المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣). [النور : ٢ ، ٣]

وإن هذا النص يدل على ثلاثة أمور : أولها ـ أن عقاب الزانى والزانية مائة جلدة قوية شديدة رادعة لا رأفة فيها. وثانيها ـ أن هذا العقاب الشديد الرادع يكون علنا يشهده طائفة من المؤمنين. ثالثها ـ أن الزانى الذى يعلن زناه لا يرضى به إلا زانية أو مشركة ، وأن الزانية لا يرضى بالزواج منها إلا زان أو مشرك ، وأنه من المحرم على المؤمنين أن يتزوجوا من الزناة ، ومفهوم النص أن ذاك التحريم إن لم تكن توبة.

عقوبة العبد على النصف من الحر :

٢٠٩ ـ هذا التقدير للعقوبة فى الزنى إنما هو على الأحرار من الرجال والنساء ، أما العبيد والإماء فعقوبتهم نصف هذه العقوبة ، فلا يجلدان إلا خمسين جلدة ، وقد ثبت ذلك بنص القرآن الكريم بالنسبة للإماء وثبت بقانون المساواة بين الرجل والمرأة أن العبد تنصف عنه العقوبة ، وهذا نص القرآن الكريم الحكيم ، إذ يقول سبحانه وتعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٦) [النساء : ٢٥ ، ٢٦].

وإن هذا النص يدل على أن الأولى بالمؤمن ألا يتزوج إلا حرة ، ولا يتزوج أمة إلا إذا عجز عن الزواج بالحرة ، حتى لا يعرض أولاده للرق ، وأن الإماء أولى بهن مالكهن يدخل بهن ، فيكون أولاده منها أحرارا ، وتعتق هى بولدها من مالكها ، فيكثر الأحرار.

وتدل الآية ثالثا على أن الأمة المتزوجة عقوبتها خمسون جلدة.

وبمقتضى المساواة فى الأحكام كما أشرنا تكون عقوبة العبد أيضا منصفة.

ونظرة صغيرة فى الموازنة بين شريعة القرآن ، وشريعة الرومان ، لقد كان الرومان يضاعفون عقوبة العبد إن ارتكب جريمة ويخففون العقوبة على الحر ، فهم يقولون أن العبد إذا زنى بحرة يقتل ، وأما الشريف الرومانى فإنه إذا زنى يغرم غرامة بسيطة ،

٣٤١

فمنطقهم الظالم يسير سيرا عكسيا ، تصغر العقوبة عندهم بكبر المجرم وتكبر بصغره ، أما الإسلام فإنه ينظر فى الأمر بمنطق مستقيم ، فالجريمة تكبر بكبر المجرم ويكون العقاب على قدرها وتصغر بصغر المجرم ، ويكون العقاب على قدرها ؛ وذلك لأن الجريمة هوان ، وأن الهوان يسهل على الضعيف ، إذ لا قوة نفس تعصمه وتنهاه ، وأن العبد والأمة فى ذل وهوان ، فالجريمة منهما قريبة ، فيعذران ، ويخفف عليهما العقاب ، وذلك هو منطق العدل المستقيم ، وهو شرع الله العظيم.

حد القذف :

٢١٠ ـ القذف هو رمى المحصنات والمحصنين بالزنى ، من غير دليل مثبت ، بل بمجرد الظن الواهم ، أو الإيذاء الآثم ، وفى ذلك تهوين للجريمة وإشاعة للفاحشة فى الذين آمنوا ، ولذلك كان العقاب الصارم على من يقذف ، ويرمى المحصنين والمحصنات من غير تثبت ولا تحرج ، ولقد قال الله تعالى فى ذلك مبينا له بعد حد الزنى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) [النور : ٤ ، ٥].

وهذا النص السامى دل على أمور ثلاثة : أولها أن الرمى بالزنى لا بد أن يكون ثابتا بشهادة أربعة من الشهداء ، وإلا عد قذفا باطلا ، وكان له عقوبة قاسية ، وهو الجلد ثمانين جلدة ، وهو عقوبة مادية لا هوادة فيها.

ويدل ثانيا على أن هناك عقوبة أدبية أو تبعية كما يقول علماء القانون ، وهو ألا تقبل لهم شهادة أبدا ، لأنهم دنسوا ألسنتهم بقول أفحش الباطل ، فيعاقبون على ذلك بألا يقبل منهم قول فى قضاء ، والتأبيد يقتضى أن التوبة لا تسوغ سماع شهادتهم.

ويدل ثالثا على أن التوبة تقبل عند الله إذا تابوا وأصلحوا ، وذلك لا يمنع نزول العقاب الأصلى والتبعى لأن التبعى أبدى.

وأن هذه العقوبة لمنع إشاعة الفاحشة ، لأن الاتهام بالزنى وخصوصا للأبرياء يسهل ارتكابه ، ولقد قال الله تعالى فى ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [النور : ١٩].

ولقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلا للذين آمنوا بحال أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله تعالى عنها ، وهى الطاهرة بنت الطاهرة ، وزوج أطهر من فى هذا الوجود ، تطاول المفترون عليها بالإفك ، وقال الله تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى

٣٤٢

كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٨) [النور : ١١ ـ ١٨].

هذا توجيه عظيم لمن يسمع إفكا على طاهر من الطاهرين ، أو طاهرة بينة الطهارة ، فأول واجب على المؤمن إذا سمع إفكا أن يظن خيرا بالمؤمن ، ويجعل حال الصلاح هى الظاهرة ، وهى الحاكمة ، فإن كان ممن يظن الظنون فعليه أن يثبت حتى يجيء الدليل ، وهو أربعة شهداء ، ليكون الدليل مقابلا لظن الخير بأهل الإيمان ، فإن لم يكن الدليل كان على المؤمن أن يقول هذا بهتان عظيم ، وأنه لا يسوغ لمؤمن أن يتلقى قولا يرمى من غير دليل ، ولا تثبت ، ثم يزيد الظن به ، فيقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم ، ويحسبونه تسلية ، وأمرا هينا وهو عند الله عظيم.

وفى هذا النص السامى بيان للمستهينين الذين يشيعون القول الفاسد ، وما ينبغى أن يكون عليه المؤمن ، وأن الإسلام يريد جماعة طاهرة عفيفة لا يسودها إلا الكلام الطيب النزيه العف.

