المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، ويا أيها النبى لم تحرم إلى رأس العشر ، وإذا زلزلت ، وإذا جاء نصر الله ـ هذه السور نزلت بالمدينة ، وسائر القرآن نزل بمكة».

ويلاحظ أنه جعل سورة النحل من السور المدنية ، ولكن المذكور فى المصاحف التى بين أيدينا أنها مكية ، ولعل فيها روايتين.

كتابة القرآن وجمعه

٩ ـ منذ ابتداء نزول القرآن الكريم على الرسول الأمين ، والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحفظه ، ويأمر من حوله ممن يحسنون الكتابة أن يكتبوه ، وقد سمى أولئك الذين كتبوا القرآن بكتاب الوحى ، ومنهم عبد الله بن مسعود ، وعلى بن أبى طالب ، وزيد بن ثابت ، وغيرهم كثير ممن كانوا يحضرون إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول الوحى بالقرآن عليه ، فيملى عليهم ما نزل ، ويعلمون ما حفظه فيحفظه الكثيرون من الصحابة وخصوصا من كانوا له عليه الصلاة والسلام ملازمين ، وعلى مقربة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان زول القرآن على غير الترتيب الذى نقرؤه الآن فى السور الكريمة ، بل كان ذلك الترتيب من بعد النزول بعمل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوحى من الله تعالى ، فكان يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضعوا آية كذا فى موضع كذا من سورة كذا ، فتكون بجوارها متسقة متلاحقة المعنى مترابطة ، متناسقة اللفظ ، تلتقى بها كأنها تقف معها ، وكأنها كلام واحد قيل فى زمن واحد ، أحدهما لاحق ، والآخر سابق ، وكأن المتكلم قالهما فى نفس واحد ، من غير زمن بينهما يتراخى ، أو يتباعد ، وذلك من سر الإعجاز ، ولا غرابة فى ذلك ؛ لأن القائل واحد ، وهو الله سبحانه وتعالى العليم الخبير الذى لا تجرى عليه الأزمان ولا يحد قوله بالأوقات والأحيان ؛ لأنه هو خالق الأزمان والمحيط بكل شىء علما.

ولذلك كان ترتيب القرآن الكريم فى كل سورة بتنزيل من الله تعالى.

وكان من الصحابة من يحفظه كله ، فكان عبد الله بن مسعود يحفظ المكى ، ويحفظ المدنى ، ولكن الرواة قالوا إنه عرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المكى فقط ، وكذلك جمع أبىّ المدنى ، وقالوا إنه عرض على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جمعه بعد الهجرة ، وأكبر العرض هو عرض زيد بن ثابت رضى الله تبارك وتعالى عنه. فقد كان سنة وفاة النبى ، وقد كان بعد أن قرأ الرسول الأمين على روح القدس جبريل القرآن مرتبا ذلك الترتيب الموحى به الذى نقرأ به القرآن الكريم.

وإن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد جمع القرآن فى صدر طائفة من الصحابة ، قيل إن عددهم مائة أو يزيدون ، ونحن نرى أنهم كانوا أكثر من ذلك عددا ، فإنه قتل من القراء فى إحدى مواقع الردة عدد يزيد على السبعين ، وقيل على سبعمائة ، وربما كان الأول أدق ، فإذا كان ذلك العدد مقتولا فالباقى بحمد الله تعالى

٢١

أكثر ، وإن كان قتل سبعين قد هال المؤمن الثاقب النظر عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه وجزاه عن الإسلام خيرا.

وإن كان بعض الكاتبين ذكر أن الحفاظ للقرآن من الصحابة أربعة هم على بن أبى طالب كرم الله تعالى وجهه ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، فذلك ليس من قبيل الإحصاء ولا قبيل التعيين العددى فإن العدد أكبر من ذلك.

والأمر الآخر الذى يجب التنبيه إليه هو أن القرآن كله كان مكتوبا عند الصحابة ، وإذا كان لم يكن كله مكتوبا عند بعضهم ، أو عند واحد منهم بعينه. فإن ذلك لم يكن منفيا عن جميعهم ، فهو مكتوب كله عند جميعهم ، وما ينقص من عند واحد يكمله ما عند الآخرين. وهكذا تضافروا جميعا على نقله مكتوبا ، وإن تقاصر بعضهم عن كتابته كمّل الآخر ، وكان الكمال النقلى جماعيا وليس أحاديا.

وقد يسأل سائل : لما ذا كان الجامعون له فى الصدور كثيرين. وقد حفظوه كاملا غير منقوص ، ولم يوجد من جمعه فى السطور جمعا كاملا؟

ونجيب عن ذلك بجوابين :

أحدهما : من واقع حياة العرب ، فقد كانوا أميين ، والمجيد منهم للكتابة قليل ، وأدوات الكتابة غير متوافرة ، وما يكتب عليه غير معد لها ، فكانوا يكتبون على الأديم ، وعلى لخاف الأشجار ، وعلى العسب ، وغير ذلك مما لا يعد للكتابة ، فكان الغريب أن تكون كتابة ، فضلا عن أن تكون كتابة كاملة للقرآن عند الواحد من الصحابة ، وكتابته كاملة عند الجميع كانت بتوفيق الله تعالى ومن عنايته بكتابه الكريم.

والجواب الثانى : أن ذلك من عمل الله تعالى ، لأن الله تعالى العليم الحكيم جعل حفظ القرآن الكريم فى الصدور ابتداء وانتهاء ، وفى السطور احتياطا ، ولا تحريف ، وإن تواتر القرآن الكريم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون كما تلقاه عن ربه العليم الحكيم ، والتواتر يكون بالتلقى فى الصدور لا فى السطور ، ولا يكون تواترا فى مكتوب إلا إذا قرئ المكتوب على من أخذ عنه وأجازه ، فالمكتوب يحتاج فى نقله إلى الإجازة القولية ، والإجازة القولية لا تحتاج إلى كتابة إلا بمقدار تسجيل الإجازة.

***

ترك محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدنيا والأمة على بينة من أمر القرآن ، قد استحفظوه ، وحفظوه ، وكتبوه وحمله رسول الحقيقة أمانة الخليقة ، وهو القرآن الحكم فى هذا الوجود الإنسانى ، فما ذا كان من بعده.

٢٢

جمع القرآن الكريم بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٠ ـ انتقل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وقد حفظ عدد كبير من الصحابة يبلغ حد التواتر القرآن كله كاملا غير منقوص لم يتركوا منه كلمة إلا حفظوها ، وعلموا أين نزلت ، ومتى نزلت ، وعلموا معناها من صاحب الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى أنه ليروى عن عثمان بن عفان أنه كان يقول : كنا إذا حفظنا عشر آيات من القرآن سألنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معناها فيبينها لنا.

ترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصحابته القرآن ، وهو أعظم ثروة إنسانية مثرية فى هذا الوجود ، وقد أدركوا حق الأمانة وأنهم حاملوها إلى الأخلاف من بعدهم كاملة كما تسلموها ، فكان حرصهم عليها أشد من حرصهم على أنفسهم ، لأنهم فانون وهى الباقية ، وهى تراث النبوة ، وسجل الرسالات الإلهية ، لذلك كانوا يحافظون عليها وعلى الذين حملوها فى صدورهم.

