المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

ومع هذا الترتيب الموحى به الذى لم يكن على حسب النزول نجد السورة كلها مترابطة الأجزاء متصلة ، يأخذ بعضها بحجز بعض فى نسق بيانى رائع ، وكل آية مرتبطة برباط معنوى وبيانى ، فالآية تتبع ما قبلها ، لا فى الموضوع ولكن فى نظام يشبه تداعى المعانى ، فالآيات تثير فى النفس المؤمنة المتبعة خواطر تجىء التى تليها لإشباعها وكأنها تجىء فى وقت الحاجة إليها ، فيكون التناسق القرآنى فى الألفاظ والأنغام والفواصل والمعانى. وكل ذلك من أسرار الإعجاز الذى لا يمكن أن يكون إلا إذا كان القرآن كله من عند الله العزيز الحكيم القادر على كل شىء الذى اختار القرآن معجزة صفيه خاتم الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

القصار وتيسير الحفظ :

١٣٦ ـ يأمرنا الله تعالى بأن نحفظ ما تيسر من القرآن ، لأنه سبحانه وتعالى قال : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) وأنه سهل سبحانه وتعالى علينا أن نحفظ المتيسر حفظه من القرآن ، فكانت تلك السور القصار الموجزة فى ألفاظها الغزيزة المعانى فى مرادها ، وهذا المعنى ذكره المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعى رضى الله عنه فى كتابه إعجاز القرآن ، ولنترك الكلمة له فقد قال : «إن لهذه السور القصار لأمرا ، وإن لها فى القرآن لحكمة ، من أعجب ما ينتهى إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلا موقع الأدلة الإلهية المعجزة ، فهى لم تنزل متتابعة فى نسق واحد على هذا الترتيب الذى نراه فى المصحف ، إذ لم يكن أول ما نزل من القرآن ولا آخره : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) ثم هى (أى القصار من السور) بجملتها وعلى إحصائها لا تبلغ من القرآن أكثر من جزء والقرآن كله ثلاثون جزءا ، وهو يتسع من بعدها قليلا قليلا ، حتى ينتهى إلى الطول ، فقد علم الله أن كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول ، فيسره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها فى المنفعة ، وأولها فى المنزلة ، هذه السور التى تخرج من الكلمات إلى الآيات القليلة ، والتى هى مع ذلك أكثر ما تجىء آياتها على فاصلة واحدة أو فواصل قليلة ، لا يضيق بها نفس الطفل الصغير. وهى تتماسك فى ذاكرته بهذه الفواصل التى تأتى على حرف واحد أو حرفين ، أو حروف قليلة متقاربة فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه ويثبت أثره فى نفسه ، فلا يكون بعد إلا أن يمر فيه مرا ، وهو كلما تقدم وجده أسهل عليه ، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ. فهذا معنى قوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] وهى لعمر الله رحمة وأى رحمة.

وإذا أردت أن تبلغ عجبا من هذا ، فتأمل آخر سورة فى القرآن وأول ما يحفظه الأطفال (أى بعد الفاتحة) وهى سورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) وانظر كيف جاءت

٢٤١

فى نظمها ، وكيف تكررت الفاصلة ، وهى لفظ الناس ، وكيف لا ترى فى فواصلها ، إلا هذا الحرف (السين) الذى هو أشد الحروف صفيرا ، وأطربها موقعا من سمع الطفل الصغير ، وأبعثها لنشاطه واجتماعه ، وكيف يناسب مقاطع السورة عند النطق تردد النفس فى أصغر طفل يقوى على الكلام ، حتى كأنها تجرى معه ، وكأنها فصلت على مقداره ، وكيف تطابق هذا الأمر كله من جميع جهاته فى أحرفها ونظمها ومعانيها ، ثم انظر كيف يجيء ما فوقها على الوجه الذى أشرنا إليه ، وكيف تمت الحكمة على هذا الترتيب العجيب.

وهذه السور القصار ، لو لم تكن فى القرآن كلها أو بعضها ما نقضت شيئا من خصائصه فى الإيجاز ، ولكن عسى أن يكون الأمر فى حفظه على غير ما ترى إذا هى لم تكن فيه ، فتبارك الله سبحانه (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا).

ويضاف إلى هذه الحكمة فائدة أخرى ، وهى تيسير القرآن ، وأداء الصلاة على العامة ، فإنهم لو لا هذه السور الصغار لتركوا الصلاة جميعا ، وأنه لا تصح الصلاة (أى كاملة) إلا بآيات مع الفاتحة ، وقد أعانت الصغار ويسرت عليهم فكانت على قلتها معجزة اجتماعية كبرى. انتهى كلام الرافعى.

١٣٧ ـ وإذا كانت ثمة سور طوال وأخرى قصار ، فإنه يجب علينا أن نلتفت إلى أن هناك آيات تطول وآيات تقصر ، مع أن الإيجاز والإطناب يكون فى طوال الآيات وقصيرها ، ففي أثناء الآية الطويلة تقرأ قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وهى كلمات ذات معان غزيرة ، فيها حكمة شرع الله وغايته ، وتكليفاته ، وأنها تتجه إلى التيسير ولا تتجه إلى التعسير.

وأكثر الآيات الطوال تكون فى الأحكام التكليفية التى تحتاج إلى التوضيح ، ولا يكتفى فيها بالإجمال بدل التفصيل كآية المحرمات فى قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ...) إلى قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤].

ومثل ذلك آية المداينة ، وهى أطول آية فى القرآن فقد قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً

٢٤٢

تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢). [البقرة : ٢٨٢]

وقريب منها فى الطول آية المحرمات كما أشرنا ، ومثلهما آيات المواريث ومن الآيات الطوال المبينة للأحكام التكليفية آيات الصوم. اقرأ قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٨٧) [البقرة : ١٨٥ ـ ١٨٧].