اللعان :

٢١١ ـ جاء رجل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يبثه شكواه ويقول : «إن الرجل يجد الرجل مع أهله ، فإن قتله قتلتموه ، وإن تكلم ضربتموه ، وإن سكت سكت على غيظ ، اللهم بيّن» ، فكان اللعان.

وهو يكون فى حال رمى الرجل زوجته بالزنى ، فقد جعل الله تعالى حكما خاصا ، مخصصا لمن يرمى أى محصنة غير زوجته ، لأنه لا يمكن أن يرمى زوجته إلا وهو فى عذر غالبا ، فكان اللعان للتثبت من الواقعة التى تتضمن الوقوع فى الفاحشة من الزوجة ، وقد بين الله تعالى اللعان بقوله تعالت كلماته :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ

٣٤٣

اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠) [النور : ٦ ـ ١٠].

والشهادة هنا هى الحلف بالله تعالى ؛ لأن الحلف فيه إشهاد لله سبحانه وتعالى ، فالرجل يحلف أربع مرات أنه صادق فيما رماها به من الزنى ، أو نفى الولد ، إن كان الرمى بعدم نسبة الولد إليه ، ويتضمن ذلك الرمى بأنها حملت به من الزنى ، فإذا حلف هذه المرات الأربع ، حلف الخامسة بأن يحلف بالله أن لعنة الله تنزل به إن كان من الكاذبين.

والمرأة ينزل عليها العقاب ، وما حده القرآن الكريم ، فتحلف أربع مرات إنه لمن الكاذبين ، وتحلف الخامسة بأن عليها غضب الله إن كان من الصادقين.

وأن التحالف إن تم على هذا الوجه رفع عن الرجل عقوبة القذف ، وهو ثمانون جلدة ، وعن المرأة عقوبة الزنى ، ولقد حكم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك.

ولكنه صلى الله تعالى عليه وسلم فرق بينهما فرقة أبدية ما داما على هذه الحال ، لأن الحياة الزوجية تقوم على المودة ، والمودة تقتضى الثقة بين الزوجين ، وبعد هذا الترامى ، وتكذيب كل واحد لصاحبه ، ذهبت الثقة ولا مودة مع فقد الثقة ، فلا يتحقق معنى الزوجية الذى نص عليه فى كتابه الكريم : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] ، ولا تراحم بين زوجين يشك أحدهما فى صاحبه ، ولا يطمئن إليه.

٢١٢ ـ وإن ما ذكرناه من نصوص القرآن فى الزنى والقذف واللعان ، يتجه بالمؤمن إلى أن يكون طاهرا نزها عفيفا ، ويتجه بالجماعة الإسلامية إلى أن تسودها الفضيلة ، فلا تترامى برفث القول وفسوقه لأن القول يؤدى إلى فعله ، والترامى بالفاحشة يؤدى إلى ارتكابها.

وإن الرذائل لا تنمو إلا فى أجواء فاسدة ، والفضائل لا تخبو إلا فى أوباء الرذائل.

ولعل فساد مجتمعاتنا الحاضرة سببه الترامى بالفحشاء صراحة ، أو بلحن القول إذ يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الخمر :

٢١٣ ـ ذكرنا حدودا أقيمت لحفظ النفس والمال ، وحدودا أقيمت لحفظ النسل وحفظ البيئة الاجتماعية ، والآن نذكر ما يفسد العقل ، وقد ترك الله سبحانه لنبيه تقدير العقوبة لها وإن كانت الجريمة قريبة من جريمة القذف ومن جنسها ، ولذلك فهم فقيه

٣٤٤

الصحابة على كرم الله وجهه عقوبتها من عقوبة القذف ، وقد جاءت النصوص القرآنية مشيرة إلى مضار الخمر ، وأنها شراب مذموم ، وجاءت بالنهى عنها ، وأول آية نزلت مشيرة إلى أنها أمر غير حسن قوله تعالى :

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧) [النحل : ٦٧].

وقد كان ذلك النص متضمنا استهجانا لها ، وهو استهجان ببيان أنها شىء غير مستحسن فى ذاته ، فهو مقابل للأمر المستحسن. والمقابل للمستحسن لا يكون إلا مستهجنا.

وكان ذلك أول تنبيه للعرب باستهجانها ؛ لأنهم كانوا يألفونها فى جاهليتهم ويتفاخرون بشربها كما يفعل أهل الجاهلية فى هذا الزمان الذى نعيش فيه.

وهذه الآية نزلت فى مكة ، فلما كانت الهجرة ، وأشرب المسلمون حب الإسلام أشار القرآن إلى ما يوجب تحريمها ، فقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩].

وقلنا أن هذا النص السامى يوجب تحريمها ؛ لأن كل أمر غلبت مضاره على منافعه يوجب العقل أن يحرمه الإنسان على نفسه ، لأنه ما من شىء إلا فيه نفع نسبى ، وضرر نسبى ، والعبرة بما يغلب ، ولكنه ليس تحريما صريحا. ولذلك بعد هذا النص كان عمر رضى الله عنه يقول : اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا.

وإن النفس العربية كانت قد ألفت شربها ، وتعودته ، فلا بد من تربية تخلع هذه العادة غير الحسنة فجاء النص الآخر الكريم ليربى النفس على البعد عنها ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) [النساء : ٤٣].

وإنه لا يتصور إيمان من غير صلاة ، فالصلاة أمر محتوم. وقد نهى عن أن يقربها وهو سكران ، حتى يعلم ما يقول ، والعلم بما يقول هو العلم بما ينبغى قوله ، وما لا ينبغى ، ونتائج القول ، وتحرى الصدق ، وكل هذا لا يكون إلا من ذوى وعى كامل مدرك لحقائق الأمور ، وغاياتها ، ولا يكون ذلك إلا إذا كان على بعد من الشرب بوقت طويل ، وقال سبحانه وتعالى : لا تقربوا الصلاة ، ولم يقل لا تدخلوا فى الصلاة ؛ لأن النهى عن المقاربة أبلغ من النهى عن الدخول.

