المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

ولقد روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن هو حبل الله. والنور المبين ، والشفاء النافع ، عصمة من تمسك به ، ونجاة من اتبعه ، ولا يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضى عجائبه ، ولا يخلق عن رد ، فاتلوه ، فإن الله يأجركم على تلاوته ، بكل حرف عشر حسنات».

وإن هذه الآثار الواردة تدل دلالة قاطعة على أن القرآن حوى علم النبوة كله ، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من علم النبوة إلا أحصاها ، وأن الله سبحانه وتعالى ما فرط فى الكتاب من شىء من علم النبوة ، كما قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] مما يتعلق بالشرائع والأحكام وبيان ما يطلب من المكلف ، وما به صلاحه فى الدنيا ، وثوابه فى الآخرة ، لأنه تنزيل من حكيم حميد ، لا يأتيه من بين يديه ، ولا من خلفه.

١٦٣ ـ هذا الجواب مبنى على ما قرره الذين قرءوا القرآن من السلف الصالح. وما نقلوه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بيان إجمالى لعلم القرآن الكريم مبنى على أنه تبليغ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرسالة ربه ، وأنه التبليغ الخالد إلى يوم القيامة الذى تخاطب به الأجيال بالرسالة العامة التى تعم الإنسانية كلها ، ولا تخص عصرا من عصورها.

ولكن لا بد من أن نعرض بالذكر ببعض التفصيل لما اشتمل عليه علم القرآن. وهذا هو الجواب الثانى الذى لا يغنى فيه الإجمال الكلى عن بعض التفصيل الجزئى.

وإن الذى قرره السلف ، وأجمعوا عليه أن القرآن الكريم فيه علم النبوة كله ، وأن من علمه فقد حوى النبوة بين جنبيه.

وأول علوم النبوة علم الغيب ، ففي القرآن علم الغيب ، وبيان الغيب ، والغيب هو لب الإيمان ، وفيه علم الحاضر الذى يدل على الغيب المستكين. فيه بيان الوحدانية ، وبراهينها المستمدة من الكون ، واستقامة حاله ، والتى يستدل عليها بالآثار القائمة ، وبما خلق الله سبحانه وتعالى.

وإن العلم بمنشئ الكون هو الفطرة الإنسانية التى لا تضل إلا بما يسيطر على العقل من أهواء ، وبما يقف دون الإدراك السليم من أوهام ، وبما يحيط بالعقل من غيم يمنعه من الفهم السليم ، فالقرآن يزيل غياهب الضلال ، ويأخذ بالشارد إلى حيث الأمن العقلى.

وإن الفلاسفة يحاولون أن يدركوا المغيب عنهم من حقيقة المنشئ ، ومنهم من ضل فى سبيل ذلك ضلالا بعيدا ، ومنهم من قارب ، ومنهم من باعد ، ولا تجد فى

٢٨١

كلام أولئك الفلاسفة ما يهدى للتى هى أقوم ، وما كان عجز الفلاسفة عن أن يدركوا الشيء الأول إلا من سيطرة أوهام سبقت ، عكرت على الفطرة وضللت العقل ، ولنظريات ضالات قد سيطرت عليهم ، وهى نظرية الأسباب والمسببات ، وتوهموا أنها تنطبق على منشئ الوجود ، كما هى ثابتة فى العلة بين الموجودات ، ويتوالد بعضها من بعض ، ويكون لكل شىء سبب ، وهو سبب لغيره ، وهكذا تتتابع الأسباب والمسببات كل سبب يتبع سببا ، وهو نتيجة لسبب ، وتوهموا لهذا أن الأشياء نشأت عن منشئ الوجود نشوء المعلول عن علته ، والمسبب عن سببه ، وتسلسلوا فى الأسباب والمسببات حتى ضلوا ضلالا بعيدا ، وجاءت الأديان السماوية موجهة الأنظار إلى الله تعالى خالق السموات والأرض على غير مثال سبق. وهو المبدع ، وهو الفاعل المختار ، وهو القادر على كل شىء ولا يخرج عن واسع علمه شىء. ولا عن محيط قدرته خارج ، يفعل ما يشاء ويختار.

وقرر القرآن تلك الحقيقة التى هى هدف العقول ، وأخرجها من تيه الضلال إلى الحق القويم.

وسيقت الأدلة على ذلك من الكون وتنوعه ، وأن المقرر عقلا أن السبب يكون من جنس المسبب ، ويكون كهيئته لا يختلف عنها ، وأن الاختلاف إنما يكون لأمر آخر لا بمجرد السببية ، فيبين القرآن الكريم تنوع الأشياء وتنوع الأحوال ، اقرأ قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٥٠) [الفرقان : ٤٥ ـ ٥٠].