وترى أن الآيات الأخيرة فيها بيان جزء من أحكام الصوم ، ولا تعد قصيرة ، بل طويلة ، ومن الآيات الطويلة بعض آيات القصص ، ومن ذلك قوله تعالى فى قصة بنى إسرائيل (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٦١). [البقرة : ٦١]

وإنا إذ نقول أن بعض الآيات فيها طول ، وبعض الآيات الكريمات فيها قصر ، ليس معناه أن ما فيه طول هو من قبيل التطويل فى الكلام بل هو من قبيل الإطناب الذى لا تجد فيه كلمة زائدة ، ولا تجد فيه عبارة ليس ثمة حاجة إليها ، بل إن الآية التى يكون فيها تطويل قد تجىء فى جملة ما هو من قبيل إيجاز القصر مثل قوله تعالى فى ثناء آية الصوم الطويلة (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) كما ذكرنا آنفا.

وليس المراد بالطويل أن تكون الألفاظ أكثر من المعانى ، بل المراد ما لا يتجاوز حد الإطناب البليغ المستحسن ، فالمعانى مع الألفاظ متكافئة وربما كان فيها إيجاز لا

٢٤٣

إطناب فيها فضلا عن التطويل ، والطول للآية يعطيها ألفاظا كثيرة ومعانى كثيرة ، ربما تكون أكثر من الألفاظ.

وأن الطول لا يبعد عن حلاوة النغم ، وجمال النسق ، وحسن النظم ، وحلاوته ، ومن الآيات ما يكون قصيرا كما ذكرنا والفواصل متآخية ، والمعانى متكاملة. اقرأ قوله تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) (٨٧) [طه : ٨٣ ـ ٨٧].

وترى أن هذه الآيات بعضها قصار ، والأخير كان منها طويلا نسبيا ، لأن فيها عتابا ، وطبيعة العتاب لا يكون قصيرا ، ولا يكون بالإشارة.

واقرأ قوله تعالى فى هذه السورة : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١) [طه : ١٠٥ ـ ١١١].

وإننا نجد فى الظاهرة القرآنية العالية أن الآيات القصار تختص عن غيرها بأن لها خاصة وهى الاعتبار والوقوف عند فواصلها المقاربة غير المتباعدة ، فتكون وقفة يقضى السكون عندها ، فالجواب عن حال الجبال وهى أوتاد الأرض وبها تتماسك بأمر الله تعالى ، بأن الله تعالى ينسفها نسفا ، وفى هذه الوقفة الصامتة يتدبر أمر الله فى نسف الجبال ، ويتخيل ذلك ، فيدرك قدرة الله تعالى على الإعادة ، ويتدبر الأرض وقد نسفت جبالها ليس بها علو بتضاريس ، ولا انخفاض بجوار علو ، وهكذا تتبع الآيات القصير ، والوقوف عند آخر كل آية ، وكأن الله سبحانه وتعالى يدعوك إلى أن تقف لتتدبر وتتفكر ، وتعرف مآلك ، وأنه لا غرابة فى أن تعاد الأجسام يوم البعث والنشور.

وإن الآيات الطوال تكون فى موضوع يحتاج إلى التدبر فى أوله وآخره ، وأخذه جميعا ، كما رأينا فى آيات الأحكام ، وفى بعض القصص الذى يكون التدبر فى مجموعه لا فى آحاده ، وفيه يتلاحق آخره بأوله ، كما رأينا فى النعم التى أفاض الله بها على بنى إسرائيل ، وكيف لاقوها بالكفران والعتو عتوا كبيرا.

٢٤٤

وقد رأينا فى الآيات القصار أن كل آية تصلح وحدها لأن تكون موضع تدبر ، بل يلزم فيها التدبر وإن كانت متصلة بما بعدها وثيقة الاتصال.

ولنتل عليك بعض الآيات القصار ، من ذلك قوله تعالى فى سورة ص : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥) [ص : ١٢ ـ ٢٥].

وهنا نجد الآيات كلها تتلاقى فى العبرة ، وتثبيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخبار النبيين ، وما كان من أقوامهم معهم ، وذكرت بعض قصة داود عليه‌السلام ، وما يتعلق بحكمه ، ومتاعبه من الخصوم ، ثم حكمه وخطئه فيه.

هذا كله معنى متلاحق الأجزاء بعضه يتمم بعضه ، ويتكون من الجميع صورة بيانية تستولى على لب الناظر إليها ، والمتفهم لمعناها ، ولكن فى الآيات القصار أجزاء كاملة فى ذاتها ، وإن تكوّن من مجموعها كل كامل غير متقطع ، فاقرأ من قصة داود عليه‌السلام أول ما أورد تجد قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) فهذه صورة كاملة لنبى من أنبياء الله تعالى ، آتاه الله تعالى السلطان القوى المؤيد الثابت القائم على الحق ، وتلك وحدها صورة بيانية تستدعى التدبر فيها ، وجاء بها القرآن الكريم مفصولة فى الفاصلة عما وراءها لأنها وحدها يجب تدبرها ، لاجتماع الدنيا والدين فى رسول رب العالمين ، فلا يحسبن أحد أن الزهد فى الفقر والحاجة ، إنما الزهد فى العفة حيث تكون القدرة ، ثم جاءت الآية التى تليها مبينة مقدار قوته تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) فهى له خاضعة ، ثم الطير محشورة ، وهكذا كانت الفواصل معلنة أن ما قبلها يدعو إلى تدبره والتفكير فيه.

٢٤٥

وقد تكون فى الآيات القصار آية بين كل آية وأخرى تدعو إلى التفكير بصراحة ، كما دعت فواصل الآيات إلى التدبر فى ميزات الفاصلة ، اقرأ قوله تعالى فى سورة الرحمن :

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢١) [الرحمن : ١ ـ ٢١].

هذه نصوص قرآنية من الآيات القصار تجد كل آية منها تدعو إلى التدبر والتفكر فيما تدعو إليه وما تدل عليه ، وقد كانت الفاصلة منبهة إلى التروى فى معناه ، والتدبر فى مغزاه ، وهى متضامنة مع سابقتها ولاحقتها لتأتى بمعنى كلى جامع ، وصورة بيانية رائعة.