وإذا كانت الصلوات خمسا موزعة فى النهار وزلفا من الليل ، فإنه لا بد أن يكون على صحو كامل من قبل الفجر حتى لا يقرب صلاة الفجر. وهو لا يعلم ما يقول ، ولا بد أن يكون فى صحو قبل الظهر ، ولا بد أن يكون الصحو مستمرا إلى العصر ،

٣٤٥

لقرب ما بينهما ، ومثل ذلك المغرب والعشاء ، وبذلك يذوق المسلم حلاوة البعد عنها ، كما تعودها من قبل ، وهى شراب غير مرىء.

فكان ذلك النص الكريم تربية للنفس المؤمنة ، وعلاجا لترك أمر مذموم ألفوه بأمر حسن عرفوه وذاقوا حلاوته.

ولم يجد عمر المدرك بنور الله فى ذلك بيانا شافيا ، لأنه يرغب فى نهى قاطع ، لا تردد فيه.

ولقد نزل بعد ذلك الأمر الحاسم القاطع الناهى نهيا لازما فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٩١).

[المائدة : ٩٠ ، ٩١]

وقد قال علماء البلاغة أن قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، هى أبلغ صيغ النهى ، ويجدر بنا هنا أن ننبه إلى أمرين :

الأمر الأول : أن أهل الجاهلية فى هذا العصر يقولون أنه لم يكن ثمة نص على النهى مثل قوله : «لا تشربوا» وأن ذلك القول التافه كان غير جدير بالالتفات إليه ، ولكن كثر ترداده ، فحق علينا البيان فنقول :

إن النص الكريم شدد فى النهى من وجوه كثيرة ـ أولها ـ أنه قرن الخمر والميسر بالعبادة بالذبح على النصب ، وتلك قرينة التحريم فى ذاتها.

وثانيها ـ أنه وصفها بأنها من عمل الشيطان ، وأنها رجس ، أى أمر قذر فى ذاته ، فهى ضارة ، ولا تتقبلها النفس الفطرية ، ومضارها الجسمية معلومة لكل مدرك أريب.

وثالثها ـ أنه طالب باجتنابها ، والاجتناب يقتضى البعد عنها ، وعن مجالسها ، وعن شاربيها ، وذلك أبلغ من قولك : لا تشربها.

ورابعها ـ أنها تدفع إلى العداوة والبغضاء ، وهما أمران مفسدان ، مقوضان لبناء المجتمع.

وخامسها ـ أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، والصلاة فرض لازم هو شعار الإسلام ، والصد عنه أشد الأمور فى الإسلام فهو حرام ، فكل ما يؤدى إليه يكون حراما مثله ، لأن ما يفضى إلى الحرام يكون حراما.

وسادسها ـ قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، وقد قلنا أنها أبلغ صيغة فى النهى عن الفعل.

٣٤٦

الأمر الثانى ـ الذى يجب التنبيه إليه هو أن الخمر كل ما يخامر العقل ، ويستره ، ويمنعه من الإدراك المستقيم ، سواء أكان النيئ من ماء العنب ، أم كان المطبوخ منه ، وسواء أكان من العنب أو البلح ، أو غيرهما.

وعند ما نزل ذلك النص القاطع فى التحريم أراق الصحابة كل ما عندهم من دنان الخمر ، ولم يكن فيها النيئ من ماء العنب ، بل كانت كلها أنبذة.

فكل شراب من شأنه أن يسكر أو يؤدى إلى السكر يكون حراما سواء أكان نبيذ العنب أو التفاح أو البلح أو البصل أو نيء القصب ، وسائر ما يخترعه الإنسان ليفسد عقله ، وسواء أكان سائلا أم كان جامدا.

ولقد عرضنا لهذا الأمر لأن بعض الفقهاء الكبار ظن أن الخمر هى النيئ من ماء العنب إذا غلا فاشتد وقذف بالزبد ، فتعلق به الجاهلون ، وحسبوا أنه يبيح الأنبذة ، وهو يعلم أنها مسكرة ، وطاروا بذلك القول ، ليستبيحوا الخمر ويبيحوها ، ونقول : إن ذلك الإمام الجليل قد أخطأ ، وما كان عليهم أن يقلدوه فى الرأى ليتمكنوا من شربها ، بل كان عليهم أن يقلدوه فى فعله ، فقد قال رضى الله عنه وعفا عنه : «لو أغرقت فى الفرات على أن تناول قطرة من الأنبذة ما تناولتها».

٢١٤ ـ وأن القرآن إذ شدد فى تحريم الخمر ، فإنه يعتبر ارتكابها جريمة تستحق العقاب ، ولكن ليس فى القرآن نص على عقوبة لها ، وفيه نص على جريمة هى فى كثير من الأحيان نتيجة لها ، فإن السكران لا يدرى ما يقول فينطق برفث القول وبالفسوق وهى جريمة القذف ، ولقد قال على بن أبى طالب فى الارتباط بين الجريمتين ، قال فى عقوبة الشرب : «إذا شرب افترى ، فيحد حد الافتراء ، وهو حد القذف».

وقد ترك تقدير العقاب بالنص الصريح ، أو بالعمل المبين للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقد روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال فى الشارب : «إذا شرب فاضربوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد فاقتلوه».

وقد قيل له عليه الصلاة والسلام : إننا بأرض برد نستدفئ بالخمر ، فقال عليه الصلاة والسلام : «لا تشربوها» فقال القائلون : إنهم لا يستطيعون ، فقال عليه الصلاة والسلام : «فقاتلوهم».

البغى

٢١٥ ـ جريمة البغى تعرض القرآن الكريم لبيانها ، والبغى معناه الخروج عن طاعة الإمام العادل بقوة لتأويل تأولوه ، فيشترط لتحقق جريمة البغى ثلاثة شروط :

أولها ـ أن يكون الإمام عادلا.

٣٤٧

وثانيها ـ أن يكون البغاة لهم قوة بعسكر مناوئة لحكومة الإمام.

وثالثها ـ أن يكون خروجهم لإقامة العدل لا لمجرد الخروج ، والمحاربة والسعى فى الأرض بالفساد. وبذلك يفترقون عن قطاع الطريق ؛ لأن قطاع الطريق يخرجون على الحاكم من غير تأويل للإفساد ، وانتهاك حرمات العباد ، وقد كانت عقوبة أهل البغى قتالهم من غير أن يكفروا ولا يعتبروا محاربين ، بل يقاتلون حتى تفل شوكتهم ، وأن على المؤمنين أن ينصروا الإمام العادل.

