المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

ونحن نميل إلى أن اتحاد المقاطع فى القرآن لا يعد سجعا ، لأننا نرى السجاعين يتجهون إلى الألفاظ أولا ، وقد يكون سهلا وحلوا ولكن الاتجاه فيه أولا إلى الألفاظ ، وذلك غير لائق بالنسبة للقرآن.

١٢٧ ـ وبذلك يكون الحكم فى أمر اتفق الطرفان المتخاصمان فيه على تقديس القرآن الكريم ، وتنزيهه عن أن يكون مشابها لكلام الناس ، وإن كان من جنسه ، ومكونا من حروفه.

ونختم الكلام بكلام لكاتبين مؤمنين قال أحدهما فى وصف ألفاظ القرآن ونظمه ، وقال الثانى فى فواصله ومقاطعه ، أما الأول فالباقلانى ، فقد قال :

«إن القرآن سهل سبيله ، فهو خارج عن الوحشى المستكره ، والغريب المستنكر ، وعن الصنعة المتكلفة ، وجعله قريبا إلى الأفهام ، يبادر معناه لفظه إلى القلب ، ويساوق المغزى منه عبارته إلى النفس ، وهو مع ذلك ممتنع المطلب عسير المتناول غير مطمع مع قربه فى نفسه ، ولا موهم مع دنوه فى موضعه أن يقدر عليه ، أو أن يظفر به ، فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل ، والقول المسفسف فلا يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة. فيطلب فيه. ولكنه أوضح مناره ، وقرب منهاجه ، وسهل سبيله ، وجعله فى ذلك متشابها متماثلا ، وبين مع ذلك إعجازه فيهم».

أما الثانى فهو الكاتب المؤمن مصطفى صادق الرافعى رحمه‌الله ورضى عنه فهو يقول فى فواصل القرآن ومقاطعه :

ما هذه الفواصل التى تنتهى إليها آيات القرآن؟ ما هى إلا صورة تامة للأبعاد التى تنتهى بها جمل الموسيقى ، وهى متفقة مع آياتها فى قرار الصوت اتفاقا عجيبا ، يلائم الصوت والوجه الذى يساق إليه بما ليس وراءه فى العجب مذهب ، وتراها أكثر ما تنتهى بالنون والميم ، وهما الحرفان الطبيعيان فى الموسيقى نفسها ، أو بالمد ، وهو كذلك طبيعى فى القرآن ... قال بعض العلماء : كثير فى القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين ، والياء والنون ، وحكمة وجودها التمكن من التطريب بذلك ، كما قال سيبويه أنهم (أى العرب) إذا ترنموا يلحقون الألف والياء والنون لأنهم أرادوا مد الصوت ، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا ، وجاء ذلك فى القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع.

فإذا لم تنته بواحدة من هذه (بالميم والنون والمد) كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى كان ذلك متابعة لصوت الجملة ، وتقطيع كلماتها ، ومناسبته للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه ، وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واجده إلا فى

٢٢١

الجمل القصار ، ولا يكون إلا بحرف قوى يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو صروف أخرى من النظم الموسيقى.

وهذه هى طريقة الاستهواء الصوتى فى اللغة ، وأثرها طبيعى فى كل نفس تفهمه ، وكل نفس لا تفهمه ، ثم لا يجد من النصوص على أى حال إلا الإقرار والاستجابة ، ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضربا من الكلام البليغ الذى يطمع فيه أو فى أكثره ، ولما وجد أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية إلى أهل اللغات الأخرى ، ولكنه انفرد بهذا الوجه المعجز ، فتألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره ، أو أقحم معه حرف آخر ، لكان ذلك خللا بينا ، أو ضعفا ظاهرا فى نسق الوزن ، وجرس النغمة ، وفى حس السمع وذوق اللسان ، وفى انسجام العبارة ، وبراعة المخرج ، وتساند الحروف ، وإفضاء بعضها إلى بعض ، ولرأيت لذلك هجنة فى السمع كالذى تنكره من كل مرئى لم تقع أجزاؤه على ترتيبها ، ولم تتفق على طبقاتها ، وخرج بعضها طولا وبعضها عرضا ، وذهب ما بقى منها إلى جهات متناكرة».

وإن هذا الكلام يفيد فائدتين :

إحداهما : أن موسيقى القرآن الكريم ونغماته هى التى استرعت أسماع العرب ، واستهوت نفوسهم ، ورأوا لها حلاوة ، وعليها طلاوة ليست من الشعر ، وإن علت على أعلى ما فيه ، وليست من نوع كلامهم البليغ وإن كانت من جنس كلامهم ، وإن ذلك التأليف فى النغم والجرس مع علو المغزى ، والمعنى ، وإحكام التعبير ، ودقة الإحكام ، لا يمكن أن يصل إليه أحد.

وقد يقول قائل : هل هذه الأنغام المؤتلفة مقصودة فى ذاتها ، وهى الإعجاز؟

فنقول : إننا مهما نحاول فى رد الإعجاز إلى أسباب لا نجد سببا واحدا بذاته هو الذى اختص بالإعجاز ، بل تضافرت فى ذلك الأسباب ، وكل واحد منها يصلح سببا قائما بذاته ، ولكن نؤكد أن جرس المقاطع والحروف والكلمات والجمل ، والفواصل ، وأبعادها ، كل هذا فيه إعجاز للعرب عن أن يأتوا بمثلها.

وإن الدليل على أن جرس الآيات القرآنية بما حوت من حروف وكلمات هو من الإعجاز أن الله تعالى أمر بترتيل القرآن لا بمجرد القراءة ، فقد قال تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) ، وبين سبحانه أن ترتيل القرآن بتعليم من الله تعالى ، فقد قال تعالت كلماته : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) [الفرقان : ٣٢].

٢٢٢

فالله تعالى علم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم أمته ذلك الترتيل ، وليس الترتيل مجرد القراءة ، إنما الترتيل قراءة منغمة تنغيما يظهر التناسق فى الحروف والجمل والآيات ويكشف معانيها ، ونغماتها ، وتلك هى موسيقى القرآن.

الفائدة الثانية : التى يفيدها أن إعجاز القرآن لغير العرب هو بنغمه وجرسه الموسيقى ، فإن الموسيقى لغة الإنسانية ، وتهتز لها كل القلوب ، ونحن نوافقه فى اتجاهه إلى أن القرآن معجز العرب وغيرهم ، ولكن لا نقصر إعجاز غير العرب على الموسيقى وحدها ، بل نقول : إن ذات العبارات ، وشرائعه ، والعلم المبثوث فيه ، وكونه من أمى لا يقرأ ولا يكتب ، وقد نشأ فى بلد أمى ليس فيه معهد ولا مدرسة ـ هذا كله فيه الدلالة على أنه من عند الله تعالى.

