإنسانية من خلال آياته ، فإنه بلا ريب فى مكان فسيح للدراسة ، يعطى مجموعة من المعلومات الحقيقة المصورة للنفس فى إيمانها. وفى فجورها. ويمكن أن يجد الإنسان فيها قواعد عليمة تكشف عن نواميس النفوس ، وما تتأثر به ، وما تتجه إليه فى إيمانها. وفى انحرافها. ولنتجه إلى بعض هذه المعانى فى كتاب الله تعالى ، ولا ندعى أننا نستطيع الإحاطة بها علما ، ولا إحصاءها ، ولو بالتقريب ، فإن ذلك يحتاج إلى تفرغ لا قبل للأخذ به إلا أن يكون ممن يعنون بدراسته ، أو من المتخصصين فى علم النفس. ولنضرب بعض الأمثال ، وكثير منها فى قصص القرآن وبعضها فى شرح أحوال المؤمنين. وأحوال الكافرين :

٣٧٥

(أ) من هذه الأمثلة أن النفس التى تسارع إلى الاعتقاد من غير دليل سابق ، ولا فحص لقول لا حق من شأنها أن تقع فى الخطأ. وإذا أصرت بعد البيان كانت فى ضلال. أصابها الصمم عن الحقائق. والعماء عنها : اقرأ قوله تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢) [الأعراف : ١٠١ ، ١٠٢].

إن الذى وهبه الله الهداية لفهم القرآن الكريم بعباراته وإشاراته تبدو بين يديه الحقيقتان الآتيتان :

أولاهما ـ أنه سبحانه وتعالى يقرر أنه ليس من شأن الذين سارعوا إلى التكذيب من غير أن يفحصوا ويدرسوا ـ أن يؤمنوا ، لأن الإيمان يقتضى قلبا مذعنا لما يأتى به الدليل ، لا أن يكون سابقا بالحكم قبل الدليل ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله تعالت كلماته : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) وواضح أن العلة فى سد باب الإيمان هو مسارعتهم بالتكذيب من غير برهان ، ومن يكذب بالبرهان لا يؤمن بما جاء به البرهان.

الحقيقة الثانية ـ أن المسارعة بالتكذيب تؤدى إلى تغليق القلب عن أن يصل إليه النور. وبتوالى التكذيب من غير دراسة للأدلة يكون منع الهداية ، ولذلك يقول الله تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) [الأعراف : ١٠١] أى بهذه الحال ومثلها يطبع الله تعالى على قلوب الكافرين ، ويتحقق فيهم قول الله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١].

(ب) ولننتقل إلى مثل آخر من كتاب الله ، وإنه المعين الذى لا ينفد فى دراسة النفس الإنسانية ، ذلك المثل هو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) [آل عمران : ١٥٥].

فهذا النص الكريم يبين لنا قاعدة فى النفس يسترشد بها المربى والمهذب ، والذى حاول معالجة النفوس المريضة ، إذ يعرف سبب المرض فيطب له.

إذ يبين الله سبحانه وتعالى ، أن الذين أعرضوا عن الوقوف يوم التقى الجمعان ، سبب توليهم أنهم أصابتهم ذنوب ، وأن الذنب يسهل الذنب ، والمخالفة تجر المخالفة ، وأنه لأجل الطب لهم لا بد أن يعالج الذنب الأول بالحمل على الإقلاع عنه ، وقد يكون ظهور مغبته السيئة علاجا له ، ولذلك قال الله تعالى : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) ، لأنهم أدركوا سوء ما كان لهم.

٣٧٦

(ج) ومن هذه الأمثلة ما قرره الله تعالى من أن النفس غير المؤمنة لا تنضبط ، ولا تستقر على حال ، والنعمة تبطرها وتطغيها. والنقمة تؤيسها وتشقيها ، ولا ضبط ولا انضباط ، ولا علاج لذلك إلا بالصبر ، اقرأ قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١) [هود : ٩ ـ ١١].

وإن هذه الآية الكريمة تشير إلى أن ذلك الفرح الطاغى فى حالة ، واليأس المميت فى وقته مرض إنسانى ، وأن علاجه الصبر ، لأن الصبر ضبط النفس ، فلا تنزعج للألم ، ولا تطغى بالنعم.

(د) ولقد بين الله تعالى أن سلوك غير الحق هو اتباع للظن غير الناشئ عن دليل ، بل عن الهوى ، وقد قال تعالى فى ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢٨) [النجم : ٢٧ ، ٢٨].

