المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

ومن الأمثال الموجهة إلى الحقائق الخلقية والدينية قوله تعالى فى سورة القلم :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) (٢٣). [القلم : ١٧ ـ ٢٣]

سيقت قصة أصحاب الجنة الدنيوية ، وهى قصة واقعية تصويرية ، وهى دليل مثبت ـ أولا ـ لأن الزكاة تطهر المال وتحميه لقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فهى للمال نظافة ونماء ـ وهم قد أقسموا ليصرمنها مصبحين ، وأن لا يدخلنها اليوم عليهم مسكين ، وتثبت ثانيا ـ أن العاقبة الحسية تؤثر فى النفس إن كان فيها قابلية للهداية ، وهؤلاء إذا كانت قد ضاعت منهم الثمرات ، فقد عادت إليهم بأعظم العظات ، فما كسبوه من عظة أكثر مما فقدوه من ثمرة ، وثمرات القلوب أطيب من ثمرات تشتهى الأبدان طعمها ، وهى دليل على أن الله تعالى لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء. وأن الأقدار تحت سلطانه ، ويجريها ، كما يحب وكما يشاء.

ومن الأمثلة التى تساق مساق الدليل قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

[النحل : ٧٥ ، ٧٦]

والآيات قبل ضرب هذين المثلين كانت فى الأمر بعبادة الله تعالى وحده والإخبار عن عبادة المشركين من لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، إذ يقول سبحانه : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) فجاء سبحانه وتعالى بهذين المثلين ، وهما يبطلان عقيدة الشرك ، وزعم المشركين ، بأمثلة تقع فى الحياة ، والحكم فيها من البدهيات التى لا ينكرها عاقل ، ولا يختلف فيها فكر عن فكر ، وكل مثل من المثلين دليل قائم بذاته على بطلان الوثنية ، إذ فيه تسوية بين من لا يقع بينهما التساوى.

أما أولهما فقد ضرب برجلين أحدهما عبد مملوك لا يقدر على شىء ، لأنه مملوك لغيره ، فهو ليس له مال ، فهل يستوى هذا مع رجل مرزوق من الله تعالى رزقا

٢٦١

حسنا. إن التسوية غير معقولة بين من له مال يعطى منه غيره ، أو ينفق منه فى الخير سرا وجهرا ، وبين المملوك الذى لا مال له ، إذا كانت التسوية غير معقولة فتسوية أولئك المشركين بين الأحجار التى لا تضر ولا تنفع فى عبادتها مع الله تعالى الرازق ذى القوة المتين المالك لكل شىء الذى له ملك السموات والأرض ، أبعد عن كل معقول ، وذلك برهان على بطلان الشرك كله ، سواء أكان إشراك حيوان أو إنسان أم كان إشراك حجر.

وثانى المثلين أن الله يضرب مثلا برجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شىء ، وهو كلّ على مالكه أو ذى قرابة له يتولى أمره ولا يتجه إلى جهة ويأتى فيها بخير ، بل إن الطرقات مسدودة أمامه من جوارحه المئوفة الناقصة فهل يستوى مع رجل موهوب فى عقله وخلقه ، وكيانه الإنسانى والنفسى يسلك الصراط المستقيم ، يأمر بالعدل ، ولا يحيد عن سبيله ، فهما إذن بالبداهة لا يستويان.

وإذا كان هذان الرجلان لا يستويان بداهة ، فأولى ألا تتساوى فى العبادة الأحجار مع خالق الكون ، وهادى الخلق ، ومانح النعم ومجريها رب العالمين.

ومن الأمثلة التى تدل على أن العبادة الخالصة لا تكون إلا لله تعالى وحده ، وأنها بغير ذلك لا تكون عبادة ـ قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٩) [الزمر : ٢٩] إن هذا المثل التصويرى فيه دلالة على صدق التوحيد ، وفساد الشرك ، فإنه سبحانه وتعالى جعل الفرق بين التوحيد والشرك كالفرق بين رجل مملوك لعدة أشخاص هم مختلفون فيه كل يريد أن يختص بأكبر حظ منه ، وأن يكلف أقل قدر فيه ، وهو فى ذاته ضائع بينهم نفسيا وماديا لا يدرى أيهم يطالبه بحقه ، فهو ضائع لا محالة ، وهو لا يحس بأمن فى هذه الملكية المتنازعة ، وذلك مثل من يعبد آلهة مختلفة تكون نفسه حائرة بائرة غير مستقرة ، ولا مطمئنة ، فليست كحالها ، مع رجل سلما خالصا لرجل لا يشاكسه أحد فيه ، وهو مستقر يعرف من يخدمه ومن يعتمد عليه ، ومن فوض أمره إليه ، وذلك مثل من يعبد الله تعالى وحده ، فإن من يعبد الله وحده تطمئن نفسه ، ويجد المأوى ، ويجد الملجأ والملاذ ، وذلك مثل تهتدى به النفوس الشاردة.

ومن الأمثال التى ساقها القرآن الكريم للاستدلال بها على البعث والنشور ، والإماتة والإحياء قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩) [البقرة : ٢٥٩].

٢٦٢

إن هذه القصة واقعية ، وليس فى سياق القول ما يدل على أنها تصويرية ، والأصل أن تكون حقيقية ، فلا بد أن أجزاءها قصة واقعة ، وليست مجرد مثل تصويرى ، وهذه القصة معها دليل واقعى على البعث والنشور ، وأنه فى قدرة الله تعالى إعادة الموتى ، فمن أنشأ الكون يحيى الموتى ، وأننا سنموت كما ننام ، ونبعث كما نستيقظ ، فهو مثل واقعى ، لبيان ـ كيف يحيى الله الموتى ـ فقد مات الرجل مائة عام ، ثم أحياه الله ، ورأى طعامه لم يتغير ، ورأى حماره حتى حسب أنه نام يوما أو بعض يوم ، والله على كل شىء قدير.

أسلوب جدل القرآن

١٤٩ ـ ذكرنا فيما أسلفنا من قول بعض ما سلكه القرآن ، وما يعمد إليه من استدلال وما يتخذه من ينابيع ، وقد كانت لإثبات الحقائق فى العقيدة والأحكام وما يقربها به إلى العقول حتى لا يكون موضع ارتياب لمرتاب ، يزيل الريب بالحقائق ، ويبدد الأوهام بالأدلة التى تنبه إلى حقائق الوجود.

وما كان ذلك للجدل من المخالفين من مشركين وأهل كتاب فقط ، بل كان لإثبات الحقائق فى ذاتها ، من غير محاجة مع منكر ، ولا مجادلة مع جاحد ، والآن نتكلم فى جدله مع المجادلين ، وقطعه الطريق على الجاحدين.

وقبل ذلك نتكلم فى مقام الاستدلال القرآنى ، سواء أكان فى مقام تثبيت وبيان أم فى مقام جدل مع قوم خصمين.

