المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

ولذلك أمر الله نبيه بألا يقهر يتيما ، فقال تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (٩).

[الضحى : ٩]

وقد أمر المؤمنين الصادقين أن يضموا اليتامى إلى أسرهم ، ويكونوا كأولادهم ، حتى لا يشعروا بذل اليتم ، فقد قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ). [البقرة : ٢٢٠]

وعنى الإسلام باليتامى لكيلا ينشئوا نافرين من الجماعة فيكون منهم المشردون ، وقطاع الطرق ، ويكونون حربا على أمنها ، فيكونون ذئاب الجماعة ، وهم إن أحسنت تنشئتهم يكونون قوة عاملة نافعة.

وكذلك الأمر فى كل مسكين أذلته الحاجة وقهره الفقر ، فإنه يكون قوة إن أكرم وعاملا هداما إن قهر ومنع ، وهؤلاء هم العقبة إن لم يكرموا ، ولذلك قال الله تعالى :

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (١٧) [البلد : ١١ ـ ١٧].

وكما أوجب الإسلام رعاية اليتامى ، والقيام على شئون الأولاد ، وتربيتهم على المودة والرحمة والنزوع الاجتماعى أمر الأولاد بإكرام الوالدين ، والإحسان يقترن بالأمر بعبادة الله وحده ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [النساء : ٣٦].

ويذكر الله تعالى وصايا لقمان لابنه : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٥) [لقمان : ١٣ ـ ١٥].

ولقد حرص القرآن على الوصية بالوالدين عند ما يصيبهما الضعف ، ويكونان فى حاجة إلى النظرة الرفيقة الطيبة ، فيقول سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣) [الإسراء : ٢٣]

٣٢١

وهكذا يربى القرآن الكريم الأسرة ، ويقيمها على دعائم من المودة والرحمة ، ورعاية القوى للضعيف ورحمة الكبير بالصغير ، وإكرام الصغير للكبير.

إنهاء الحياة الزوجية غير الصالحة :

١٩٣ ـ تقوم الحياة الزوجية فى الإسلام على أساس المودة المواصلة والرحمة بين الزوجين. وتنشئه الأولاد على نزوع الرحمة والتآلف ، والائتلاف بالمجتمع ، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك فى قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١). [الروم : ٢١]

ووصف سبحانه وتعالى العلاقة بين الزوجين بقوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) ، وأثبت أن التزاوج للأنسال والرحمة بين الناس ، فقال تعالى : فيما تلوناه من قبل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١) [النساء : ١].

وإذا كانت العلاقة الزوجية تقوم على المودة والتفاهم ، لا على المباغضة والتنافر ، فإنه إذا تنافرت القلوب ، وأصبحت غير قابلة للالتئام ، فإن بقاء هذه الحياة ليس فى صالح الأسرة ، ولا فى مصلحة المجتمع المتواد المتراحم ، ولقد عالج القرآن الكريم كما رأينا هذه الحالة عند ما تنشعب القلوب ، فإذا لم يجد علاج بينهما ولا علاج من ذويهما ، فإن الإنهاء أولى من الإبقاء ، ولذلك قال تعالى فيما تلونا : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النساء : ١٣٠] فعندئذ يكون الطلاق أمرا غير محظور.

ويلاحظ أنه عند الطلاق الذى يكون بيد الرجل تحل البغضاء محل المودة أنه لا بد من تحقيق أمور ثلاثة :

أولها ـ التسريح يكون بإحسان من غير مشاحة ، ولا معاندة ، فقد تلونا من قبل قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) [البقرة : ٢٣١].

والإحسان يوجب أن يعمل على أن تكون نفسها طيبة بإنفاق مال عليها ويكون متعة طلاق لها ، وقد أوجبها القرآن الكريم فى قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢). [البقرة : ٢٤١ ، ٢٤٢]

٣٢٢

ولقد أوجب الشافعى وأحمد بمقتضى هذه الآية المتعة لكل مطلقة مدخول بها. وذلك نص كتاب الله تعالى.

الأمر الثانى الذى أوجبه القرآن الكريم أن يكون الطلاق رجعيا ، بحيث يكون للمطلق الحق فى أن يرجع زوجته إليه قبل انتهاء عدتها ، وهى فى الغالب تقدر بنحو ثلاثة أشهر تقريبا ، هى مقدار ثلاث حيضات ، وقد ثبتت الرجعة بقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٨ ، ٢٢٩].

وإن هذه الآيات الكريمات صريحة فى أن الطلاق يكون رجعيا ، وأن الأجل للرجعة هو ثلاثة قروء أى ثلاث حيضات ، ولكن تحتسب الطلقة من ضمن ثلاث الطلقات التى يملكها ، وأن الرجعة تثبت فى الطلاق الأول والثانى ، أما الثالث فلا رجعة فيه.

ولقد قال تعالى فى ثبوت الرجعة أيضا : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣) [الطلاق : ١ ـ ٣].

وهذه الآيات تدل على ثلاثة أمور : أولها ـ أن الطلاق لا يكون إلا رجعيا ، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله تعالت كلماته : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [البقرة : ٢٢٨] وأن الطلاق حيث يمكن الرجوع ، من حدود الله التى لا يجوز أن يتعداها المكلف.

وثانيها ـ أن الإشهاد على الرجعة واجب حتى تكون المرأة على علم بالرجعة ، وحتى تشتهر بين الناس إعادته الحياة الزوجية ، ولأن شرط صحة الزواج الشهادة ، فيكون شرط إعادته الشهادة أيضا.

وثالثها ـ أنها لا تخرج من بيت الزوجية ، ولا يخرجها منه.

وذلك هو الأمر الثالث الذى قررنا أن القرآن أوجبه.

٣٢٣

الخلع :

١٩٤ ـ واضح من هذا أن الرجل إذا نفر من زوجته ولم يكن سبيل لإزالة نفرته كان له أن يطلق فى الحدود التى بيناها ، ومع الواجبات التى أوجبها القرآن ، فإذا نفرت المرأة من عشرة الزوج ، فهل تبقى مع هذه النفرة ، التى حاول الزوجان ، وذووهما إزالتها ، فلم يستطيعوا ، هنا تجلت العدالة التى قررها الله تعالى فى قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [البقرة : ٢٢٨]. فكما أن الرجل له أن يوقع الطلاق إذا نفر من زوجته وتأكدت النفرة ، وشدد فى أن يكون الطلاق رجعيا ، لأنه عسى أن تكون النفرة لأمر عارض وقد زال ، فهو أحق بامرأته.