ولقد هال عمر بن الخطاب أنه قد استحر القتال بين المؤمنين الأولين ـ وكثير منهم من حفظة القرآن الكريم ـ. وبين أهل الردة فى موقعة اليمامة ، وقتل منهم فيما قيل سبعمائة كما جاء فى الجامع الكبير للقرطبى ، فأشار عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه على أبى بكر بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء كأبى وابن مسعود وزيد ، فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك فجمعه بعد تعب شديدة.

روى البخارى عن زيد بن ثابت قال : «أرسل إلىّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة ، وعنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتانى فقال : إن القتل قد استحر يوم القيامة بالناس ، وإنى أخشى أن يستحر القتل بالقراء فى المواطن كلها ، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه ، وإنى لأرى أن يجمع القرآن ، قال أبو بكر فقلت لعمر : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،؟ فقال : هو والله خير ، فلم يزل يراجعنى حتى شرح الله لذلك صدرى ، ورأيت الذى رأى عمر ، قال زيد : وعنده عمر جالس لا يتكلم ، فقال لى أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك ، كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفنى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ مما أمرنى به من جمع القرآن ، قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم!! فقال أبو بكر : هو والله خير ، فلم أزل أراجعه ، حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدر أبى بكر وعمر».

اختار أبو بكر كما ترى فى رواية البخارى ورواية غيره من أصحاب الصحاح زيدا ليقوم مع من يستعين به من حفظة القرآن ، وكان اختياره لزيد لأسباب جمة :

أولها : ما اشتهر به بين الصحابة من العلم والفقه.

٢٣

وثانيها : لأنه من كتبة الوحى الملازمين ، لا الذين كتبوا مرة أو مرتين وأخذوا لقب كاتب الوحى شرفا.

وثالثها : أنه ممن حفظوا القرآن وجمعوه فى صدورهم ، فكان حقيقا أن يجمعه مسطورا بعد أن جمعه محفوظا.

ورابعها : أنه عرض القرآن على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى السنة التى انتقل فيها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرفيق الأعلى كما قدمنا.

١١ ـ حمل زيد ما هو أشد حملا من الجبال ؛ لأنه يحمل أثقل موازين الهداية فى هذا الوجود الإنسانى ، وهو وديعة الله تعالى إلى الوجود الإنسانى إلى أن تزول السموات والأرض.

وما كان لمن يحمل مثل هذا الحمل أن ينفرد بالعبء فقد استعان بالحفظة الكرام من صحابة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعلام ، وسلك فى سبيل الجمع الخطة المثلى ، فما كان ليعتمد على حفظه ، وإنه لحافظ ، ولا على حفظ من استعان بهم ، وإنهم لحفاظ أمناء ، ولكنه كان لا بد أن يعتمد على أمر مادى ، يرى بالحس لا يحفظ بالقلب وحده ، فكان لا بد أن يرى ما حفظه مكتوبا فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يشهد شاهدان بأنهما هكذا رأوا ذلك المكتوب فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبإملائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تتبع القرآن بذلك آية آية ، لا يكتب إلا ما رآه مكتوبا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عهده ، ويشهد شاهدان أنهما هكذا رأيا ذلك المكتوب فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقلاه ، أو يرى ذلك المكتوب عند اثنين ، فهو شهادة كاملة منهما ، وقد حصل على القرآن كله مكتوبا بنصاب الشهادة فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما كان إلا أن نقل المكتوب فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه وجد آيتين لم يشهد اثنان بأنهما كتبتا فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل شهد واحد فقط ، وهو خزيمة بن ثابت الأنصارى وهو قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة : ١٢٨ ، ١٢٩] ، لم يجدهما إلا عند خزيمة ، وقد قال له النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكريما له : «شهادتك باثنين».

وروى أنه لم يجد آية أخرى إلا عند خزيمة ، وهى قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). [الأحزاب : ٢٣]

هذا هو المسلك الذى سلكه المؤمن الحافظ الذى اختاره أبو بكر لحمل التبعة مع من اختاره. ولنترك الكلمة له ، أى لزيد فهو يشير إلى ما سلكه فهو يقول فيما رواه البخارى : «قمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال ،

٢٤

حتى وجدت آيتين من سورة التوبة مع خزيمة الأنصارى ، لم أجدهما مع غيره. (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨].

والآية الأخرى التى لم يجدها إلا عند خزيمة أيضا جاء فيها عنه فى رواية البخارى أيضا : وعن زيد بن ثابت لما نسخنا فى المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها ، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصارى الذى جعل الله تعالى شهادته بشهادة رجلين (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] ، وقد علق على ذلك القرطبى فكانت الأولى من سورة براءة فى الجمع الأول على ما قاله البخارى والترمذى ، وفى الجمع الثانى فقدت آية من سورة الأحزاب.

وهذا يدل على أن الجمع الثانى اتبع فيه ما اتبع فى الجمع الأول بالبحث عن الآيات مكتوبة فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يشهد اثنان بكتابتها فى عصره ، أو توجد عند اثنين ، فوجودها عندهما شهادتان ، والجمع الثانى كان فى عهد عثمان.

ولكن قد يسأل سائل : لما ذا كان نصاب الشهادة كاملا فى الجمع الذى حدث فى عهد أبى بكر ، ثم لم يوجد النصاب فى بعض الآى عند الجمع الثانى؟

نقول أن فرض ذلك يتحقق بغياب أحد ركنى النصاب عن المدينة ، أو موته ولكن الله تعالى حافظ كتابه فى هذا الوجود كوعده بحفظه وأنه منجز ما وعد : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩] ، ولذلك كان الشاهد فى الثانى هو الشاهد فى الأول ، وهو خزيمة الأنصارى الذى جعل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادته باثنين ، فالنصاب كان كاملا.

١٢ ـ ولا نترك الكلام فى هذا العمل الجليل الذى اشترك فيه أبو بكر وعمر ، وحمل عبأه زيد بن ثابت مع جمع من المهاجرين والأنصار ، من غير أن نقرر حقيقتين ثابتتين ، تدلان على إجماع الأمة كلها على حماية القرآن الكريم من التحريف والتغيير والتبديل وأنه مصون بصيانة الله سبحانه وتعالى له ، ومحفوظ بحفظه ، وإلهام المؤمنين بالقيام عليه وحياطته.

الحقيقة الأولى : أن عمل زيد رضى الله عنه لم يكن كتابة مبتدأة ، ولكنه إعادة لمكتوب ، فقد كتب كله فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمل زيد الابتدائى هو البحث عن الرقاع والعظام التى كان قد كتب عليها والتأكد من سلامتها ، بأمرين : بشهادة اثنين على الرقعة التى توجد فيها الآية أو الآيتان أو الآيات ، وبحفظ زيد نفسه وبالحافظين من الصحابة ، وقد كانوا الجم الغفير والعدد الكبير ، فما كان لأحد أن يقول : إن زيدا كتب من غير أصل مادى قائم ، بل إنه أخذ من أصل قائم ثابت مادى.

٢٥

وبذلك نقرر أن ما كتبه زيد هو تماما ما كتب فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه ليس كتابة زيد ، بل هو ما كتب فى عصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أملاه ، وما حفظه عن الروح القدس.