وهذا نص ما جاء فى كتاب الله تعالى خاصا بذلك : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠) [الحجرات : ٩ ، ١٠].

ويستفاد من هذا النص الكريم أنه قبل القتال يجب العمل على رأب الصدع بجمع القلوب المتفرقة ، وتحرى أسباب التقاتل بين الطائفتين ، فإن أمكن إزالة أسباب الخصام ، فإنه بهذا يستقر السلام ، وإن تبين الظلم من إحدى الطائفتين كانت الباغية ، وحل قتالها ، وكان القتال فرضا كفائيا على المؤمنين ، يعاونون العادل ، ويدفعون الآثم.

وتدل ثانيا : على أن القتال له غاية ، وهو أن تعود إلى أمر الله تعالى ويستقيم أمرها على جادة العدل. فلا يؤسر منهم أسير ، وبالتالى لا يسترق منهم ، ولا تنهب أموالهم ، ولا يجهز على جريحهم.

وتدل ثالثا : على أنها إن عادت إلى صفوف المؤمنين تعامل بالعدل ، ولا تعامل بالانتقام ، فليست بينها وبين الحاكم خصومة ، إنما بينهما الأخوة الجامعة ، ولذلك عقب ذكر العقوبة بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠) [الحجرات : ١٠].

وقد ذكر حكم البغاة مجملا ، ولم يكن بغى فى عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، لأن الخروج على حكمه كفر ، وليس ببغى يكون أساسه التأويل ، فلا تأويل ، وعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صريح.

وكذلك لم يحدث بغى فى عهد أبى بكر ، بل حصلت ردة ، وكفر ، وكذلك لم يحصل بغى فى عهد الفاروق ، وفى عهد عثمان كان بغى ، ولم تكن مقاومة للبغاة ، حتى قتل الشهيد ذو النورين رضى الله عنه قتلة فاجرة ، وفى عهد على فارس الإسلام ، والمجاهد الأول بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان البغى ، بشروطه.

٣٤٨

فقد خرج الخارجون على الإمام العادل على رضى الله عنه وكرم الله وجهه ، وزعموا أن لهم تأويلا ، بدعواهم أن الذين أيدوه هم قتلة عثمان.

وتصدى على رضى الله عنه لمقاومتهم ، بعد أن حاول رتق الفتق ، وإصلاحه بالموعظة ، حتى أجبروه على القتال ، وخرجوا إليه فى صفين.

خرج الخوارج من بعد ، وهم أشد البغاة تطرفا فى بغيهم ، وكان القتال بين أهل العدل ، وأهل البغى ، ويلاحظ أن عليا رضى الله عنه لم يجرد سيفه للقتال مهاجما إلا بعد أن قتل معاوية عمار بن ياسر ، عندئذ تجرد على ، وهجم بجنده لأنه علم أنهم بغاة حقا ، إذ قال عليه الصلاة والسلام لعمار : تقتلك الفئة الباغية ، ولا نريد أن نخوض فيما قاله الفقهاء ، فإننا نذكر الحكم من غير تفصيل.

المعاملات المالية

٢١٦ ـ اشتمل القرآن الكريم على بيان الحلال والحرام فى الأموال وطرق كسبها ، لكن بيانها كان إجماليا ولم يكن تفصيليا كالأسرة لأن المعاملات مختلفة فى تفصيلها وطرقها ، ويجمع أحكامها قواعد عامة تعرض القرآن لبيانها ، وذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بيانه فيها.

وأول ما أمر به القرآن بالنسبة للمعاملات عدم أكل أموال الناس من غير أساس من التعامل المشروع أو الإنتاج مما أخرجت ، ومن التحويل فى الصناعات المختلفة ، فقد قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٢٩) [النساء : ٢٩].

وإن هذا النص يدل على أمور ثلاثة : أولها ـ النهى عن أكل مال الناس بالباطل أى بغير حق موجب. وثانيها ـ أن أكل الناس بالباطل وشيوعه مثل شيوع الرشا والربا ، وغيرهما من المعاملات الفاسدة التى تتضمن فى ذاتها أكل الأموال بالباطل يؤدى إلى ضياع قوة الأمة ، وقتل روح التعاون فى الجماعات ، ولذا كان قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

ولقد صرح القرآن الكريم بالنهى عن الرشوة ، وخصوصا رشوة الحكام التى تذهب بالثقة ، وتفسد العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وتجعل أمور الناس فوضى ، فقد قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٨) [البقرة : ١٨٨].

٣٤٩

وإن هذا النص الكريم يدل على حرمة الرشوة ، وقد سماها فى موضع آخر السحت ، ويدل على أن الرشوة أكل لأموال الناس ، وإفساد للحكم ، وضياع للعدل ، وقد أشرنا إلى ذلك عند الكلام فى أن الأصل للعلاقة بين الناس هو مراعاة العدالة.

وقد ذكر القرآن أن من أسباب ضياع اليهود وفساد الحكم فيهم السحت ، وقد قال تعالى فيهم : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٢) [المائدة : ٤٢].

ومن أكل المال بالباطل تطفيف الكيل أو الميزان أو تقدير الأشياء بأى نوع من التقدير فقد قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١٥٢) [الأنعام : ١٥٢].

وقال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) [المطففين : ١ ـ ١٤].

وترى من هذا الوعيد الشديد للذين يطففون ، الذين يظلمون الناس فى الكيل.

وقد يقول قائل : لما ذا اختص القرآن من بين المعاملات المادية إيفاء الكيل والميزان بالذكر؟.

ونقول : إن الوفاء فى الكيل والميزان صورة حسية لعدالة المؤمن فى المعاملات. ويتحقق فيها بالحس معنى قوله عليه الصلاة والسلام : «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به».

فالأمر بوفاء الكيل والميزان أمر بالعدالة النفسية والأدبية فى كل العلاقات الإنسانية. وقد اهتم القرآن بذلك.

٢٠٩ ـ وإن الإسلام لحرصه على أن يكون التعامل على أساس سليم من العدالة ، والرضا الصحيح ، أمر بكتابة الديون والعقود ، والإشهاد عليها لكيلا تكون مشاحة ، والمشاحة تؤدى إلى المنازعة ، بله أكل أموال الناس بالباطل ، ولذا قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ

٣٥٠

بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨٣) [البقرة : ٢٨٢ ـ ٢٨٣].