إذا كان الأمر كذلك فى الطلاق عند نفرة الرجل ، فإنه يفرض أن هذه النفرة قد تكون منها ، وتكون العشرة مباغضة ، ومع المباغضة العنت ، لذلك شرع الخلع ، وكان الخلع بالاتفاق بينهما ، وقد يكون بحكم القاضى إن ترافعا إليه.

ولما ذا كان الخلع فى حال نفرة المرأة؟ الجواب عن ذلك أن الرجل ينفق فى سبيل الزواج مالا ، وقد يكون كثيرا ، وذلك بحكم القرآن ، وقد يكون كل ما يملك ، ويستقبله زواج آخر يقيم به حياة زوجية ، بدل هذه الزوجية التى أبغضت فيها المرأة ، ولا يمكن العشرة مع بغضها ، فكان لا بد من أن يأخذ ما أنفق أو بعضه.

وهذا هو الخلع ، وقد شرعه الله سبحانه وتعالى بقوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩]

الطلاق ثلاث مرات :

١٩٥ ـ شرع الله الطلاق ثلاث مرات سواء أكان بإيقاع الزوج منفردا ، أم كان باتفاقهما فى الخلع ، أو بحكم القاضى ، فإذا وقعت الطلقات الثلاث بثلاث مرات ، فإنها لا تحل له إلا بعد أن تتزوج زوجا غيره بزواج شرعى صحيح على نية البقاء ، لا على نية التوقيت ، ثم إن طلقت من بعد لأمر عارض أو توفى عنها زوجها فإن لهما أن يتزوجا من بعد ، ذلك ما بينه سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته ، وتسامت أحكامه ، (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٣٠) [البقرة : ٢٣٠].

وكان تحريمها بعد الطلقة فى المرة الثالثة ، لأنها تدل بعد التجربة على أن الحياة لا تستقيم بينهما على ما هما عليه ، من أخلاق ، أو تنافر ، فكان لا بد من تجربة تكون شديدة عليهما إن كان ثمة محل للصلاح ، أو احتمال له ، وكانت تلك التجربة أن تتزوج

٣٢٤

آخر ، فإن كانت الإساءة من جانبها كانت عشرة الآخر مهذبة أو مقررة لما كان منها ، وإن كانت الإساءة من جانبه ، فإنه يراها فى أحضان رجل آخر ، فيثير ذلك أسفه على ما كان منه.

فإن انتهت التجربة ، وتلاقيا من بعد ، كان ذلك بعد تهذيب فى تجربة شديدة.

العدة :

١٩٦ ـ إذا تم الافتراق بين الزوجين سواء أكان المفرق هو الموت أم كان المفرق هو الطلاق ، فإنه لا بد من عدة تنتظر المرأة فيها ، فلا تتزوج زوجا آخر ، استبراء لرحمها من مظنة الحمل ، وإحدادا على الزوج السابق وليتمكن الرجل فيها من مراجعة نفسه إذا كان الطلاق رجعيا.

وإذا كانت المرأة حاملا ، فالعدة تكون بوضع الحمل ، لقوله سبحانه وتعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] ، سواء أكان الفراق بالطلاق أو الخلع ، أم كان بالموت ، ورأى ابن عباس وعلى رضى الله عنهما أن تكون العدة بوضع الحمل بشرط مرور أربعة أشهر وعشرة أيام ، إعمالا لآية العدة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤].

وعدة المطلقات ثلاث حيضات لما تلونا من قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] ، والقروء الحيضات.

وإذا كانت المطلقة بلغت سن اليأس ، وقد يئست من الحيض ، أو لم تر الحيض أصلا فعدتها تكون بثلاثة أشهر ، وقد نص على ذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ). [الطلاق : ٤]

ولا بد قبل ترك الكلام فى العدة كما ورد منها فى نصوص القرآن الكريم لا بد من التنبيه إلى ثلاثة أمور : أولها : أن العدة بالنسبة للمطلقات إنما تكون لمن دخل بها ، وذلك لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب : ٤٩] أما المتوفى عنها زوجها فإنها تعتد عدة الوفاة ، ولو لم يدخل بها ، لأن النص الكريم (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) لم يفرق بين مدخول بها وغير مدخول بها.

الثانى : أن المطلقة تبقى فى بيت الزوجية فى مدة العدة ، ولا تخرج منه ولا يجوز إخراجها ، وقد تلونا فى ذلك قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) [النساء : ١٩].

٣٢٥

والمتوفى عنها زوجها صرح القرآن بأنها تبقى فى بيت الزوجية حولا لا يجوز للورثة وأولياء الميت أن يخرجوها منه ، وذلك بصريح القرآن الكريم ، فقد قال سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٤٠). [البقرة : ٢٤٠]

فهذا النص الكريم يدل على أن المتوفى عنها زوجها لها أن تبقى فى بيت الزوجية الذى مات به الزوج حولا على أن يكون ذلك متاعا وحقا ، فلا يجوز إخراجها ، لأنه يكون انتزاعا لحقها ، ولكن يجوز لها أن تخرج ، وإن ذلك بلا ريب حفظ للمرأة من الضياع ، وصيانة لحرمة الزوج المتوفى.

الأمر الثالث : أن النفقة الزوجية تبقى فى العدة ، لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) والحمل لا يعرف إلا بعد الولادة ، فيفرض وجوده فى كل معتدة من طلاق ، وخصوصا أن قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطلاق : ٧] هو عام للحامل والحائل على سواء.

تنبيهان :

١٩٧ ـ يلاحظ أن المرأة فى الزواج لها حقوق ، وعليها واجبات ، وأن الزواج لا يفرض عليها من وليها ، بل لا بد من اختيارها ورضاها فى أصل العقد وفى المهر ، وقد نص على ذلك القرآن الكريم فى المهر ، فقال تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً). [النساء : ٢٤]

ومنع القرآن الكريم بصريح اللفظ عضل المرأة بمنعها من الزواج ، أو تزويجها بمن لا تريد ، قال تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢٣٢) [البقرة : ٢٣٢].