فهذا النص الكريم يبين مرض النفس التى تضل ، ويذهب بها الضلال إلى متاهات من الباطل ، وذلك المرض هو الوهم ، فهم يتوهمون ثم يهوون ثم يظنون ، وليس عندهم دليل يكون علما ، بل عندهم أوهام وظنون ، وإن دارس علم النفس التربوى يجد فيه بابا من أبواب التربية العقلية بأن يباعد بين الناشئة والأوهام.

(ه) ومن الأمثلة لبيان أحوال النفوس ، بيان أحوال النفوس التى لا تفكر إلا فى دائرة نفعها أو ضرها ، ومن شأن هذه النفوس أن تكون أثرة متقلبة ، لا تذعن للحق ولكن تذعن لنفعها وضررها.

اقرأ قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢). [يونس : ١٢]

وهذا تصوير للنفس التى فقدت الإيمان ، وحرمت الخير ، ولا تفكر إلا فى محيطها ، وهى بلا ريب غير الذين قال الله تعالى فيهم : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩].

(و) ولنكرر مثلا ذكرناه فيما تلونا من قبل ، ونذكره هنا من ناحية البيان النفسى ، وهو مثل ولدى آدم ، فالله تعالى يقول : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)

٣٧٧

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). [المائدة : ٢٧ ـ ٣٢]

هذه الآيات البينات فيها كشف عن النفس المؤمنة المطمئنة الراضية وكشف عن النفس الحاسدة الحاقدة :

(أ) وهى تدل على أمور نفسية تصور مصدر الشر والخير ، فالنفس المؤمنة تعرف الأمور على وجهها وتدرك الحق وما أوجبه ، فهى ترد سبب قبول القربان إلى التقوى والخوف من الله.

(ب) والنفس التقية هى التى تمتلئ بذكر الله وتستشعر خوفه دائما ، وأن الاعتداء إنما يكون حيث يختفى الخوف ويظهر الطغيان ، ولذلك علل عدم رد الاعتداء الذى بادره به أخوه بأنه يخاف الله رب العالمين ، وأن القتل إنما هو جريمة فى حق من خلقهم الله تعالى ، وهو ربهم.

(ج) وتشير الآية إلى أن النفس منطوية على الخير ، وأن الشر عارض لها ، ولذا رد المؤمن التقى قول أخيه وتهديده بالقتل بقوله : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) ، وفى هذا إشارة إلى أن النفس التى لم تدنس بشر ليس من شأنها أن تبسط يدها بالقتل.

(د) والآيات تدل على أن الحسد هو أساس الاعتداء فلو انخلع من القلوب ما كان شر ولا اعتداء فى الأرض.

(ه) وتدل الآيات أيضا على أن الاعتداء بالأذى ليس هو الأصل بالنفس الإنسانية ، فهو عند ما اتجه إلى قتل أخيه عالج نفسه ليحملها على مطاردته فى قتله ، ولذا عبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) لأنه خسر أخاه وخسر نفسه ، فأفسدها.

(و) وتدل ثالثا على أن رؤية المعتدى عليه ، والاعتداء قائم يبعث على الندم ، والآيات من بعد ذلك تبين أن أساس الكثير من الجرائم هو الحسد ، فلو اجتث من النفوس ما كان اعتداء ، ولكن الله تعالى يبلو به الناس ليعلم الخير والشر.

ولا شك أن الدارس للنفس الإنسانية يجد فى القرآن معينا لا ينضب ، ولو أن الناس عكفوا عليه لوجدوا فيه أعظم مصدر للدراسات النفسية والاجتماعية.

٣٧٨

قصة يوسف فى سورته :

٢٣٥ ـ إن المتتبع لقصص الأنبياء فى القرآن يجد أنه يتجه إلى بيان دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى يذكر خبره بالتوحيد ، ومنع الإشراك بالله ، والإصلاح ودفع الفساد ، وكيف لاقى قومه دعوته ، وما احتج به من أدلة وما ساق لهم من براهين ، وأنواع المعجزات المختلفة التى أمد الله تعالى بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى يقص خبره ، وما آل إليه أمر الأقوام الذين دعاهم إلى الهدى وإلى طريق مستقيم فأبوا واستكبروا ، هذا شأن القصص القرآنى الذى يسوقه الله تعالى فى كتابه ، ولكنا نجد ذلك يختلف فى قصة نبى الله يوسف عليه‌السلام ، حتى يتوهم القارئ لها أن نبى الله يوسف ما كانت له دعوة يدعو إليها ، ولا قوم يخاطبهم حتى تهجم المنحرفون يقولون زورا من القول.