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (٥٤) [الفرقان : ٥٣ ، ٥٤].

وإنك ترى من هذه الآيات الكريمة ، بيان تنوع المخلوقات ، ولا شك أن هذا التنوع يتنافى مع كون الأشياء نشأت من المنشئ كما ينشأ المعلول من العلة ، لأن المعلول يجب أن يكون مماثلا للعلة ، غير مختلف عنها ، وهنا نجد اختلاف الموجودات ، من إنسان يتفكر ويتدبر ، وحيوان ينعق ، وطائر يطير ، ومن شمس وقمر يسيران بحسبان.

٢٨٢

فكان التنوع الذى ذكره القرآن إبطالا لما يقرره الفلاسفة من نظرية العلة والمعلول ، والسبب والمسبب.

ضاق بهم مسلكهم ، فلم يتصوروا غير ذلك ، ولو نظروا إلى الكون ، وما يجرى فيه من أحوال ، لأدركوا بفطرتهم المستقيمة أن المنشئ واحد أحد ليس بوالد ولا ولد ، ولآمنوا بقوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١] واقرأ قوله تعالى فى التعريف بالذات الإلهية :

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (١٠٤). [الأنعام : ٩٥ ـ ١٠٤]

انظر إلى تعريف الذات العلية ، وما تنشئه فى هذا الوجود ، وإن هذا يدل على الفاعل المختار دلالة قاطعة : بتنوعه ، واختلاف مظاهره ، ونوع حياته ، ألا تراه يسقى بماء واحد ، وغذاؤه واحد ، ومع ذلك تتنوع أنواعه ، وتختلف أجزاؤه مما يدل على أنه نشأ بغير العلية ، بل بإرادة مختارة حكيمة تفعل ما تريد ، والله يخلق ما يشاء ويختار.

وإن القارئ للقرآن الحكيم يرى فيه قدرة الذات العلية ، وإرادتها الخلق ، والعقل لا يقبل غير ما جاء فيه. وما يسلكه الفلاسفة من أوهام بالنسبة للسببية ، يؤدى إلى التسلسل إلى ما لا نهاية ، فإذا كان الموجود نشأ من موجود ، فمم نشأ الموجود السابق ، والسابق على السابق ، ويتأدى إلى ما يستحيل العقل تصوره ، وإذا كان هناك موجود تنتهى عنده السلسلة فلما ذا يفرض أنه الإله ، ويفرض أنه وجد ما بعده من إرادته ، لا بالعلية. واقرأ الآيات القرآنية فى إثبات الوحدانية فى الذات والصفات ، وفى

٢٨٣

الخلق والإيجاد ، وما ينجم عنهما من وحدة المعبود بحق ، فإنك واجد علما كثيرا ، يساير العقل ، ولا يعانده ، لأنه الفطرة المستقيمة التى لم تفسدها نظرية السببية فى المنشئ التى أخذوها من السببية فى الأمور العادية ، وفرق بين واجب الوجود الذى أنشأ الكون ودبره ، وهو القيوم القائم عليه الذى قدر كل شىء تقديرا ، وبين توالد الأحداث ، وهى لا تكون بغير تقديره وتدبيره سبحانه وتعالى ، إنه فعال لما يريد.

١٦٤ ـ وفى القرآن علم الرسالة الإلهية ، والمعجزات التى اقترنت بها ، فهو يبين أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ، وخص العالم الإنسانى بالرسل يرسلهم إليه ، ليسير الناس فى الصلاح بدل أن يسيروا فى الفساد ، وليكونوا فى مودة وسلام بدل أن يكونوا فى حرب وخصام ، وليصلوا ما أمر الله به أن يوصل ، لأن الله تعالى الذى خلق الإنسان جعله إما شاكرا وإما كفورا ، فهيأ للشاكر أسباب شكره ، وجعل الكفور مسئولا عن فعله بعد إنذار المنذر وتبشير المبشر ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وكما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] فما كانت هذه الرسالات الإلهية إلا لتهدى الناس إلى خير الطرق ، ومن يكفر فإنما يكون عن بينة لئلا يكون للناس على الله حجة.

والقرآن الكريم يبين أن الرسل يكونون من البشر ، ومن أقوامهم ليكونوا أكثر إلفا ، وعندهم علم بهم. كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : ٤] وقومه هم دعامته الأولى ، فهم الذين يكونون القوة الأولى لدعوته ويكون منهم الحواريون الذين يناصرونه ، ويرعونه حق رعايته.

وعند ما طلب المشركون أن يكون الرسول ملكا ، رد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) [الأنعام : ٨ ، ٩].

وأن الله تعالى صرح بأن الرسالة للرسل لكى يقوم الناس بالحق والميزان ، فقد قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥) [الحديد : ٢٥].