ولقد لاحظنا فى أدلة القرآن أنها قريبة التناول فى الإدراك لكل الناس ، يفهمها الخاصة ويفهمها العامة ، وأن تفاوت الفهم بمقدار الإدراك ، وسعة الأفق ، وهى واضحة للجميع ، ولقد قرر بذلك ابن رشد الفيلسوف الفقيه فى كتابه فصل المقال ، فقد قسم الطرق لإثبات صدق القضايا والتصديق بها إلى عامة لأكثر الناس بحيث يكون التصديق بها من كل الناس ما داموا قد سلمت عقولهم من الآفات ، ومنها ما هى خاصة بأقل الناس وهى البرهانية ، وجعل الأدلة التى تعم الناس الأدلة الخطابية وتقوم على إثبات الحق بأدلة قطعية ، أو أدلة ظنية ، ولكن بكثير منها ومقارنتها ، وإثارة الخيال يجعل السامعين يقتنعون ، ويجزمون. وإذا كانت الأدلة فى ذاتها مجردة عما أحيط بها من عرض ، وأسلوب بيانى وإلقاء مؤثر ، وإثارة للأخيلة الموجهة ، تكون ظنية ، ولكن آثارها قطعية ، كما نرى فى آثار البلغاء من الخطباء ، والخطابية أعم أنواع الاستدلال فى البيان ، وأكثرها إنتاجا ، ودونها فى العموم الجدلية ، وهى ما يكون الاستدلال فيها مأخوذا مما يسوقه الخصم من الحجج ، وهى تعتمد على قوة الاستدلال على الخصم ، ولأن الفلج على الخصوم لا يكون أمرا مستورا ، بل يكون أمرا له صفة الشياع بين

٢٦٣

الناس ، ولأنه مأخوذ بحجج المخالف كان مع عمومه وشيوعه أقل من الاستدلال الخطابى الذى يقوم على إثبات الحقائق من غير تقيد بحجة خصم.

والحجة الخاصة بأقل الناس عند ابن رشد ما يلزم فيه المتكلم بالأقيسة البرهانية ؛ ذلك لأن هذه الأقيسة مجردة خالية من كل تحسين ، وليست متجهة إلى الإقناع وطرائقه من مشاركة وجدانية ، ومن إثارة المشاعر ، ومن اتجاه إلى ما يأمنون من أمور ، وأن التجرد كله لا يكون إلا للخاصة الذين يتجهون إلى الحقائق خلوا من أى تأثير.

ويقول ابن رشد بعد أن أشار إلى الأدلة الخطابية والجدلية والبرهان : ولأن أكثر الشرع مقصوده الأول العناية بالأكثر من غير إغفال لتنبيه الخاصة كانت أكثر الطرق المصرح بها فى الشريعة الإسلامية على أربعة أصناف : أن تكون ـ مع أنها مشتركة ـ خاصة بالأمرين جميعا ، أعنى أن تكون فى التصور والتصديق يقينية مع أنها خطابية أو جدلية ، وهذه المقاييس هى المقاييس التى عرض لمقدماتها مع كونها مشهورة ومظنونة ، أن تكون يقينية وعرض لنتائجها إن قصدت أنفسها دون مثالاتها ، وهذا الصنف من الأقوال الشرعية ليس له تأويل ، والجاحد لها أو المتأول لها كافر ، والصنف الثانى أن تكون المقدمات مع كونها مشهورة أو مظنونة يقينية ، وتكون النتائج مثالات للأمور التى قصد إنتاجها ، وهذا يتطرق إليه التأويل ، والثالث عكس هذا وهو أن تكون النتائج هى الأمور التى قصد إنتاجها نفسها ، وتكون المقدمات مشهورة أو مظنونة من غير أن تعرض لها أن تكون يقينية ، وهذه أيضا لا يتطرق إليها تأويل ، أعنى نتائجها ، وقد يتطرق لمقدماته. والرابع أن تكون مقدماته مشهورة أو مظنونة من غير أن تعرض لها أن تكون يقينية حملها وتكون نتائجه مثالات لما قصد إنتاجه وهذه فرض الخواص فيها التأويل ، وفرض الجمهور على ظاهرها ، وبالجملة فكل ما يتطرق إليه من هذا التأويل لا يدرك إلا بالبرهان ففرض فيه ، وهو ذلك التأويل ، وفرض الجمهور هو جماعها على ظاهرها فى الوجهين جميعا ، أعنى فى التصوير والتصديق ، إذا كان ليس فى طباعهم أكثر من ذلك ، وقد يعرض للنظار فى الشريعة تأويلات من قبل الطرق المشتركة بعضها على بعض فى التصديق.

وأن كلام ابن رشد هو فى مقام الأدلة القرآنية من حيث التصور المنطقى والتصديق وما يترتب على قوة الاستدلال من حيث قبول الحكم الشرعى أو الاعتقادى للتأويل ، ومن حيث قبول الاعتقاد للنظر أو عدم قبوله.

وخلاصة ما قاله بإيضاح أن المقدمات إذا قامت على المشهور أو المظنون ، ولكن بتضافر أنواع الاستدلال ، وتكاثر الطرق ، صارت يقينية من حيث النتيجة ، والنتيجة تثبت حقيقة ثابتة ليس لها مثيل ، فإن النتيجة لا يصح إنكارها ، ومنكرها كافر ،

٢٦٤

ومحاولة تأويلها كفر ، وإذا كانت المقدمات مظنونة أو مشهورة وليس لها مرادفات ترفعها إلى درجة اليقين ، والنتيجة ليست يقينية ، فالتأويل يجرى فى النتيجة والمقدمة إذا كان له مسوغ أو تعارضت طرائق الاستدلال.

وإذا كانت المقدمات مشهورة أو مظنونة ، ولكنه بتضافر الأدلة تنتج يقينيا ، والنتيجة تحتمل عدة صور متشابهة ، فإن التأويل لا يدخل فى المقدمات. ولكن يدخل فى النتائج.

وقد تكون المقدمات مظنونة أو مشهورة ولا يقين فيها ، ولكنها تنتج نتيجة واحدة لا مثنوية فيها فإنها لا تقبل التأويل فى النتيجة ، وتقبل التأويل فى المقدمات.

١٥٠ ـ هذه كلمات ابن رشد ، وذلك بيانها. إن كانت فى ذاتها غير بينة واضحة المقصد ، ولكن يثار هنا قول ، وهو : أيصح أن نقول أن أدلة القرآن خطابية أو جدلية أو برهانية ، إننا لا نستطيع أن نقول أنها خطابية كما قد يشير إلى ذلك ابن رشد.

وقبل أن نقطع فى ذلك برأى نذكر تعريف الأدلة الخطابية ، كما فى الشفاء لابن سينا ، يقول ابن سينا : إن الحكماء قد أدخلوا الخطابة والشعر فى أقسام المنطق ، لأن المقصود من المنطق أن يتوصل إلى التصديق ، فإن أوقع التصديق يقينا فهو البرهان ، وإن أوقع ظنا أو محمولا على الظن فهو الخطابة ، أما الشعر فلا يوقع تصديقا لكنه لإفادة التخييل الجارى مجرى التصديق ، ومن حيث إنه يؤثر فى النفس قبضا أو بسطا ، عد فى الموصل إلى التصديق».