وهكذا تكون آيات القرآن ، وألفاظه وجمله ، وكله إعجاز فى إعجاز. تدل على أنه من اللطيف الخبير العزيز الحكيم السميع البصير.

الإعجاز بذكر الغيب

١٣٨ ـ هذا باب من أبواب الإعجاز ، فيه جزء من القصص ، والجزء الثانى من الأخبار التى يتحدث القرآن فيها عن المستقبل ، فالغيب المذكور فى القرآن نوعان أحدهما غيب مضى ، وهو جزء القصص ، والثانى عن أمور تقع فى المستقبل وكلاهما إعجاز مع البلاغة والبيان ، ومع العلوم القرآنية ، والأحكام التى اشتمل عليها القرآن الكريم.

ووجه الإعجاز فى الماضى وقصصه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نشأ أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ولم تكن نشأته بين أهل الكتاب ، حتى يعلم بالتلقين علمهم ، وكان قومه أميين لا يسود فيهم علم من أى طريق كان إلا أن يكون علم الفطرة والبيان ، وإرهاف أحاسيسهم بالشعر والكلام البليغ ، وتذوق الكلمات ، والمعانى.

لم يكن عندهم مدرسة يتعلمون فيها ، ولا علماء يتلقون عليهم ، وكانوا منزوين بشركهم عن أهل الكتاب ، والمعرفة فى أى باب من أبوابها ، وكانت رحلة الصيف

٢٤٦

والشتاء إلى الشام واليمن تجاريتين ، لا تتصلان بالعلم فى أى باب من أبوابه ، ولا منزع من منازعه.

وجاء القرآن الكريم فى ذلك الوسط الأمى يذكر لهم أخبار الأنبياء السابقين ، وأحوال أممهم معهم ، وما حل بالذين كفروا وضلوا ، وهم يرون هذه الآثار فى الأمم التى تصاقبهم.

جاء القرآن الكريم بتفصيله الصادق المحكم عن أخبار هؤلاء النبيين ، وقد وافق كثير منهم الصادق عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وما اختلفوا فيه عما جاء فى القرآن فإن الفحص الدقيق يثبت تحريفه ، وصدق القرآن الكريم ، فيما حكاه الله ، فإنه علام الغيوب الذى أحاط بكل شىء علما.

ولقد ذكر القرآن ذلك الوجه من الإعجاز فقد قال تعالى بعد ذكر قصة مريم وكفالة نبى الله تعالى زكريا لها : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤) [آل عمران : ٤٤]. فإن هذا النص يشير إلى الدلالة على أن القرآن من عند الله ، وعلى أن ذلك النوع من العلم ما كان عند العرب ، وليس لهم به دراية.

وإنه لم تذكر قصة مريم البتول فى التوراة ، ولا الإنجيل ولا رسائل الرسل قط ، والقرآن الكريم وحده هو الذى بين اصطفاءها ، وفضلها على نساء العالمين.

ويقول الله تعالى بعد قصة نوح عليه‌السلام : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩) [هود : ٤٩].

وفى هذه الآية والتى قبلها إشارة واضحة إلى أن هذا النوع من العلم ما كان معروفا عندهم وما كانوا يتذاكرون به.

وقد قال تعالى فى ذلك أيضا : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٠٢) [يوسف : ١٠٢] فذكر القرآن أدق الأخبار ، وما لا يعلمه أحد إلا الله تعالى.

وكان ذلك القصص الحكيم إخبارا بالغيب ، الذى لا يعلمه إلا علام الغيوب دليلا على أنه من عند الله العزيز الحكيم ، وموافقته للصحيح من أخبار النبيين دليل على أن القرآن من عند الله وأنه ليس حديثا مفترى ، وليس أساطير الأولين اكتتبها ولا يمكن أن تملى عليه ، ولا يوجد من يمليها عليه ، وإذا كانوا قد ادعوا أنه تلقاها من بعض الناس فى مكة ، فهو لم يثبت اتصاله به ، ولسانه أعجمى ، وهذا كتاب عربى مبين ، وفوق ذلك ففي القرآن من صادق الأخبار ما لم يكن فى كتب أهل الكتاب المسطورة ، ولا يأتيه الباطل فيما يقول.

٢٤٧

١٣٩ ـ هذه الأخبار عن الماضى يشتمل عليها القرآن الكريم ، وهى فيما احتوت دليل قاطع على أن القرآن من عند الله ، إذ جاء بها أمى لا يقرأ ولا يكتب ، كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٨) [العنكبوت : ٤٨].

وأما الإخبار عن أمور وقعت فى المستقبل كما أخبر القرآن الكريم ، وما كان لأحد أن يعلمها إلا من قبل العليم الحكيم اللطيف الخبير ، الذى لا يغيب عن علمه شىء فى السماء ولا فى الأرض فهو كثير.

ومن ذلك إخبار القرآن عن هزيمة الفرس بعد غلبهم ، فقد قال سبحانه : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ١ ـ ٤].

وقد حدث ما أخبر به القرآن ، فقد دارت رحا الحرب من بعد ذلك وهزم الفرس فى بضع سنين ، وما كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن حضر هذه الحرب ، وعرف سبب الغلب ، وما يتوقع من بعده ، وقد تفاءل المشركون من هزيمة الروم ، وهم أهل كتاب ، وعلو الفرس ، وهم أهل شرك ، وحسبوا من ذلك أن دعوة محمد مآلها الخسران ، وشأنهم فى ذلك هو شأن الذين يبنون علمهم على الأوهام ، وتخيل ما يحبون.

ومن ذلك أيضا ما كان قبيل غزوة بدر الكبرى إذ يقول سبحانه وتعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) [الأنفال : ٧] لقد خرجت قريش بعيرها التى كانت فيها ثروة قريش كلها ، وأراد المؤمنون أن يترصدوها مضايقة للكفار ، وأن يأخذوها نظير ما أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم ، ولكن أبا سفيان التوى عن طريق يثرب ، ونجا بالعير ، وكان قد طلب إلى قريش أن ترسل جيشا يحمى عيرها ، ويغزو موطن الخطر ، فكانت المعركة ، فهم أرادوا ابتداء العير ، وليست ذات الشوكة ، وأراد الله تعالى الجيش ، وكان ذات الشوكة.