وفى هذا النص الكريم ، يبين الله سبحانه وتعالى أن الرسل جاءوا بالكتاب من عنده سبحانه ليقوم الناس بالقسط ، ومن لم يقنعه الدليل ، ولم يهتد بهداية الرحمن ، وبمقتضى الفطرة المستقيمة ، والإدراك السليم ، فإن الحديد فيه بأس شديد يقمعه من الشر ، ويبعد عن الناس فساده ، وإفساده.

٢٨٤

والآيات تفيد أيضا أن الله سبحانه وتعالى يبعث الرسل ، ومعهم المعجزات الباهرات الخارقات للعادات التى تثبت أنهم جاءوا من عند الله تعالى ، وأنهم لم يفتروا على الله الكذب ، بل هم جاءوا برسالة ربهم ، ويتحدون الناس أن يأتوا بمثلها ، وهى خارقة لقانون الأسباب والمسببات ، وهى فوق إثباتها لقدرة الله تعالى الفعال لما يريد تثبت رسالة الرسول التى جرت على يديه.

١٦٥ ـ والقرآن الكريم فيه علم المعجزات بجوار العلم برسالة الله تعالى لخلقه ، ففيه معجزة نوح عليه‌السلام ، وهى السفينة التى نجا فيها المؤمنون ، وأغرق الله تعالى الكافرين ، واقرأ قوله تعالى :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤) [هود : ٣٦ ـ ٤٤]

هذه بينة من بينات الله تعالى تدل على اصطفائه لنوح أبى الإنسانية الثانى ، وتدل أيضا على أن الله تعالى فاعل مختار ، لا يتقيد بالأسباب والمسببات التى نعرفها ، بل هو القادر المريد المختار : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) [الأنبياء : ٢٣].

وجاء هود عليه‌السلام إلى عاد ، فقاوموا دعوته ، وناوءوا رسالته ، وقالوا مفترين عليه كما حكى القرآن الكريم عنهم : (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٥٤) [هود : ٥٣ ، ٥٤].

وقد كانت الآية عقابا دمر الله عليهم بريح صرصر عاتية ، وقال الله تعالى فى هذه : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ

٢٨٥

فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) [الأحقاف : ٢٤ ، ٢٥].

وقال الله تعالى فى سورة الحاقة : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) (٦). [الحاقة : ٦]

وقد أرسل الله تعالى صالحا إلى ثمود ، وقال الله تعالى فيهم : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨) [هود : ٦١ ـ ٦٨].

ونجد من هذه النصوص الكريمة أن معجزة صالح التى تحدى بها ، وكانت بها البينة على رسالته هى ناقة كان لها شرب ، ولكل منهم شرب معلوم ، وكان التحدى ليس بأن يأتوا بمثلها ، ولكن كان التحدى بالهلاك إن مسوها ، فعقروها ، فأنذرهم الرسول المتكلم عن ربه بأن العذاب نازل بهم بعد ثلاثة أيام ، وقد صدق الوعيد عليها.

١٦٦ ـ ولننتقل إلى المعجزة التى أجراها الله تعالى على يدى سيدنا لوط عليه‌السلام ، لقد بعثه الله تعالى إلى قوم هبطوا فى مفاسدهم إلى ما لم يهبط إليه الحيوان ، فأفسدوا الفطرة ، وجاءهم لوط بالطهر ، ليحملهم على العودة إلى الفطرة المستقيمة التى فطر الله الناس عليها ، ولما لم تجد معهم دعوة الإصلاح ، بل استمروا فى غيهم يعمهون ، أمر الله تعالى نبيه أن يسرى بأهله بقطع من الليل ، واستثنى امرأته من أهله فقد كانت على شركهم ، وأن موعد العذاب النازل بهم الصبح ، أليس الصبح بقريب ، فلما جاء أمر الله تعالى جعل عاليها سافلها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود.

وكان يعاصر لوطا إبراهيم أبو الأنبياء عليهم‌السلام ، ولذلك جاءت الملائكة التى ذهبت إلى لوط ، وجعلت أرضهم عاليها سافلها ، جاءوا لإبراهيم عليه‌السلام ، وظهر معهم أمر خارق للعادة ، وهو أن تحمل امرأته وهى عجوز ، ولنتل الآيات الكريمات التى أثبتت هذه الحقائق.

٢٨٦

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (٧٦). [هود : ٦٩ ـ ٧٦]

ونرى أن خارقا للعادة كان فى أول لقاء بين إبراهيم خليل الله ، وبين ملائكته ، وهو أن تحمل امرأة عجوز قد انقطع حيضها ، من زوج عجوز.

وإن الله أجرى على يد خليله إبراهيم معجزات كثيرة ، منها مسألة الطير إذ يقول الله تعالى فى ذلك :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠) [البقرة : ٢٦٠].