والتنبيه الثانى أن المرأة تأخذ نصيبها كما يأخذ الرجل نصيبه من المال مع التفاوت قال تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٧) [النساء : ٧] وإن هذا النص الكريم فوق دلالته على وجوب توقير ميراث النساء يدل على أن ذمة المرأة منفصلة عن ذمة الرجل ، سواء أكان زوجا أم كان أبا أو أخا أو قريبا بأى درجة من درجات القرابة.

٣٢٦

الأسرة فى الإسلام ممتدة :

١٩٨ ـ هذا لفظ استعرناه ممن يكتبون فى علم الاجتماع فى هذه الأيام ، فهم يقسمون الأسرة إلى قسمين ، قاصرة وممتدة ، ويقصدون بالقاصرة الزوجين ، وأولادهما ، ويقصدون بالممتدة ما يشمل ذوى القربى جميعا من أصول وفروع ، وحواش قريبة وبعيدة بحيث يشمل الأقربين وغيرهم.

وقد جاء الإسلام منظما العلاقة بين النوعين ، والقرآن فى محكم آياته تعرض لأحكام الزوجين والأولاد ولم يترك أحكام بقية ذوى القربى ، وقد حث بالنسبة لذوى القربى الذين يشملون الأسرة القاصرة أو الممتدة على مراعاة الرحم ، وذكر الواجبات إجمالا بالنسبة لصلة الأرحام ، فأوجب مراعاة هذه الصلة التى أوجدتها الفطرة ، ومهما تشعبت الفروع ، وتكاثرت ، فقال الله سبحانه وتعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] وجعل سبحانه وتعالى من أقرب القربات إلى الله تعالى إعطاء ذوى القرابة بسبب القرابة فقال تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧) [البقرة : ١٧٧].

ونرى أنه سبحانه وتعالى جعل من أول أبواب البر إعطاء ذوى القربى بسبب القرابة ، لا لفقرهم ، ولا لحاجتهم ، ولكن صلة لهم ، وإبقاء لحبل المودة فى القربى أن يبقى.

والوصية بأولى القربى كثيرة فى القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى) [البقرة : ٨٣] وقوله تعالى فى قسمة الميراث : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٨) [النساء : ٨]. وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] ، فالمودة فى القربى أجر يعطيه العبد لربه ، وهكذا نجد نصوص القرآن.

١٩٩ ـ وقد ذكر القرآن الكريم حقوقا وواجبات متبادلة فى القرابة ، ونذكر منها ثلاثة :

أولها ـ أن الدية فى القتل الخطأ تجب على الأسرة ، وتعطى الأسرة ، فهى تجب على الأسرة بمعناها الممتد ، وقد قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً

٣٢٧

وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢].

وبهذا نجد وجوب التعاون بين الأسرة بمعناها الممتد ، فهى تتعاون فى غرم الجرائم تدفعه ، وفى تعويضها تأخذه ، ولذلك لا يجب إلا إذا كانت الأسرة مؤمنة ، أو كان بينها وبين المسلمين ميثاق تجب بمقتضاه الديات ، ولا تسقط إلا إذا كان من قوم عدو للمؤمنين ، فإن الدية تكون إعانة لهم على الاعتداء.

ثانيها ـ أن الله أوجب للفقير العاجز عن الكسب نفقة على قريبة الغنى ، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك فى قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١) [النور : ٦١].

ونجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر فى القرآن الحكيم أنه لا إثم على من يأكل فى بيوت هؤلاء عند الاحتياج ، ونفى الإثم يشير إلى أنه حق ، إذ إن تناول الحقوق لا إثم فيه.

وقد يقال أن ذلك لم يكن مقتصرا على القرابة ، بل ذكر الصديق ، فدل على أن الحق ليس سببه القرابة ، ونقول أن ذلك الحق سببه العجز ابتداء ، ولذلك ذكر فى أول الآية ذوى العجز عن الكسب ، فكان الكلام كله فى أهل العجز ، ولكن الأخذ كان للقرابة ابتداء ، فإن لم تكن له قرابة يلزمها الشرع ، كانت المودة التى توجبها الصداقة مبررا للأكل ، وإن كان لا يلزم الصديق بذلك قضاء ، فإنه يجب عليه دينا ويأثم فيما بينه وبين الله ، إن كان قادرا ، ومع ذلك يترك صديقه يتضور جوعا ، ولذلك كانت المؤاخاة.

وفى ذلك إرشاد خلقى اجتماعى حكيم لواجبات الأصدقاء نحو أصدقائهم.

الحق الثالث حق الميراث :

ولذلك بعض التفصيل ، فقد ذكره القرآن مفصلا.

٣٢٨

الميراث

٢٠٠ ـ تولى القرآن الكريم بيان الميراث بالتفصيل ، ولم يكن فى السنة النبوية تفصيل فى القرآن ، ولكن فيها تطبيق لأحكامه ، وتوضيح لما عساه يستغلق على بعض الأفهام ، أو لما يحاول به بعض الناس من انحراف عن أحكام القرآن ، وتأثر ببعض أحكام الجاهلية ، كحرمان النساء من الميراث.

والآن نتلو أكبر آية فى بيان المواريث ، وهى قوله تعالى :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤) [النساء : ١١ ـ ١٤].

فى هذه الآيات الكريمات بين الله تعالى ميراث الأولاد والأبوين ، والزوجين ، وميراث أولاد الأم ، فالكلالة هنا أولاد الأم ، كما ذكر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطبيقه لأحكام القرآن فى الميراث.

وهناك كلالة أخرى ، وهى كلالة الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب ، وقد بينها الله سبحانه وتعالى بقوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦) [النساء : ١٧٦].

٣٢٩

ولا ننسى قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] ، فإنها كما تدل على المودة بين أولى القربى تدل على أولوية الميراث أيضا ، ولذا اقترن بها قوله تعالى : (فِي كِتابِ اللهِ).

وبهذا نرى أن القرآن الكريم تولى الأحكام فى الملكية بالخلافة الإجبارية بعضه بالتفصيل وبعضه بالإجمال الذى يغنى عن التفصيل.