٥ ـ الإيجاز والإطناب فى القرآن

١٢٨ ـ إن القسمة العقلية للكلام كثرة وقلة بالنسبة لمعناه تحصره فى أربعة أقسام :

أولها : الإيجاز بأن تكون الألفاظ قليلة والمعانى كثيرة.

وثانيها : التقصير بأن تكون الألفاظ غير كافية للدلالة على المعانى.

وثالثها : الإطناب بأن تكون المعانى كثيرة ، والألفاظ كثيرة لا حشو فيها.

ورابعها : التطويل ، وهو أن تكون الألفاظ كثيرة وفيها ما لا حاجة إليه. وهذه الأقسام الأربعة من الناحية البلاغية متقابلة ، فالإيجاز والتقصير متقابلان ، وأولهما باب من أبواب البلاغة ، وثانيهما عىّ فى القول ، ونقص فى البيان ، والإطناب والتطويل متقابلان ، وأولهما بلاغة وحسن أداء ، وثانيهما عىّ وعيب فى البيان ، يدفع إلى الملل والسآمة ، حتى يتبرم به السامع.

وقد ذكر الرمانى هذه الأقسام المتقابلة ، كل مع ما يقابله ، فقال : «والإيجاز بلاغة والتقصير عىّ ، كما أن الإطناب بلاغة والتطويل عىّ ، والإيجاز لا إخلال فيه بالمعنى المدلول عليه ، وليس كذلك التقصير ، لأنه لا بد فيه من الإخلال ، فأما الإطناب فإنما يكون فى تفصيل المعنى ، وما يتعلق به فى المواضع التى يحسن فيها ذكر التفصيل ، فإن لكل واحد من الإيجاز والإطناب موضعا ، يكون به أولى من الآخر ، لأن الحاجة إليه أشد ، والاهتمام به أعظم ، فأما التطويل ، فعيب وعىّ ؛ لأنه تكلف فيه الكثير فيما يكفى منه القليل ، فكان كالسالك طريقا بعيدا ، جهلا منه بالطريق القريب ، وأما الإطناب فليس كذلك ، لأنه كمن سلك طريقا بعيدا لما فيه من النزهة الكثيرة ،

٢٢٣

والفوائد العظيمة ، فيحصل فى الطريق على غرضه من الفائدة ، على نحو ما يحصل له بالغرض المطلوب.

وإنه يستفاد من هذا الكلام أن الإطناب هو فى زيادة المعانى ، لا فى زيادة الألفاظ ، فإن اللفظ إذا زاد لا يكون الكلام من الإطناب البليغ المستحسن إلا إذا زادت معه المعانى ، وذلك يكون بتفصيل القول ، لا بإجماله ، اقرأ قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) (١٨) [طه : ١٧ ، ١٨] إننا نرى هنا إطنابا حلوا تترطب به الألسنة والأسماع ، كان الإيجاز أن يقول هى عصاى. وبقية المعانى تفهم ، ولكن محبة موسى لربه ، ورغبته فى أن يطيل المحادثة ، صرح بما يفهم ضمنا ، وبما يعلمه الله تعالى من غير بيان.

واقرأ مرة أخرى ما قاله موسى عليه‌السلام عند ما كلفه ربه أن يقوم بحق الرسالة ، فقد قال راغبا فى حديثه مع ربه : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١) [طه : ٢٥ ـ ٤١].

وهنا نجد فى هذا الكلام إطنابا فى خطاب كليم الله تعالى لربه ، فهو لا يكتفى بالملزوم حتى ينطق باللازم ، لأن الخطاب محبب إلى نفسه لأنه يخاطب ربه فيسهب فى القول من غير تزيد.

ثم تجد بعد ذلك فى كلامه إيجازا غير مخل ، قد حذف منه ما صرح به فى آيات أخر من قصة سيدنا موسى مع فرعون ، فذكر أن أخته قالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ، ولم تذكر أنه حرم عليه المراضع ، وقد عرف هذا من الآيات الأخرى ، وفهم من هذه الآية ، إذ إنه لا يمكن أن يكونوا فى حاجة إلى من يكفله لهم ، إلا إذا احتاجوا إلى ذلك ، وحذف من قبل كلام امرأة فرعون ، وقد فهم ضمنا من قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي).

٢٢٤

وذكر هنا قتله نفسا ، وطوى ذكر ما كان منه عند ما بلغ رشده ، ورؤيته رجلا من شيعته يستغيثه فأغاثه وقتل الذى هو من عدوه ، ثم طوى سبحانه وتعالى خبر الائتمار به ليقتله المتآمرون ، ثم خروجه ، والتقاؤه بابنتى شعيب وسقيه لهما ، ومجيء إحداهما تمشى على استحياء ، ثم زواجه ، على أن يكون المهر عمله ثمانى حجج أو عشرا ، ثم إيناسه بالنار ، ثم مكالمة الله تعالى ، وقد ذكر كله فى قوله تعالى : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١) [طه : ٤٠ ، ٤١].

وهكذا نجد أن الإطناب لا يكون بكثرة الألفاظ فقط ، بل بكثرتها مع كثرة المعنى ، والإيجاز لا يكون بكثرة المعانى فقط ، بل لا بد أن يكون فى الألفاظ دلالة واضحة على المعانى الكثيرة ، أو أن تكون هذه المعانى ذكرت فى مقام آخر من القرآن ، فإن القرآن الكريم كل كامل لا تنقص معانيه ، ولا تستغلق على قارئيه ، وقد يحذف القول فى مكان ، لأنه يفهم بدلالة الأولى فى مكان آخر.

وبين أيدينا فى هذا الباب آيات فى الميراث.

لقد قال تعالى فى ميراث الأولاد : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). [النساء : ١١]

ونرى هنا أن النص الكريم ذكر أن ميراث الواحدة إذا انفردت النصف ، وميراث الأكثر من اثنتين الثلثان ، ولم يذكر الميراث إذا كانتا اثنتين فقط ، ولم تزيدا عن اثنتين ، أيكون النصف أم يكون الثلثين؟

لقد تبين ذلك فى ميراث الأخوات ، فقد قال تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦) [النساء : ١٧٦].

وهنا نجد الإيجاز المحكم ، فنجد فى الآية الأولى يحذف ما يفهم بالأولى من الآية الثانية ، ويحذف من الثانية كذلك ، فقد ذكرت الآية حكم ما فوق الاثنتين ، ولم تذكر حكم الاثنتين ، وهو ما بين فى الآية الأخرى لأنها ذكرت أن ميراث البنتين هو الثلثان ، وإذا كانت البنت أقرب إلى الميت من الأخت فيكون ميراث البنتين بدلالة الأولى ، لأنه إذا كانت الأختان وهما أبعد تأخذان الثلثين ، فأولى أن تأخذهما البنتان الاثنتان ، لأنهما أقرب ، فلا يمكن أن يكون نصيبهن أقل من الثلثين.