والتخييل عنده كما عرفه إذعان للتعجب والالتذاذ تفعله صور الكلام.

ونراه من هذا يضع المنطق والخطابة والشعر فى ثلاث مراتب ، فالأول يتجه إلى التعيين ، وهو أعلى مراتب التصديق ، والخطابة تصل إلى مرتبة الظن الغالب ، والاتجاه إليها لا يوصل إلا إلى ذلك ، والشعر يتجه إلى إثارة الخيال ، والإعجاب والالتذاذ بصورة الكلام ، ولا يؤدى فى ذاته إلى تصديق إلا إذا تضمن ما يشبه المنطق ، أو يشبه الخطابة فإنه يؤدى إلى يقين أو إلى ظن.

ولا بد لنا من أن نذكر أمرين ثابتين :

أولهما ـ أن الخطابة فى أقيستها لا تعتمد إلا على الظن ، ولا تنتج إلا الظن ، ولكن يجب أن نعلم أن من الحقائق التى تجىء على ألسنة المتكلمين والتى تجرى فى الأسلوب الخطابى ما هو يقين ينتج قطعا ، ولا ينقص القطعية فيها أنها خلت من صور الأقيسة والأشكال البرهانية ، فليست العبرة فى اليقين بالشكل ، إنما العبرة بالحقيقة أهي مقطوع بها أم غير مقطوع ، والشكل البرهانى لا يمنحها يقينا ، كما أن عدم التمسك به لا ينقص يقينها.

٢٦٥

وإن كثيرا من الأدلة الخطابية تعتمد على أقوى المقدمات إلزاما وأشدها إفحاما ، وإن المنطق مميز لباطل القول وليس موجدا لليقين بذاته ، فإن الأشكال المنطقية أخص خواصها أنها تكشف زور الباطل.

وقد يكون الكلام الخطابى مجملا بالأشكال المنطقية فى مقام الرد على حجج الخصوم ، وكشف زيفها ، وبيان وجه البطلان فيها ، وكثيرا ما تستخدم الخطب التى تقوم على المحاجة ، والجدال والبراهين والأقيسة المنطقية لبيان وجه البطلان فى كلام الخصم.

الأمر الثانى : أنه لا ينطبق ما يقال فى الخطابة والجدل من أنهما يقومان على الأدلة الظنية على القرآن.

ونحن نميل إلى أن الاستدلال القرآنى له طريق قائم بذاته ، وإذا نظرت إليه وجدت فيه ما امتازت به الأدلة البرهانية من يقين لا مرية فيه ، وما امتازت به الأدلة الخطابية من إثارة للإقناع ، وما امتازت به كل خواص البيان العالى. مع أنه لا يسامى ، وهو معجز لكل الناس عربهم وعجمهم.

أسلوب القرآن فى الاستدلال والجدل :

١٥١ ـ إن القرآن خاطب الناس جميعا فى أجيال مختلفة ، وأقوام تباينت مشاربهم ، ومن أجل أن نعرف بلاغة القرآن فى الاستدلال والجدل يجب أن نشير بكلمات موجزات إلى أصناف الناس.

إن طبائع الناس متفاوتة ، ومشاربهم مختلفة ، وأهواءهم متنازعة ، ومسالكهم فى طلب الحق متعددة.

(أ) فمنهم من يصدق بالبرهان ، ولا يرضيه إلا قياس تام أو ما يجرى مجراه ، وهؤلاء هم من غلبت عليهم الدراسات العقلية والنزعات الفلسفية ، وكان لهم من أوقاتهم ما أزجوه فى دراسات واسعة النطاق ، وعلوم سيطرت عليهم ، فسادهم التأمل الفلسفى ، والمنزع العلمى. والمستقرئ لأحوال الأمم المتتبع لشئون الاجتماع يجد أن هذا الصنف قلة فى الناس ، وعددهم محدود بالنسبة لغيرهم ، إذ إن أكثر من فى الأرض قد انصرف إلى المهن من زراعة وصناعة ، فما كان له وقت يزجيه فى تلك التأملات ، ولهذا أمر الله تعالى نبيه أن يدعو إليه بالحكمة فى قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].

(ب) من الناس من غلب عليه مذهب دينى أو غير دينى قد استأثر بلبه ، وسد مسام الإدراك ، إذ استولت عليه نحلة مذهبية فتعصب لها. والتعصب يعمى ويصم ،

٢٦٦

ويجعل النفس لا تستسيغ الحق إلا بمعالجات عسيرة ، وإن الإقناع بذلك لا يكون إلا بالطب لأدواء النفوس ، وأدواء النفوس أعسر علاجا ، وأعز دواء من علاج الأجسام.

وهؤلاء لا بد لهم من طريق جدلية تزيل ما لبس الحق عليهم ، ويتخذ بها قوة مما يعتقدون ، إذ يلزمهم بما عندهم ، ويفحصهم بما بين أيديهم ، ويتخذ مما يعرفون وسيلة لإلزامهم بما يرفضون.

وهذا الصنف من الناس ، وإن كان أكثر عددا من الأول ، ليس هو الجمهور الأعظم ولا الكثرة الغالبة بين الناس ، ولعله الذى أمرنا الله تعالى بألا نجادله إلا بالتى هى أحسن وذلك فى قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). [العنكبوت : ٤٦]

(ج) أما الجمهور الأعظم من الناس فليسوا هؤلاء ، ولا أولئك ، بل هو فى تفكيره أقرب إلى الفطرة ، فيه سلامتها ، وفيه سذاجتها ، وفيه إخلاصها وبراءتها ، وهو لا يخاطب بتفكير الفلاسفة ، ولا يخاطب بما يخاطب به المتفكرون تفكرا علميا ، بل يليق به ما التقى فيه الحق مع مخاطبة الوجدان ، وما اختلطت فيه اليقينية بما يجعل الأهواء تابعة لها ، والميول خاضعة لمنهاجها ، وما التقت فيه سلاسة البيان وبلاغته بقوة الحق ، وليس بما يختص به أهل المنطق ، ولا ما عليه أهل العلوم الكونية ، إنما يخاطب الجمهور الأعظم بالحق ، وبما يغذى الفطرة ، وبما يثيرها ويوجهها إلى السبيل الأقوم.

والقرآن الكريم نزل بتلك الشريعة الأبدية التى جاءت للكافة ، وبعث بها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس جميعا بشيرا ونذيرا ، فلا تقتصر دعوته على قبيل ، ولا على جيل ، بل هى لكل الأجيال والقبائل والأقوام ، والألوان ، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ، ومن عليها.