وقد كان عمل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطبيق أحكام الكتاب ، ولنضرب لذلك مثلا ، أن عبد الله بن مسعود سئل عن بنت وأم وأخت شقيقة فجعل الأخت الشقيقة قائمة مقام الأخ الشقيق تأخذ الباقى ، وقال : ذلك قضاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

وطبق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] ، فقرر صلى الله تعالى عليه وسلم أنه بعد أن يستوفى أصحاب الفروض فروضهم ، ولم يكن أب أو ابن أن الميراث يكون لأقرب رجل ذكر ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «فإن بقى بعد أصحاب الفروض ، فلأقرب رجل ذكر» ولا شك أن ذلك الحديث النبوى تطبيق دقيق لقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) فالأولوية تقتضى أن يكون الأقرب أحق بالميراث ، أو بما يبقى منه.

وقد ثبت بالسنة أن المتوفى إذا ترك بنتا وبنت ابن مات أبوها فإن البنت يكون لها النصف ، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين اللذين يكونان للبنات ، فإذا أخذت البنت الواحدة النصف ، فإنه لا يذهب باقى الثلثين ، بل يكون لبنت الابن ، لأنها بنت للمتوفى مجازا ، وذلك تطبيق للنص القرآنى.

وقد ثبت أيضا أنه إذا كان للمتوفى أم ، وأخت شقيقة استحقت النصف فقط ، وهناك أخت لأب ، فإنها تأخذ السدس تكملة للثلثين ، حتى لا يذهب ما فوق النصف ، وذلك بتطبيق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لقول الله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ).

وبهذا يتبين أن القرآن الكريم تولى أحكام الميراث بالتفصيل فى أصحاب الفروض ، والعصبة فى الأولاد والآباء ، وبالإجمال فى باقى الأحكام ، والسنة النبوية طبقت القرآن ، وكانت بيانا للناس.

ما يلاحظ على توزيع القرآن العادل :

٢٠١ ـ يلاحظ على ذلك التوزيع العادل الذى تولاه القرآن ما يأتى : أولا : أنه جعل للنساء ميراثا. ولم يكن العرب فى الجاهلية يعطون النساء ميراثا ، وأنه فى سبيل

٣٣٠

تكريم الأمومة ، وقرابتها جعل لأولاد الأم ميراثا لا يقل عن السدس ، ولا يزيد على الثلث ، وجعلهم يستحقونه بوصف أنهم كلالة ، أى لا يوجد ميراث بأصول وفروع ، ومع ذلك جعلهم يرثون مع وجود الأم.

ثانيا : أن يكون الميراث للأقرب فالأقرب ، لأن العبرة فى استحقاق الميراث أن يكون لمن يعد وجودهم امتدادا لحياة المتوفى فى الوجود ، ولذلك كان أكبر الأسرة حظا فى الميراث الأولاد ، وأولادهم الذين ينتسبون إليه.

ومع أنهم أكثر الأسرة حظا فى الميراث لا ينفردون به ، بل يشاركهم فيه الأبوان والزوجان ، وإنهم ليشاركونهم بمقدار قد يصل إلى النصف أو إلى قريب منه.

وأن مشاركة غيرهم إنما هى لمنع تركيز المال فى ورثة بأعيانهم ، فالأبوان إذ يأخذان مع الأولاد الثلث يكون من بعدهما لأولادهما ، وهم غالبا إخوة المتوفى فيكون الاشتراك فى المال بدل الانفراد ، وإذا لم يكن أب فقد يأخذ إخوة مع الأولاد إن كانوا إناثا. وبذلك يتبين أن كون الميراث للأقرب لا يمكنه من الاستئثار بالتركة وحده.

والثالث : مما يلاحظ فى الميراث مقدار الحاجة ، فكلما كانت الحاجة أشد كان قدر الميراث أكبر ، ولعل ذلك هو السر فى أن نصيب الأولاد كان أكبر من نصيب الأبوين مع أنه من المقرر شرعا أن للأبوين فى مال أولادهما نوع ملك ، كما ورد فى الحديث «أنت ومالك لأبيك» ، ولكن حاجة الأولاد إلى المال أشد لأنهم فى غالب الأحوال ذرية ضعاف يستقبلون الحياة ، ولها تكليفاتها المالية ، والأبوان يستدبران الحياة ولهم فضل من المال ، فحاجتهما إلى المال ليست كحاجة الذرية الضعاف ، وفوق ذلك أن ما يرثانه يكون لأولادهما ولا يكون منه لهذه الذرية الضعاف.

وإن ملاحظة الأكثر احتياجا هى التى جعلت نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى ؛ وذلك لأن التكليفات المالية على الذكور ، وتكليفات الرجل المالية أكثر من تكليفات المرأة ، فهو المطالب بنفقة المرأة نفسها ، وهو المطالب بنفقة الأولاد ، وإصلاح حالهم وهو الذى يمد الأسرة بكل حاجاتهم ، وإن الفطرة الإنسانية هى التى جعلت المرأة قوامة على البيت ، والرجل كادحا عاملا لتوفير القوت. فكانت قاعدة أن العطاء فى الميراث على قدر الحاجة موجبة لجعل حق الرجل أكبر من حق المرأة ، فالأخ يحتاج إلى المال أكثر من أخته ، وإن ملاحظة الحاجة هى العدل ، والمساواة عند تفاوت الحاجة هى الظلم ، فأولئك الذين يطالبون بمساواة المرأة فى الميراث مع الرجل لا يطلبون المساواة العادلة.

والرابع : أن الشارع الإسلامى كما لاحظنا فى ميراث الأولاد اتجه إلى التوزيع بين الأقارب بدل التجميع ، فهو لم يجعل وارثا يستبد بالتركة كلها ، لم يجعل الميراث للولد

٣٣١

البكر ، دون غيره ، ولم يجعل التركة كلها للأولاد دون الآباء ، ولم يجعل يد المورث مطلقة يختص بتركته من يشاء ، ويحرم من يشاء ، بل جعل نظام الميراث إجباريا فى ثلثى التركة ، ووزع الثلثين من التركة ، بين عدد من الورثة ، والصورة التى يختص بالتركة فيها واحد فقط نادرة ، وهى تكون حيث يقل الأقارب ، وفى هذه الحال تكون ثمة وصية للأقارب غير الوارثين ، على ما سنبين فى الوصية إن شاء الله تعالى.