والآية الأولى نصت على أن الأكثر من بنتين تأخذان الثلثين ، فلا زيادة عن الثلثين ، فالأولى بألا يزيد عن الثلثين نصيب الأكثر من أختين لأن الأكثر من اثنتين من ذوى القرابة القريبة لا يزيد عن الثلثين ، فأولى ألا تزيد عن ذلك ذوات القرابة الأبعد.

٢٢٥

وأمثال ذلك كثير فى القرآن ، ومنه قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) [البقرة : ٢٢٨] وهذه حال المطلقة الحامل وذلك إيجاز لا تفصيل فيه ، وبينت حال الحامل ، فى قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤].

١٢٩ ـ وإن الأمر الذى يجب أن نعرفه ونؤمن به ونؤكده ، وهو الذى يليق ببلاغة القرآن التى لا تسامى ، ولا تناهد ، وتتحدى بها الأجيال كلها ـ فى كل اللغات ـ أن الإيجاز ليس فيه قصور فى الألفاظ بجوار كثرة المعانى ، وليس فيها إبهام أو عدم وضوح ، بل الألفاظ تكون على قدر المعانى مع كثرتها ، فهى واضحة الدلالة ، كما أن المعانى وفيرة غزيرة مغدقة.

وإن الإطناب كذلك ، فإن المعانى تكون كثيرة ، والألفاظ على قدرها لا زيادة فيها بحيث لا يمكن الاستغناء عن بعضها والاكتفاء ببعضها ، بل إنك لو أردت حذف كلمة ، بل حرف من كلمة لأحسست بأنك قطعت جزءا من الصورة البيانية ، فلا تكون الصورة كاملة بدونها ، بل تحس بفراغ فى مكانها لا بد أن يملأ.

وإذا كان الإطناب مع كثرة الألفاظ على قدر المعانى بحيث لا يستغنى بكلمة عن كلمة ، والإيجاز كذلك ، فما الفرق إذن بينهما ، ولم يكن ثمة حاجة لأن يقسم بيان القرآن إلى إيجاز وإطناب ، وقد اتفق علماء البلاغة على أن فى القرآن الكريم النوعين.

وإننا نقول فى الجواب : إن الإيجاز والإطناب طريقان للبيان ، كل منهما واف فى موضعه ، يؤدى الغرض الأول فى موضعه ، وهما يتباينان لا يجمعهما إلا البلاغة البينة الواضحة ، وكل له مقامه.

ولنوضح الفرق بينهما فى الحقيقة ، ثم نوضح الفرق بينهما فى مواضعهما من القرآن الكريم.

فالفرق بينهما فى الحقيقة أن الإيجاز يكون بحذف كلمة دلت القرائن عليها مع الوفاء فى حذفها ، كالوفاء فى ذكرها ، والبلاغة تكون فى الحذف فى مقام البيان إن كانت الدلالة قائمة ، والقرائن مثبتة ، ويكون فى الحذف فائدة لا توجد مع ذكر المحذوف كقول الله تعالى عن قول إخوة يوسف لأبيهم : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢) [يوسف : ٨٢].

وإن القرية وهى مجموع المساكن والطرقات لا تسأل إنما يسأل من فيها ، بل يسأل بعض من فيها ، وذلك دليل على أن المسئول هو البعض ، فهنا إيجاز بالحذف ،

٢٢٦

ولا نقص بذلك الحذف ، بل فيه زيادة معنى ، وهو أن الأمر شائع عام للجميع ، وكأن كل من فى القرية يعرف حتى البنيان ، والمساكن والأسواق ، أى ذلك أمر معروف ، لا موضع للكذب فيه.

وحقيقة الإطناب أن المعانى تكون والألفاظ على قدر واحد فى الكثرة ، والألفاظ بناء متكامل لا ينقص منه لبنة ، ولكن الإطناب يكون متجها إلى تفصيل الألفاظ فى الدلالة ، فلا يستغنى بلازم عن ملزوم ، ولا بملزوم عن لازم ، ولا بعام عن خاص ، ولا بخاص عن عام ، ولا بدلالة الأولى عن نص اللفظ ، ولا بالإشارة عن العبارة ، بل كل ما يقتضيه المقام يجيء فى وضوح كامل ، لا يكتفى فيه بالتضمن ، ولا بالإشارة ولا بالالتزام. ومثال ذلك فى الحسيات ، وإن كان لكلام الله تعالى المثل الأعلى ، أن تطلب من شخص وصف قصر ، فيصف أبعاده ، طوله وعرضه ، وارتفاعه وزيناته ، ثم يصف الغرفات غرفة غرفة ، ودعائم بناء القصر ، ويسترسل فى وصفه كأنك تراه ، وهذا إطناب يكون له مقامه إذا كان لمن يريد شراءه أو سكناه.

وقد يقول فى وصفه أحيانا أنه على أكمل صورة لتصور المترفين طلاء وحلية.

ولا شك أن الأول إطناب لا زيادة فيه ما دام غير قاصد إلا لبيان ما فيه والثانى إيجاز لا قصور فيه.

ولنضرب لذلك مثلا سورة الطلاق التى بينت وقت الطلاق ، وما يكون بعده ، وما يجب للمطلقة ، وما يجب على المطلق ، مع الإيجاز فى بعض الأحكام التى تشمل حال الطلاق وغيره.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ

٢٢٧

أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧) [الطلاق : ١ ـ ٧].

وإنك ترى فى هذا النص الكريم المعانى الكثيرة ، فهى تكاد تشتمل على أحكام المطلقات ، وفيها إشارة إلى بعض أحكام عدة المتوفى عنهن أزواجهن.

وإن الألفاظ ليست قليلة ، ومن المؤكد أنه لا زيادة فيها ، بل تخلل الإيجاز بعضها.

وإن أكثر آيات الأحكام فيها ذلك الإطناب الذى لا تزيد فيه الألفاظ عن المعانى ، لأنها تتعرض لما يكلف الله تعالى عباده ، ولا بد أن يكون ذلك واضحا للمكلف كل الوضوح حتى لا يكون فى ذلك موضع إبهام تكون فيه معذرة للمكلف ، بل إنه بيان الله تعالى الشامل الذى لا إبهام فيه ، ولا مظنة لإبهام ، اقرأ قوله تعالى فى تحريم الخمر ، إذ أطنب سبحانه ، فقد قال تعالت كلماته : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة : ٩٠ ـ ٩٣].