ومن أبرز ما أجرى الله على يديه من خوارق للعادات أنه ألقى فى النار ليحرق فأطفأها العزيز الحكيم. واقرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ

٢٨٧

(٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (٧٠) [الأنبياء : ٥١ ـ ٧٠].

وإنك لترى أن خوارق العادات التى تنقض التزام الأسباب والمسببات التى تلزم البشر ، ولكن قدرة الله وإرادته فوق ما عليه ، وما يجرى من أسباب ومسببات بينهم.

وكذلك الأمر بالنسبة لشعيب الذى دعا إلى مكارم الأخلاق ، وحسن المعاملات الإنسانية ، إذ يقول كما حكى القرآن الكريم عنه : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥). [هود : ٨٤ ـ ٩٥]

ونرى من هذا أن الأمر الخارق للعادة كان صيحة عليهم.

وأن الملاحظ أن الخوارق للعادة التى جاءت على يد الأنبياء الذين عاشوا فى البلاد العربية كانت حسية مناسبة للعرب ، وكانت من الناحية التى تناسب الصحراء والبادية ، فمعجزة هود كانت أحجارا من سجيل منضود ، وقد ظنوه عارضا ممطرا ، ومعجزة صالح كانت ناقة غريبة بين أهل النوق فى البادية ، ومعجزة لوط كانت جعل الأرض عاليها سافلها ، ومعجزة شعيب كانت صيحة جعلتهم فى ديارهم جاثمين.

٢٨٨

معجزات سيدنا موسى :

١٦٧ ـ قصصنا بعض القصص عن سيدنا موسى عليه‌السلام ، وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وكنا نذكر ذلك بصدد بيان أنه لا تكرار فى قصة موسى لمن تدبر ، وتفكر فى المغازى والمقاصد ، لا فى ظواهر الألفاظ. والآن نذكر فقط الخوارق للعادات التى جرت على يد موسى عليه‌السلام. وهى تسع آيات كما جاء فى القرآن الكريم. فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (١٠١) [الإسراء : ١٠١].

لنذكر إن شاء الله تعالى تلك الآيات التى لم تجد مع فرعون وقومه الضالين.

أولها : العصا التى قال الله تعالى فيها : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٤٥) [الشعراء : ٤٥] وقد نزل موسى يباهل بها السحرة من قوم فرعون : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١٢٠) [الأعراف : ١١٥ ـ ١٢٠].

الثانية : أنه يخرج يده من جيبه ، فإذا هى بيضاء من غير سوء ، كما قال تعالى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (١٢) [النمل : ١٢] وكما قال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠) [الأعراف : ١٠].

الثالثة : أن الله تعالى أخذ آل فرعون بالجدب ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٣٠) [الأعراف : ١٣٠].

الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة : ما ذكره الله تعالى بقوله :

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (١٣٣) [الأعراف : ١٣٣].

الآية التاسعة أنهم عند ما نزل بهم الرجز الشديد طلبوا من موسى أن يدعو ربه ليكشف عنهم الرجز ، كما قال تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ

٢٨٩

بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٥) [الأعراف : ١٣٤ ، ١٣٥].

وإذ لم تجد هذه المعجزات ، مع أنها قارنت حياتهم ، ومست معيشتهم حتى لم يكن لطالب حق أن يرتاب ، ولا لطالب الهداية أن يمترى. عندئذ كانت الضربة القاصمة لفرعون وملئه ، ولذلك قال تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧) [الأعراف : ١٣٦ ، ١٣٧].

هذه إشارات إلى معجزات سيدنا موسى ، وكلّ خارق للأسباب والمسببات مما يدل بذاته أولا ـ على أن الله تعالى فعال لما يريد ، خلق الأشياء بإرادته وقدرته ، ولم تنشأ عنه كما ينشأ المعلول عن علته ، وتدل على رسالة موسى عليه‌السلام وبعثه إلى بنى إسرائيل ، وفرعون وقومه.

الخوارق التى جاءت على يد سليمان :

١٦٨ ـ كان سليمان حاكما ، ونبيا ، ولم يكن حاكما طاغوتيا ، بل كان حاكما ربانيا ، أعطاه الله تعالى علم الحاكم العادل ذى السلطان غير المسيطر ، وأعطاه علما آخر ، أعطاه العلم بلغة الحيوان ، وسخر له الطير ، وسخر له الجن ، وأوتى علم لغة النمل والطير ، ولنتل ما جاء فى سورة النمل من خوارق كانت مع سليمان ، قال الله تعالى ، وهو أصدق القائلين : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ

٢٩٠

الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤) [النمل : ١٦ ـ ٤٤].