١٥٢ ـ لذلك وجب أن يكون القرآن ، وهو الحجة الكبرى فيه من الأدلة ، والمناهج ، ما يقنع الناس جميعا على اختلاف أصنافهم وتباين أفهامهم ، وتفاوت مداركهم ، ووجب أن يكون أسلوبه الفكرى والبيانى بحيث لا يعلو على مدارك طائفة بعد بيان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الذين تلقوا من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم علم القرآن ، وبيانه ، ويجد العلماء فيه غذاء نفسيا واعتقاديا وخلقيا وصلاحا إنسانيا ، بل يصل الجميع إليه ، يجد فيه المثقف بغيته ، والفيلسوف طلبته ، والعامة من الشعوب دواء نفوسهم ، وشفاء قلوبهم ، والحق المبين الهادى لهم الذى يأخذ بأيديهم إلى العزة والرفعة.

وكذلك سلك القرآن الكريم. فالمتدبر لآياته ، والمفكر فى مناهجه يجد فيها ما يعلم الجاهل ، وينبه الغافل ، ويرضى نهمة العالم. اقرأ قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ

٢٦٧

كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : ٣٠] اقرأ هذا وارجع البصر فيها كرتين ، ألا ترى فيها توجيه الأذهان إلى عظيم قدرة الله تعالى وقوة سلطانه على الوجود كله ، وبين سبحانه كيف اخترع وأبدع على غير مثال سبق ، ويثبت بذلك أنه وحده الأحق بالعبادة ، وأن القارئ للقرآن من دهماء الناس يرى فيها علما بما لم يكن يعلم ، قد أدركه بأسهل بيان وأبلغه ، ويرى فيها العالم الفيلسوف الباحث فى نشأة الكون دقة العلم وإحكامه ، وموافقة ما وصل إليه العقل البشرى لما جاء بذلك النص الكريم مع سمو البيان وعلو الدليل فتبارك الذى أنزل القرآن.

واقرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٦) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٦] إلى آخر الآيات الكريمات.

ثم تدبر هذه الآيات البينات تجد أن الأمى يستفيد منها علما غزيرا فوق أنه يعرف منها أن الله سبحانه وتعالى سيبعث الناس يوم القيامة ، فيزداد إيمانا ، كما علم ما لم يكن يعلم ، ويقرؤها العالم بدقائق تكوين الإنسان والدارس للحيوان جرثومة فجنينا ، فحيوانا على ظهر الأرض حيا ، فيرى فيها دقة العلم والتكوين ، وصدق الحكاية ، حتى لقد قرأها بعض كبار الأطباء فى أوربا فاعتقد أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم طبيب رأته الأجيال السابقة ، فلما علم أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب آمن بأن هذا من علم الله تعالى بارئ النسم.

وهكذا يرى القارئ لكتاب الله تعالى ، وما فيه من أدلة أنه قريب من الأمى يفهمه ويعرفه ، ويعلم منه علم ما لم يكن علم ، يدرك منه ما يناسب معرفته ، ويسمو إليه إدراكه ، وما يدركه منه صدق يقينى لا شبهة فيه.

ويرى فيه العالم الباحث حقائق صادقة ما وصل إليها البحث العلمى الحديث إلا بعد تجارب ، ومجهودات عقلية ، وكلما ازداد المتأمل المتبصر فى الآيات التى تتعلق بالكون ازداد استبصارا ، ورأى علما أسمى مما يدركه الإنسان بتجاربه ، وأعلى مما يهتدى إليه الإنسان بعقله المجرد.

٢٦٨

مسلك القرآن فى سوق الأدلة

١٥٣ ـ قد شرحنا من قبل الأدلة الخطابية والبرهانية والجدلية ، وقد أشرنا إلى أن أسلوب القرآن فوق هذا ، والآن نوضح ما أشرنا إليه من قبل فنذكر بالعبارة الواضحة ، ما ذكرناه بالإشارة اللائحة.

إن أسلوب القرآن أسمى من الخطابة ، وأسمى من منطق أرسطو ، ومن لف لفه ، تراه قد اعتمد فى مسالكه على الأمر المحسوس أو الأمور البدهية التى لا يمترى فيها عاقل ، وليس فيه قيد من قيود الأشكال المنطقية من غير أن يخل بدقة التصوير ، وقوة الاستدلال ، وصدق كل ما اشتمل عليه من مقدمات ونتائج مع أحكام العقل.

وإنك لترى بعض أوصاف الأسلوب الخطابى ، قد أتى فيها بالمثل الكامل فيه ، وهو أعلى من أن يوصف بأنه جاء على منهاج من مناهج الخطابة ، وفيه تصريف القول الذى يلقى بجدة فى نفس القارئ والسامع ، فتصريف فنون القول من إيجاز غير مخل ، وحذف كلمات أعلن الأسلوب وجودها ، وغزارة فى المعانى مع قلة فى الألفاظ وإطناب مبين ، بحيث لو حذفت كلمة لاختل بنيان القول ، إذ إن الكلام القرآنى بعضه مع بعض كالبنيان النورانى المرصوص ، ولكل كلمة إشعاع مشرق فيه بحيث لو لم تكن ، يكون جزءا ناقصا من الأطياف للآيات القرآنية.

ثم من قصص حوى أقوى الأدلة فى ذات القصة وما حوت ، وفى الأدلة التى سيقت فى بيان الأنبياء السابقين لرسالاتهم ، ومجادلة المخالفين والمناوئين.

ومهما يكن من قول فى استدلالات القرآن الكريم ، فإن له مناهج فى الاستدلال تعلو على براهين المناطقة ، والأخيلة المثيرة للإقناع ، والأدلة الخطابية.

١٥٤ ـ ونستطيع أن نذكر بعض مناحى القرآن فى الاستدلال من غير إحصاء ، بل نذكر بعضها ، وبعضها ينبئ عن غيره.

ومن ذلك الأقيسة الإضمارية ، وهى الأقيسة التى تحذف فيها إحدى المقدمات ، مع وجود ما ينبئ عن المحذوف ، فهو محذوف معلوم مطوى فى الكلام منوى فيه.

وهذا الحذف يكثر فى الاستدلال الخطابى ، بل يقول ابن سينا فى الشفاء : «الخطابة معولة على الضمير والتمثيل ، والضمير هو القياس الإضمارى ، والتمثيل هو إلحاق أمر بأمر لجامع بينهما» ويسمى فى عرف الفقهاء ، قياسا فقهيا ، بينما هو فى عرف المناطقة تمثيل ، لأن فيه مشابهة بين أمرين.

وقد يقول قائل : إنك قررت أن القرآن أعلى فى إقناعه واستدلاله من الخطابة والمنطق والشعر ، ومع ذلك تقرر أنه ينهج منهاج الخطابة فى الاستدلال!.

٢٦٩

ونقول فى الإجابة عن ذلك : إننا نعلو بمنهاج القرآن عن الخطابة ، وإن كان يسلك بعض مناهج الخطابة فى الاستدلال ، وعلو القرآن فى هذه الحال بأسلوبه أولا ، فهو كيفما كان من نوع الكلام المعجز ، وثانيا ـ القرآن يعلو عن الخطابة فى أن كل مقدماته ونتائجه يقينية ، ولا ينبع شىء منها إلا من اليقين. وقد لام على مخالفيه أنهم يتبعون الظن ، وإن هم إلا يخرصون.