وإذا كان ما كتبه عثمان من بعد ذلك قد قوبل بما كتب فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمصحف العثمانى الذى بقى بخطه إلى اليوم هو مطابق تمام المطابقة لما كتب فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه يجب ألا يخرج عنه قارئ فى قراءة بزيادة حرف أو نقص ، قد تكون القراءات متغيرة فى أصوات المقروء وأشكال النطق ، ولكن لا يمكن أن تكون متغيرة بزيادة أو نقص ، فذلك هو الخروج عن الرسم الذى وضع فى عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإقراره صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الحقيقة الثانية : أن عمل زيد لم يكن عملا أحاديا ، بل كان عملا جماعيا من مشيخة صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ذلك أن زيدا بطبيعة عمله أعلن بين الناس ما يريد ، ليأتيه كل من عنده من القرآن ما هو مكتوب بما عنده ، وقد علموا مقدار ما ينبغى لكتاب الله من عناية ، فذهبوا إليه وذهب إليهم ، وتضافر معه من كانوا يعاونونه غير مدخرين جهدا إلا بذلوه فى عناية المؤمن بكتاب الله تعالى الذى يؤمن به.

ولما أتم زيد ما كتب ، تذاكره الناس ، وتعرفوه وأقروه ، فكان المكتوب متواترا بالكتابة ومتواترا بالحفظ فى الصدور ، وما تم هذا لكتاب فى الوجود غير القرآن : ولا يهمنا أن يقر ذلك المعاندون أم لا يقروه فذلك إيماننا ، والحجة القاطعة لا يضيرها ارتياب فى غير موضعه ، بل الحقائق ناصعة ، والبينات قائمة ثابتة ، وهى فى حكم البدهيات القاطعة ، ومن يرتاب فى أمر عقلى لا ريب فيه ، فهو يضل نفسه ، ولا يضر غيره ، والحق أبلج ، والباطل لجلج ، إذن فلا عجب فى أمر المعاندين الضالين.

إنما العجب كل العجب فى أمر الذين يضلون فى طلب الحق ، فيتيهون فى ظلمات الروايات المدسوسة المكذوبة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

جمع القرآن فى عهد عثمان أو الأحرف السبعة

١٣ ـ جمع القرآن كله فى عهد الشيخين أبى بكر وعمر ، وقد أودعه عمر حفصة أم المؤمنين ، ليكون مصونا يرجع إليه لا ليتلى منه ، فالتلاوة استمرت كما كانت فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتلقى من أفواه الرجال مرتلة ، كما تلقوها عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبقى القرآن محفوظا فى صدور المؤمنين بنصه وتلاوته.

وإن النص المكتوب واحد ، لا تغير فيه ، وهو يحتمل عدة قراءات ، وقد ذكروا أن القراءة المتواترة لا تكون مقبولة إلا إذا كانت موافقة للنص المكتوب غير زائدة ، ولا ناقصة ، فهى شاملة للقراءات كلها.

٢٦

ولقد أجيز فى أول نزول القرآن أن يقرأ على لغات سبع من لهجات العرب كلها يمنيها ونزارها ، لأن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجهل شيئا منها ، ولذلك روى البخارى أن القرآن نزل على سبعة أحرف نسخت ست وبقيت واحدة ، ويروى مسلم عن أبى بن كعب أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند أضاة بنى غفار (وهو غدير صغير عندهم) فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال له : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف ، فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتى لا تطيق ذلك ، ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين ، فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتى لا تطيق ذلك ، ثم جاء الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال : أسأل الله تعالى معافاته ومغفرته ، وإن أمتى لا تطيق ذلك ، ثم جاء الرابعة ، فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف ، فأيما حرف قد قرءوا عليه فقد أصابوا ، وروى الترمذى عن أبى بن كعب ، قال : «لقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل فقال : يا جبريل إنى بعثت لأمة أمية منها العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذى لا يقرأ كتابا قط ، فقال لى : يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف» وهذا حديث صحيح.

وقد قال القرطبى فى كتابه الجامع الكبير لأحكام القرآن : «ثبت فى الأمهات البخارى ومسلم والموطأ وأبى داود والنسائى وغيرها من المصنفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم» ، وهو الذى صرح فيه بأن عمر سمع هشاما يقرأ بحروف لم يسمعها ، فأخذه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقر ما قرأ هشام ، وأقر ما قرأ عمر ثم قال : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف».

١٤ ـ وإننا إذا تأملنا ما جاء فى هذه الأخبار الصحاح ننتهى إلى أن العرب ما كانت تطاوع ألسنتهم حرف القرآن ، ففيهم الرجل الشيخ والمرأة العجوز اللذان جمد لسانهما على لهجتهما فلا يطاوعهما على النطق الصحيح بلهجة لم يعرفوها : ولم يلوكوها من قبل ، فكان لا بد أن تمرن ألسنتهم أمدا على لغة القرآن حتى تلين وتألف النطق بكلماته على اللغة التى بقيت.

وتفسير الأحرف باللهجات أو لغات العرب ما بين مضرية وربعية ونزارية وقرشية وغيرها هو التفسير الذى اختاره ابن جرير الطبرى ، وكثيرون من الرواة ، وهو الذى يتفق مع النسق التاريخى فى الجمع الذى اضطر ذو النورين عثمان رضى الله تعالى عنه لأن يقوم به ، وارتضاه الصحابة ، وقال على بن أبى طالب كرم الله وجهه : لو كنت مكانه ما عملت إلا ما عمل.

ولقد ذكر القرطبى أن هذه الأحرف باقية فى القرآن لم ينسخ منها حرف ، ولكنى أرى أن النسق التاريخى الذى أشرنا إليه من قبل يوجب أن يكون حرف واحد قد بقى ، وهو لغة قريش ، وهو الذى كتب عثمان مصحفه عليه ، وكان من قبل مكتوبا عليه كما

٢٧

سنبين أنه لم يأت قط بما يخالف المصحف المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة عند ما قابله به.

وقبل أن ننتقل إلى ما فعل الإمام عثمان رضى الله تبارك وتعالى عنه لا بد أن نذكر حقيقتين دل عليهما المأثور عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والسياق التاريخى :

أولهما : أن الذى كتب فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعتره تغيير ، ولم تجر عليه الحروف السبعة ، وأن الحروف السبعة كانت فى قراءة القرآن ، لا فى كتابته ، وأن استئذان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى القراءة لا فى الكتابة.

ثانيتهما : أن استئذان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ليسهل على أمته حتى تلين ألسنتهم ، وتستقيم على النطق باللغة التى اختارها الله تعالى لقرآنه المنزل من عنده وهو العليم ، وهى لغة قريش فى جل ما أنزل الله تعالت كلماته ، فكانت لغة قريش لغة الأدب فى الجاهلية والإسلام فكان من منطق الحوادث أن يكون أعلى الكلام ينزل فى ثوب أعلى اللغات العربية إذ كانت لغة الشعر والأدب.

١٥ ـ ولننتقل بعد ذلك إلى جمع ذى النورين عثمان رضى الله عنه ، ومكانه من جمع الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما ، وجزاهما عن الإسلام خيرا.

تفرق الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وقد كان عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه آخذا بحجزات الصحابة وخصوصا كبارهم يمنعهم من مغادرة الحرمين ، فاختلف الناس فى القراءة ، ومنهم من كان يقرأ بالقراءات أو اللغات المختلفة التى ما كانت القراءة بها إلا ترخيصا مؤقتا حتى تلين الألسنة إلى لغة القرآن ، وإنها لواحدة ، وإن اختلفت القراءات المتواترة فى ظلها ما بين حذف الهمزة فى النطق ، وإن كانت باقية فى مصحف عثمان تقرأ فيه مثبتة وغير مثبتة كالأرض (مهموزة) والارض (من غير همزة) ومن اختلاف فى الشكل يدل فى كل شكل على معنى صحيح يصلح أن يكون مقصودا فى القرآن ، ويكون الجمع صحيحا ، مثل أنفسكم «بضم الفاء» وأنفسكم «بفتحها» ومثل فتبينوا بالباء بعد التاء ، أو فتثبتوا بالثاء بعد التاء وبعدها باء ثم تاء.