تلونا هذا الجزء من هذه السورة الكريمة ، وكلها أمور ليست مما يجرى فى عادات الناس ، ولنشر إليها إشارات نوجه فيها الأنظار إلى ما اشتملت عليه الآيات الكريمات من بيان فوق طاقة البشر.

أولها ـ الأمر الذى لا يعرف لغير سليمان ، وهو أنه علّم منطق الطير والحيوان ، وهذا يدل على أن غير الإنسان ، أمم أمثال الإنسان لها منطق ، ولغة ، وإن كنا لا نعرفها ، وعرف نبى الله سليمان بعضها ، كما قال تعالى فى كتابه الكريم : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] فإذا كان سليمان قد علم منطق بعض الحيوان ، فهو مصداق لقول الله تعالى الخالق الفعال لما يريد.

وثانيها ـ تسخير الطير له ـ فهذا الهدهد كان له من الإدراك الربانى ، ما جعله يعرف الهدى من الضلال.

٢٩١

وثالثها ـ الإتيان بعرشها بين غمضة عين وانتباهتها ، أو كما عبر القرآن الكريم (آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) وهذا من تسخير الله تعالى لسليمان. ومن العلم الذى أعطاه الله بعض عباده المخلصين ، ونقول : إن الآية صريحة فى أن الذى أتى هو عرشها حقيقة ، لا صورته ، كما يقول المتشددون فى المادية ، ومع ذلك إذا كانت هى الصورة فإن الخارق ثابت ، وهو أنه أتى به قبل أن يرتد إليه طرفه.

وفى قصة نبى الله سليمان عليه‌السلام خوارق أخرى غير ما جاء فى سورة النمل ، فقد جاء فى سورة سبأ ما نصه : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤) [سبأ : ١٢ ـ ١٤].

العبرة فى خوارق العادات لسليمان :

١٦٩ ـ أطنبنا بعض الإطناب فى النقل من القرآن الكريم عن خوارق العادات فى عهد نبى الله سليمان عليه‌السلام ؛ وذلك لأن هذا العصر كانت فيه الفلسفة الأيونية مسيطرة فى آسيا الصغرى وتولدت عنها فلسفة اليونان. وكانت الفلسفة الأيونية قائمة على الأخذ بالأسباب والمسببات ، وتولد المعلول من العلة فى انتظام قائم لا يتخلف ، فجاء سليمان عليه‌السلام ، وقام سلطانه كله على خرق للأسباب والمسببات والقيام على إثبات أن الكون كله بإرادة مريد مختار ، ولا يفعل إلا ما يريد ، ولا يصدر عنه شىء بغير إرادته الخالدة الثابتة ـ فقام سليمان بذلك ، وأجرى الله تعالى تلك الخوارق على يديه ، فأجرى الريح التى غدوها شهر ورواحها شهر على يديه. وعلم منطق الطير. وسمع حديث النمل. وجاءه عرش بلقيس بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه. وسخر الله تعالى له الجن ، وكان كل شىء فى حكمه بخوارق العادات ، أو بخرق نظام الأسباب والمسببات العادية التى بنيت عليها نظرية أن المخلوقات نشأت عن الموجد الأول نشوء العلة عن معلولها ، فكانت حياة نبى الله تعالى سليمان فى ملكه تجرى على هدم هذا النظر ، وسخر الله له الريح تجرى بأمره حيث أصاب ، وكذلك كانت الخوارق للأسباب هى المسيطرة فى معجزات من جاء بعده من الرسل.

معجزات عيسى عليه‌السلام :

١٧٠ ـ فى هذا العصر الأيونى كان مبعث عيسى عليه‌السلام ، ووجوده ، ولم يكن علم الطب رائجا عند بنى إسرائيل كما توهم عبارات بعض الكتاب فى العقائد من

٢٩٢

المسلمين ، بل كان بنو إسرائيل أجهل الناس بالطب كما يقرر علماء تاريخ الفلسفة ، ومنهم رينان الفيلسوف المسيحى.

إنما كانت معجزات عيسى لإبطال النظرية الأيونية التى تعتقد أن المخلوقات نشأت عن الموجد نشوء العلة عن معلوله.

وكانت ولادة عيسى إبطالا صارخا لهذه النظرية ، فإن المعتاد فى الحياة الحيوانية ومنها الحياة الإنسانية أن الولد يولد من أبوين ، أب ملقح ببذرة الوجود ، وأم تتلقى فى رحمها تلك البذرة ، أو الجرثومة كما يعبر العلماء ، أو المنى الذى يمنى كما عبر القرآن.

فجاء عيسى من غير أب ، وكان ذلك خرقا للأسباب الطبيعية الجارية ، وكان غريبا على مريم البتول.

واقرأ قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦).