ونعود من بعد ذلك إلى الاعتراض الذى يرد على الخاطر ، وإن كان لا يرد على الموضوع ، فنقول : إن الناظر المستقرئ لأدلة القرآن يرى أكثرها قد حذفت فيه إحدى المقدمات ، ولقد قال الغزالى بحق :

إن القرآن مبناه الحذف والإيجاز (أى فى شكل الأقيسة) واقرأ قوله تعالى يرد على النصارى الذين يزعمون أن عيسى ابن الله ، لأنه خلق من غير أب : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٦٠) [آل عمران : ٥٩ ، ٦٠].

ولا شك أن المثل الذى ساقه الغزالى ، واضح فيه حذف إحدى المقدمات ، وواضح المقايسة بين خلق آدم عليه‌السلام وخلق عيسى عليه‌السلام ، وأنه إذا كان الخلق من غير أب مبررا لاتخاذ عيسى إلها فأولى أن يكون الخلق من غير أب ولا أم مبررا لاتخاذ آدم إلها ، ولا أحد يقول ذلك.

وإننا نجد أنه قد حذفت مقدمة وبقيت واحدة وكأن سياق الدليل لو فى غير كلام الله تعالى يكون هكذا : إن آدم خلق من غير أب ولا أم ، وعيسى خلق من غير أب ، فلو كان عيسى إلها بسبب ذلك لكان آدم أولى ، لكن آدم ليس ابنا ولا إلها باعترافكم. فعيسى أيضا ليس ابنا ولا إلها.

وإن الحذف قد صير فى الكلام طلاوة ، وأكسبه رونقا ، وجعل الجملة مثلا مأثورا ، يعطى حجة فى الرد على النصارى ، ويذكر الجميع بأن آدم والناس جميعا ينتهون إليه ، وإنما خلق من تراب ، فلا عزة إلا لله تعالى.

١٥٥ ـ وقد يساق الدليل فى قصة ، وقد ذكرنا من قبل مقام القصص القرآنى فى هذا المقام ، ونقول : إن القرآن اتخذ القصص سبيلا للإقناع والتأثير ، وضمن القصة الأدلة على بطلان ما يعتقد المشركون وغيرهم ، وقد يكون موضوع القصة رسولا يعرفونه ويجلونه ، إذ يدعى المجادلون أنهم يحاكونه ويتبعونه ، فيجىء الدليل على لسانه فيكون ذلك أكثر اجتذابا لأفهامهم وأقوى تأثيرا ، وقد يكون مفحما ملزما إن كانوا يجادلون غير طالبين للحق.

٢٧٠

وانظر إلى قصة إبراهيم عليه‌السلام مع أبيه وقصته مع قومه (وقد ذكرناهما فى موضوع القصص) ، فإنك ترى فى القصتين أدلة التوحيد واضحة قوية تثبت بطلان عبادة الأوثان ، ولإبراهيم من بين الرسل مكانته عند العرب ، إذ هو شرفهم ، ومحتدهم الذى إليه ينتسبون ، وقد كانوا يزعمون أنهم على ملته ، فإذا جاءهم الخبر بتوحيده ومحاربته للأوثان ، وسيق لهم ما كان يحتج به على قومه ، كان ذلك مؤثرا أى تأثير فى قلوبهم.

ومجىء الدليل على لسان رسول يقر بفضله المخالفون كإبراهيم عند العرب ، وموسى عند بنى إسرائيل ، يعطى الدليل قوة فوق قوته الذاتية ، إذ تكون الحجة قد أقيمت عليهم من جهتين ، من جهة قوة الدليل الذاتية ، ومن جهة أن الذى قاله رسول أمين يعرفونه ، فيكون هذا قوة إضافية ، وفوق ذلك فيه إلزام وإفحام ، إذ إنهم يدعون أنهم أتباعه.

وقد يجيء الدليل أحيانا فى قصص القرآن على لسان حيوان فى قصة ، فيكون ذلك غرابة تسترعى الذهن ، وتثير الانتباه وتملأ النفس إيمانا بالحقيقة ، كما جاء على لسان الهدهد فى سورة النمل ؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى حاكيا عن سيدنا سليمان عليه‌السلام : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦). [النمل : ٢٠ ـ ٢٦]

وترى من هذا أن دليل التوحيد جاء على لسان الهدهد ، فى أوجز عبارة ، وأوضح إشارة ألا تراه ينبه إلى بطلان عبادة الشمس من دون الله ، لأنها لا تؤثر فى الإبداع والإنسان بذاتها ، وبين أن ذلك الضلال للفطرة ، إنما هو من تزيين الشيطان الفاسد الأفكار ، وجعلهم يبتعدون عن حكم الفطرة الإنسانية ، وهو أن يسجدوا لله تعالى الذى يخرج المخبوء من البذور ، والنوى ، وكل أسباب الوجود ، وهى مختفية عن الشمس وضوئها ، فإذا كان لها تأثير ظاهرى فى الظاهر الذى خرج من الخبء ، فما يكون تأثيرها فيما هو خبء ، لا تأثير لها فيه لا ظاهرا ، ولا خفيا.

قياس الخلف :

١٥٦ ـ قياس الخلف هو إثبات الأمر ببطلان نقيضه ؛ وذلك لأن النقيضين ، لا يجتمعان ، ولا يخلو المحل من أحدهما ، كالمقابلة بين العدم والوجود ، والمقابلة

٢٧١

بين نفى أمر معين فى مكان معين وزمان معين ، وإثباته فى هذه الحال ، فإن انتفى بالدليل كان ذلك حكما بوجود نقيضه.

فدليل الخلف أن يبطل النقيض ، فيثبت الحق ، وأن القرآن الكريم يتجه فى استدلاله إلى إبطال ما عليه المشركون فيبطل عبادة الأوثان ، فيثبت التوحيد.

ومن ذلك الاستدلال على التوحيد قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢) [الأنبياء : ٢٢] ، هنا نجد الاستدلال القرآنى اتجه إلى إثبات الوحدانية بدليل قياس الخلف ، وتقرير الدليل من غير أن تتسامى إلى مقام البيان القرآنى ، كما يسوقه علماء الكلام ، هكذا : لو كان فى السموات والأرض إله غير الله لتنازعت الإرادتان بين سلب وإيجاب ، وإن هذا التنازع يؤدى إلى فسادهما ، لتخالف الإرادتين ، ولكنهما صالحان غير فاسدين ، فبطل ما يؤدى إلى الفساد ، فكانت الوحدانية ، فسبحان الله رب العرش عما يصفون. ويسمى علماء الكلام هذا الدليل دليل التمانع ، أى امتنعت الوثنية لامتناع الفساد ، فكانت الوحدانية.

ومن القياس الذى يعتبر قياس الخلف قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١) [المؤمنون : ٩١] ، أى وإن ذلك باطل ، فما يؤدى إليه باطل ، وبذلك ثبت التوحيد.

ومن قياس الخلف قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (٤٢) [الإسراء : ٤٢] ، وهذا أيضا من قبيل فرض التمانع الذى يؤدى إلى الفساد ، ولا فساد ، فيبطل ما يؤدى إليه.