وإذا انتقل الميراث إلى الحواشى كالإخوة والأخوات ، والأعمام ، يوزع بينهم من غير أن يستبد بعضهم بالميراث كله ، بل من غير أن تستبد قرابة دون قرابة ، فإذا كان هناك أشقاء وإخوة لأم كان الميراث للجميع ويكون للإخوة الثلث.

وهكذا نجد الميراث فى القرآن الكريم ، وفى بيان السنة للقرآن وتطبيقه ، نجد الميراث يتوزع ولا يتجمع ، وإن التجمع فى وارث واحد يكون فيه بلا ريب ظلم للباقين ، ولا يكون المال دولة بين ناس من الأسرة ، والآخرون محرومون محدودون ، بل لا يكون المال فى الأمة كلها دولة بين الأغنياء ، والحرمان للباقين.

٢٠٢ ـ إن من المقررات الشرعية أن الميراث يدخل ملكية الوارث فى الثلثين جبرا عنه ، وبغير إرادة المورث ، بل بإرادة الله سبحانه وتعالى ، ويسمى التوريث الخلافة الإجبارية ، وهى تكون فى ثلثى التركة ، ويقولون أيضا أن الثلث يكون للوصية ، وقد فرض القرآن الوصية ، بل إن صيغته فى التحريض كانت صيغة إيجاب ، فقد قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى (١٨٠) الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ (١٨١) عَلِيمٌ فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) (١٨٢) [البقرة : ١٨٠ ـ ١٨٢]

وإن هذا النص يستفاد منه جواز الوصية ، بل وجوبها عند ما تكون فى موضع بر بأن تكون فى الأقربين ، فهى سد لما عساه يكون فى توزيع الميراث من حرمان بعض ضعفاء الأقارب من الميراث ، إذا لم يكونوا فى نظام التوزيع ، فهى فى وضعها بجواز الميراث تكميل لأحكامه. فقد تكون الأخت الفقيرة لا يصل إليها الميراث لوجود الأبناء ، فكانت الوصية التى كتبها الله تعالى فى الثلث سدا لخلتها.

وإنه بمقتضى هذا النص تكون الوصية واجبة لفقراء الأقارب غير الوارثين ، وذكر الوالدين لأنهما قد يكونان غير وارثين ، لاختلاف الدين ، كما كان الأمر فى صدر الإسلام ، إذ كان الرجل يكون مشركا والمرأة كذلك ، وولدهما قد هداه الله تعالى إلى الإسلام ، فيكون عليه أن يوصى لهما ، لأن ذلك من الإحسان ، والمصاحبة لهما

٣٣٢

بمعروف ، كما قال تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥].

ومن العلماء من قال : إن نصيب الأبوين من الميراث إن كان قليلا تصح الزيادة عليه بالوصية ، وكذلك الأقربون من الورثة إن كان نصيب أحدهم ضئيلا ، لا يسمن ولا يغنى من جوع ، جاز زيادته بالوصية من الثلث. وذلك ما تفيده الآية. وقوله تعالى بالمعروف معناه بالأمر المعقول فلا يزيد القادر ذا المال على ماله ، ولكن يعطى الضعيف ذا الحاجة الذى لم يأخذ شيئا من الميراث.

ودلت الآية الكريمة على جواز التدخل فى الوصية إذا كان فيها ظلم للورثة بالميل الظالم أو كان فيها إثم كالوصية لخليلة ، أو الوصية لحانة ، فإنه يجوز فى هذه الحال الدخول للإصلاح وتحويل الوصية إلى خير ، ولذلك قرر بعض الفقهاء أخذا من هذا أن إبطال الوصية الظالمة ، أو إصلاحها بحكم القضاء جائز.

ومن التابعين من قرر أن الميت إذا ترك الوصية لأقاربه الضعفاء غير الوارثين ، كانت لهم وصية ، وأوجبها ابن حزم ، والله سبحانه وتعالى يعلم المفسد من المصلح.

٢٠٣ ـ هذا هو نظام الملكية بالخلافة جعله القرآن إجباريا فى الثلثين كما بينت السنة ، وجعله اختياريا للوارث فى الثلث ، وأوجب أن يكون فى غير إثم ، وأنه يجب إبطاله إن كان إثما.

واختص القرآن الكريم الأقارب الضعفاء الفقراء بإيجاب الوصية لهم بالمعروف ، وقد وضحنا ذلك آنفا.

وإذا وازنا نظام الملكية بالخلافة بأى قانون من قوانين العالم فى الماضى والحاضر ، ما وصل إلى العدالة فيه نظام مهما يكن إحكامه.

ولقد تضافرت كلمة القانونيين من علماء الغرب الذين اطلعوا على الشريعة أن أعدل نظام للملكية بالخلافة هو نظام الإسلام ، فكل نظام للتوريث غير نظام الإسلام ظالم أو ناقص ، وبذلك يعترف كل دارس منصف.

وإن هذا النظام جاء به القرآن الكريم ، ونادى به صلى الله تعالى عليه وسلم الذى لم يدرس على معلم. ولم يكن إلا فى بلد أمى ، ليس فيه معهد ولا جامعة ، أفليس هذا دليلا قاطعا على أنه من عند الله تعالى.

٢٠٤ ـ وقد يقول قائل : إنى أطلت فى ذكر نظام الأسرة فى القرآن ، وربما يكون ذلك خروجا عن الكلام فى القرآن إلى الكلام فى الأسرة.

٣٣٣

ونقول فى الجواب على ذلك ، إننا نتكلم فى علم الكتاب ، فمهما نتكلم فى الأسرة ، فإننا نتكلم فى موضوع علم القرآن الذى علمنا الله تعالى إياه ، وأننا لم نأت بكل ما جاء فى القرآن عن الأسرة ، ولكن اكتفينا ببعض ما جاء ليكون دليلا على ما وراءه وإشارة لما بعده.

وقد ذكرنا الأسرة فى القرآن ، وتكاد كل أحكامها تكون ثابتة بالقرآن الكريم ، والسنة مبينة لبعض ما يحتاج إلى بيان كلفظ القروء فى قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨]. فالسنة هى التى بينت أن القروء هى الحيضات على أصح الروايات فى السنة.