وإننا نرى القرآن الكريم يأتى بالإطناب الذى لا زيادة فيه فى آيات الأحكام كما أشرنا بذلك ، وتلونا من كتاب الله تعالى ، فإنك لا تجد أن حكما أصليا يأتى به القرآن يكتفى فيه بالإشارة عن العبارة ، وباللازم عن الملزوم ، بل كل ذلك صريح فى القرآن الكريم ، ولكن الفقهاء فى استنباطهم كانوا يأخذون أحكاما من إشارات العبارات وكناياتها ، كما رأينا فيما استنبطوه من قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) فإنهم فهموا منه أن الولد لأبيه ، وأن له حق التربية ، وأخذ الفقهاء من إشارات العبارات كثيرا فى أبواب الفقه ، وعد ذلك من بلاغة القرآن الكريم.

وإن أخذ الأحكام بطريق الإشارة دون العبارة لا يمنع أنه لم يكتف بذكر الملزوم فى بيان الحكم الأصلى ، وإن ذلك ثمرات الحكم الأصلى فهمت منه ، وأما الأصل فلم يفهم إلا بالعبارة الواضحة.

هذا ، ومن مواضع الإطناب الواضح فى القرآن الكريم ، القصص القرآنى فى مواضع العبرة ، وتسلية النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان ما نزل بالأنبياء السابقين ، وما لاقوا من أقوامهم ،

٢٢٨

فإن الإطناب فى ذلك يزيد قلب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تثبيتا وأنسا ، وأن القصص فوق ذلك يكون مشتملا على مناقشة الأنبياء السابقين لأقوامهم ، وأدلة التوحيد التى جاءت على ألسنتهم ، وفيه بيان أحوال السابقين ، وما كان يسيطر عليهم وعلى بيئاتهم.

وإنه من مواضع الإطناب الذى لا يكفى فيه الإيجاز بطلان عبادة الأوثان ، ومجادلة المشركين ، ورد مطالبهم من معجزات غير القرآن ، وبينات تثبيت الرسالة سواه ، فإن القرآن مشتمل على الكثير منه.

ومن مواضع الإطناب توجيه النظر إلى الكون ، وما فيه من خلق السموات والأرض وما بينهما ، فإن هذه مواضع تحتاج إلى الإطناب الذى لا تغنى فيه الإشارة عن العبارة ، وفى القرآن الكريم من ذلك ما يدل على عظمة الخالق من مظهر المخلوق ، ودلالة الأثر على المؤثر والموجود على من أنشأه ، والحاضر عن الغائب.

ومن مواضع الإطناب مناقشة أهل الكتاب ، وبيان إنكارهم ، وإثبات ماضيهم الذى امتد فى حاضرهم.

١٣٠ ـ ويجب أن ننبه هنا إلى أن التكرار ليس من الإطناب ، وهو من الحشو إذا كان فى سياق واحد ، فالسياق الواحد لا يتكرر فيه المعنى ، ولا يتكرر فيه اللفظ ، وإذا بدا للقارئ الذى لا يمحص المعانى والحقائق أن فى الكلام القرآنى تكرارا للمعنى ، فإن ذلك عند ذوى الفهم السليم تفكير سقيم ؛ لأن تكرار المعنى له وصف آخر يؤدى فكرة جديدة ، ومن ذلك قوله تعالى فى وصف ميثاق بنى إسرائيل الذى أخذ عليهم وأقروا به ثم أعرضوا عنه ، فقد قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (٨٤) [البقرة : ٨٣ ، ٨٤].

ولقد ادعى بعض الناس أن فى الكلام تكرارا فى المعنى فى موضعين ، وإن كان اللفظ لا يتكرر ، ففي الأول يقول تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) فيدعى بعض الناس أن فى النص الكريم تكرارا ، لأن التولى هو الإعراض ، فما معنى وأنتم معرضون إلا أن يكون تكرارا ، وإن النظر العميق يثبت أولا أن التولى هو الانصراف والبعد بالجسم ، والإعراض هو الانصراف بالقلب ، فأشبه هذا بقوله تعالى : (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) (٨٣) [الإسراء : ٨٣] وفى هذا تصوير حسى للإعراض فهو لم يعرض بالقلب بعدم الإذعان بل قرن المعنى النفسى بالمظهر الحسى ، كذلك هنا قرن الإعراض النفسى بالمعنى الحسى لتصوير الإعراض ـ وجعل الحق وراءهم حسيا ، ثم قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) حال وفيه معنى توليتم إن

٢٢٩

كانت بمعنى الإعراض عامة ؛ وذلك لأن هذه الجملة حالية ، أى أن الإعراض النفسى عن الحق ، وجحودهم حال مستمرة من أحوالهم ، فالحق لا يصل إلى قلوبهم.

والثانى وهو قوله تعالى : (أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) فإن الذين يدعون التكرار فى المعنى يقولون أن الشهادة هنا هى الإقرار ، فما معنى ذكرها بعد الإقرار إلا أن يكون تكرارا؟

ونقول فى الإجابة عن ذلك أن ذكر (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بعد الإقرار ليس تكرارا ، لأن الشهادة هنا ليس معناها الإقرار ؛ لأن الإقرار قد يكون عن أمر مغيب ، وإنما معناها الحضور والرؤية ، والمعنى على ذلك أنكم حضرتم الميثاق وأقررتم على ما فيه ، فهو إقرار موثق لا تستطيعون أن تدعوا الغفلة إذ هو قول وحضور ، فعن أيهما تغفلون.

ومن الآيات القرآنية التى يدعى فيها التكرار بادى الرأى قوله تعالى فى قصة صالح عليه‌السلام مع قومه :

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧٤). [الأعراف : ٧٤]

وقد قالوا أن هنا تكرارا فى المعنى لأن العثى هو الفساد ، فمعنى لا تعثوا لا تفسدوا ، فكلمة مفسدين تكون تأكيدا للمعنى ، والجواب عن ذلك أنه لا تكرار ، لأن النبى الأمين نهى عن الفساد ، وعن القصد إليه ، فكلمة مفسدين تدل مع لا تعثوا على عدم القصد إليه ، ومن جهة أخرى فيها إيماء إلى أن الإفساد وصف لهم ، فعليهم أن يتخلوا عن الوصف ، وهى كذلك تدل على شناعة حالهم ، وفساد جمعهم ، إذ إنه فساد لا صلاح معه ، فهل يقال بعد هذا أن ثمة تكرارا فى المعانى فى أى جملة من آيات كتاب الله تعالى.

وأنه لا يوجد تكرار لفظى فى جملة واحدة ، ولا فى موضع واحد.