وما كان اختلاف القراء فى الأمصار فى عهد عثمان فى هذه القراءات المشهورة بيننا الآن إنما كان الاختلاف فى اللغات التى كان مرخصا بها ، فمنهم من لم يعلم نسخها ، عند قراءة جبريل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى العرضات الأخيرة.

لقد اشتد الأمر فى ذلك ، وعظم اختلافهم وتشبث كل فريق بما يقرأ ، زاعما أن غيره هو الباطل الذى لا ريب فيه ، ووقع الخلاف بين أهل العراق وأهل الشام عند ما اجتمعوا فى غزوة أرمينية ، فقرأت كل طائفة بما روى لها ، وتنازعوا أمرهم بينهم ، وأظهر بعضهم تكفير بعض ، وتبرأ بعضهم من بعض ، وكان معهم حذيفة بن اليمان كما

٢٨

ذكر البخارى والترمذى ، وقد ذكرا أن حذيفة عند ما آب من هذه الغزوة دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى أهله فقال : أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك. قال عثمان : فى ما ذا؟ قال : فى كتاب الله ، إنى حضرت هذه الغزوة ، وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز ، ووصف له ما كان من الاختلاف والتكفير ، وقال : إنى أخشى عليهم أن يختلفوا فى كتابهم ، كما اختلف اليهود.

أفزع هذا الأمر عثمان التقى ، كما أفزع المؤمنين الذى علموا ذلك النبأ الخطير ، ولكن الفزع لم يوهن العزيمة بل شحذها ، ولم يضعف الإرادة بل حفزها ، وكانت عزمة ذى النورين عثمان.

لقد أحضر النسخة المحفوظة عند أم المؤمنين حفصة لتكون الإمام الذى يحتكم إليه فيما هو مقدم عليه ، وجمع من الصحابة الحافظين الكرام بضعة على رأسهم زيد ابن ثابت الجامع الأول ، والثقة الثبت الذى كان له فضل التثبت فى كل كلمة وآية.

وقد قال له عثمان رضى الله تعالى عنه عند ما ندبه لذلك العمل الجليل : إنى مدخل معك رجلا فصيحا لبيبا فاكتباه ، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلى ، فجعل معه أبان وسعيد بن العاص ، فلما بلغا فى الكتابة قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ٢٤٨]. قال زيد : فقلت التابوة وقال سعيد بن العاص التابوت ، فرفعنا الأمر إلى عثمان ، فكتب التابوت.

وكان جملة من ضمهم إلى زيد ثلاثة هم عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص الذى ذكرناه وعبد الرحمن بن الحارث ، وقال لهذا الرهط من قريش : ما اختلفتم فيه أنتم وزيد ، فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه نزل بلسانهم.

ويظهر أن سيدنا عثمان لم يكتف بهؤلاء الأربعة ، بل كان يضم إلى معاونتهم من يكون عنده علم بالقرآن يعاونهم فى كتابته ، ولقد روى ابن عساكر أن عثمان دعا إلى هذه المعاونة فقال : إن عثمان خطب يومئذ فى الناس وعزم على كل رجل عنده شىء من كتاب الله لما جاء به ، ويقول ابن عساكر فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة ، ثم دعاهم رجلا رجلا ، فناشدهم : أسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أملاه عليك ، وهكذا كان يتثبت فى الرواية ، كما كان التثبت من زيد ومن معه ، والذى كتب المصحف الأول الذى أودع أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها وعن أبيها فاروق الإسلام.

وقد أتم زيد ومن معه جمع القرآن ، ولكن عثمان لا يكتفى ، بل إنه يسير فى الاستيثاق إلى أقصى مداه ، فيحضر مصحف أم المؤمنين حفصة ، ويعرض المصحف الجديد ، فيجدهما يتوافقان تمام التوافق ، لا يزيد أحدهما عن الآخر حرفا ولا ينقص

٢٩

عنه ، حتى لقد فهم بعض العلماء أن جمع عثمان كان نسخا لما جاء فى الصحف المحفوظة عند أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها وعن أبيها الفاروق ، وجاء ذكر ذلك فى بعض الروايات تسامحا ، ولكن الحقيقة أنه ما كان نسخا ، بل قام بالتحريات كلها ، حتى جمع ما جمع ، وكان التوافق الكامل الذى يدل دلالة قاطعة على صدق الجمعين ، وعلى تواتر القرآن الكريم مكتوبا ومحفوظا ، وبذلك حفظه الله تعالى وصانه.

ولقد قال الطبرى أن الصحف التى كانت عند حفصة جعلت إماما فى هذا الجمع الأخير ، ويقول القرطبى : «هذا صحيح» ومعنى صحته أنه بعد الجمع الذى قام به زيد بأمر عثمان ، وعاونه المؤمنون الحافظون قد روجع على مصحف حفصة رضى الله عنها ، وكانت هى المقياس لصحته ، فبالمقابلة بينهما بعد الجمع تبينت صحتهما بصفة قاطعة لا ريب فيها ، فكانت هذه الإمامة ، حتى ظن أنه نسخ منها.

١٦ ـ ويلاحظ أمران :

أولهما : أن عثمان رضى الله عنه كان غرضه من إعادة جمع المصحف هو أن يكتبه على حرف واحد من الحروف السبعة ، أى اللهجات واللغات السبع ، فما كان جمعه إلا لإثبات الحرف الباقى الذى روى مكتوبا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليجتمع عليه المسلمون ، ولا يكونوا متفرقين ، أن يكون ذلك موافقا للمكتوب فى عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

جاء فى القرطبى «قال كثير من علمائنا كالداودى ، وابن أبى صفرة : هذه القراءات السبع التى تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هى الأحرف السبعة التى اتسعت الصحابة فى القراءة بها ، وإنما هى راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة ، وهو الذى جمع عليه عثمان ، ذكره ابن النحاس وغيره».

الأمر الثانى : أن عثمان رضى الله تبارك وتعالى عنه حسم مادة الفتنة بذلك الجمع ، وعمل ما كان ينبغى أن يعمل ، ولذلك نسخ من هذا الذى جمعه نسخا على قدر الأقاليم العربية ، فأرسل إلى كل إقليم نسخة كانت هى الأصل لهذا الإقليم ، فأرسل إلى مصر ، وإلى الشام ، وإلى مكة واليمن والبحرين والبصرة ، والكوفة ، وحبس بالمدينة مصحفا كان هو الإمام لكل هذه النسخ ، وهو المرجع الأول فى الدولة ، ترجع إليه كل المصاحف ، وهو الحاكم عليها.

وإذا كان هو الأصل لكل هذه المصاحف فيجب القول بأنه لا اختلاف بينها لأنه الحكم ، وأنها صور لنسخة واحدة ، ويلاحظ أن الإمام العظيم عثمان قد كتب المصحف خاليا من النقط والشكل ، كما كان المصحف الموجود عند حفصة خاليا من النقط والشكل ، ولم يكن نقط وشكل إلا بعد ذلك.