هذا نص شامل من نصوص القرآن الكريم معجزة هذا الوجود وهو يدل على أمور.

أولها ـ لزوم كتابة الدين ، وأن تكون هذه الكتابة يتولاها كاتب عدل مأمون تحريف القول ، أو تغييره ، وأن على هذا الكاتب أن يجيب إذا دعى إلى الكتابة ، والكتابة مطلوبة فى كل الأحوال سواء أكان الدين صغيرا أم كبيرا بشرط أنه مقدار يدخل فى معنى عرفا.

ثانيها : أن الذى يملى الدين هو من عليه الدين ، فإن كان ضعيفا لا يدرك العقود ، أو سفيها لا يحكم التصرف ، أو كان لا يستطيع أن يملى لضعف فى بيانه ، أو فى تعبيره يملى ولى يختاره. أو يكون مختارا له من قبل القضاء المهيمن أو الشرع.

ثالثها ـ أنه لا يستثنى من الكتابة إلا التجارة الحاضرة التى تدار بين التجار ، كأن تكون سلعة عند تاجر ، فيأخذها من جاره ، أو متعامل معه على أن يرسل إليه الثمن لهذه التجارة الحاضرة إن باعها فلتسهيل التعامل استثنيت من الكتابة.

رابعها ـ أنه إذا كان الدائن والمدين على سفر ، ولم يجدوا كاتبا ، فإن الرهان التى تقبض تقوم مقام الكتابة فى الاستيثاق من وفاء الدين.

خامسها ـ أنه لا بد من الشهادة بأن يكون ثمة شاهدان يحضران الإملاء ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان على أن يكونوا جميعا من العدول ، والشهادة لأجل الأداء عند الارتياب أو المشاحة ، ولذلك قال الله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) أى عند الأداء.

٣٥١

هذا تفصيل محكم جاء فى محكم التنزيل ، وإذا علمنا أن مشاحات الناس أكثرها فى المداينات والمبايعات ، وسواء أكانت فى داخل الإقليم ، أم فى أقاليم أخرى ، علمنا لما ذا عنى القرآن الكريم المنزل من عند الحكيم العليم بالمداينات والعقود تلك العناية.

وإن تعجب فاعجب من قول كثيرين من الفقهاء أن الأمر هنا للإرشاد لا للإلزام وعجبنا من أن يتصوروا أن ذلك التفصيل إرشاد ، وليس حكما تكليفيا. والله أعلم بكتابه.

الربا فى القرآن :

٢١٨ ـ من وقت البعث المحمدى ، والإسلام لا يرى التعامل بالربا علاقة صالحة ، بل إنه فى الآية التى نزلت بمكة كان فيها استنكار ، وعده عملا غير صالح ، اقرأ قوله تعالى فى سورة الروم المكية :

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٩) [الروم : ٣٩].

وهذا النص يفيد أن الربا لا يرضى عنه الله. وإن كان فيه زيادة فهى زيادة آثمة ، وإذا كان المتعاملون يريدون أن يتضاعف مالهم فسبيل ذلك هو إعطاء شطر من المال للسائل والمحروم ، فإن المال ينمو بذلك وتكون الزيادة خيرا ؛ لأن ذلك السبيل هو التعاون ، وجاءت من بعد ذلك فى المدينة الآيات المحرمة للربا تحريما قاطعا حاسما. منها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢) [آل عمران : ١٣٠ ـ ١٣٢].

والربا المذكور هنا ، وفى الآية التى تلوناها من قبل ، وفى الآية التى سنتلوها من بعد هو الزيادة فى الدّين نظير الأجل ، فليس هو الدّين ذاته ، إنما هو الزيادة ، ونذكر هذا تصحيحا لفهم بعض الذين يبيحون الربا أو بعضه ، فقد قال قائل منهم عفا الله عنه أن المحرم هو ما زاد على ضعف الدين. وسارع إلى تصديقهم بعض القانونيين الذين يؤمنون بما فى هذا الزمان أكثر من إيمانهم بالقرآن.

والوصف بالمضاعفة للزيادة فى هذا الزمان هو لبيان ما يؤدى إليه الربا. إذ تتضاعف الزيادة مضاعفة كثيرة : وفى ذلك ما فيه من إرهاق المدين. وقبح حال الدائن. وأكله المال بالباطل من غير عمل ولا كد. ولا تعرض للخسارة.

٣٥٢

ولقد نزلت آية فى تحريم الربا تحريما لا يقبل أى تأويل ، ولو كان فاسدا ، كالذى قيل فى معنى الربا فى الآية السابقة ، فقد قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١) [البقرة : ٢٧٥ ـ ٢٨١].

هذا نص صريح قاطع فى التحريم.

٢١٩ ـ ولكن قوما ممن تعلموا علم الإسلام لم يأخذوا بظاهر معناه. بل لأنهم عودوا المناقشة اللفظية فى الألفاظ وإلقاء ظلال من الإبهام على معانيها الواضحة البينة ، وقد لانت نفوسهم ، وأخذوها لحكم الزمان لا لحكم القرآن. وكأنهم تعلموا ليخرجوا الكتاب على غير مخارجه ، ويتأولوه بغير متأوله ، ومرنوا على ذلك ، وأضلوا كثيرا بعد ضلالهم.

إذا جاءك رجل وقال لك أشك فى أن هذه الشمس التى هى السراج المنير هى الشمس المذكورة فى القرآن أتصدق له قولا ، أم تحسب لكلامه وزنا ، أم تجعله فى ظل العلماء المشتغلين بالدراسات الإسلامية أيا كان لونهم ، وأيا كان زيهم.

إن رأيت ذلك ففي المتفيهقين من الذين يتكلمون فى القرآن وعلوم الإسلام من قال إن عمر قال : «إن للربا تسعة وتسعين وجها» ثم يردفون ذلك بأن يقولوا : إن لفظ الربا فى القرآن كان غير معروف لعمر. فكيف يكون واضحا لدينا. كبرت كلمة تنطق بها أفواههم التى أثمت بالقول فى كتاب الله تعالى بغير علم.

من هؤلاء تجدنا مضطرين لأن نشرح معنى كلمة الربا ، وإن كنا نقول : إن الشمس التى نراها هى التى فى القرآن.