وقد ادعى بعض العلماء التكرار فى مواضع فى القرآن وعلله بما لا يتنافى مع إعجاز القرآن الكريم ، بل إنه من دلائل الإعجاز إذ إن تكرار المعنى الواحد بعبارات مختلفة فى مواضع مختلفة مع جمال الألفاظ والجمل فى مواضعها المختلفة ، كأن يكرر المعنى فى قصة فى سور مختلفة ، وكل عبارة معجزة فى ذاتها ، ويتحدى بها فى نغمها وموسيقاها وألفاظها وجملها ، وعجز العرب عن أن يأتوا بأىّ عبارة منها دليل على كمال الإعجاز فى جملته وفى أجزائه.

ونحن نرى أنه لا تكرار فى عبارات القرآن بمعنى أن يكرر المعنى من غير حاجة إليه بل ذكرنا أنه إذا تكرر لفظ أو معنى ، فإنما يكون ذلك لمناسبة جديدة ويكون عدم ذكر ما يدعى فيه التكرار إخلالا ، وذلك مستحيل على كتاب الله تعالى.

٢٣٠

وقد ضربنا على ذلك الأمثلة من قصص القرآن ، ومن أنواع الاستفهام وذلك فى صدر كلامنا فى تصريف القول فى القرآن.

أقسام الإيجاز

١٣١ ـ يقسم الرمانى الإيجاز إلى قسمين : إيجاز حذف ، وإيجاز قصر ، فيقول رضى الله عنه : «الإيجاز على وجهين : حذف وقصر ، والحذف إسقاط كلمة للاجتزاء فيها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام ، والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف. فمن الحذف ، (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ومنه (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) ومنه (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ومنه حذف الأجوبة ، وهو أبلغ من الذكر ، وما جاء منه فى القرآن كثير كقوله جل ثناؤه : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) ومنه قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] ، كأنه قيل حصلوا على النعيم ، وإنما صار الحذف فى مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس فيه تذهب كل مذهب ، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذى تضمنه البيان ، فحذف الجواب فى قولك : «لو رأيت عليا بين الصفين» أبلغ من الذكر لما بيناه».

هذ كلام الرمانى فى الإيجاز بالحذف ، ونلاحظ فى ذلك أمرين :

أولهما : أن الإيجاز هنا نسبى فى جزء من الكلام ، فقد يكون الكلام فى مقام الإطناب ، ولكن فى جزء منه يكون الحذف ، وذلك موجود فى بعض ما ذكره من أمثلة من ذلك قوله تعالى فى آية البر ، فإنها مطنبة بالنسبة لبيان المستحقين للبر ، فقد قال تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧) [البقرة : ١٧٧]

ونرى من هذا أن مجموع الآية فى بيانها لا يعد من قبيل الإيجاز ، بل هو إطناب على المعنى الذى بيناه فى الإطناب.

ولكن ذلك لا يمنع أن فى جزء من الآية الكريمة إيجازا ، وعلى ذلك نقول أن الإيجاز هنا نسبى أو جزئى.

٢٣١

ثانيهما ـ أن الحذف فى ذاته بلاغة إذ إنه يعطى الكلام قوة ، ويثير الخيال ليتصور المحذوف أعلى من المبين ، وقد بين ذلك فى حذف الجواب فى قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣].

ومن ذلك فى معناه الذى يريده قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) (١٦٥) [البقرة : ١٦٥] فإن جواب لو محذوف يلقى الرهبة فى النفوس ، وتذهب فيه العقول كل مذهب وتقدير ، ولم يذكر البلاغة فى إيجاز الحذف فى مثل قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وفى مثل قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) [البقرة : ١٨٩] ، وقد تظهر بلاغة الحذف فى قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) إذ إن فى ذلك إشارة إلى شيوع القول فيها ، وأن القرية كلها تكلمت ، ومثل ذلك قوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) ، أما قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) ، فإن فيه تزكية للمتقين بجعلهم البر ذاته ، وأن نفوسهم علت وزكت قلوبهم حتى صارت هى ، وفى ذلك فوق هذا تصوير للمعنى قائما بالذين يتصفون ، فيكون محسوسا معلوما فيهم.

١٣٢ ـ ويعد الرمانى إيجاز القصر الذى عرفه بأنه بناء الكلام على تقليل الألفاظ ـ ويعده أغمض من إيجاز الحذف لأن الحذف فيه غامض يحتاج إلى العلم بالمواضع التى يطبق فيها ، ويقول : فمن ذلك قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ومنه قوله تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤] ومنه قوله تعالى : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) [الفتح : ٢١] ومنه (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم : ٢٣] وقوله تعالى : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [يونس : ٢٣] ، ومنه (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣] وهذا الضرب من الإيجاز فى القرآن كثير.

وهو المثل الكامل لجوامع الكلم ، وجل كلام الله تعالى عن أن يكون له مثيل ، ونلاحظ أن الأمثلة التى ساقها تتصل بكلام قبلها ، فليست منقطعة ، فهى إما أن تكون حكمة أو أعلى من حكمة أو قضية مستقلة مؤيدة للحكم الذى سبقها ، مبينة حكمته ، كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩) فهى ختام آية القصاص ، التى يقول الله تعالى فيها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩) [البقرة : ١٧٨ ، ١٧٩].

٢٣٢

وترى من هذا أن الآية الكريمة تتميم لآية قبلها ، لأنها بيان للحكمة والمصلحة الكاملة فى القصاص ، ليقدموا عليه غير نافرين لأنه اتقاء لشر مستطير ، وإذا كان القصاص فى ذاته أمرا لا تقبل عليه النفوس ، لأنه قتل أو قطع ، فالمصلحة أعظم من المضرة ، ولا شك أن الألفاظ قصيرة ، والمعانى التى تنطوى تحتها كثيرة ، وخصوصا أن تنكير كلمة «حياة» يدل على تعظيم هذه الحياة التى تترتب على تنفيذ القصاص ؛ لأنها تكون حياة آمنة سعيدة لا مزعجات فيها ، وخصوصا إذا كان مع حق القصاص حق العفو من المجنى عليه فإنه يربى التواد ، ويحل المحبة والمودة محل البغض والعداوة.

والآية الثانية التى ساقها الرمانى هى (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، ونلاحظ أن الرمانى قطعها عن سابقها ولا حقها من لفظ ، إذ الآية هى قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣) [يونس : ٢٣].

ولا شك أن الجملة التى اختاروها من الآية الكريمة فيها إيجاز القصر الذى يعد من أعلى جوامع الكلم ، ولكن يقطعها عما قبلها وما بعدها وما جاءت فيه من أن الظالمين يدعون الله تعالى ضارعين فى حال فزعهم وخوفهم حتى إذا أمنوا بغوا وطغوا. وفى قطع الكلمات عن أخواتها ، قطع للمعنى عما يكنها ويظلها.

وقوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣] هى فى عمومها وشمولها فيها إيجاز قصر ، يمكن أن تكون مثلا عاليا يستشهد به فى القول ، ويصدق على كل خب لئيم ، ولكنه قطع الكلام عما قبله وما بعده ، فالآية الكريمة بهذا النص السامى (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤٣) ، وكنا نود أن يأتى بالمثل الطيب فى بيئته من كلمات سابقة له ولا حقة.

وقوله تعالى : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها* وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ، هو كلام محكم بالغ أعلى ما تصل إليه بلاغة القول ، وهى آية مستقلة ، ولكنها متممة لما قبلها. فهى متممة العطف على قوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الفتح : ٢٠ ، ٢١]

وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم : ٢٣] هى حكمة عالية فى ذاتها ، ولكنها مسبوقة ولها لا حق بها يحدها ، فهى جزء من قوله تعالى : (إن)

٢٣٣

(هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢٣) [النجم : ٢٣] وإن إخراجها عما قبلها وما بعدها يكون إخراجها لها عما يحدد أطرافها.

وقوله تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤] وصف كامل لكل جماعة يغلب عليها الخور والجبن ، ولكنها وصف للمنافقين ، وإخراجها عما جاءت فيه يعمم معناها ، وهى مخصوصة فى السياق.

١٣٣ ـ وننتهى من هذه النظرات إلى الكلمات السامية ، نجدها فى ألفاظها ذات عموم ، ولكن لها فى حيزها خصوص مثل قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) فهى فى حيزها ذات عموم ، لأن كونها حكمة لأحكام مقررة يجعل لها عموما ، ولا يقيدها حيزه ، لأنها منطلقة ، وكذلك مثل قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧] أما الآيات الكريمات الأخرى ، فإنها إذا ذكرت منفردة عن أخواتها كانت مثلا من جوامع الكلم وكان لها العموم ، وإذا أخذت مع أخواتها قيدت.

وعلى أى حال ، فإن إيجاز الحذف فيها ثابت ، ولا مانع من استعمالها كأعلى مثل سائر ، والله أعلم.

وإن الإيجاز بغير حذف كلمات كثيرة فى القرآن لا تكاد تخلو منه سورة ، بل جزء من السورة ، بل صفحة من صفحاته النورانية ، وقد قلبنا بعض صفحات فى القرآن فوجدنا العبارات الآتية ، وكلها فيها إيجاز قصر ، ومن ذلك :

١ ـ قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] فإن هذا النص له معان كثيرة شاملة يطبق فى كل آمر يحبه الإنسان ، وعاقبته وبيئة أو لا يدرى عاقبته ، ولا ما يترتب عليه ، ومثل ذلك قوله تعالى : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩) [النساء : ١٩]

٢ ـ ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة : ٢٥١] فإن هذا النص الكريم يشير إلى المعركة الدائمة بين الخير والشر ، والحق والباطل ، والفضيلة والرذيلة ، وأن سيطرة الرذيلة والشر والباطل فساد فى الأرض ومقاومة الخير للشر دفع للفساد ، وفيه إشارة إلى أن مقاومة الشر بسلاحه من غير انحدار إلى الرذيلة رحمة بالناس. فدفع الشر رحمة ورد الاعتداء ، وفى هذه الآية إشارة إلى نظرية الحرب الفاضلة والسلم الفاضلة.

٢٣٤

٣ ـ وقوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (٥٢) [المؤمنون : ٥٢] فإن هذه الآية تبين وحدة الأمة الإسلامية مع غيرها بأوجز عبارة ، فتشمل الوحدة الأبيض والأسود ، والأحمر والأصفر ، والبادى والحضرى ، وسكان الوبر ، وسكان المدن ، لا تفرقهم الألوان ولا الألسنة ، وأن التقوى يجب أن تكون لباسهم وشعارهم ، وهى التى تعلى ، ومثل ذلك قوله تعالى فى إيجاز : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠].

٤ ـ ومنها قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣] فهى فى إيجازها اعتذار عما كان من امرأة العزيز ليوسف عليه‌السلام وإنها لأحداث كثيرة ، فوق ما فيه من دلالة على معان نفسية تكون فى الوجدان الذى تحكمه شهوات ، الضمير اللائم ، المحاسب الذى يصوره قول الله تعالى : (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).

٥ ـ ومنها قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] فإن هذا النص السامى بكلماته القليلة الموجزة فيه تصوير لحال المشركين الذين ألزمتهم الحجة ولكن لم يذعنوا عصبية وعنادا ، ومحافظة على سيطرتهم الغاشمة.

٦ ـ ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٩٥) [الحجر : ٩٥] وفى هذا النص إيجاز فيه ألفاظ قليلة ومعان كثيرة بمقدار جرائم المشركين فى الاستهزاء بالنبى وأصحابه ، ومضايقتهم فى العبادة ، ومنه الطواف بالبيت ، فقد كانوا كلما لقوهم سخروا منهم ، فمعنى كفيناك المستهزئين عاقبناهم على ما فعلوا فى الماضى ، وخضدنا شوكتهم فى الحاضر ، وشغلناهم فى القابل ، وسلط الله الحق على باطلهم إلى آخر ما نالهم فى الدنيا من خزى وما نالهم فى الآخرة من عذاب.

٧ ـ ومنها قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦) [الإسراء : ١٦] فإن هذا النص قليل الألفاظ فيه معان كثيرة ، لأنه سبحانه يشير إلى أن هلاك الأمم إنما يكون إذا شاع الفساد بين آحادها وإنما يشيع الفساد ممن غلبت أهواؤهم وسيطرت عليهم شهواتهم ، وأن ذلك من الذين نشئوا مترفين لا يرون حق الحياة خالصا إلا لهم ، فيعم الفساد فى الأرض ، وتتقطع الأمة وتتنابز ، وكل ذلك من سيطرة المترفين.

ومن ذلك قوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور : ٢١] ، أى أنه مجزى بعمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ومثله قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (٤٠) [النجم : ٣٩ ، ٤٠] ومثل قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤].

٢٣٥

١٣٤ ـ وإن العرب كانوا يميلون إلى الإيجاز فى القول ، ويعدون الإيجاز بلاغة ؛ وذلك لأنهم لم يكونوا أهل قراءة وكتابة ، بل كانوا أهل بيان باللسان ، وقد صقلت بذلك كلماتهم وهذبت عباراتهم ، وقد قال الجاحظ أن الإيجاز فى القرآن كان عند محاجة العرب الأميين الذين يفهمون القول بالكلمات المشيرة غير المفصلة ، والتفصيل من شأن من يعتمد على الكتاب دون اللسان.