٣٠

ولكن لما ذا خلا من ذلك؟ والجواب عن ذلك أن القرآن له قراءات مختلفة هى سبع قراءات ، وليست هى الحروف كما ذكرنا من قبل ، ولكى يكون المكتوب محتملا لهذه القراءات المروية بطرق متواترة كلها كان لا بد أن يكون غير منقوط ولا مشكول ، كما ذكرنا فى اختلاف القراءة فى (أنفسكم) وكما ذكرنا فى اختلاف القراءة فى (فتبينوا) ، وما كان يمكن أن يحتمل النص القراءتين إذا كان منقوطا ومشكولا.

ومن جهة أخرى أن الأساس فى تواتر القرآن هو الحفظ فى الصدور لا فى السطور ، حتى لا يعتريه المحو والإثبات ، فلو كان القرآن منقوطا ومشكولا لاستغنى طالب القرآن عن أن يقرئه مقرئ ، فلا يكون التواتر الصحيح الذى يقتضى الإجازة ممن أقرأه ، ولقد جاء التحريف فى الكتب الأخرى لاعتمادها على المكتوب فى السطور لا المحفوظ فى الصدور.

ومن جهة ثالثة أن ترتيل القرآن ، كما أثر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بد منه كما قال تعالى : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان : ٣٢] ، وأن ذلك لا يتم إلا إذا كان القرآن يقرأ على مقرئ يجيزه حفظا وقراءة وترتيلا.

١٧ ـ وإن الرواية الصحيحة بينة مستقيمة لا مجال للشك فيها ، وهى تدل على أمور ثلاثة قطعية فى ثبوتها وهى :

أولا : على أن النص الذى كان عند حفصة هو النص المكتوب فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ذاته النص المكتوب فى مصحف عثمان رضى الله عنه ، فلا يصح الزيادة عليه ولا يصح النقص.

ثانيا : على أن القرآن كتب بلغة قريش ، وهى الحرف الذى استقرت القراءة عليه ، وما كان الترخيص بالقراءة بالحروف الأخرى إلا مؤقتا حتى تطوع الألسنة لحرف قريش ، ولقد جاء فى القرطبى : «إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندى فى الأغلب والله أعلم ؛ لأن غير لغة قريش موجود فى صحيح القراءات من تحقيق الهمزة ونحوها ، وقريش لا تهمز».

ومؤدى هذا الكلام أن الألفاظ والأساليب والمنهج القرآنى أنزل على لغة قريش ، ولكن الحركات التى تعترى بنية الكلمة من همز أو إمالة أو نحو ذلك جاء على لهجات من غير قريش ورويت كلها عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثالثا : أن مصحف عثمان رضى الله تبارك وتعالى عنه يجب أن تكون كل قراءة قرآنية متفقة مع نصه ، وأن الشك فيه كفر ، وأن الزيادة عليه لا تجوز ، وإنه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة.

٣١

١٨ ـ إذا كانت هذه حقائق ثابتة تواترت فى الأجيال ، فلما ذا كانت الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم التى احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشى ، والإتقان للسيوطى التى تجمع كما تجمع حاطب ليل يجمع الحطب والأفاعى مع أن القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذى لا يعلق به غبار؟

قد أجاب عن ذلك الكاتب الكبير المسلم المرحوم مصطفى صادق الرافعى (١) ، فقال فى كتابه إعجاز القرآن : «ونحن ما رأينا الروايات تختلف فى شىء من الأشياء فضل اختلاف ، وتتسم فى الرد والتأويل كل طريق وعر ، كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوص ألفاظ القرآن ، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعا ، لا يتدارأ فيها الرواة من علا منهم ومن نزل ، إنما كان ذلك لأن القرآن أصل الدين ، وما اختلفوا فيه إلا من بعد اتساع الفتن ، وحين تألب الأحداث ، وحين رجع بعض الناس من النفاق إلى أشد من الأعرابية الأولى ، وزاغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه فاجترءوا على حدود الله تعالى ، وضربتهم الفتن ، والشبهات ، مقبلا بمدبر ، ومدبرا بمقبل ، فصار كل من نزع إلى الخلاف يريد أن يجد من القرآن ما يختلف معه ، أو يختلف به ، وهيهات ذلك ، إلا أن يتدسس فى الرواية بمكروه يكون معه التأويل والأباطيل ، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة ، ويبالغ فى الحمل على ذمته ، والعنف بها فى أشياء لا ترد إلى الله ولا إلى الرسول ، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق ، بل لا يعرفون لها فى الحق وجها .. ونحسب أن أكثر هذا مما افترته الملحدة ، وتزيدت به الفئة الغالية ، وهم فرق كثيرة يختلفون فيه بغيا بينهم ، وكلهم يرجع إلى القرآن بزعمه ، ويرى فيه حجته على مذهبه ، وبينته على دعواه ، ثم أهل الزيغ والعصبية لآرائهم بالحق والباطل ، ثم ضعاف الرواة ممن لا يميزون ، أو ممن تعارضهم الغفلة فى التمييز .. وذلك سواد كله ظلمات بعضها فوق بعض ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور» (٢).

وإن ذلك الذى ذكره الكاتب الإسلامى الكبير حق لا ريب فيه ، فإن هذه الروايات التى جمعها من لا يفرق بين الحابل والنابل ، وبين الحطب والأفعى ، إنما كانت بعد الفتن ، ولعل للإسرائيليات دورها الخفى المسموم وأن الذين تولوها غلاة الفرق ، والرواة الذين لا يميزون أو يغفلون ما لا يدركون.

ألم تر إلى أولئك الغلاة يطعنون فى عثمان رضى الله عنه ، ويجعلون من أسباب الطعن ، أنه جمع المصحف وجعل له إماما ، عند ما رأى الاختلاف قد تفاقم ، وأنه جمعهم على ما كتب فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) توفى سنة ١٩٣٧ م.

(٢) إعجاز القرآن للرافعى ص ٤٢.

٣٢

ورأى على رضى الله عنه مثيرى الفتنة بعد مقتل الشهيد عثمان ، فقال رضى الله عنه وكرم الله وجهه : «يا معشر الناس اتقوا الله ، وإياكم والغلو فى عثمان ، وقولكم حرق المصاحف ، فو الله ما حرقها إلا على ملأ منا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وروى عن عمر بن سعيد أنه قال : «قال على بن أبى طالب لو كنت الوالى وقت عثمان لفعلت مثل الذى فعل عثمان».

تحريق غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه

١٩ ـ كانت الفتنة قد بلغت ذروتها وخب فيها الذين يؤيدونها ووضعوا ، وكان قد دخل فى الإسلام الذين يريدون أن ينتقموا منه لدولهم التى غزاها نور الإسلام ، وانفتح فى قلوب الأكثرين باب الهداية ، ووجدوا فى القرآن السبيل إلى ما أرادوا أن يهدموه وهو الإسلام ، ليقتلعوه من جذوره ، ويأتوه من قواعده ، فجاءوا من القرآن عماده ونور الله المبين وحبله المتين.

وكان السبيل إحياء الأحرف التى نسخت ، فاندسوا بين المسلمين يحيون المقبور ، ويروجون المهجور ، ويبثون روح الشك والريب فيما هو متواتر ثابت.

وقد انبرى لهم ذو النورين ، واجتث شرهم ، فجمع المصحف الإمام على الطريق المأمون الذى كان مستوثقا غير متظنن ، ومتأكدا غير متشكك ، فكان ما كتب فى عهده هو عين ما كتب فى عهد الشيخين أبى بكر وعمر ، وما كتب فى عهد الشيخين هو عين ما أملى فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما حفظه أصحابه فى صدورهم.