يقول أبو بكر الرازى الشهير بالجصاص فى كتابه أحكام القرآن أن الربا قسمان ربا لغوى يعرف من اللغة وهو ربا القرآن. وهو ربا الجاهلية وهو أن يزيد فى الدين فى نظير الزيادة فى الأجل. والقسم الثانى هو الربا الاصطلاحى وهو الذى جاء فى الحديث

٣٥٣

«الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيدا ، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد. والبر بالبر مثلا بمثل يدا بيد. والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد. والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى». فهذا النوع من التعامل سماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ربا ، فكان ربا بمعنى الاصطلاح ، وهو الذى فيه الوجوه الكثيرة.

أما ربا القرآن فهو ربا الجاهلية. وهو الذى قال فيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجة الوداع : «ألا إن ربا الجاهلية موضوع وإن أول ربا أبدأ به هو ربا عمى العباس بن عبد المطلب. فإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون».

والربا الجاهلى معروف وهو الزيادة فى الدين فى نظير الأجل ، فإن سدد فى عام كانت الزيادة واحدة ، وإن لم يسدد ضاعف الزيادة ، وهكذا مما نراه فى المصارف فى هذه الأيام.

ولكن الذين يثيرون الشك حول الشمس والقمر المذكورين فى القرآن يثيرون الشك فى ربا الجاهلية. فيقولون : ليس ربا الجاهلية هو الربا الذى يكون فى القروض الاستغلالية ، لأن المقترض يستغل الدين فيكتسب فيكون من عدلهم المزعوم أن يجعلوا للدائن سهما محدودا فى الدين سواء أخسر المقترض أم اكتسب ، ويقصرون ربا الجاهلية على الربا الذى يكون فيه قرض استهلاكى يقترض المدين ليدفع حاجات ضرورية ، ويكون الربا فى هذه الحال منافيا للمروءة والخلق الكريم ، ذلك تأويلهم الذى لا سند له من نص ، أو قياس معقول ، ولكنه تفكيرهم الذى يخرجون به عن حدود النص.

٢٢٠ ـ إن التأويل بتخصيص لفظ عام فى القرآن يكون بتخصيص من القرآن نفسه ، أو بتخصيص من المفسر الأول للقرآن وهو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، فكل تخصيص لعام القرآن الكريم من غير ذلك يكون حكم الهوى فى القرآن ، ويكون ردا على صاحبه ، ولفظ القرآن عام يعم فى الربا فى القرض الاستهلاكى والاستغلالى على سواء ، وهذا فوق أن ذلك التأويل الشاذ عند علماء الشريعة فيه مصادمة للنص القرآنى ، من غير دليل ، فإن النص القرآنى فيه ما يدل على بطلان ذلك التأويل الذى دفع إليه الهوى ، والحال التى كانت عليه البلاد الحجازية تناقضه ، والحوادث التى كانت فى عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تقاومه لما يأتى :

أولا ـ أن المشركين قالوا مقالة أولئك الذين يحكمون هواهم فى القرآن ، ذلك أنهم برروا أكلهم الربا بأن شبهوه بالبيع ، وقال الله فيهم : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ، ومؤدى كلامهم أنهم يعتقدون مشابهة بين ما يكسبه المقترض بالبيع والشراء ،

٣٥٤

والاتجار فى الشام وفارس ، بما يأخذه المرابى من ربا ، أى أنهم يقولون أنه بعض مما يكسبه المقترض بالبيع والشراء ، وهو جزء منه ، فرد عليهم بأن البيع حلال ، لأن الكاسب بالبيع يتحمل كسبا وخسارة ، وحرم الربا لأنه الكسب من غير تعرض للخسارة ، وبذلك يكون الكسب من البيع طبيعيا ، والكسب بالربا غير طبيعى لأن النقد لا يلد النقد.

وثانيا ـ قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) ، فإن التعبير عن الدين برأس المال إنما يكون فى المال المتخذ للاستغلال ، ولا يقال رأس المال للمال المتخذ لاستخدامه فى الضرورة ، فكان هذا دليلا من النص يفيد أن التحريم وارد فى القرض الاستغلالى ابتداء ، والاستهلاكى تبعا ؛ ذلك أن النص بعمومه يحرم كل زيادة ، لأن أى زيادة تنقض التوبة وتكون ظلما.

وثالثا ـ أن أحوال أهل مكة والطائف تجعل القرض للاستغلال هو الغالب بينهم وأن القرض للاستهلاك لم يكن شائعا بينهم ، فقد كان أهل مكة وما حولها تجارا ، ينقلون بضائع الروم إلى الفرس عن طريق الشام واليمن ، وينقلون بضائع الفرس إلى الروم عن هذه الطريق أيضا ، ولذلك كانت لهم رحلتان تجاريتان إحداهما رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام كما قال تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (٤) [قريش : ١ ـ ٤].

وإذا كانت مكة والطائف بلدين تجاريتين ، فلا بد أن نتصور أن منهم من كان يتجر بنفسه بائعا مشتريا ، ومنهم من كان يتجر بطريق غيره ، فيعطى لمن يتجر بنفسه على أن يكون الربح بينهما بنسبة معلومة ، والخسارة تكون على صاحب رأس المال ، كما كان يفعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى مال خديجة بأمانة الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم.

ومنهم من كان يدفع المال إلى غيره على أن يكون له كسب محدود مما يئول إلى التاجر ، كسب التاجر أو خسر ، وقد روى ذلك من معاملات قريش ، فقد كان ذو المال يدفع المال إلى التاجر على قدر من المال هو الربا ، فإن سدد أخذ رأس المال مع الزيادة ، وإن لم يأخذ أبقى المال وضاعف الزيادة ، ولذلك أثر عن الربويين أنهم كانوا يقولون للمدين ادفع أو ضاعف ، والمراد مضاعفة الزيادة.

وقد قال أصحاب السيرة فى مقدمات غزوة بدر أن قريشا كلها خرجت بكل مالها للتجارة حتى حلى النساء ، فأرادها أهل الحق كما صادروا من أموال المؤمنين ، فاستنفر أبو سفيان قريشا ، وخرج الجند لحماية العير ، فكانت الغزوة ، ولا بد أن يكون فى هذا

٣٥٥

المال ما كان من مال المتاجرين ، وما كان من مال غيرهم أخذ للتجار وما كان ديونا مأخوذة ليستغلها المدينون.