ومن قياس الخلف فى إثبات أن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى قوله تعالت كلماته : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٨٢) [النساء : ٨٢] وإذا ثبت أنه ليس فيه اختلاف ، ولا تضارب فى مقرراته ، ولا عباراته ، فإنه يثبت النقيض ، وهو أنه من عند الله تعالى.

ونرى أنه فى كل هذه الآيات البينات كان إثبات المطلوب بإبطال نقيضه ، وقد أشرنا إلى ذلك فى كل آية مما تلونا.

ثم إنك ترى مع هذا القياس الذى واجه المخاطبين بإبطال ما يدعون ليثبت ما يدعوهم إليه الرسول ، معنى ساميا قويا ، وهو مهاجمة المخالفين بإبطال ما عندهم ، وأنه ليس من القول الذى يقام له دليل ، وإن ذلك يوهنهم وينهنه من قوتهم ، ولذلك كانوا يشكون من النبى لأنه يسفه أحلامهم ، ويصغر من أصنامهم.

٢٧٢

ومع هذا القياس نجد الإضمار للمقدمات ، وإبراز أوضحها الذى يومئ إلى ما وراءها ، فما يضمره من المقدمات هو المختفى المعلوم ، والظاهر المكتوم.

السبر والتقسيم :

١٥٧ ـ السبر والتقسيم باب من أبواب الاستدلال الكاشف للحقيقة ، الهادى إليها ، وهو أيضا من أبواب الجدل ، يتخذه المجادل سبيلا لإبطال دعوى من يجادله ، بأن يذكر أقسام الموضوع الذى يجادل فيه ، ويبين أنه ليس فى أحد هذه الأقسام خاصة تسوغ قبول الدعوى فيه ، فيبطل دعوى الخصم.

وقد ذكر السيوطى أن من أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤). [الأنعام : ١٤٣ ، ١٤٤]

وبيّن السيوطى وجه الاستدلال فقال : «إن الكفار لما حرموا ذكور الأنعام تارة ، وإناثها أخرى رد الله تعالى عليهم ذلك بطريق السبر والتقسيم فذكر تعالى : أن الله خلق الخلق مما ذكر زوجين ، ذكر وأنثى ، ثم جاء تحريم ما ذكرتم عندكم. ما علته؟ لا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة أو الأنوثة ، أو اشتمال الرحم الشامل لهما ، أو لا يدرى له علة ، وهو التعبدى ، بأن يأخذ ذلك عن الله تعالى ، والأخذ عن الله تعالى إما بوحى وإرسال رسول أو سماع كلامه ومشاهدة تلقى ذلك عنه ، وهو معنى قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) ، فهذه وجوه التحريم ، ثم لا تخرج عن واحدة منها ، والأول يلزم عليه أن يكون جميع الذكور حراما ، والثانى يلزم عليه أن يكون جميع الإناث حراما ، والثالث يلزم عليه تحريم الصنفين معا ، فبطل ما فعلوه من تحريم بعض فى حالة ، وبعض فى حالة ، لأن العلة على ما ذكر تقتضى إطلاق التحريم والأخذ عن الله بلا واسطة (وحى) باطل ، ولم يدعوه ، وبواسطة رسول كذلك ، لأنه لم يأت إليهم رسول قبل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدعى وهو أن ما قالوه افتراء على الله تعالى وضلال» (١).

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن.

٢٧٣

خلاصة الاستدلال على بطلان ما ادعوا من تحريم السائبة والوصيلة ، وبعض الماعز والبقر ، أن الله تعالى العلى الحكيم ينبههم إلى أن التحريم يكون لوصف ذاتى فى هذه المحرمات أو لتحريم بوحى أو رسول ، ثم أخذ يبين سبحانه أنه لا يوجد وصف ذاتى فى هذه الأشياء التى يحرمونها فذكر سبحانه أن السبب فى التحريم إما أن يكون فى الذكورة وحدها ، أو الأنوثة وحدها ، أو فيهما معا ، ولا جائز أن تكون فى الأنوثة وحدها ، لأنكم حرمتم ذكورا ، ولأن مقتضى العموم أن تحرم كل أنثى ، وكذلك الأمر فى الذكورة ؛ لأن ذلك يوجب تحريم كل الذكور ، وكذلك إذا وصف التحريم ذاتيا فى كل ما تحمل الأنثى وتلد الأرحام ، فإن ذلك كان يوجب تحريم كل الأنعام ، وأنتم اختصصتم بالتحريم بعضها دون كلها.

وإذا لم يكن ثمة وصف ذاتى اقتضى التحريم فهل كان نص من رسول ، أو وحى ، أو من أين جاءكم العلم ، لا شىء من هذا ، وهذا الجزء الأخير كقوله تعالى فى آخر سورة الأنعام : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١٤٨) [الأنعام : ١٤٨].

التمثيل :

١٥٨ ـ التمثيل : أن يقيس المستدل الأمر الذى يدعيه على أمر معروف عند من يخاطبه ، أو على أمر بدهى لا تنكره العقول ، وتقر به الأفهام ، ويبين الجهة الجامعة بينهما ، وإن القرآن الكريم قد سلك هذا المسلك على أدق وجه وأحكمه مقربا ما بين الحقائق القرآنية ، والبداية العقلية ، وكثير من استدلالات البعث فيها تقريب وتمثيل البعث وقدرة الله تعالى عليه بما يرون من إنشاء ذلك الكون البديع ، وما خلق به الإنسان وبيان أطواره من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات.

اقرأ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧) [الحج : ٥ ـ ٧]

ونرى من هذا عقد المشابهة بين ابتداء الخلق وإعادته التى لخصها الله سبحانه وتعالى فى قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) وفى هذه الآيات الكريمات بين سبحانه وتعالى

٢٧٤

كيف ابتدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جاءته الأطوار المختلفة حتى آل إلى القبر ثم كيف خلق الأحياء فى الأرض من نبات وحيوان واهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، وإن كل ذلك دليل على قدرة المنشئ علام الغيوب ، بديع السموات والأرض ، وأنه على ما يشاء قدير.

وإن هذا النسق البيانى قرب فيه البعيد ، وسهل على الأفهام دخوله والله على كل شىء قدير.

واقرأ فى هذا النوع من الاستدلال قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (٨١). [يس : ٧٨ ـ ٨١]

وتجد فى الآيات الكريمات عقد المشابهة بين ابتداء الخلق وإعادته فى أبلغ تعبير وأسلم تقرير ، وإن فى هذه الأمثلة وغيرها مما اشتمل عليه القرآن الكريم قياس ما فى الغيب على المشاهد ، وقياس ما بينه الله تعالى ، وأوجب الإيمان به على ما هو واقع مرئى مشاهد ، فيه الدلالة الكاملة على قدرة الله تعالى ، وأنه المالك لما هو واقع ، والقادر على ما لم يقع الآن ، وسيقع ، كما وعد ، ووعده لا يتخلف.