[مريم : ١٦ ـ ٣٦]

هذه كلها خوارق تنبئ عن أن الله خلق الكون بإرادة سرمدية ، وولادة عيسى نفسها أول خارق للعادة ، ولذا قال الشهرستانى أن وجود عيسى ذاته معجزة. وأكدت

٢٩٣

معجزة الإيجاد من غير أب بمعجزات أخرى ، أو بخوارق عادات أخرى ، أولها الرطب الجنى من النخل بهزه ، ومناداته لها ، وهو فى المهد ، وحديثه فى المهد حديث الحكماء ، فكل هذه خوارق للأسباب والمسببات تدل على أن الإيجاد والتصوير والتربية كلها بإرادة الله العليم الحكيم خالق كل شىء ، ومنها الأسباب والمسببات. تعالى الله علوا كبيرا.

ومعجزاته عليه‌السلام من هذا القبيل الذى هو تحد حسى للأسباب والمسببات ، فقد قال تعالى بعد أن بعثه رسولا لله رحمة للعالمين : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١). [آل عمران : ٤٨ ـ ٥١]

هذه دعوة عيسى عليه‌السلام ، وفيها البينات الدالة على رسالته ، بما هو خرق حسى واضح يرى بالعين ، وليس خفيا يدرك بالمعنى ، هو يبرئ الأكمه الذى ولد أعمى ، والأبرص الذى عجز الطب إلى الآن عن إبرائه ، وهو فوق ذلك يحيى الموتى بإذن الله بالفعل لا بمجرد الإمكان كما ادعى بعض المفسرين ، وهو روحانى ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم.

وهل يسير كل هذا على قانون الأسباب والمسببات ، لكى نقول ما يقوله الفلاسفة يجب أن نلغى حكم العقول ، وبدهيات المدارك.

وقد ذكر سبحانه وتعالى معجزات أخرى فى آخر سورة المائدة ، فقد قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا

٢٩٤

اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١١٥). [المائدة : ١٠٩ ـ ١١٥]

وهكذا نرى أن هذه الآيات الكريمات ذكرت بعض المعجزات السابقة ، وأضافت إليها معجزتين أخريين :

إحداهما : أنه ينادى الموتى من القبور فتخرج ، وذلك فى قوله تعالى : (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى).

والثانية : أن الله تعالى أنزل عليهم مائدة من السماء.

١٦٤ ـ ونرى من هذا أن الخوارق للعادات كثرت على يد عيسى عليه‌السلام ، وكان وجوده ذاته خارقا للعادة ، إذ ولد من غير أب كما بينا ، وكلها تدل على أن كل شىء فى الوجود هو بإرادة مختار ، فعال لما يريد.

وما كان ذلك إلا إبطالا لنظرية وجود الأشياء بالفلسفة التى سادت فى العصر الأيونى ، ثم انتقلت إلى اليونان ، وأخذت تتسع حتى كانت الأفلاطونية الحديثة التى التقت مع النصرانية المحرفة غير المسيحية الأولى فى نظرية العلّية فجعلت العقل الأول هو الأب ، والعقل الثانى هو الابن. ثم كانت بعد ذلك الروح القدس المنبثقة من الاثنين أو أحدهما.

ووجود المسيح وحياته وما أجراه الله تعالى من خوارق للعادات ، كانت تحيط بكل تصرفاته ، وأعماله ، كل ذلك كان حججا قاطعة مثبتة أن العالم كله مخلوق بإرادة حكيم قادر قهار سميع بصير مريد مختار.

١٧٢ ـ وإن قصة أهل الكهف التى أشرنا إليها فى بعض ما قلناه. وقد حدثت بعد المسيحية ، على ما يبدو من وقائعها ، كانت فيها إرادة الله ظاهرة فى بيان سر هذا الوجود ، وأن الفاعل له مريد مختار لا يتقيد فى إيجاده لخلقه بأن يكون وجود الأشياء مربوطا بالعلة والمعلول ، بل هو مربوط بإرادة حكيم بفعل ما يشاء ويختار ، ولنتلها عليكم ، ولا مانع من تكرار تلاوتها ، إن كنا قد تلوناها هى من قبل.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُ

٢٩٥

عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (٢٦)

[الكهف : ٩ ـ ٢٦]

وإن المفسرين والمؤرخين للديانات يقررون أنهم مسيحيون مؤمنون بالمسيحية الحق التى جاء بها عيسى عليه‌السلام ، وأنهم فروا بدينهم من الرومان الذين أرهقوا المسيحيين الصادقين من أمرهم عسرا ، حتى أن نيرون اللعين ، كان يطليهم بالقار ، ويشعل فيهم النيران ، ويسيرهم فى موكبه ، وهو فخور مختال بتلك المشاعل البشرية.