ولقد كانوا يتبارون فى الكلام الذى تدل ألفاظه على معان كثيرة وكانوا يعدون من أبلغ كلامهم قول بعض العرب : «القتل أنفى للقتل» أى من يريد القتل إذا علم أنه سيقتل ، فإنه لا يقتل. ولا شك أن ذلك حق ، وقد اتجه كثيرون من الأدباء والمفسرين إلى الموازنة بين ما يدعونه أبلغ قولهم ، وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) والموضوع أيهما أبلغ وأجمل أداء ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى.

وقد عقد الرمانى فى رسالته موازنة بين الجملتين ، وإن كانت الموازنة ليست بين متماثلين ، بل ليست بين متقاربين ، وإن كان الموضوع متقاربا فقال :

وقد استحسن الناس من الإيجاز قولهم : «القتل أنفى للقتل» وبينه وبين لفظ القرآن تفاوت فى البلاغة والإيجاز وذلك يظهر من أربعة أوجه : أنه أكثر فى الفائدة ، وأوجز فى العبارة ، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة ، وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة ، أما الكثرة فى الفائدة ففيه كل ما فى قولهم : «القتل أنفى للقتل» وزيادة معان حسنة منها إبانة العدل لذكره القصاص ، ومنها إبانة القرب المرغوب فيه لذكره الحياة ، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله تعالى ، وأما الإيجاز فى العبارة فإن الذى هو نظير القتل أنفى للقتل «القصاص حياة» والأول أربعة عشر حرفا والثانى عشرة أحرف وإنما بعده عن الكلفة بالتكرار الذى فيه مشقة على النفس ، فإن فى قولهم القتل أنفى للقتل تكرارا ، غيره أبلغ منه ، ومتى كان التكرار فهو مقصر فى باب البلاغة عن أعلى طبقة ، وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مدرك بالحس وموجود فى اللفظ ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة ، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة ، فاجتماع هذه الأمور التى ذكرناها صار أبلغ وأحسن وإن كان الأول بليغا حسنا».

وهناك وجه لم يذكره الرمانى ، وهو أن كلمة العرب مقصورة على القتل أما كلمة الله تعالى ، فإنها تشتمل القتل والاعتداء على الأطراف ، فتشمل النفس بالنفس والعين بالعين ، والأنف بالأنف والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، بل تشمل أيضا الجروح ، فمعناها أشمل. وأمر آخر لم يذكره الرمانى ، وهو أن كلمة القرآن إيجابية وسلبية معا ، فهى إيجابية فى أنها تبين أن ثمة حياة رافهة هادية أمينة بالقصاص ، وفيها معنى النفى ،

٢٣٦

وهو ألا يكون اعتداء بأى نوع ، أما كلمة العرب فلا تتجاوز المنع ، وهو أن القتل يمنع القتل.

وأيضا فإن كلمة القصاص فيها معنى المساواة بين الجناية وعقوبتها ، «والقتل أنفى للقتل» لا تستدعى بظاهر لفظها أن يكون القتل بالمساواة ، بل لا تمنع أن يكون القتل اعتداء ، والنص القرآنى السامى الذى لا يسامى فوق كل ما يدخل من معان على كلمة القتل أنفى للقتل.

هذا ما بدا لنا من زيادة كلمة القرآن من معان على كلمة العرب ، ولنعد من بعد إلى ما قاله الرمانى فى هذا المقام فهو يقول :

«وظهور إعجازه فى الأمور التى نبينها يكون بإجماع أمور يظهر بها للنفس أن الكلام من البلاغة فى أعلى طبقة ، لإيجازه وحسن رونقه ، وعذوبة لفظه ، وصحة معناه ، كقول على رضى الله عنه : قيمة كل امرئ فيما يحسنه ، فهذا كلام عجيب ، يغنى ظهور حسنه عن وصفه ، فمثل هذه الشذرات لا يظهر بها حكم ، فإذا انتظم الكلام ، حتى يكون كأقصر سورة أو أطول آية ظهر حكم الإعجاز ، كما وقع التحدى فى قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) فبان الإعجاز عند ظهور مقدار السورة».

ومؤدى هذا الكلام أن الإعجاز القرآنى ربما لا يبدو فى الكلمة أو الجملة مقطوعة عن سابقتها ولاحقتها ، ولو كانت الجملة إيجازا إنما يبدو فى السورة أو الطائفة من القرآن ، ونحن نخالف الرمانى فى ذلك ، فإن كلمات القرآن مع أخواتها لها إشعاع من المعانى يثير الخيال والمتأمل فى معانيها ما دامت الجملة مستقلة فى دلالتها ، تأتى بمعان مفيدة ، مثل قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨) [التكوير : ١٨] وكقوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) [الشمس : ١ ـ ٣] فكل جملة من هذه الجمل لا يستطيع أحد أن يأتى بمثلها.

ولقد ختم الرمانى كلامه فى الإيجاز بذكر فضله وخواصه ، فقال رضى الله تعالى عنه :

«وإذا عرفت الإيجاز ومراتبه ، وتأملت ما جاء فى القرآن منه عرفت فضيلته على سائر الكلام ، وهو علوه على غيره من سائر الكلام ، وعلوه على غيره من أنواع البيان ، والإيجاز تهذيب الكلام بما يحسن به البيان ، والإيجاز تصفية الألفاظ من الكدر ، وتخليصها من الدرن ، والإيجاز البيان عن المعنى بأقل ما يمكن من الألفاظ ، والإيجاز إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير ، والإيجاز والإكثار إنما هما فى المعنى الواحد ، وذلك ظاهرة فى جملة العدد وتفصيله كقول القائل أن عنده خمسة وثلاثة واثنين فى موضع عشرة ، وقد يطول الكلام فى البيان عن المعانى المختلفة وهو مع ذلك فى نهاية

٢٣٧

الإيجاز. وإذا كان الإطناب فى منزلة الأمر بحسن أكثر منها ، فالإطناب حينئذ إيجاز كصفة ما يستحقه الله تعالى من الشكر على نعمه فإطناب فيه إيجاز».

وإن الرمانى يتجه بهذا إلى معان ثلاثة :

أولها ـ أنه يصف الإيجاز بأن فيه تصفية للألفاظ من الكدرة ودرن القول وحشوه. وأنه البيان عن المعنى بأقل ألفاظ ، وأن المعنى الكثير يكون فى أقل مقدار من اللفظ ، وأن المتكلم أو الكاتب يجهد فكره عند الاتجاه إلى الإيجاز ليأتى بأوجز لفظ يحمل أكبر معنى ، وقد قال إمام من أئمة عصرنا فى البيان فى كتاب أرسله إلى صديق له وأطنب فيه «اعذرنى فى هذا الإطناب فإنه ليس عندى وقت للإيجاز» لأنه بالنسبة للبشر جميعا ليس سهلا ، لأن الإطناب إرسال الحقائق إرسال ، أما الإيجاز ، فإنه جمع للحقائق فى أقل الألفاظ وأجملها ، وأبعدها عن الكدر والدرن.