وما كانوا يتوقعون النصر على المشركين ، ولكنها حرب الفداء للعقيدة ، لا ينظر فيها إلى الاستيلاء ، بل ينظر فيها إلى الاستشهاد ، ولكن الله تعالى أخبرهم بالنتيجة قبل وقوعها ، فقال تعالت قدرته : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) [القمر : ٤٥] فكان هذا إخبارا بمغيب لم يكن إلا فى علم الله تعالى.

ومن ذلك إخباره عن اليهود بقوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) [البقرة : ٩٦].

٢٤٨

ويقول تعالى عن المشركين أنهم عاجزون عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) [الإسراء : ٨٨] ، وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤].

وهكذا تجد فى القرآن أخبارا عن أمور قابلة ، وتقع كما أخبر ، وصدق فى ذلك كله ، وذلك لا يكون إلا من عند الله ، ولا يمكن أن يكون بالتقدير الشخصى أو الحدسى ، فإن ذلك يصدق أحيانا ، ويكذب أحيانا ، والأمر هنا كله صدق لا تخلف فيه ، وكان دليلا على أنه من عند الله الحليم الخبير اللطيف البصير ، أودعه كتابه الكريم.

٦ ـ جدل القرآن واستدلاله

١٤٠ ـ القرآن كل ما فيه معجز ، فإيجازه معجز ، وإطنابه معجز ، وألفاظه معجزة ، وأساليبه معجزة ، ونغماته ونظمه وفواصله ، كل هذا معجز ، واستدلاله وجدله وبيانه لا يصل إلى درجته نوع من الكلام ، وقد ساق الإمام الباقلانى طائفة من خطب العرب ، وأهل اللسن ، وأهل الإيمان ، طائفة من أبلغها وأقواها ، ووازن بينها وبين إلزام القرآن وإقناعه واستدلاله ، فوجد أن الموازنة غير لائقة بذات القرآن ، والفرق بين القرآن وكلام أعلى أئمة البيان يجعل الموازنة غير مستقيمة ، والفرق بينها وبين القرآن هو كالفرق بين الخالق والمخلوق ، لأنه فرق بين كلام الخالق ، وكلام المخلوق.

ولعله من الخير أن ننقل تلك الخطبة التى اعتبرها الباقلانى من أعلى ما عرف من بليغ القول ، وهى رثاء على بن أبى طالب كرم الله وجه لخليفة رسول الله أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه :

«لما قبض أبو بكر رضى الله تعالى عنه ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاء على باكيا متوجعا ، وهو يقول : اليوم انقطعت خلافة النبوة.

رحمك الله أبا بكر ، كنت إلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنسه وثقته ، وموضع سره ، كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأشدهم يقينا ، وأخوفهم لله ، وأعظمهم غناء فى دين الله ، وأحوطهم على رسول الله ، وأثبتهم على الإسلام ، وأيمنهم على أصحابه ، وأحسنهم صحبة ، وأكثرهم مناقب ، وأفضلهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأقربهم وسيلة ، وأشبههم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سننا وهديا ، ورحمة وفضلا ، وأشرفهم منزلة ، وأكرمهم عليه ، وأوثقهم عنده.

فجزاك الله عن الإسلام ورسوله خيرا ، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر ، صدقت رسول الله حين كذبه الناس ، فسماك فى تنزيله صديقا ، فقال : والذى جاء بالصدق

٢٤٩

وآسيته حين بخلوا ، وقمت معه عند المطاردة حين قعدوا وصحبته فى الشدائد أكرم الصحبة ، ثانى اثنين ، وصاحبه فى الغار ، والمنزل عليه السكينة والوقار ، ورفيقه فى الهجرة ، وخليفته فى دين الله وفى أمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس ، فنهضت حين وهن أصحابك ، وبرزت حين استكانوا ، وقويت حين ضعفوا ، وقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تعتعوا (١) ومضيت بنور إذ وقفوا ، واتبعوك فهدوا ، وكنت أصوبهم منطقا ، وأطولهم صمتا ، وأكثرهم رأيا ، وأشجعهم نفسا ، وأعرفهم بالأمور ، وأشرفهم عملا ، كنت للدين يعسوبا (٢). أولا حين نفر عنه الناس ، وأخيرا حين قفلوا (٣). وكنت للمؤمنين أبا رحيما ، إذ صاروا عليك عيالا ، فحملك أثقال ما ضعفوا عنه ، ورعيت ما أهملوا ، وحفظت ما أضاعوا ، شمرت إذ خنعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا ، وأدركت أوتار ما طلبوا ، وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا ، ونالوا بك ما لم يحسبوا.

وكنت كما ـ قال رسول الله ـ آمن الناس عليه فى صحبتك ، وذات يدك ، وكنت كما قال ضعيفا بدنك ، قويا فى أمر الله ، فمتواضعا فى نفسك ، عظيما عند الله ، جليلا فى أعين الناس ، كبيرا فى أنفسهم.

لم يكن لأحد فيك مغمز ، ولا لأحد مطمع ، ولا لمخلوق عندك هوادة. الضعيف الذليل عندك قوى عزيز حتى تأخذ له حقه ، والقوى العزيز ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق ، القريب والبعيد عندك سواء ، أقرب الناس إليك أطوعهم لله ، شأنك الحق والصدق والرفق ، وقولك حكم وحتم ، وأمرك حلم وحزم ، ورأيك علم وعزم ، فأبلغت وقد نهج السبيل ، وسهل العسير ، وأطفأت النيران ، واعتدل بك الدين ، وقوى الإيمان ، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون ، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا ، وفزت بالخير فوزا عظيما ، فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك فى السماء ، وهدت مصيبتك الأنام ، فإنا لله ، وإنا إليه راجعون ، رضينا عن الله قضاءه ، وسلمنا له أمره ، فو الله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثلك أبدا ، فألحقك الله تعالى بنبيه ، ولا حرمنا أجرك ، ولا أضلنا بعدك.