ولكن الدارس للسورة الكريمة يجد أنها طراز آخر من القصص. وفيها كشف عن النفس فى ناحية من نواحيها ، ودراسة لها فى علاقتها بالمجتمع الذى تعيش فيه ، إذ هو يوجهها ، وإن الدارس لها يجد فيها بيانا للأسرة فى علاقاتها بعضها ببعض مع علاقة الآباء بالأبناء ، وعلاقة الأبناء بعضهم مع بعض وعلاقات أبناء العلات ، كيف يختصمون وكيف يجتمعون ، وما يؤدى الحسد بين أبناء العلات ؛ بسبب ما تثور به النفوس المئوقة ، وكيف تتصور ما ليس واقعا على أنه واقع. ثم ما يؤدى إليه الاندفاع بدافع الحسد المقيت.

ولنبتدئ بإيجاز القول فى القصة من أولها : كان يوسف وأخوه الشقيق من أم غير سائر الإخوة ، والأب الحانى يعقوب يرى كل أولاده فى منزلة واحدة ، ولكنه بنظره العميق الشفيق يرى فى الإخوة الكبار من النظرات إلى الصغيرين ما لا يطمئن به فيعمل على ألا يكون منهما ما يثير ، ويؤجج النظرات الماقتة ، يرى يوسف رؤيا صادقة (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ، فيخشى الأب الحانى أن يورث ذلك عداوة إخوته فينهاه : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً).

ولكن الحسد يوهم الكبار أن أباهم يؤثر يوسف وأخاه بمحبته لما يكون من فضل عطف على الصغير من الإيثار : (قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ). وهنا يصل الحسد الشيطانى إلى غايته : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (٩). ولكن الشر لا يكون موضع إجماع ، فلم يكن إجماع على قتله بل : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠). ارتضى الإخوة ذلك الحل الذى ينزل من القتل إلى إلقائه فى الجب وهو صغير لا يعلم مآله ، ولكنهم يحتالون ليأخذوه من

٣٧٩

أبيه برضاه : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢). ولكن الأب الكريم بإلهام الأبوة يتوجس خيفة على ولده ويخشى عليه السوء. ولكنه يخفى فى نفسه سوء الظن بهم. أو لا يكون سوء ظن ، ويذكر أنه يحزن إذا غاب عنه مستوحشا بغيبته ، فيقول : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (١٣). أخذوه ونفذوا ما دبروا وألقوه فى غيابة الجب. ولكن نفس يوسف ألهمها الله بأنه سيكون الأعلى ، وسينبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ، عادوا إلى أبيهم يبكون ، قالوا : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) وأحسوا فى أنفسهم بالظنة تعرو أباهم ، فقالوا : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) ، ولكن الأب بفراسته وبإلهام الأبوة ما صدقهم. بل قال لهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨).

٢٣٦ ـ هذه قصة ساقها القرآن الكريم لا لمجرد الاتعاظ والعبر فقط بل فيها كشف عن النفوس يجد فيها الدارس النفسى مكانا للفحص يهديه إليه كتاب الله تعالى.

(أ) فهى أولا : تبين أن علاقة أبناء الأعيان ، وهم الأشقاء لا تماثلها علاقة أبناء العلات وهم الإخوة والأخوات من الأب من غير الأم ، وتصور الغيرة الشديدة التى تكون بين الأبناء ولو كانوا كبارا ما داموا فى ميعة الصبا ، وأن هذه الغيرة تدفع إلى الحسد ، والحسد يدفع إلى البغضاء ووراء البغضاء .. الجريمة.

(ب) وهى أيضا تصور لنا أن الأبوة الشفيقة توحى بالتظنن ، وبالاحتراس ، فقد تظنن نبى الله تعالى يعقوب عليه‌السلام فى أن قصّ يوسف على إخوته خبر الرؤيا قد يدفع إلى أن يكيدوا له كيدا ، ولذا أوصاه بألا يخبرهم بها ، وتظنن عند ما أرادوا أن يخرجوا به ، ولكنه لم يتمكن من منعه عنهم.

وإنه إذ لم يتمكن من منعه عنهم أبدى مخافته من أن يأكله الذئب ، وقد كانت منه هذه الكلمة ، وكأنها كانت توجيها لهم ليبدوا العذر الذى يعتذرون به ، فجاءوا واعتذروا بأن الذئب أكله ، فمن كلامه ابتدعوا قولهم ابتداعا.

(ج) ولكنهم جاءوا أباهم عشاء يبكون ، فما سر هذا البكاء؟ ذلك أنهم إذ فعلوا فعلتهم كان فيهم بقية من شفقة فكان هذا البكاء ، كما ندم أحد ابني آدم عند ما قتل أخاه.

(د) وإن يعقوب عليه‌السلام لم يصدق كل التصديق قولهم ، بل لم يصدق مطلقا ، واستعان بالصبر الجميل ، وهو الصبر من غير أنين ، وجدير أن يكون من النبيين.

٣٨٠