وإذا كان القرآن الكريم ذكر أنهم لبثوا فى كهفهم ثلاثمائة سنين ، وازدادوا تسعا ، فإنه يكون ظهورهم ، فى وقت الأفلاطونية ، التى نسخت النصرانية ، والتى دخل فيها قسطنطين بعد أن ابتدأ بالسير بها فى طريق التثليث الأفلاطونى الذى بنى على أساس أن الكون ظهر من الأول ظهور المعلول عن علته.

٢٩٦

فكانت واقعة أهل الكهف ، وظهورهم بعد ثلاثمائة سنة وتسع ، وهى وقت الانحراف المسيحى فى الاعتقاد دليلا قويا على بطلانه ، وعلى بطلان الأساس الذى قام عليه ، وهو مذهب الأفلاطونية الحديثة الذى يقوم على أن الموجودات علة لمعلول ، وليست من خالق مريد قادر.

١٧٣ ـ أطنبنا بعض الإطناب فى ذكر الخوارق التى هى بعض ما جاء فى القرآن الكريم ، وذلك لأمرين : أولهما ـ أن التوحيد الذى هو لب العقيدة الإسلامية ، بل هو اللب فى كل الأديان السماوية يقوم على أوصاف ثلاثة :

الأول هو : وحدة الخالق فى إنشاء الكون ، ووحدانيته فى ذاته ، فهو منزه عن المماثلة للحوادث ليس كمثله شىء وهو السميع البصير ، ووحدة المعبود ، وهو الله سبحانه وتعالى.

الثانى : أن الله تعالى مريد مختار فعال لما يريد ، وأنه أنشأ كل ما فى الوجود بإرادته وقدرته ولم ينشأ عنه نشوء المعلول عن علته.

الثالث : ثبوت الرسالة الإلهية للمصطفين من خلقه ولا تثبت الرسالة إلا بأمره.

الأمر الثانى : الذى من أجله أفضنا فى ذكر بعض الخوارق ، ولم نضن على القرطاس فيه ، أن بعض الذين يجعلون أمور الدين خاضعة للتجارب ويحسبون أنهم يخدمون القرآن ، يدعون أن رسالة محمد قامت على العقل ، ولم تقم على الخوارق ، وأن القرآن الذى هو حجة محمد الكبرى خاطب العقول ، ولم يخاطب بالخوارق ، وجرت عباراتهم بما يفيد أن الإسلام لا يعرف الخوارق ، إلى درجة أن بعض علماء اللاهوت المسيحى سألنا : هل القرآن يعارض الخوارق والمعجزات ، فأجبنا سؤالهم بأن القرآن سجل معجزات الأنبياء ، وها نحن أولاء نبين بعض ما فى هذا السجل الخالد.

البعث واليوم الآخر

١٧٤ ـ إن العالم يتنازع فيه الخير والشر ، والشر ربما يتغلب على الخير ، وفى الناس الأخيار والأشرار ، وقد يغلب أهل الشر على أهل الخير ، وعدل الله يوجب أن تكون العاقبة للأخيار ، وأن تكون للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، والله سبحانه جعل الخير والشر لحكمة أرادها ليبتلى الإنسان إما شاكرا وإما كفورا ، ولم يخلق الإنسان عبثا ، ولم يجعله سدى ، بل إنه مسئول عن فعله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وإن ذلك يقتضى ألا تكون هذه الحياة الدنيا وحدها ، بل لا بد من حياة أخرى تكون للأخيار الذين لم ينتصر خيرهم فى هذه الحياة. ولا تكون للأشرار الذين غلبوا الأخيار ظلما واعتدوا وفتنوا الناس فى أمورهم.

٢٩٧

ولذلك كانت الحياة الآخرة وبيانها من مقاصد الأديان السماوية ، فلا يوجد دين سماوى إلا كان الإيمان بالبعث والحساب ، والثواب والعقاب من أركان الإيمان فيه.

ولذلك جعل القرآن الكريم الإيمان بالغيب أول أجزاء الإيمان فقد قال الله تعالى فى أوصاف المؤمنين : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) [البقرة : ٣ ـ ٥].

وترى أن أول وصف للمؤمنين هو الإيمان بالغيب فلا تستولى عليهم مادة الحياة ، ولا يسيطر عليهم سلطانهم ، فإن فرق ما بين الإيمان والزندقة الإيمان بالغيب ، فمن حسب أنه لا وجود إلا للمادة المشاهدة المحسة ، فهو ليس بمؤمن وليس عنده استعداد للإيمان إلا من رحم ربك.