ولقد قررنا من قبل ما نتلمسه حكمة لتصدى القرآن لكل أحكام الأسرة.

ونقول الآن أن أحكام الأسرة فى الإسلام كانت موضع تهجم من بعض الذين ليس للدين حريجة فى صدورهم من الرجال والنساء ، فأرادوا أن يجعلوا الأسرة الإسلامية خاضعة لما سموه تطورا ، وما تطورهم إلا تجانف لناحية المسيحية ، فالمسيحية فى زعمهم تحرم تعدد الزوجات ، والمسيحية فى زعمهم تمنع الطلاق ، فيجب أن تكون الأسرة فى الإسلام تمنع التعدد ، وتمنع الطلاق (١) ، وهكذا دفعهم التقليد ، والإسلام يجعل للرجل قوامة على المرأة ، وهم لا يريدون ذلك ، ويريدون أن يكون البيت فوضى وهكذا.

ولقد وصل بهم الإنكار لحقائق الإسلام أن تهجموا على نظام الميراث ومنهم من يتمرد عليه ، اتباعا لأهوائهم ، ونحن نقول لهم : دعوا التقليد الأعمى ، ودعوا التفكير الأعوج ، واعلموا أن الأمر فى ذلك أمر القرآن ومن علم غير القرآن فقد كفر ، فإن تمردتم باسم التطوير ، وهو عمى التقليد فاعلموا أنكم على شفا جرف من الكفر ، لأن من أنكر أحكام القرآن أو من خالفها جاحدا ، فهو كافر ، فكونوا كما تشاءون ، فإن كنتم مؤمنين فخذوا بالقرآن ، وإن كنتم غير ذلك «فلكم دينكم ولي دين».

الزواجر الاجتماعية

٢٠٥ ـ هذا هو القسم الرابع من الأحكام التى اشتمل عليها القرآن الكريم ، وقد شرع القرآن من العقوبات الرادعة ما تتطهر به المجتمعات من الرذيلة ، وتتجه ناحية الفضيلة ، ويتحقق الخير فى كل مظاهر الحياة خاليا من أدران الشر.

والعقوبات فى الإسلام قسمان : عقوبات مقدرة ، وعقوبات غير مقدرة. والعقوبات المقدرة تعد أعلى العقوبات فى نوعها ، وغير المقدرة تعد دون الأعلى ، وقد

__________________

(١) وقد كتبنا بحثنا فى بيان أن التعدد كما جاء فى القرآن ، والطلاق أمثل نظام لتكوين أسرة فاضلة ، نشر فى السنة الخامسة عشرة من مجلة القانون والاقتصاد.

٣٣٤

تولى القرآن الكريم بيان أكثر العقوبات المقدرة ، والعقوبات غير المقدرة ترك تقديرها للقاضى ، أو ولى الأمر إن رأى أن يقيد القضاة ، فالإسلام يذكر الحد الأعلى للعقوبة وترك للقاضى تقدير ما دونها على ما قررنا.

والعقوبات المقدرة قسمان : قسم من حقوق العباد واضحة ، كالقصاص ، وقسم كان لحماية المجتمع من شروره ، وحق العباد ليس فى وضوح الأول.

وفى الأول كان للمجنى عليه وأوليائه حق العفو ، كما سنبين ، أما الثانى فلا عفو فيه ، لأنه حق الله تعالى.

وأول نص فى العقوبات التى كانت لحق العبد أو حق العبد فيها أوضح من غيره ، عقوبة القصاص وهى عقوبة تومئ إليها الفطرة ، لأن العقوبة مساوية للجريمة ، ومن جنسها ، وقد نص عليها فى القرآن فى عدة آيات ، منها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩) [البقرة : ١٧٨ ، ١٧٩]

وفى هذه الآية نجد القصاص فى الأنفس ، وآية أخرى تعمم القصاص فى الأنفس والأطراف ، بل الجروح ، ويقول سبحانه وتعالى فى ذلك مبينا ما كان فى التوراة ، وهو فى الشرائع السماوية كلها : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥) [المائدة : ٤٤ ، ٤٥].

وهذه الآيات الكريمات تدل ـ أولا ـ على أن القصاص شريعة النبيين أجمعين ، طبقه النبيون على الذين هادوا ، وطبقه من بعدهم الربانيون والأحبار ، ويطبقه أهل الإيمان من أمة محمد كما قال سبحانه وتعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨). [المائدة : ٤٨]

٣٣٥

وإن هذا النص الكريم يدل ـ أولا ـ على وحدة الشرائع السماوية فيما يتعلق بالقصاص ، فهو شريعة عامة ، مشتقة من الفطرة الإنسانية ، فهى عقوبة طبيعية لا مراء فيها.

وتدل ثانيا : على أن القصاص كما يقع فى الأنفس ، لأن فيه حياة الجماعة حياة آمنة مطمئنة ، يقع أيضا على الأطراف ، لأن فيه حفظ سلامة الإنسان ومنع التشويه ، إذ إن التشويه الإنسانى يكثر إذا لم يكن عقاب رادع يجعل الجانى عند ما يقدم على جريمته يتوقع أن يقع عليه مثلها ، وذلك أمنع للجريمة ، كما قرر بعض علماء القانون الذين درسوا النفس الإنسانية فى الآحاد والجماعات.

وتدل ثالثا : على أن الجروح يجرى فيها القصاص ما أمكن ، وقد استنبط من هذه بعض الفقهاء أن القصاص يجرى فى اللطم والضرب بالسوط وغيره.

وتدل رابعا ـ على أن فى الترغيب فى العفو إبعادا لإحن القلوب ، وتقريبا للنفوس ، ولذلك اعتبر العفو فى موضعه من غير تشجيع للجريمة صدقة ، وقال سبحانه وتعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ).

وإن القصاص فى موضعه إحياء للنفس المجنى عليها ، وإحياء للجماعة وهو القضاء على الأحقاد والضغائن المستكنة فى القلوب ، إن لم يكن سبيل لردعها ، فقد قال تعالى بعد أن اعتدى قابيل على أخيه هابيل شفاء لغيظه وحسدا وحقدا : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (٣٢) [المائدة : ٣٢].