وسكت الناس ، حتى انقضى كلامه ، ثم بكوا حتى علت أصواتهم.

١٤١ ـ هذه خطبة من عيون البيان العربى ، بل لعلها أبلغ خطبة بعد خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن إن وضعناها بجوار القرآن أفلت ، كما تختفى النجوم إذا طلعت

__________________

(١) التعتعة فى الكلام : التردد من حصر الوعى.

(٢) اليعسوب : الرئيس المقدم.

(٣) رجعوا.

٢٥٠

الشمس ، وأصبحت لا تساوى بجوار القرآن شيئا ، وإن الذين يسيئون إلى كل كلام بليغ مهما تكن درجته هم الذين يضعونه بجوار القرآن ، وأنى يكون كلام بجوار كلام خالق البشر ، وأنى يكون كلام ابن الأرض بجوار كلام الله فى اللوح المحفوظ.

وإننا مهما نحاول تعارف أسرار البلاغة فى القرآن ، فلن نصل إلى كلام محكم ، كمن يحاول معرفة الروح ، فهى من أمر الله تعالى ، نعرف مظاهر الحياة منها ، ولكن لا نعرف كنهها ، فنحن نعلم علو القرآن وإعجازه وامتيازه ، وأنه لا يحاكى ، ولكن لا نستطيع أن نعرف سر هذه الروعة التى يحسها كل قارئ مدرك.

ولعل من التوفيق للباقلانى أن جاء بأبلغ كلام ووضعه بجوار كلامه سبحانه ، فبدا بجواره هزيلا ، مهما تكن درجته فى البيان ، وذلك أمر ظاهر ، لم يجيء الإعجاز بصرف ، ولكن بإدراك المقام البلاغى للقرآن وإن لم يعرف السر كاملا.

ونعود إلى ذات الخطبة نجدها صادقة كل الصدق فى وصف أبى بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنها وصلت إلى أقصى الغاية فى مناقبه ، وفى مقامه من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى مواقفه فى حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومواقفه إذ انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى ، فقد أنقذ الإسلام عند الصدمة الأولى ، وهى حالة الردة.

والخطبة العلوية هذه فيها وصف الحاكم العادل ، كيف يكون رحيما برعيته. مصدر أمن ، لا مصدر إزعاج ، متطامنا لهم ، قريبا من أنفسهم ، لا يطمع القوى فى حيفه ، ولا ييئس الضعيف من عدله.

وقد ذكرنا هذه الخطبة أيضا لنشير إلى الينابيع البيانية التى استقى منها القول فى إعجاز القرآن ، وهو أساس لكل كلام محكم.

ومن معرفة بلاغة القول أن نعرف المواضع التى بنى عليها الاستدلال ، ونحن هنا نريد ابتداء أن نعرف المنهاج القرآنى للاستدلال ، والأصول التى بنى عليها استدلاله فى نظرنا القصير ، وإن كان فى كل ما يتعلق بالبيان عن المثيل ولا يمكن أن يكون له مثيل.

١٤٢ ـ وإن رجال البيان فى بيان مناهج الخطب واستدلالها يتكلمون فى الينابيع التى يستقى منها الخطيب أدلته أو براهينه ، ونحن مع إقرارنا بأن منهاج القرآن أعلى من الخطابة ، كما هو أعلى من الشعر والسجع ، نرى أن نستعير من علماء البلاغة كلاما فى مصادر الاستدلال ، ونريد أن نتعرف المصادر الذاتية التى بنى القرآن الكريم استدلاله عليها ، وإن كان مقامه أعلى وأعظم ، وهو معجز فى ذاته ، وليس ككلام البشر ، وإن بنى على حروف البشر وألفاظهم ، ومن جنس كلامهم.

ويقولون : إن الاستدلال الذى يستمد من مصادر ذاتية ، أى تؤخذ من ذات الموضوع ، وهى أشبه بالبرهان المنطقى ، وإن كانت أعلى ، وهى ستة مواضع أو ينابيع :

٢٥١

أولها التعريف أى معرفة الماهية ، وثانيها التجزئة بذكر أجزاء الموضوع ، وثالثها التعميم ثم التخصيص ، ورابعها العلة والمعلول ، وخامسها المقابلة ، وسادسها التشبيه وضرب الأمثال.

١ ـ الاستدلال بالتعريف :

١٤٣ ـ الاستدلال بالتعريف بأن يؤخذ من ماهية موضوع القول دليل الدعوى بأن يؤخذ مثلا من حقيقة الأصنام دليل على أنها لا تصلح أن تكون معبودا ، ومن بيان صفات الله تعالى دليل على أن يكون وحده المستحق للعبادة ، وإذا كان موضوع القول هو الذات العلية تقدست أسماء الله ، فإنه يكون الاستدلال على ألوهيته سبحانه ، ببيان صفاته ، وخلقه للكون صغيره وكبيره ، ولا تعرف الذات العلية إلا بصفاتها ، ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) (١٠٠) [الأنعام : ٩٥ ـ ١٠٠].

ونجد فى هذا الكلام إثباتا لوحدانيته سبحانه وتعالى ، وأنه وحده المعبود بحق ، وأنه لا إله إلا هو ، وكان طريق الإثبات هو بيان خلقه وتنوعه ، أنه وحده الخالق لكل شىء ، وإذا كان الله تعالى هو الخالق وحده فهو الإله وحده وكان التعريف بالله تعالى هو السبيل لإثبات الربوبية له سبحانه ، وقد عرف سبحانه وتعالى بصفاته وأثره سبحانه فى الوجود ، لأن الله تعالى لا يعرف إلا بصفاته وآثاره فى الخلق والتكوين ، لأن معرفة حقيقة ذاته سبحانه وتعالى غير ممكنة فى هذه الدنيا ، وأن الذى نعرفه أنه سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الحوادث ، فليس كمثله شىء وهو السميع البصير.