حتى إذا تم له ما احتسبه عند الله على ملأ من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين شاهدوا وعاينوا واتبعوا عن بينة وفيهم الكثيرون ممن حفظوا القرآن كله كعلى كرم الله وجهه ، ومعاذ بن جبل ، فكان التواتر الكامل والصيانة الكاملة والاستحفاظ على كتاب الله تعالى.

فلم يبق إلا أن يزيلوا غيره من المصاحف ، لأنها كتبت بغير حرف قريش أو به وبحروف أخرى ، فأحرقها جميعا ، ولم يبق إلا المصحف الإمام وما نسخ منه ، فلا يرجع إلى سواه ، ولا يعتمد على غيره ، ولو بقيت مصاحف غيره لكان الاحتجاج بها ، ولعادت الفتنة جذعا ، وكان التشكيك والريب ، وقد حفظ الله تعالى كتابه.

حرق عثمان المكتوب كله ، ولم يبق منه شيئا ، ورد إلى السيدة أم المؤمنين حفصة المصحف الذى كان مودعا عندها ، والذى كان إماما لمصحف عثمان ، كما قرر بحق ابن جرير الطبرى ، وقد رده إليها لموعدة وعدها إياها فوفى بوعده ، ولكنها لما توفيت أمر عبد الله بن عمر أن يحرق المصحف الذى كان عندها ، وروى أنها توفيت رضى الله عنها فى عهد معاوية بن أبى سفيان ، وأن الذى حرق المصحف الذى عندها

٣٣

والى المدينة مروان بن الحكم ، ومهما يكن اختلاف الرواية فى تاريخ وفاتها ، فإن عثمان رضى الله عنه قد قرر أن يحرق بعد وفاتها.

وهنا يسأل المؤرخ : إذا حرق عثمان المصاحف الأخرى لما أثارته من فتنة ، ولأنه كان فيها حروف أخرى غير حرف قريش فلما ذا قرر حرق المصحف الذى عند حفصة ، وقد كان إمام مصحفه ، والمرجع الذى وزن به صحة ما كتب فى عهده ، حتى إنه قيل إن المصحف الذى كتب فى عهده قد نسخ منه نسخا؟.

ونقول فى الجواب عن ذلك أن المصحف أودع حفصة رضى الله عنها وعن أبيها لأنها كانت حريصة على أن يبقى عندها ، وما أراد الرجل الطيب عثمان أن يحرمها مما أرادت ، فأعاده إليها ، ولكنه الحريص على القرآن خشى أن يقع فى يد أحد ، فيمحو فيه ويثبت ، ويقول : قد غير ما عندكم ، وها هو ذا الأصل ، فاحتكموا إليه ، ويكون صالحا للاحتكام ، فأمر أن يحرق بعد وفاتها ، وما أبقاه عندها فى حياتها إلا مرضاة لها ، فاحتاط للقرآن ، وما أعنتها ، رضى الله تعالى عن ذى النورين بما صنع ، وأكرمه فى مثواه ، ورضى عنه وأرضاه.

ترتيب الآيات والسور

٢٠ ـ أجمع العلماء على أن الآيات رتبت بتنزيل من الله تعالى فكانت الآية إذا نزلت يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكاتبه ولصحابته : ضعوها فى موضع كذا من سورة كذا ، وتكون لقفا مع التى وضعت بجوارها ، وتكونان نسقا بيانيا ، هو الإعجاز ، وإنه يدل على وحدة المنزل وهو الله سبحانه وتعالى ، وإن الآيات المكية كانت توضع فى السور المكية ، والمدنية كانت كذلك توضع فى المدنية ، إلا بعض آيات مدنية وضعت فى سور مكية ونبه إليها.

على ذلك انعقد الإجماع ، وكانت العرضة الأخيرة التى قرأ فيها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جبريل بترتيب الآيات ذلك الترتيب ، ومن أنكر ذلك أو حاول تغييره فقد أنكر ما عرف من الدين بالضرورة ، وخرج عن إطار الإسلام ، وحاول التغيير والتبديل ، فتلك الدعوات المنحرفة التى تدعو إلى ترتيب القرآن على حسب النزول ، أو على حسب الموضوعات هى خروج على الإسلام ، يبثه بعض الذين لا يرجون للإسلام وقارا ، إذ يجعلون القرآن عضين ، ويخالفون التنزيل ، ويعارضون الوحى ، وذلك خروج عن الإسلام.

هذا ترتيب الآيات ، أما ترتيب السور فإنه من الثابت أن المصحف الإمام كان على هذا الترتيب ، وقالوا : إنه ما ارتضاه زيد بن ثابت ، ووافقه عليه الشيخان أبو بكر وعمر وصحابة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذو النورين عثمان وهو المتبع ، فلا يغير ولا يبدل ، وقد قيل أن بعض الصحابة كان له مصحف بغير هذا الترتيب ، فكان لأبيّ مصحف ، وكان لعلى

٣٤

كرم الله وجهه مصحف ، وقد نقل ابن النديم فى الفهرس أنه كان على حسب ترتيب النزول ، وأنه ابتدأ بقوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) (٢) [العلق : ١ ، ٢] ، وهى أول آية نزلت.

ولكن فى العرضة الأخيرة من جبريل كان على هذا الترتيب ، البقرة ثم آل عمران على ما والاها.

ولقد جاء فى الجامع الكبير للقرطبى ما نصه : «ذكر ابن وهب فى جامعه ، قال : سمعت سليمان بن بلال يقول : سمعت ربيعة يسأل : لم قدمت البقرة وآل عمران ، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة ، وإنما نزلتا بالمدينة. فقال ربيعة : قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه ، وقد اجتمعوا على العلم بذلك ، فهذا مما ينتهى إليه».

قال ابن مسعود : «من منكم كان متأسيا ، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها حالا ، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإقامة دينه ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».

ولقد قال الإمام مالك رضى الله تعالى عنه : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر أبو بكر الأنبارى كما نقل عنه القرطبى : «أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ، ثم فرق على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عشرين سنة ، وكانت السورة تنزل والآية جوابا لمستجيب يسأل ، ويقف جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على موضع السورة والآية ، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف فكله عن محمد خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى ، فهو كمن أفسد نظم الآيات ، وغير الحروف والكلمات ، ولا اعتراض على أهل الحق فى تقديم البقرة على الأنعام ، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ عنه هذا الترتيب ، وهو كان يقول : «ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن ، وكان جبريل عليه‌السلام يقفه على مكان الآيات».

ومن هذه الروايات المختلفة المؤتلفة المجمعة على أن ترتيب السور بتوقيف يتبين أن المصحف الإمام هو الذى يصور العرضة الأخيرة للقرآن الكريم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ولكن ما ذا يقال عن الروايات التى جاءت بأنه كان لأبيّ مصحف بغير هذا الترتيب ، ولعلى رضى الله عنه وكرم الله وجهه مصحف كان بترتيب النزول؟ لنا فى الإجابة عن ذلك السؤال طريقان :

أولهما : أن نعتبر ما عليه الكثرة التى تكاد تكون إجماعا يؤخذ به ، ويكون ذلك الإجماع دليلا على ضعف ما عداه وأنه لا يؤخذ به لعدم صحة السند.