وإن هذا يدل على أن القصاص إحياء للنفوس ، وتهذيب للجماعة.

٢٠٦ ـ وأن القصاص فيه حفظ للنفس ، فإن حفظ النفس يقتضى حفظ الأطراف وحفظ كل الأجزاء ، وهو حق للعباد لأنه عقوبة اعتداء مباشر عليهم ، ولذلك كان قابلا للعفو ، كما ذكرنا وكما تلونا.

وأما حقوق الله أو حقوق المجتمع ، كما يجرى التعبير فى هذا الزمان ، فإن العقوبة المقررة فيها تختص بخاصيتين إحداهما : أنها حماية للفضيلة ، وحماية للمجتمع من أن تتغشاه الرذائل ، والخاصية الثانية : أنها غير قابلة للعفو ، لأنها إصلاح ليس فيه أى معنى من معانى الانتقام أو شفاء الغيظ ، كما هو الحال فى الدماء ، ولأن إقامة الحدود عبادة ، وهى العقوبات المقررة للمجتمع فيعد عبادة ، فإذا كان العفو فى القصاص يعد أحيانا صدقة كما عبر القرآن الكريم ، فإقامة الحدود من ولى الأمر القائم على رعاية مصالح المجتمع ، وإقامة الفضائل ومحاربة الرذائل تعد عبادة ، بل هى أعلى العبادات بالنسبة له ، وأى عبادة أعلى من تطهير المجتمع من الشر.

٣٣٦

وإن الحدود شرعت محافظة على المصالح المقررة الثابتة ، وهى المحافظة على النفس وأمنها ، والمحافظة على النسل والمحافظة على العقل والمحافظة على المال.

وأشد الحدود تكون لأقصى أنواع الاعتداء ، وهو الاتفاق على الجرائم التى يكون فيها اعتداء على النفس وعلى المال ، بل وعلى الأعراض والعقول ، وهو ما يسمى حد الحرابة.

والحرابة اتفاق طائفة من المجرمين على الخروج على الجماعة بارتكاب مفاسد من أنواع الاعتداء المختلفة من قتل أو اغتصاب أموال ، وارتكاب جرائم أخرى كما قرر الإمام مالك فى تفسير معنى الحرابة ، وقد سماهم القرآن الكريم محاربين ، لأنهم يحاربون الأمن والنظام بقوة يدّرعون بها وقد قال الله تعالى فيها : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٤)

[المائدة : ٣٣ ، ٣٤]

ونلاحظ فى النص الكريم أمورا ثلاثة :

أولها ـ أن الآية الكريمة سمتهم محاربين لله ورسوله ؛ ذلك لأنهم يحاربون أحكام الشرع ، وينتقضون على الحكم المنفذ لأحكام الله تعالى ورسوله الحكيم صلى لله تعالى عليه وسلم ، وسماهم ساعين فى الأرض بالفساد ، لأن معاندة الشرع ، والإخلال بأحكامه ومحاربة الفضائل ، وإزعاج الناس ، وقطع الطريق عليهم هو عين الفساد.

وثانيها ـ أن العقوبة هى التقتيل ، أو القتل ، أو القتل والصلب ، ليكونوا عبرة لغيرهم ، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو تفريق جمعهم ، ونفيهم من الأرض بإبعادهم حيث لا يستطيعون أن يجتمعوا.

وقد قرر مالك من بين الفقهاء أن ولى الأمر مخير فى هذه العقوبات يختار منها ما يناسب حالهم.

ثالثها ـ أن الجريمة الأساسية فى اجتماعهم واتفاقهم مع قوة تمكنهم من جرائمهم ، فإن تابوا من تلقاء أنفسهم ، فقد ذهب أصل الجريمة وهو الاتفاق الجنائى ، والخروج بقوة لتنفيذه ، وما داموا قد تابوا فقد عدلوا عن الارتكاب ، وهو جريمة مستمرة ، فإذا أنهوها ، لا تستمر عقوبة الحد.

٣٣٧

ولكن يحاسبون على ما ارتكبوا قبل التوبة ، وللفقهاء كلام طويل فى هذا وفى توزيع العقوبات على الجرائم فليرجع إليه فى كتب الفقه ، ففيها ما يشفى غلة الصادى المتطلع.

ومن الناس من يلهجون باستغلاظ هذه العقوبة ، ويحسبون آثمين أنها ليست إنسانية وأولئك ينظرون إلى العقوبة ، ولا ينظرون إلى الجناية ، ويرحمون الجانى ، ولا يرحمون المجنى عليه ، والمجنى عليه هنا الجماعة ، أولئك يخرجون بقوة واتفاق ، لا ليقيموا حقا أو يخفضوا باطلا بل لمجرد أذى الجماعة ، وينتهكون كل حرمة ، يقطعون الطريق على السابلة ، ويزعجون الجماعة ، فلا بد أن تكون العقوبة كفاء لما يرتكبون ورادعة ، والعدالة الإنسانية توجب المساواة بين مقدار الجريمة ومقدار العقاب ، وكلما عظمت الجريمة كان لا بد من عقوبة تناسبها ، وكما قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم : «من لا يرحم لا يرحم» ، وذلك هو منطق العدل ، ومنطق العقل.

ولو أن تلك العقوبة عوقبت بها العصابات المخربة التى لا تبقى على شىء إلا انتهكت حرماته ، ولها ميزانية من السرقات تبلغ أحيانا ميزانية الولاية أو الدولة التى تكون فيها (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ).

٢٠٧ ـ وإن الجريمة التى تقترب من جريمة الحرابة ـ جريمة السرقة بيد أنهما يفترقان ، فالسرقة أخذ المال فى خفية من حرز مثله ، بينما الحرابة أخذ المال بقوة لا يلاحظ فيها الاختفاء ، ولكن يلاحظ الأمن من الاستغاثة وإجابة المستغيث ، فهى فى خفاء عن المجتمع ، لا فى خفاء عن صاحب المال ، ويفترقان فى أن هذه جماعية تخرج بقوة تقاوم قوة الدولة ، ويفترقان فى أن الحرابة تتعدد فيها أنواع الجرائم ، والسرقة لا تتعدد فيها أنواع الجرائم ، ولذلك تتعدد فيها العقوبة.