١٥٩ ـ هذا ، ويلاحظ القارئ للقرآن التالى لآياته ، المتبصر فى عبره وعظاته ، والدارس لأدلته ـ أن جدل القرآن لا يتجه إلى مجرد الإفحام والإلزام ، بل يتجه فى الكثير الغالب إلى إرشاد القارئين والمدركين ، والأخذ بأيديهم إلى الحق ، وتوجيه النظر إلى الحقائق ، وما فى الكون من دلائل على القدرة ، كما ترى فى قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١) [ق : ٦ ـ ١١].

فترى فى هذه الآيات أن البيان فيها ليس مجرد إفحام الوثنيين ومنكرى التوحيد ، بل فيه توجيه إلى الكون ، وما فيه من دلائل القدرة ، وعجائب الصنع وما فيه من سماء زينت ببروجها ونجومها ، والأرض وما فيها من رواسى : كأنها تمسكها أن تميد ، وما فيها من نبات يحصد فى إبانه ، وجنات تونع وتثمر فى وقتها.

٢٧٥

واقرأ قوله تعالى فى سورة الرحمن : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٨). إلى آخر السورة الكريمة. وفى هذا ترى الاستدلال القوى متجها إلى الإرشاد إلى ما فى الكون ، وما أنعم الله به على الإنسان من علم بما لم يكن يعلم وما علمه من الشمس والقمر ، وما علمه من معاملات كريمة ، وتعاون إنسانى مبنى على الفضيلة ، وعلمه كيف خلق الإنسان ، وهكذا من استدلال حكيم ، وإرشاد وتوجيه وتعلم.

وإنه إذا اتجه القرآن الكريم إلى الإلزام والإفحام ، لا يلبث أن يأخذ بيد المعاند إلى الحقيقة يبينها واضحة جلية لا ريب فيها ، كما ترى فى قوله تعالى رادا على المشركين طلبهم أن يكون الرسول ملكا :

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) [الأنعام : ٨ ، ٩].

فإنك ترى أن فى ذلك إفحاما لهم من ناحيتين : الناحية الأولى أنهم لو أجيبوا إلى ما يطلبون لقضى عليهم ما هددهم الله تعالى به ، ولا ينظرون ، والثانية أنه لا يزول اللبس الذى يلبسون به الحق بالباطل لأنه لو جعله الله تعالى ملكا لجعله فى صورة رجل ، وبذلك يجيء الالتباس الذى لبس به عليهم.

ومن الاستدلال المفحم الهادى قوله تعالى فى الرد على اليهود ووصفهم :

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٨٣) [آل عمران : ١٨٣].

وكما ترى فى قوله تعالى ردا على الذين ينكرون الرسالات الإلهية ، فقد قال تعالت كلماته : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) [الأنعام : ٩١] ويظهر أن الذين قالوا هذا القول من اليهود ، قالوه لينكروا رسالة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفى هذه الآيات التى تلوناها ترى الإلزام المفحم ، والحجة البالغة ، والفيصل الفارق بين الحق والباطل ، قد أدحضت به حجة الخصوم وأرشدوا إلى المحجة ،

٢٧٦

ووضعت الصوا والأعلام ، ليسيروا على الجادة بعد أن بددت الظلمات ، وأذهب ضوء الحق ظلام ما موه به الخصوم ، فمن أبى واستكبر بعد ذلك فهو من الأخسرين ، بعد أن أزيلت من أمامه غياهب الباطل.

١٦٠ ـ وعند توجيه الله تعالى نظر المجادل إلى الحقائق من غير اتجاه إلى إلزام من أول الأمر ، أو بعد إلزامه وإفهامه يكون تصريف البيان ، ومناحى التأثير ، وتكون العبارات التى تخاطب العقل والوجدان ، وتمس مواطن الإحساس ، وتتنوع المناهج وتتضافر المعانى ، وللألفاظ جدتها وطلاوتها ، ومع التكرار أحيانا تزداد الفائدة ، وتكثر الثمرات ، وتنوع الأساليب من استفهام إلى تعجب إلى تهديد إلى إخبار ، ويختلف الاتجاه إلى مواضع الاستدلال وينابيعه.

(أ) فمرة يكون الاستدلال برد المسائل إلى أمور بدهية معروفة ، كما أشرنا ، أو حقائق مشهورة مألوفة يخر المجادل أمامها صاغرا كما ترى من إبطال قول من زعم أن لله سبحانه وتعالى ولدا ، إذ يقول سبحانه وتعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣) [الأنعام : ١٠١ ـ ١٠٣].

ألا ترى أن الاستدلال القرآنى اتجه إلى بطلان مدعاهم إلى أمر معروف مشهور مألوف لا يمارى فيه أحد ، وهو أنه لو كان له ولد لكان له صاحبة ، ولم يدع أحد أن لله تعالى صاحبة ، فبطل أن يكون له ولد ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

(ب) وأحيانا يوجه نظر الناس إلى المخلوقات. وإلى ما فى الكون مما يدل على قدرة الصانع ، وعلم المبدع ، انظر إلى قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤) [البقرة : ١٦٣ ، ١٦٤].

وهكذا ، وارجع إلى ما قدمنا من مصادر الاستدلال فى القرآن الكريم.

ويلاحظ أن القرآن الكريم فى الجدل الذى يلزم الخصوم ، ويفحمهم ، يجيء إلى الإفحام من أقرب الطرق ، وأقواها إلزاما ، ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه‌السلام فى مجادلة مدعى الألوهية. فقد قال تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي

٢٧٧

يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) [البقرة : ٢٥٨].

وإن وسائل أخذ الخصم بأقرب طريق للإفحام والإلزام كثيرة.

(أ) منها التحدى ، كما تحدى الله تعالى كفار قريش بأن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات ، وكما تحدى إبراهيم الملك الوثنى.

(ب) ومنها أخذ الخصم بموجب كلامه ، وإثبات أنه عليه وليس له ، ومن ذلك قوله تعالى فى شأن المنافقين ، إذ يقول سبحانه وتعالى عنهم : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] فسلم لهم أن الأعز يخرج الأذل ، ولكن من هو الأعز؟ لله العزة ولرسوله وللمؤمنين.

(ج) ومنها مجاراة الخصم فيما يقول ، ثم التعقيب عليه بما يقلب عليه نتائج قوله ، ومن ذلك قوله تعالى حاكيا عن الرسل مع أقوامهم : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١) [إبراهيم : ١٠ ، ١١].

فترى من هذا النص السامى أن الرسل سلموا بالمقدمة التى بنى عليها الأقوام رفضهم. ولكنهم نقضوا النتيجة بقولهم : (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ) فكأنهم قالوا لهم : ما قلتموه من أننا بشر حق ، ولكن ما تريدون أن تبنوا عليه من إثبات أننا لسنا أنبياء باطل ، لأن الله يمن على من يشاء من عباده ، وهو قد منّ علينا ، وقدمنا لكم السلطان ، أى الدليل ، ولا سلطان لنا إلا ما يأذن به الله تعالى.