ومما يدل على عظمة الخالق ، واستحقاقه للعبودية ، وقدرته على البعث والنشور ، التعريف بالمخلوق ، وخصوصا الإنسان ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ

٢٥٢

الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) (١٧) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٧].

ومن هذا نرى أن التعريف بالإنسان فى خلقه ابتداء دليل على بعثه انتهاء ، ألم تر أن الله سبحانه وتعالى ذكر أنه خلقه علقة ومن العلقة مضغة ومن المضغة عظاما ثم كساها لحما ، ثم أماتها ، ومن الطبيعى أن يكون قادرا على الإحياء ، لأن الإنشاء على غير الله أصعب من الإعادة ولا صعوبة على الله تعالى فى إنشاء ، ولا إعادة.

ومن تعريف بعض المحرمات يستبين تحريمها ، والأمر القاطع بالتحريم ، ومن ذلك قوله تعالى فى تحريم الخمر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٩٢) [المائدة : ٩٠ ـ ٩٢].

ونرى من هذا أن التحريم الثابت بالنص ذكر أوصاف الخمر وبيان ذاتها وما يترتب عليها ، لمعرفة حكمة تحريمها ، فذكر تعريفها بالحد والرسم ، أما التعريف بالحد فبيان ذاتها بأنها مع أخواتها من الميسر ، والذبح على النصب ، هو التعريف بالحد ، وهو ذكر الذات ، بذكر جنسها وفصلها ، وأما ذكر هذا التعريف بالرسم ، فهو ذكر ما يترتب على الشرب من وقوع العداوة والبغضاء والصد عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى ، فهى لهو لتزجية الفراغ بما فيه الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، والانغمار فى اللهو الفاسد.

٢ ـ الاستدلال بالتجزئة

١٤٤ ـ إن تذكر أجزاء الموضوع ، وبتتبعها يكون إثبات الدعوى ، ومن ذلك أن المقرر الثابت بالبديهة الذى لا مجال للريب فيه الحكم بأن الأثر يدل على المؤثر ، وأن الكون يدل على خالقه ، وأن القوى البشرية والعقول المستقيمة تقر بأن الخالق لهذا الكون صغيره وكبيره قوة واحدة ، وهى قوة الله سبحانه وتعالى.

وقد كان القرآن يذكر ذلك فى آياته الحكيمة أحيانا مجزأ وأحيانا غير مجزأ ، ومن الاستدلال بالتجربة قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ

٢٥٣

الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٤). [النمل : ٥٩ ـ ٦٤]

ونرى من هذا كيف كانت التجزئة فى مادة الاستدلال ، وإن لم تكن الأجزاء كلها مستوفاة ، وإنه من منهاج الاستدلال يتبين أن كل جزء يصلح وحده دليلا على أن الله وحده هو المنشئ للكون ، والمدبر له ، والقائم على كل شىء ، ولذلك قرن السياق فى كل جزء نفى أن يكون إله غير الله معه ، سبحانه وتعالى عما يشركون.

ومن التجزئة أيضا فى الاستدلال قوله تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥) [الأنبياء : ٢٩ ـ ٣٥].

ونجد هنا فى هذه الآية الكريمة تجزئة فى الاستدلال بحيث يعتبر كل جزء دليلا قائما بذاته ، ومن مجموعه دليل كلى على أن كل صغير أو كبير من خلق الله تعالى ، وأنها دليل على وجوده سبحانه وتعالى.

٣ ـ التعميم ثم التخصيص :

١٤٥ ـ التعميم أن تذكر قضية عامة ، وتؤدى إلى إثبات الدعوى بإجمالها ، ثم يتعرض المستدل إلى جزئيات القضية ، فيبرهن على أن كل جزئى منها يؤدى إلى إثبات الدعوى المطلوب إثباتها ، أو أنها فى مجموعها تؤدى إلى إثبات الدعوى.

ومما سبق ذكره يتبين صدق الدعاوى العامة التى هى صلب الدين وهى التوحيد ، وأنه تجب إطاعة الرسول ، وأنه لا خضوع إلا لله سبحانه ، ومن ذلك قوله تعالى فى المجاوبة بين موسى وفرعون : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا

٢٥٤

يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٥٥). [طه : ٤٩ ـ ٥٥]

ونرى من هذه القضية العامة الكاملة التى تذكر بجوار الله سبحانه وتعالى وهى التى بها يعرف الله سبحانه وتعالى الذى خلق كل شىء فأحسن خلقه وهو الهادى ، فقال سبحانه كلمة جامعة كاشفة لمعنى الربوبية ، ومع الربوبية العبادة ، وكمال الألوهية ، فقال الله تعالى على لسان موسى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) فهو سبحانه وتعالى مانح كل شىء فى هذا الكون الوجود ، وهو مانح الهداية لمن اهتدى.

ثم أخذ القرآن الكريم بعد هذا التعميم الجامع يبين جزئيات داخلة فى هذا ، وذكر من بعد هذه الجزئيات ما ينبه فرعون وأهل مصر وهم أهل زرع وضرع وختم النص الكريم بما يناسبهم ، وهو نعمة للجميع : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى).

٤ ـ العلة والمعلول :

١٤٦ ـ أساس الاستدلال الربط بين القضايا التى تصور أجزاء الحقائق فى هذا الوجود ، بأن يكون وجود بعض الأشياء علة لوجود شىء آخر ، وبمقدار قوة الارتباط تكون قوة الاستدلال ، وذلك بأن يكون أحدهما علة للآخر ، وإذا وجدت العلة كان المعلول ثمرة لوجودها ، وهما متلازمان من الناحية العقلية ، أو على حسب مجرى الأمور ، وإذا ذكر المعلول ، كان كاشفا لعلته لأن ذكر النتائج مع إحدى المقدمتين للدليل يدل على المقدمة الثانية ، ولأن المقدمات تطوى فيها ، فإذا ذكر تحريم الخمر ، وحاول العقل أن يتعرف سبب التحريم يستطيع تكشفه من أوصاف الخمر ، فإذا عرف الوصف المناسب للتحريم استيقن أنه السبب ، وهو يكون وصفا لا يشاركها فيه غيره من المباحات. وفى القرآن كثير ، يكون فيه التعليل جزءا من الدليل الذى يسوقه القرآن الكريم بتنزيل من العزيز الحكيم ، ولنتل آية إباحة القتال ، فإن فيها السبب الذى يبرره ، والدليل الذى يوجبه ، اتل قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣) [البقرة : ١٩٠ ـ ١٩٣].