وقد ختم الله سبحانه وتعالى أوصاف المؤمنين بقوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فأوجب الإيمان بالآخرة وأكده بتقديم الجار والمجرور ، أى أن الآخرة وحدها هى الجديرة بالإيمان ، وأنه لا إيمان إلا باليقين الذى لا مجال للريب فيه ، وأن رقى الإنسان فى أن تكون حياته غير مقصورة على الدنيا ، لأن التكليف شرف وهو يقتضى تحمل التبعات ولا سبيل لتحمل التبعات إلا أن يكون ثمة يوم يجرى فيه الحساب والثواب والعقاب.

ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى الذين لا يؤمنون بلقاء الله تعالى بأنهم الخاسرون : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢) [الأنعام : ٣١ ، ٣٢].

نعم خسر الذين لا يؤمنون بالآخرة ، خسروا إنسانيتهم فقد حسبوها عبثا ليس لها غاية ، وخسروا العزاء إذا شقوا فيها ، فإن الإيمان بالآخرة عزاء روحى لمن يؤمن بها فيتحمل شقاء الدنيا لينال نعيم الآخرة ، وإنهم لم يترقبوا اللقاء فلم يستعدوا بالعمل الصالح.

وقد قرر الله سبحانه وتعالى أن الإنسان يكون مخلوقا سدى كالهمل إن لم يكن هناك يوم آخر ، حيث قال : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠) [القيامة : ٣٦ ـ ٤٠].

٢٩٨

١٧٥ ـ ولذلك عنى القرآن الكريم بإثبات حقيقة البعث ، وبيان الحال فى الحياة الآخرة ، وكان خطاب القرآن لقوم لا يؤمنون بالبعث ، ولا يدركون إلا الحياة الدنيا ، ويقولون إن هى إلا حياتنا الدنيا ، نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.

وإن عقيدة البعث لب الإيمان ، وغاية من غايات الرسائل الإلهية ، ولذلك تجد القرآن يحتفى ببيان حقيقة البعث ، وتنبيه العقول إليه ، وما من موضع فى القرآن الكريم ، إلا ذكر فيه البعث وقيام الدليل عليه ، بقياس قدرة الله تعالى على الإعادة على قدرته على الابتداء ، وأن البعث تكون الحياة الدنيا من غيره عبثا لا جدوى فيها كما قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١١٥) [المؤمنون : ١١٥].

ولنقبس قبسة من الآيات الكريمة التى تدعو إلى الإيمان بالبعث ، وتبين أن المشركين فى ضلال ، اقرأ قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥) [الرعد : ٥].

إنهم يعجبون من أنهم بعد أن يصيروا ترابا يخلقون خلقا جديدا ، بل إنهم يعجبون من أن تدخل أجسامهم بعد البلى فى أجسام أخرى ثم تبعث ، فيبين سبحانه وتعالى قدرته على ذلك ، فيقول تبارك وتعالى :

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (٥٢). [الإسراء : ٥٠ ـ ٥٢]

ولقد يقولون مستغربين : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٣) [يس : ٧٨ ـ ٨٣].

وترى من هذا أن الذين ينكرون البعث ينكرون مع ذلك الله تعالى بل ينكرون أصل الرسالة الإلهية إلى خلقه ، اقرأ قوله تعالى فى سورة ق : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥) [ق : ١ ـ ٥]. ويقول سبحانه : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥) [ق : ١٥].

٢٩٩

وهكذا نرى المتتبع لآيات القرآن يجد مجادلة فى أمر البعث ، فإنكار البعث مقترن بالكفر ، ومقترن بإنكار الرسل ، والقرآن يرد على المنكرين إنكارهم بمنطق العقل والحق ، فإن الله خلق السموات والأرض وما بينهما ، وهو الذى يملك الرزق فى السماء والأرض ، وهو الذى أنشأ الحياة والأحياء ، وبقياس الغائب على الشاهد يثبت بلا ريب أن القادر على الإنشاء قادر على الإعادة ، وأن من أفن الإدراك وفساد التفكير ، أن يحسبوا أن ثمة عائقا يعوق المنشئ الأول عن الإعادة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

يوم القيامة

١٧٦ ـ هو اليوم الذى يضطرب فيه الكون ، والشمس تكور ، والنجوم تنكدر ، والجبال تسير ، والعشار تتعطل ، ولقد وصفه الله سبحانه وتعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤). [التكوير : ١ ـ ١٤]

وإن يوم القيامة يقترن بالخروج من القبور والبعث ، كما قال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢). [الانفطار : ١ ـ ١٢]

وإن الله سبحانه وتعالى يسمى يوم القيامة الساعة ، لأنها ساعة الهول الأكبر ، وقد قال تعالى فى وصفها :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢) [الحج : ١ ـ ٣].

وكما سماها الله تعالى الساعة سماها أيضا الحاقة ، والقارعة ، فقال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (١٤)

٣٠٠