ورابعا ـ أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فى تحريم ربا الجاهلية : وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب. ولا يتصور من العباس رضى الله عنه أن يكون عربى محتاجا لقدر من المال فى أموره الضرورية ، فيأبى إلا أن يقرضه ربا ، وهو الذى يسقى الحجيج فى موسم الحج نقيع الزبيب والتمر.

وخامسا ـ أنه لوحظ فى بعض أخبار العرب أن الأثرياء كانوا يقترضون ، فكان أبو جهل عليه دين لرجل ليس من قريش وماطله ، فاستعان بقريش لتحمله على الوفاء ، فسخروا منه ، وأشاروا عليه بأن يستعين بمحمد بن عبد الله ورسول الله ، فأعانه ، فقد قال الرسول القوى الأمين ، بعد أن صك الباب صكة أرعدت مفاصله : أد للرجل دينه ، فأداه صاغرا غير كابر.

ويروى أن بنى المغيرة قد استدانوا من ثقيف قبل أن يسلم الفريقان فلما جاء القرآن بالنهى عن الربا ، وأنه موضوع ، واختلف الدائن الثقفى مع المدين من بنى المغيرة ، أيحتسب من رأس المال ما أخذه من ربا من قبل التحريم أم لا يحتسب ، أراد المدين أن يحتسب ، وأراد الدائن ألا يحتسب ، فاحتكموا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ، فحكم بينهم بمقتضى النص القرآنى.

وأن بنى المغيرة لم يكونوا فقراء ، بل كانوا قوما من الأثرياء ، وفيهم من قال الله تعالى فيه : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) (١٤) [المدثر : ١١ ـ ١٤].

ومنهم من يدعى أن النبوة لا تكون إلا فى رجل ثرى عظيم فى منظره ، وقال سبحانه وتعالى عنه : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١) [الزخرف : ٣١]

وإذا كان ما بين الأغنياء من تقارض بزيادة ، فدعوى إخراج القرض الاستغلالى من نطاق الربا دعوى باطلة ، وهى تدل على أن القائلين أخضعوا حكم القرآن لحكم الزمان ، فضلت مداركهم ، وزاغت قلوبهم : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨) [آل عمران : ٨].

وسادس الأمور التى تثبت أن ربا القرآن يعم القرض الاستغلالى والقرض الاستهلاكى أن العرب فى حياتهم البدائية كانوا يقومون على أدنى معيشة من المادة ، فما كانت لهم مطالب متعددة ، وما كانوا يحتاجون إلى جهاز لابنة يجهزونها ، ولا لأنواع من الأطايب يطلبونها ، بل يكتفون بالقليل ، وهؤلاء لا يكون فيهم قرض

٣٥٦

الاستهلاك أبدا ، إن تعدد ألوان المطالب التى قد تضطر للاقتراض لقضائها وليد حياة متحضرة ، ولم تكن هذه الحضارة عند أهل البادية.

ولذا نقول : إن ربا الجاهلية ، وهو الربا المحرم فى القرآن يكاد ينصب على قرض الاستغلال ابتداء ، والثانى يجيء من عموم النص ، وفى التعاون بالزكاة غنى عن الاقتراض للاستهلاك.

شيوع الربا :

٢٢١ ـ لقد شاع التعامل بالربا ، حتى صار يسيطر على النظام الاقتصادى ، ويقول اقتصاديو هذا الزمان : كيف يسوغ ترك التعامل بالربا وهو قوام الاقتصاد الحاضر؟.

ونقول : إن هذا الزمن هو الذى تحققت فيه نبوءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، إذ يقول : «يأتى زمان على الناس يأكلون فيه الربا ، قيل : الناس كلهم يا رسول الله ، قال : من لم يأكله ناله غباره».

وإن الذين أدخلوا هذا النظام فى كل قارات العالم هم اليهود ، وأذكر منهم آل روتشيلد ، الذين وزعوه فى القارات ، ونشروه ، وسيطروا به على العالم الاقتصادى ، وكان الربا سبيلا للاستعمار فى البلاد الإسلامية ، وخصوصا العربية.

ومهما يكن مصدر الربا ، ومهما يكن الذين أشاعوه ، فإنا نقرر حقيقتين :

أولاهما ـ أن تحريم الربا ليس بسبب خلقى ، حتى يقصر التحريم ، على القروض الاستهلاكية ، كما يتوهم بعض المتفقهة ، إنما الأساس فى تحريمه اقتصادى ، فالإسلام يدعو إلى نظام اقتصادى يقوم على منع الربا ، لأن الربا من شأنه أن يجعل رأس المال منتجا من غير عمل عامل ، بل من غير تحمل لتبعة العمل ، وإذا ساد وجدت طائفة من الناس يتخذون التعطل سبيلا ويأكلون ثمرات غيرهم من التجار والزراع والصناع ، ولقد قرر المحققون من الذين درسوا الاقتصاد الحقيقى أن الكسب بالانتظار لا ينمى الأمة اقتصاديا ويفسدها اجتماعيا ، إذ إن الكسب بالانتظار لا ينتج ، إنما الذى ينتج هو الذى يعمل زارعا ، أو تاجرا ، أو صانعا ، وإنك إذا درست ما أحله الله تعالى وما حرمه من المكاسب ، تجد أن المكاسب التى أحلها الإسلام ، هى التى تزيد ثروة الأمة ، وتنمى إنتاجها أو تنفع الناس ، والمحرم من المكاسب ما لا ينمى ثروة الأمة ، ولا ينفع الناس ، ولا شك أن المكسب بالربا ليس فيه تنمية للثروة ، ولا عمل لنفع ، إنما الذى يكون منه هذا هو المقترض ، فبأى حق يأخذ المتعطل منه ثمرة عمله من غير تحمل لخسارة إن كانت.

الحقيقة الثانية ـ أن التعامل فى الإسلام يقوم على أساس التعاون ، وأن يفيض ذو المال على من لا مال عنده ، ويتعاونا على الاستغلال بأن يكون ثمة مشاركة فى الكسب

٣٥٧

والخسارة ، ولذلك كانت المضاربة الشرعية ، أو ما يسمى شركة مساهمة ، ومعناها أن يدفع المال لمن يستغله على قسمة الربح بينهما ، بأسهم شائعة ، كالثالث والرابع ، على أن تكون الخسارة على صاحب رأس المال ، وهو المبدأ الذى تقوم عليه الشركات المساهمة ، وإن هذا النوع هو الذى يتفق مع مبدأ التعاون الذى دعا إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). [المائدة : ٢]

وهذا غير الربا لأنه استغلال من جانب الرابى ، والعمل على غيره من غير أن يتعرض للخسارة ، وهو يؤدى إلى التنابز.