٢٥٥

وإننا نجد فى سياق هذا النص القرآنى الكريم أن السبب الذى برر أمر الله تعالى بالقتال أمران : أحدهما الاعتداء ، وثانيهما فتنة المؤمنين فى دينهم فإذا زال الأمران لا يكون ثمة مبرر للقتال ، ثم هذا الاعتداء ، وتلك الفتنة دليل الوجوب ، وكذلك نجد الأمر فى الإذن بالقتال إذ كان دليله والمبرر له هو الاعتداء ولذلك قال الله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٤١) [الحج : ٣٩ ـ ٤١].

ونرى فى هذه الآيات الكريمة أن العلة الموجبة هى الاعتداء وإخراج المؤمنين مفتونين فى أنفسهم وأموالهم ، ثم قامت المعلولات الغائية المترتبة على السكوت ، وعدم دفع المعتدين أن يعم الفساد ويسود الشر ، فلو لا هذا الدفاع لفسدت الأرض ، ولهدمت المعابد ، ولم تقم الشعائر ، فاتخذ من هذه النتائج المترتبة على ترك المشركين يعيثون مبررة لمقاومتهم ، وموجبة لحربهم ، فكان هذا من قبيل الاستدلال بالنتائج وهى الغايات الواقعية دليلا على الوجوب ، وإن هذه الآيات الكريمات صور سامية لما سنه الإسلام من سنة تتفق مع الطبيعة الإنسانية ، وهى إزالة الشر بالعقاب الشديد ومقاومته ، لأن الفضيلة فى الإسلام ليست سلبية ، ولكنها إيجابية. بين سبحانه على السبيل الإيجابى لرد الرذيلة ودفع شرها ومقاومته ، فكان الاعتداء على الفضيلة سببا موجبا للقتال ، والقتال فى سبيلها جهاد مثوب.

٥ ـ المقابلة :

١٤٧ ـ إن المقابلة بين شيئين أو أمرين ، أو شخصين تكون ليعرف أيهما المؤثر فى عمل معين ، وإذا ثبت أن التأثير لواحد منهما كان له فضل التقديم على غيره ، وقد كان ذلك النوع من ينابيع الاستدلال كثيرا فى القرآن الكريم ، لأن المشركين كانوا يعبدون أحجارا يصنعونها أو مخلوقات لله تعالى خلقها ، وكانوا يعتقدون أن لها تأثيرا فى الإيجاد ، أو فى الشر يمنع ، أو الخير يجلب ، فكانت المقابلة بين الذات العلية وبين ما ابتدعوا من عبادة الأوثان ينبوعا للاستدلال على بطلان ما زعموا ، ومن ذلك قوله تعالى :

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨) [النحل : ١٧ ، ١٨].

٢٥٦

هذا هو النص الكريم ، وفيه مقابلة بين المعبود بحق ، وهو الله سبحانه وتعالى خالق السموات ، وهم يؤمنون بأن الله وحده خالق السموات والأرض (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] وهم يعلمون أن الأحجار التى يعبدونها صنعت بأيديهم ولم تخلق شيئا ، فالقرآن من هذه المقابلة يأتى بدليل يلزمهم ويفحمهم أو يقنعهم ، إن استقامت القلوب ، وإن الدليل بالتقابل يصح أن يكون عند ما ادعيت الألوهية للخالق جلت قدرته مع المخلوق المصنوع بأيدى العباد ، وبالمقابلة بينهما نجد الخالق يحتاج إليه كل ما فى الوجود ، والمصنوع بأيدى العباد لا ينفع ولا يضر ، فالله وحده هو الإله الحق الذى لا يعبد سواه ، لأنه لا يحتاج لأحد ويحتاج إليه كل أحد (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) [الإخلاص : ١ ـ ٤].

ومن المقابلة التى كانت ينبوعا للاستدلال قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦) [الرعد : ١٦].

وأن هذا الاستدلال قائم على المقابلة ، فكانت المقابلة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ومن هو القهار القادر على كل شىء وهو الواحد الأحد الذى لا يشبهه أحد ، وكأن المقابلة بين الأعمى والبصير ، ويشمل الأعمى من لا يدرك الحقائق ، والبصير من يدركها ، وبين الظلمة التى تعتم النفس ، والنور الذى يشرق به القلب ، ومن يخلق ومن لا يخلق ، وهذه المقابلات ينابيع الإدراك الموجه المسترشد ، والظلام المعتم المحير.

وإن هذه المقابلات تصلح دليلا مثبتا فى عدة دعاوى ، ويكون فى المقابلات الحكم الفصل الهادى المرشد.

ففي الدعوى الأولى ادعاء المساواة بين من يملك كل شىء ومن لا يملك لنفسه النفع والضر ، والحكم الذى ينتجه الدليل أنهما ليسا متساويين ، وإذا كانت دعوى المساواة فى الألوهية باطلة ، فالحكم بالنفى ، والإله هو الله وحده الذى يملك كل شىء. وفى الدعوى الثانية نفى التسوية بين من أدرك الحق واهتدى ، ومن ضل وغوى ، والأخير كالأعمى ، والأول كالبصير ، فأيهما يهتدى إلى الطريق السوى ، ولا شك أن الحكم أن الخير فى المبصر المهتدى ، وليس فى الضال المرتدى ، فالفضل لأهل التقوى ولو كانوا ضعفاء يستضعفهم الناس.

٢٥٧

وفى الدعوى الثالثة ادعاء الاشتراك فى الخلق والتكوين بالزعم لا بالحقيقة وهذه باطلة بل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار ، وبذلك يتحقق الحكم فيما هو صادق واقع ، لا فيما هو مزعوم مختلق.