٣٥

ثانيهما : أننا نقول أن ذلك كان قبل العرضة الأخيرة ، وفى العرضة الأخيرة وضعت السور فى مواضعها ، وهذا ما اختاره القرطبى وغيره ، فقد قال : «أما ما روى من اختلاف مصحف أبىّ وعلى وعبد الله بن مسعود فإنما كان قبل العرض الأخير ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رتب لهم ترتيب السور بعد ، إن لم يكن فعل ذلك من قبل».

وننتهى من هذا إلى أن ترتيب السور كترتيب الآيات كان بوحى من الله العلى الحكيم.

قراءات القرآن

٢١ ـ يقرأ القرآن الكريم بقراءات مختلفة : مختلفة فى حركات أواخر الكلمات أو فى بناء الكلمة ، أو فى الوقوف فى أواخر الكلمات ، أو فى الهمزات قطعا ووصلا ، كهمزة الأرض ، فهى تقرأ موصولة ومقطوعة ، وهكذا ، وإنه يجب التنبيه فى هذا إلى أمرين :

أولهما : أن قراءات القرآن متواترة ليست هى الأحرف السبعة كما ذكرنا ، بل إن الرأى القويم الذى انتهى إليه الباحثون كابن جرير (١) الطبرى وغيره إلى أن القراءات كلها تنتهى إلى حرف واحد ، وهو الذى كتب به المصحف المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة ، وهو الذى جمعه عثمان بن عفان رضى الله عنه ، وألزم به الأقاليم الإسلامية ، وهو مطابق تمام المطابقة للمصحف الذى كتب فى عهد أبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما ، وهو الذى حفظ فى بيت أم المؤمنين حفصة رضى الله تعالى عنها وعن أبيها الفاروق.

الأمر الثانى : أن هذه القراءات تنتهى فى نهايتها إلى أنها من ترتيل القرآن الذى رتله الله سبحانه وتعالى ، وتفضل بنسبته إلى ذاته الكريمة العلية فقال تبارك وتعالى : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان : ٣٢] فهى الأصوات التى أثرت عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا كان فيها موسيقى ، إن صح لنا أن نقول عنها هذا التعبير ، فهى الأصوات القرآنية التى اتبعناها عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهى فى مدها وغنها ، وإهمازها ، وإهمال همزاتها ، وإمالتها وإقامتها ، أصوات القرآن المأثورة ، إذ إن القراءة سنة متبعة ، وإن اختلاف القراءات الصحيحة وكلها متواترة عن الصحابة الذين أقرأهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعلمهم طرق الأداء التى تعلمها عن ربه ، كما يشير إلى ذلك ما تلونا من قبل ، وهو قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) [القيامة : ١٦ ـ ١٩].

__________________

(١) توفى سنة ٣١٠ ه‍.

٣٦

فكانت القراءة التى وعد الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هى الترتيل ، وهى تلك القراءات المأثورة عن صحابة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين تلقوها عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رأيت أنه تلقاها عن ربه.

وهذه القراءات نجد الاختلاف فيها مع أنها تنتهى جميعها إلى المورد العذب ، والمنهل السائغ ، وهو تلاوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم التى تلقاها عن ربه ـ ليس اختلاف تضاد فى المعانى ، أو اختلاف تباين فى الألفاظ بل يكون الاختلاف :

أولا : فى شكل آخر الكلمات أو بنيتها ، مما يجعلها جميعا فى دائرة العربية الفصحى ، بل أفصح هذه اللغة المتسقة فى ألفاظها ، وتآخى عباراتها ورنة موسيقاها ، والتواؤم بين ألفاظها ومعانيها.

وثانيا : فى المد فى الحروف من حيث الطول والقصر ، وكون المد لازما أو غير لازم ، وكل ذلك مع التآخى فى النطق فى القراءة الواحدة ، فكل قراءة متناسقة فى ألفاظها من حيث البنية للكلمة ، ومن حيث طول المد أو قصره.

وثالثا : من حيث الإمالة ، والإقامة فى الحروف ، كالوقوف بالإمالة فى التاء المربوطة وعدم الإمالة فيها.

ورابعا : من حيث النقط ومن حيث شكل البنية فى مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٦) [الحجرات : ٦] فقد وردت فيها قراءتان متواترتان ، فتبينوا وقراءة أخرى «فتثبتوا» وهما متلاقيتان ، فالأولى طالبت بالتبين المطلق ، والأخرى بينت طريق التبين ، وهو التثبت بتحرى الإثبات ، فإن لم تكن طرق الإثبات ، ولا دليل على القول ، فإنه يرد الكلام ، ولا يتمسك بما قيل متظننا فيها من غير دليل ، وكلتا القراءتين مروية بسند متواتر ، لا مجال للريب فيه ، فكانت إحدى القراءتين مفسرة للأخرى.

وخامسا : زيادة بعض الحروف فى قراءة ، ونقصها فى أخرى مثل زيادة الواو فى قراءة ، وزيادة من فى أخرى ، وهذه نادرة لم أرها إلا فى حالتين اثنتين فقط ، فقد ذكر ابن الجزرى إمام القراء المتأخرين المتوفى فى سنة ٨٢٣ ه‍. أن ابن عامر وهو من القراء السبعة يقرأ (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [يونس : ٦٨] وقرأ غيره : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وإن حذف الواو ثابت فى المصحف الشامى ، وكان ابن كثير يقرأ : (تجرى من تحتها الأنهار) وقراءة غيرها (تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) ، ومفهوم كلام ابن الجزرى أن القراءتين متواترتان وأن هذا يؤدى إلى أمر جوهرى ، وهو أن المصاحف فى هذا الموضع ليست نسخا متحدة اتحادا كاملا منسوخة كلها من المصحف الإمام وهو المصحف الذى احتفظ به الإمام عثمان فى دار الخلافة ، وقد اتفقت الروايات على أنه لم يكن

٣٧

كالمصحف الشامى الذى كان على قراءة ابن عامر ، لأن مصحف الشام خالف كل المصاحف فى نقص الواو ـ ومنها المصحف الإمام مصحف عثمان ، وبذلك يكون الرجوع لمصحف عثمان وما نقل عنه من المصاحف ، وهو المصحف المجموع فى عهد الشيخين أبى بكر وعمر وحفظ عند حفصة ، وهو أيضا المتطابق مع المكتوب فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكذلك الأمر فى زيادة (من) فى قراءة ابن كثير. المتفق مع المصحف المكى وغيره من المصاحف ، ومنه المصحف الإمام على عدم زيادة من فى الآية التى زيدت فيها فى المصحف المكى.

وإن النتيجة لهذا أن نقول أن الأصل وهو المصحف الإمام مصحف المدينة يقبل ما يتفق معه ، وينعقد الإجماع عليه وما لا يتفق معه ينظر فيه ، وربما كان رده أظهر ، لو لا ما يقال من أن القراءة بالزيادة ليست آحادا ولا شاذة ، بل متواترة.

ومن أجل ذلك حاول القرطبى التوفيق بين الزيادة ، وحذفها ، فقال : «وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف فى حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم ، فذلك لأن كلا منهم اعتمد على ما بلغه فى مصحفه ورواه ، إذ كان عثمان كتب تلك المواضع فى بعض النسخ ، ولم يكتبها فى بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح وأن القراءة بكل منها جائزة».