وقد قرر المجددون من علماء الاقتصاد أن سبب الآفات ، التى تقع هو من نظام الفائدة ، وأن ذلك النظام سبب بقائه مع فساده ، وإدراك الناس لهذا الفساد أنه لا يوجد نظام يحل محله.

٢٢٢ ـ وأخيرا ، نقرر أن النظام الاقتصادى فى الإسلام لا يقوم على الربا ، بل إنه يناقضه ، لأنه يجعل صاحب رأس المال يكسب من غير عمل ، ومن غير تعرض للخسارة.

وإن الذى يلاحظ أن العالم الآن يحكمه نظامان :

أحدهما ـ يجعل رأس المال كاسبا ماديا دائما ، من غير أن يقوم صاحبه بعمل يتحمل تبعاته ، ويؤدى به خدمة عامة تنفع الناس ، وتمد الجماعة بالخير ، فعملهم فى الحياة أن يملكوا رأس المال وغيرهم يعمل ويستغله كاسبا ، وخاسرا ، ثم يجيء إليهم المال رزقا رخيصا ، ليس مكسوا بجهد عامل.

وثانيهما ـ نظام يلغى رأس المال ، ويجعل العمل وحده هو طريق فى مصنع يصنع ، أو فى حقل يزرع ، أو فى أى عمل ينفع الجماعة.

والنظامان يتناحران ، وقد يؤدى التناحر إلى أن يأخذ بعضهما من الآخر قليلا أو كثيرا ، أفلا يتسع الوجود الإنسانى فى ذلك المضطرب لنظام يحترم رأس المال على أن يعمل فيه صاحبه يكسب من حلال وينتج ما ينفع الناس ، فيكون نعم المال الصالح فى يد العبد الصالح ، ويمنع أن يكون كسب لأى مال من غير أى عمل وتحمل الخسارة ، أى أنه يمنع الكسب بالزمن إنما يكون الكسب بالعمل ، وبرأس المال الذى يعمل فيه صاحبه.

ذلك هو نظام الإسلام الذى سينتهى إليه العالم إن عاجلا أو آجلا.

ولو أن الذين يعملون فى الاقتصاد من المسلمين يؤمنون بالقرآن كإيمانهم بنظم هذا الزمان لكانوا الدعاة إلى اقتصاد القرآن ، وعساهم يفعلون.

٣٥٨

العلاقات الدولية فى القرآن :

٢٢٣ ـ القرآن يذكر أن الإنسانية كلها أمة واحدة ، ويقول سبحانه وتعالى فى ذلك :

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣) [البقرة : ٢١٣].

وإن النصوص القرآنية تدل على وحدة الإنسانية فى خلقها وأصلها ، فالله تعالى يقول :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١). [النساء : ١]

فالرحم بين بنى الإنسان موصولة ، وإذا كانت الألوان مختلفة والألسنة مختلفة ، والأجناس متباينة ، فإن الأصل واحد ، ويجب أن تكون العلاقات مبنية على الأصل الموحد ، لا على التخالف الظاهر ، ويجب أن تبنى الأمور على الجذع لا على الغصون المتفرعة.

ولقد حد الله تعالى فى كتابه الكريم حدود العلاقة الإنسانية ، فقال سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١٣) [الحجرات : ١٣].

فبهذا النص يبين القرآن الكريم أن العلاقة التى يجب أن تكون السائدة هى التعارف ، والتعارف تكون معه المودة ، والتعاون وإقرار السلام ، وإحياء التراحم.

٢٢٤ ـ وإذا كان التعارف هو الأصل الجامع للشعوب والقبائل والأجناس ، فالإسلام لازم من لوازمه هو الأساس لكل تعارف ، فلا تعارف يوجب المودة مع الخصام والتناحر ، والتحارب.

ولذلك كان الأصل فى علاقات الدول بعضها مع بعض أو بعبارة أدق العلاقة بين المسلمين وغيرهم فى السلم لا الحرب ، فالمسلم ينظر إلى من يخالفه نظرة الود الراحم ، لا العداوة القاطعة ، ولذلك يقول سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا

٣٥٩

فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٠٩) [البقرة : ٢٠٨ ، ٢٠٩].

وإذا قامت الحرب بين المسلمين المؤمنين بالقرآن ، فإن الإسلام يتشوف للسلم يبتغيه ، ولا يريد الاستمرار فى مذبحة ، فإن مالوا للسلم أجابهم المسلمون ، ولو كانوا يتوقعون الخديعة ، ما دامت لم تظهر أماراتها ، ولذلك يقول سبحانه وتعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٣). [الأنفال : ٦١ : ٦٣]

وقد تربت النفس المؤمنة على المحبة ، فكانت تكره القتل والقتال إلا أن يكون ذلك جهادا ، ولذلك قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢١٦) [البقرة : ٢١٦] وكان القتال بالجهاد لدفع الشر وتعميم الخير ، لأن الإسلام يدعو إلى الخير ، وإلى الفضيلة ، وفضيلة الإسلام إيجابية وليست ـ سلبية ، فهى تدافع الرذيلة ولا تستسلم.

وإذا كان الوجود يتنازع فيه الخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، فإنه لا بد من دفاع الخير ، لقد أراد الإسلام للناس المحبة ، ولكن أراد إبليس لهم البغضاء ، فكان لا بد من النزاع بين مبدأ المحبة والبغضاء ، وإلا يدفع الشر ساد الفساد ، وعمت الرذائل ، لذلك شرع مبدأ الجهاد لدفع الشر ، ومنع الفساد ، ولقد قال الله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) [البقرة : ٢٥١].

لذلك شرع الجهاد فى الإسلام ، وأول الجهاد كان عقب الاعتداء وفتنة المسلمين وإيذائهم ليرجعوا عن دينهم ، عندئذ أذن الله تعالى بالجهاد وأوجبه ، فقال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٤٠). [الحج : ٣٩ ، ٤٠]

ولقد قال تعالى آمرا المؤمنين بالقتال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ

٣٦٠