١٦١ ـ هذه قبسة من نور الذكر الحكيم الذى أضاء الله تعالى به الخليقة لتهتدى الأجيال بهديه ، وتسير على ضوئه ، وتعشو إليه إذا أظلمت وعمتها الجهالات ، وتاه الناس فى مثارات الشيطان.

وما أردنا بذلك البيان إحصاء لطرق الاستدلال فى القرآن ، ولا استقصاء لمسالكه فى جدله. فدون ذلك تنفق القوى ، وينبتّ الظهر ، ويقصر الشأو ، ولكن أردنا أن يرى الدارس للقرآن الكريم أمثالا عن طرق جدل القرآن واستدلالاته وكيف كانت أعلى من المنطق فى دقته ، وإن لم تتقيد بأساليب المناطقة ، ولا بأشكال أدلتهم ، ففي أدلة القرآن التقديم والتأخير ، والإيجاز والإطناب تبعا لروعة البيان ونسقه وجماله ، وليس تبعا

٢٧٨

لأشكال البرهان ، وكانت مع ذلك أعلى من الخطابة ، وإن كان بيانه المثل الأعلى الذى لا يستطيع أن يجاريه الخطباء.

ولو أن المتكلمين الذين عنوا بإثبات العقائد والجدل فيها سلكوا مسلك القرآن ، وساروا فى سمته لكان علمهم أكثر فائدة ، وأدنى جنى ، وأينع ثمارا ، ولكنهم سلكوا مسلك المنطق وقيوده ، والبرهان وأشكاله ، فكان علمهم للخاصة من غير أن يفيد العامة ، فإن العامة يدركون دقائق القرآن على قدر عقولهم ، ولا يدركون شيئا من أشكال الأقيسة.

وقد وازن الغزالى فى كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام) بين أدلة القرآن وطريقة المتكلمين ، فقال رضى الله عنه : أدلة القرآن مثل الغذاء ، ينتفع به كل إنسان ، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس ، ويستضر به الأكثرون ، بل إن أدلة القرآن كالماء الذى ينتفع به الصبى الرضيع والرجل القوى ، وسائر الأدلة كالأطعمة التى ينتفع بها الأقوياء مرة ، ويمرضون بها أخرى ، ولا ينتفع بها الصبيان أصلا.

وفى الحق أن الناس لو شغلوا بدراسة القرآن ، وما فيه من استدلال لينهجوا على نهجه ، ويسيروا فى طريقه ، لكان لهم من ذلك علم كثير. فإن القرآن قد اشتمل على مناهج فى الاستدلال والجدل والتأثير تتكشف عن أدق نواميس النفس الإنسانية. وتبين شيئا كثيرا من أحوال الجماعات النفسية والفكرية ، وفيها الطب لأدوائها ، والعلاج الناجع لأمراضها ، والدواء الشافى لعللها وأسقامها.

وفى مناهجه البيانية المثل الأعلى للكلام النافذ إلى القلوب والحجج الدامغة. ومعتبر ذلك بأثره فى المشركين وأثره فى المسلمين الأولين.

وقد ذكرنا فيما مضى من قولنا أن كل من كان يسمعه من المشركين يناله منه قبس يهتدى به إن آمن ، وإن استمر على جحوده أطفأ الله النور فى قلبه ، وطمس الله على بصيرته ، وكان على ريب فى الأمر ، وتردد ، فكان كل من داناه منهم مس نوره قلبه ، ونال أثره وجدانه ، حتى لقد تناهى زعماؤهم عن سماعه ، لما رأوه من أثره فى قلب كل من سمعه.

وقد كان من أثر القرآن فى المؤمنين الأولين أن عكفوا عليه يرتلونه ، ويتفهمونه ، ويتعرفون معانيه ومراميه ، وجعلوه معلمهم الأول ، ومرجعهم إذا اختلفوا ، ومنهل عقائدهم ، ويأخذون منه ما يقوى إيمانهم ، ويدفع الشبهات عنهم ويثبت يقينهم ، ولم يعرفوا حجة مع السنة سواه ، ولا محجة غير طريقه وهديه ، به يجادلون ، وعن هديه يصدرون ، فاستقام أمرهم ، وحكموا بعدله العالمين.

٢٧٩

علم الكتاب

١٦٢ ـ قال الله تعالى وهو أصدق القائلين : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣) [الرعد : ٤٣] فقد جعل الله سبحانه وتعالى من عنده علم الكتاب وهو القرآن الكريم الذى نزل على رسوله الأمين شهادته بجوار شهادة الله سبحانه وتعالى ، وأى شرف أعظم من شرف علم الكتاب بعد هذا. وأى مقام أعلى من مقام علم الكتاب الكريم. إنه إذا مقام عظيم ، وهو مشتق من ذات العليم ، ولا بد لهذا أن يكون علم الكتاب خطيرا عظيما ، وأن يكون كبيرا عزيزا ، وأن يكون واسعا بمقدار ما تتسع له طاقة البشر من علوم ، وأن العلماء الذين تقترن شهادتهم بشهادة الله تعالى والملائكة هم العلماء بالكتاب المذكورون ، الفاهمون لمراميه ومغازيه العاملون به. فقد قال الله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨) [آل عمران : ١٨] فأولوا العلم الذين تقترن شهادتهم بشهادة الله والملائكة هم أولو العلم بالكتاب ، وأولوا العلم بالكتاب هم العلماء الذين ذكر الله سبحانه وتعالى أنه لا يخشى الله غيرهم. إذ قال سبحانه وتعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

هذه مكانة العلم القرآنى كما صرحت العبارات السامية عن الله سبحانه وتعالى ، فما هذا العلم الذى يعلو بصاحبه إلى هذا المقام الأسمى ، والمنزلة العليا؟

نجيب عنه بجوابين : أحدهما فيه إجمال. والثانى فيه بعض التفصيل.

أما أولهما : فنقول إنه علم النبوة ، أى علم الرسائل الإلهية ، فإن القرآن الكريم اشتمل فيما اشتمل عليه لب الرسالة الإلهية وهو التوحيد ، وقد قال تعالى فى ذلك : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣) [الشورى : ١٣]. وإن القرآن ذكر كل الرسالات التى سبقته. وما لم يذكره بالبيان ذكره بالإشارة الواضحة ، فقال تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨] ، وما لم يذكر قصصه مطوى فى ذكر من قصّ ، فالرسالة الإلهية واحدة ، والحق واحد. والدعوة إليه واحدة.

ولقد صرح النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن من يحفظ القرآن يحفظ النبوة بين جنبيه ، فقال عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه الحسن البصرى : «من أخذ ثلث القرآن ، وعمل به ، فقد أخذ ثلث النبوة ، ومن أخذ نصف القرآن وعمل به فقد أخذ نصف النبوة ، ومن أخذ القرآن كله. فقد أخذ النبوة كلها» ويروى عن عبد الله بن عمر أنه قال : «من حفظ القرآن ، فقد حفظ النبوة بين جنبيه» فالقرآن فيه قبسة علم من الله تعالى.

٢٨٠