ثانيها ـ أن الإطناب نسبى ، فإنه إذا كان المعنى كثيرا واللفظ كثيرا ، فإنه يكون إطنابا ، وإذا كان المعنى الكثير يمكن أن تكون ألفاظه أكثر فإن ذلك يكون إيجازا مسببا.

ثالثها ـ أن كل ألفاظ ذات معان كثيرة ، وقد وضعت على قدرها ، فإن كان الواضح قلة الألفاظ مع كثرة المعنى كان الإيجاز ، وإن كان الواضح الكثرة فى اللفظ والمعنى من غير تزيد ، بل لمقصد ، فهو إطناب.

والقرآن فى حالى الإيجاز والإطناب محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

طوال السور وقصارها

١٣٥ ـ ونحن نتكلم فى الإيجاز والإطناب لا بد أن نمس موضوع السور الطوال والسور القصار. لقد علمت مما قدمناه جمع القرآن فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإعادة جمع ما كان فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مصحف جامع ، وما أعاد به عثمان جمع ما جمع أبو بكر وعمر. ونشر نسخ مما جمع فى الأقاليم للمسلمين.

وقد قررنا فى ذلك أن الإجماع أن السور رتبت بوحى إلهى ، وأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن قرأه على جبريل عليه‌السلام بذلك الترتيب وذلك موضع إجماع ، بل موضع تواتر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن ترتيب السور فى المصحف العثمانى كان بهذا الترتيب الذى نقرؤه.

وأن هذا الترتيب فى آيات السورة الواحدة لم يكن على حسب النزول ، بل كان كما ذكرنا بالوحى فكانت الآية إذا نزلت على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال عليه الصلاة والسلام لكتابه وصحابته : ضعوها فى موضع كذا من سورة كذا ، وكذلك لم يكن ترتيب السور

٢٣٨

فيما بينها تابعا لنزول الوحى ، بل كان بوحى توجيهى لوضع السور فى أماكنها ، فإذا كانت السور الطوال فى هذه المواضع من القرآن ، والسور القصار فى هذا الموضع من الطرف الأخير فيه ، فإن ذلك بتوجيه من الله سبحانه وتعالى.

وكان من المستحسن أن نتكلم فى هذا لا فى مقدار البلاغة فيها ، فالجميع سواء ، ولكن من حيث الحكمة إن أمكن أن يؤدى تطاولنا إلى معنى ندركه ، فكتاب الله فوق طاقتنا فى إدراك مراميه كلها ، لأنها إرادة الله تعالى ، وهى لا تقبل التعليل ، لأنه لا يسأل عما يفعل ، وعباده هم الذين يسألون.

ولكن مع ذلك نحاول أن نتعرف حكمة الله تعالى أو ما نراه من أوصاف للسور الطوال وأخواتها القصار.

إننا نجد فى قصار السور ، وصفين :

أحدهما ـ أن نظم السور القصار كله يكاد يكون على نسق واحد مؤتلف النغم متآخى الألفاظ متلائم فى نظمه ، اقرأ قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥) [الشمس : ١ ـ ١٥].

وإنك لترى النغم متحدا ، والفواصل متحدة ، والتلاؤم بين ألفاظها منهاجه واحد ، وكأنها لقصرها لا تتغير فيها الأنغام ولا مقاطع الكلام.

الثانى ـ من الأوصاف الواضحة فى السور القصار إيجاز القصر فتجد القصة من قصص القرآن تذكر فى كلمات جامعة ويبعد فيها الأسلوب عن الإطناب فى القصة لحالها فى مواضع من القرآن الكريم ، وكلها معجز ببيانه وبلاغته.

اقرأ قوله تعالى : (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) (١٦). [الفجر : ١ ـ ١٦]

٢٣٩

وترى من هذا كيف كان الإيجاز المعجز ، لقد أشار سبحانه وتعالى إلى قصة عاد وثمود وفرعون ، وقد وصف طغيانهم كما وصف قوتهم فى صنائعهم ، وصلابة أرضهم ، وكل ذلك فى إيجاز.

والسور القصيرة كلها فى موضوع واحد ، كما ترى قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣) [الكوثر : كلها].

وكما فى سورة الفيل فى قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (٤) [الفيل : ١ ـ ٤]

وكسورة قريش : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (٤) [قريش : كلها].

وإننا نرى أن الجزء الأخير فى ترتيب القرآن الكريم الذى اختص باشتماله على قصار السور ، والذى يسهل حفظه على الناشئين الذين لا يريدون جمع القرآن فى صدورهم ، قد اشتمل على بيان العقيدة الإسلامية ، وعلى معاندة قريش ، وعلى جهود النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما لاقاه من عنت فى قومه ، وعلى المبادئ الخلقية الإسلامية ، وعلى أن كل مسلم يتحمل البتعة وعلى أصول المبادئ الاجتماعية ، وفيه إجمال كامل لقصص القرآن الكريم.

هذا شأن قصار السور وهى جزء من ثلاثين من القرآن الكريم. أما الطوال والمتوسط والأقرب إلى الطول والأقرب إلى القصر فهو يشمل نحو تسعة وعشرين جزءا من ثلاثين جزءا من القرآن.

وإن السور المدينة أكثرها ليس من القصار ، وهو يشتمل على الأحكام التفصيلية للتكليفات الشرعية ، فسورة البقرة والنساء والمائدة فيها كثير من الأحكام الفقهية سواء أكانت فى الأسرة أم فى المعاملات المالية ، أم فى الزواجر الاجتماعية ، أم فى العلامات الدولية ، وأحكام الجهاد ، وفيها كل ما يتصل بالسلوك الإنسانى الذى فرضه القرآن الكريم وبعض التكليفات المتعلقة بالأسرة أو المعاملات المالية جاء فى السور التى بين القصر والطول كسورة الممتحنة وكسورة الطلاق.

وأن السور الطويلة أو القريبة منها مع أنها ليست مرتبة على حسب النزول بالوحى ، بل هى كما ذكرنا مرتبة بأمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحى عن ربه ، لأن النبى عليه الصلاة والسلام كان يأمر بوضع الآية عند نزول الوحى فى موضعها من السورة التى أمر بوضعها فيها.

٢٤٠