رواة القراءات

٢٢ ـ كانت القراءات معروفة فى عصر الصحابة رضى الله تعالى عنهم أجمعين ، وقد تلقوها جميعا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذكرنا أن مصحف الإمام عثمان والإمامين من قبله ، وما كتب فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان غير منقوط ولا مشكول لكى يحتمل القراءات كلها ، ولكيلا يعتمد القارئ على المكتوب ، بل يتلقى المقروء بالتلقى ليصل السند إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قال بعضهم : إن الخط فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان غير منقوط ولا مشكول ، لأن العربية لغة بيان وإفصاح وتعبير ، وانسجام بين ألفاظها ، وتآخ بين أساليبها ، فلا تعتمد على المكتوب بل على المقروء ونغماته ، وتآخى عباراته من غير تجافى اللفظ عن المعنى ، ولا المعنى عن اللفظ.

ولما أخذت العجمة تغزو اللسان العربى ابتدءوا بنقط القرآن وشكله فى عهد عبد الملك بن مروان من غير بعد عن القراءات ، ومن غير اعتماد على المكتوب ، بل يكون مع المكتوب ضرورة الإقراء من حافظ ، وبذلك أمكن اجتماع الشكل والنقط مع الرواية وتواتر القراءة ، وتعرف أوجه القراءات المنقولة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان فى الصحابة من يقرئ الناس ، ويعلمهم وجوه القراءات.

٣٨

وقد اشتهر بإقراء الناس القرآن ، وتعريفهم أوجه قراءاته طائفة من الصحابة قد احتجزوا عن الخروج إلى ميادين الفتح ، ليعلموا الناس ويفقهوهم فى دينهم ، ويقرءوهم القرآن الكريم.

ومن هؤلاء عثمان بن عفان ، وعلى بن أبى طالب فارس الإسلام احتجز عن الجهاد بالسيف ، ليكون له جهاد العلم والقرآن ، وأبى بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن مسعود ، وأبو الدرداء.

وعن هؤلاء أخذ كثيرون من الصحابة والتابعين وأقرءوهم القرآن بوجوه القراءات ، وكلها يتفق مع المكتوب عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما أخذ المقرءون للقرآن من الصحابة ينقرضون حمل التابعون ذلك العبء الكريم ، فقاموا بحقه ، ويظهر أن المقرئ كان يقرئ طالب القرآن القراءات كلها ، ويختار منها ما يطوع له لسانه ، من غير اعوجاج ، فكان الصحابة وكبار التابعين يقرءون بالأوجه كلها ولكن يختار المستحفظ ما يقوى عليه لسانه.

وفى آخر عصر التابعين خلف من بعد قراء الصحابة والتابعين خلف طيب ، وجد التخصص فى قراءة من القراءات أولى من حفظ جميعها ، فإنه إذا كان ذلك فى طاقة الصحابة ومن داناهم من كبار التابعين ، فمن وراءهم دون ذلك ، إذ أخذت الطبيعة العربية تضعف عن حمل العبء كاملا ، فعنى من أفاضل القراء من صغار التابعين ، وتابعى التابعين برواية كل واحد منهم قراءة واحدة ليسهل عليه نطقها ، ورووها متواترة فكانت الرحال تشد إليهم يتلقون عنهم ، ويأخذون بما يقرئه كل واحد.

واشتهر من هؤلاء الذين خلفوا عهد الحفاظ من الصحابة الذين كانوا يقرءون الناس من صحابة وتابعين ـ اشتهر سبعة كانوا من بعد أئمة القراء.

وهم عبد الله بن عامر المتوفى سنة ١١٨ ه‍ ، وعبد الله بن كثير المتوفى سنة ١٢٠ ه‍ ، وعاصم بن مهدلة الأسدي المتوفى سنة ١٢٨ ه‍ ، وأبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة المتوفى سنة ١٥٤ ه‍ ، وحمزة بن حبيب الزيات العجلى المتوفى سنة ١٥٦ ه‍ ، ونافع بن نعيم المتوفى سنة ١٦٩ ه‍ ، وعلى بن حمزة الكسائى إمام الكوفيين المتوفى سنة ١٥٩ ه‍ ، وقراءات هؤلاء السبعة هى المتفق عليها التى نالت الإجماع ، ولكل واحدة منها سندها المتصل المتواتر ، وطريقه وهو محفوظ فى علم القراءات ، وأجمع المسلمون على التواتر فيها.

وقد ألحق علماء القراءات وأهل الخبرة فيها ثلاثة غيرهم صحت قراءاتهم ، وثبت تواترها وهم أبو جعفر يزيد بن القعقاع المتوفى سنة ١٣٢ ه‍ ويعقوب بن إسحاق الحضرى المتوفى سنة ١٨٥ ه‍ وخلف بن هشام.

وقراءات هؤلاء بإضافتها إلى القراءات السبع تكون عشرة كاملة.

٣٩

أقسام القراءات

٢٣ ـ لا عبرة إلا بالقراءات المتواترة ؛ لأنها هى التى تتناسب مع تواتر القرآن ، وحفظه فى الأجيال إلى يوم القيامة ، وسد السبيل للريب ، فلا يأتيه فى أى ناحية من نواحيه ، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، ولأن الله تعالى قد وعد بحفظه فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩] والله تعالى لا يخلف الميعاد.

ولكن مع ذلك قرر علماء القراءات أن هناك ما روى بطريق الآحاد ، وهناك الشاذ ، وإن كان الاثنان لم يبلغا درجة أن تكون معتبرة أو لائقة بالقرآن.

ولذلك قسموا القراءات إلى أقسام ثلاثة :

أولها : القراءات المتواترة ، وهى حجة فى التلاوة ، وليس لمؤمن بالقرآن أن ينكرها ، وإذا كان قد روى عن الزمخشرى (١) إنكار بعض القراءات أو ردها مستنكرا لها ، فإن ذلك النوع ليس من القراءات المتواترة ، وما كان لمثل الزمخشرى فى علمه ومكانته وإيمانه أن ينكر متواترا ، والذين يستمسكون بمثل قوله ، لا يأخذون إلا بحبل واه ، يهوى بهم إلى نار جهنم ، لأنه رضى الله تبارك وتعالى عنه ، ما أنكر متواترا ، ولكنهم يطيرون وراء كل ريح يحسبونها هادمة ، ولكن ما هم ببالغيه ، ودون ذلك دق أعناقهم.

وشروط القراءة المتواترة ثلاثة :

أولها : أن تكون موافقة للمصحف الإمام ، لأنه الأصل المعتمد عليه ، وهو المرجع ، وهو صورة صادقة للمكتوب فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون بالتزامه القرآن متواترا قراءة وكتابة ، والله سبحانه وتعالى هو الحافظ له إلى يوم الدين.

الشرط الثانى : التواتر فى السند بأن يرويه جمع عن جمع حتى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الشرط الثالث : أن يكون موافقا للمنهاج العربى الثابت فى اللغة ، وليس معنى ذلك أن تكون أقوال النحويين حاكمة على القرآن بالصحة ، فإنه هو الحاكم عليهم ، وهو أقوى حجج النحويين فى إثبات ما يثبتون ، ونفى ما ينفون ، ولكن معنى ذلك ألا يكون فيه ما يخالف الأسلوب العربى فى مفرداته وفى جمله وعباراته.

القسم الثانى : القراءة غير المتواترة ، وقد رويت بطريق الآحاد ، ولم تبلغ فى روايتها حد التواتر ، وهذه يكون رواتها عدولا ، لم يثبت عليهم ريبة اتهام فى قول أو عمل ، وهذه يقرأ القرآن بها ، وخصوصا إذا وافقت المتواتر بشرط موافقتها للمصحف

__________________

(١) توفى سنة ٣٨٥ ه‍.

٤٠