ويتفقان فى أمرين : أحدهما أن فى الجريمتين إفزاع الناس وإزعاج الآمنين ، فلا يأمن أحد على نفسه أو ماله ، ويتفقان أيضا فى أن التوبة تقبل من قطاع الطريق ، قبل القدرة عليهم ، وتقبل فى السرقة على قول كثيرين من الفقهاء ، وهذا يتفق مع نص القرآن الكريم.

وعقوبة السرقة نص عليها فى قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٩) [المائدة : ٣٨ ، ٣٩].

وقد اشترط فى التوبة فى هذه الحال أن يصلح ، لا أن يتوب بلسانه ، ولا شك أنه إذا سرق من بعد التوبة فإنه تقطع يده.

٣٣٨

ولهذا التشابه بين السرقة والحرابة قالوا : إن الحرابة هى السرقة الكبرى وتلك التسمية صحيحة ، وإن كان معها جرائم القتل.

وقد يقول الذين يرحمون المجرم ، ولا يرحمون الآمن معترضين على ذلك متعللين بأمرين :

أحدهما ـ أن العقوبة ليست متكافئة مع الجريمة مهما يكن نصاب السرقة ، فهل تقطع يد فى سرقة عشرة دراهم أو ربع دينار كما قال الإمام مالك. ويرددون قول أبى العلاء.

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت فى ربع دينار

والثانى ـ أن العقوبة فى ذاتها غليظة تكثر من المشوهين الذين تقذى الأعين برؤيتهم.

ونجيب عن الأمرين ، فنقول فى الإجابة عن الأمر الأول ، إنه ليس التساوى بين العقوبة فى الحدود بين الفعل والعقاب ، إنما التساوى بين العقاب ، وآثار الجريمة ، فبالنسبة للسرقة لا يكون التساوى بين المال الذى سرق ، وبين قطع اليد ، إنما ينظر إلى الإفزاع وإزعاج الآمنين فى سرقة تقع فى حى أو قرية ، فكم من حراس يقومون ، وكم من مغالق يحترس بها من السارقين ، فجريمة السرقة ليست آثارها واقعة فقط على المسروق منه بل تتعداه إلى كل من يكونون معه فى الحياة.

والجواب عن الأمر الثانى أن هذه العقوبة لا تقع إلا إذا كان التكرار إذ إنه إذا سرق ابتداء وتاب وأصلح ، ولم يعد يسرق ، فلا تقطع يده.

وإن قطع يد واحدة تمنع السرقة ، فلا يكون ثمة من بعد ما يوجب القطع ، وهناك دولة عربية تقيم حد السرقة ، لا تقطع فى العام يدا أو اثنتين فالقطع يمنع سبب القطع.

وفوق ذلك ، فإن القطع لا يكون إلا حيث تنتفى الشبهات ، فالشبهات تسقط الحدود ، وإن عدد السرقات التى تنتفى فيها الشبهات ، ويجب فيها الحد يقدر بنحو خمسة فى الألف من السرقات التى تقع ، ومن الشبهات التى اعتبرها السلف أن يكون السارق فى حال جوع أو مظنة جوع ، كأن يكون ثمة مجاعة ، فإنه لا يقام الحد للشبهة ، كما فعل الإمام عمر عام المجاعة.

وعلى الذى يستغلظون عقوبة السرقة فى الحدود التى بينا أن يبينوا لنا كم من السرقات قطعت فيها أيدى نساء ورجال لأجل الوصول إلى غاية السارق ، وكم من النفوس أزهقت فى السرقات بالإكراه أو فى إخفاء الجريمة وعدم معرفتها.

٣٣٩

إنكم إن وازنتم بين هذه الجرائم التى ترتكب فى سبيل السرقة وجدتم أن قطع اليد لا يساوى فى عدده عشر معشار هذه الجريمة ، واعتبر ذلك بالبلاد التى طبقت حد السرقة ، فإن الأيدى التى تقطع فى البلاد كلها لا يتجاوز إن تواضعنا عدد أصابع اليد.

لقد عجزت القوانين عن علاج جريمة السرقة ، فهلا نستعين بحكم الله تعالى ، ولكن آفة الجماعات فى هذه الأيام أولئك الذين تذهب أنفسهم حسرات على المجرمين ، ولا تنظر نظرة عطف على الذين كانوا فريسة للعابثين والمجرمين ، وذلك فساد منطقى غريب ، ومع ذلك يعدون أنفسهم اجتماعيين.

الاعتداء على النسل :

٢٠٨ ـ أوضح جريمة فى الاعتداء على النسل جريمة الزنى ، فإنها إذا شاعت فى قوم ضعف نسلهم ، وانحدروا إلى الفناء ، كما رأينا فى أمم حاضرة ، وجماعات ماضية.

وقد تعرض القرآن الكريم لبيان هذه الجريمة وعقوبتها ، أو بالأحرى لبيان هذه العقوبة مع التعرض الإجمالى للجريمة ، مفصلا العقوبة ، فقد قال تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١٦) [النساء : ١٥ ، ١٦].

وإن هذا النص الكريم دل على أمور ثلاثة :

أولها ـ أن الشهادة على الزنى لا تكون إلا بأربعة ، فلا تصح الشهادة بما دون ذلك ، وقد أكد هذا المعنى قوله تعالى فى حد القذف : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤].

ثانيها ـ أن الرجل والمرأة إذا ارتكبا الفاحشة ، وهى الزنا فى الآية الأولى والثانية ، كان لا بد من عقوبة مناسبة ، إذا لم تكن توبة يكون معها إصلاح أمورهم ، وأنهم إن كرروا لا تقبل التوبة ، وكذلك قرر كثيرون من الفقهاء كما قيل فى السرقة.

الثالث : أن النساء يختصصن بعقوبة لا تمنعها التوبة ، وهى أن يمسكن فى البيوت حتى الوفاة أو يجعل الله لهن سبيلا بالزواج ، وهذه فى الحقيقة ليست عقوبة ، ولكنها صيانة وحمل على التوبة ، فإن كان منهن من بعد فاحشة كان الإيذاء.

وقد ذكر هنا الأمر بالإيذاء مجملا ، وفصل فى سورة النور ، فقال تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ

٣٤٠