ومن المقابلات القرآنية التى دلت على البعث ، وكان فيها رد على أوهام للكافرين فى قوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٤) [الأحقاف : ٣٣ ، ٣٤].

ونرى هنا استدلالا على أن البعث ممكن فى ذاته ، والتصديق به واجب ، لأن الله تعالى أخبر به على لسان نبيه الكريم وفى كتابه المكنون ، إذ جاء به القرآن الكريم ، ودعا إليه محمد الأمين.

وكان الاستدلال بطريق المقابلة ، وكانت المقابلة بين إنشاء الأحياء ابتداء والخلق والتكوين من غير سابق ، وأن القدرة فيه كانت ، ولم يعى بخلقهن ، وبين الإعادة للأجسام التى خلقت ثم صارت رميما ، وأنه إذا كانت قد وجدت ، فالثانية قد تجىء ، وهى تجىء إذ أخبر بها العزيز الحميد ، القادر على كل شىء.

وأنه بهذه المقابلة ، بين الإنشاء والإعادة ، وبين الخلق من غير أصل سابق ، والإعادة ينتهى به ذو العقل الرشيد إلى الحكم بأن البعث ممكن فى ذاته ، وأنه واجب الاعتقاد لأن الله تعالى أخبر به ، (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد : ٥].

ومن الآيات الدالة على أن الله تعالى خالق كل شىء ، واعتمدت الدلالة فيها على المقابلة قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤). [الواقعة : ٥٧ ـ ٧٤]

٢٥٨

ونجد من هذه المقابلات بين إنشاء الخالق وعجز الإنسان ما يدل على أنه هو الذى خلق فهدى ، وأنه العليم بما خلق ، وأنه بهذا المستحق للعبادة وحده ، وأنه ليس كمثله شىء وأنه الواحد الأحد.

٦ ـ الاستدلال بالتشبيه والأمثال :

١٤٨ ـ من ينابيع الاستدلال فى القرآن التى تثبت قدرة الله تعالى ، وصدق ما يطلب الدين الحق ، وما أتى به القرآن ـ التشبيه وضرب الأمثال ، وقد ذكر الله تعالى فى القرآن الكريم أنه يضرب الأمثال ويبين الحقائق عن طريقه ، وضرب الأمثال باب من أبواب التشبيه ، وهى تضرب كما ذكرنا فى باب التشبيه للغائب لتقريب الحقائق ولتشبيه الغائب غير المحسوس بما يقربه من القريب المحسوس ، ولتوضيح المعانى الكلية بالمشاهد الجزئية ، وللاستدلال بحال الحاضر على الغائب.

ومن ذلك قوله تعالى الذى ذكر فيه أن المثل يكون لبيان الحقائق ، سواء أكان بالصغير أم كان بالكبير ، فقد قال تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢٦) [البقرة : ٢٦].

وفى هذا النص يثبت الله تعالى أنه سبحانه يقرب الحقائق الثابتة بالأمثال ، ويأتى بالدليل من بيان الأشياء ، واستخراج خواصها ، والإثبات بالأدلة عن طريقها ، وأن الناس فى تلقى هذه الأدلة فريقان : فريق آتاه الله قلبا نيرا يصغى إلى الحق ، ويأخذ به ، ومنهم من أصاب العناد قلبه ، فإذا قوى الدليل فإنه يزيد إصرارا ، وإمعانا فى الضلال ، فيوغل فيه ، وهذا معنى قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

فهذا النص يفيد أن الله تعالى فى القرآن الكريم يتخذ من الأمثال تبيينا للحقائق ، وتثبيتا ، وإقامة للدليل بها.

واقرأ قوله تعالى فى بيان عجز الأصنام ومن يعبدونها العجز المطلق وقدرته تعالى على كل شىء ، فقد قال تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٧٤) [الحج : ٧٣ ، ٧٤].

انظر إلى الدليل القاطع الذى يثبت بطلان الوثنية ، ويقيم الدليل على الوحدانية ، فإن الأوثان ، ومن يتبعونها ، ولو تضافرت كل القوى معها لا يمكن أن يخلقوا ذبابا

٢٥٩

ذلك الطير الضعيف أو تلك الحشرة الضئيلة التى يستحقرونها ، ولو أن الذباب سلب منهم شيئا ، ولو اجتمعوا مع أوثانهم على أن يستردوه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وهم والذباب سواء فى الضعف وإن بدوا أقوياء ، وهذا أضعف خلق الله تعالى فى زعمهم ، فكيف يكون للذين يدعونهم آلهة قوة أمام الله ، وكيف يعبدونهم معه ، وهم لا وجود لهم ولمن يعبدونهم بجواره سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، فهذا المثل سيق مساق الاستدلال وكان دليلا قويا ، إن كانوا طلاب حق يلتمسون الدليل عليه ، وإن كانوا طلاب باطل ضلوا السبيل ، لا يزيدهم الدليل إلا كفرا.

ومن الأمثلة الموضحة التى تثبت كمال سلطان الله وأنه وحده القادر وبطلان غرور الإنسان إزاء قدرة الله تعالى قوله سبحانه :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤). [الكهف : ٣٢ ـ ٤٤]

وهذا المثل الواقعى التصويرى فيه دليل على إثبات حقيقتين ـ أولاهما أن المغتر دائما يدلى به غروره إلى أنه يحكم على المستقبل بما هو عليه فى الحال القائمة ، والقوة الموهومة ، فذو الجنة والنفر ظن أن الحاضر ينبئ عن المستقبل وغره بالله الغرور ، وتعالى من غير علو ، وتسامى من غير سمو ، واستقوى من غير قوة ، فجاء المستقبل ، وخيب الأمل وكشف الحقيقة.

الحقيقة الثانية إثبات أن الولاية والنصرة لله سبحانه وتعالى ، وأنه وحده المالك للأمور كلها فى ماضيها ومستقبلها وشاهدها ، وغائبها.

فكان المثل دليلا على وباء الغرور ، وأن الأمر لله وحده.

٢٦٠