المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

وإن هنا عبارتين ساميتين فيهما كناية واضحة ، وقد علمت أن كنايات القرآن تدل على اللازم والملزوم ، ويقصد بالعبارة الأولى قوله تعالى : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) أنه يراد بها ما تحويه الألفاظ الظاهرة من معان عالية ، وفيها إثبات قدرة الله تعالى بإخراج حبة الخردل من صخرة أو فى السموات أو فى الأرض ، هذا هو ما تدل عليه الألفاظ ، وهناك اللازم لهذا ، وهو إثبات علم الله الذى لا يخفى عليه خافية ، وإثبات قدرة الله تعالى الذى لا يعجز عن شىء فى السماء ولا فى الأرض ، ولازم لهذا اللازم ، وهو البعث والنشور ، لأنه إذا كان سبحانه وتعالى قادرا على أن يأتى بالحبة من الصخرة أو من أى جزء فى السماء أو الأرض ، فهو قادر على إعادة ما خلق ، ويتلاقى ذلك القول الحكيم مع قوله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (٥٢). [الإسراء : ٥٠ ـ ٥٢]

العبارة السامية الثانية حكايته تعالى لقول لقمان : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ) .. إلى قوله تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩) [لقمان : ١٨ ، ١٩] فإن هذه الأوامر يراد منها ما يدل عليه ظاهر الألفاظ من أنه لا يصعر خده للناس بأن يميله عن شكله ، فلا يقبل عليه بكل وجهه ، ومن أنه يقصد فى مشيه فلا يتباطأ ولا يسرع ، بل يسير بتؤدة واطمئنان ، ومن أنه يغضض من صوته ، فلا يتعالى ويتكلم صياحا ، ويراد أيضا معنى لازم لها وهو التضامن والاتصال بالناس برفق ومودة من غير كبرياء ، وألا يغمط الناس حقوقهم ، وألا يبطر نعمة الله تعالى ، وألا يدلى نفسه بغرور ، لأن الغرور مطية الشيطان ، والسبيل إلى العصيان.

١١٨ ـ هذا ، وإن الكنايات فيها الإشارة البيانية التى تكون لوازم للعبارات ، ولقد قسم علماء الأصول دلالة الألفاظ القرآنية إلى دلالة العبارات ، سواء أكانت هذه العبارات تدل بالدلالة الحقيقية من غير تشبيه أو دلالة فيها تشبيه أو فيها مجاز ، بالاستعارة أو غيرها من أنواع المجاز ، وبجوار ذلك دلالة الإشارات ، وهى دلالة اللوازم ، وإنه كلما كانت دلالة اللوازم كانت البلاغة.

ولنقبض قبضة من الآيات التى قال الفقهاء : إن فيها دلالة على الأحكام بالإشارة ، أى بالكناية أو بدلالة الملزوم على اللازم ، وهى تفهم كنتيجة لازمة للعبارة ، وقد قالوا فى تعريفها أن الدلالة بالإشارة هى ما يدل عليه اللفظ بغير العبارة التى تدل عليها الألفاظ ، ولكنه يكون نتيجة لازمة لما تدل عليه ألفاظ العبارة ، ومن ذلك قوله

٢٠١

تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣) [النساء : ٣].

وإن عبارة النص تفيد طلب العدالة مع اليتامى ، وإفادة إباحة تعدد الزوجات مثنى وثلاث ورباع ، وإباحة الدخول بملك اليمين ، هذه أحكام علمت من العبارة نفسها.

وهناك أحكام أخرى فهمت من لوازم العبارة ، وهى الدلالة بالإشارة التى هى ضرب من ضروب الكناية : الأول وجوب العدل مع الزوجة ، وأن الرجل لا يحل له أن يتزوج إذا لم يعدل مع الزوجة ولو واحدة ، إذا تأكد أنه لا يعدل ، والثانى الذى يدل عليه لازم الآيات أن المساواة بين الأزواج فى الأمور الظاهرة ، كالطعام والمسكن ، والكسوة ، والمبيت ، إذا عدّد الأزواج واجبة ، وتدل باللازم أن عليه نفقة زوجته ، وأنه لا يتزوج إلا إذا كان قادرا على إعالة زوجته.

وذكروا من الآيات التى تدل بلازم المعنى فيها آية المداينة ، فقد قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢) [البقرة : ٢٨٢].

وإن الأحكام التى وردت بهذا النص كثيرة ، لا نريد أن نحصيها ولكن ورد فيها أحكام ليست من النص ، ولكنها لازمة للنص ، منها أن المكتوب يكون حجة على من أملاه وخصوصا أنه موثق بالشهادة ، وهو حجة لمن أثبت الاستدلال بالكتابة فى المرافعات ، ويفيد باللزوم بأن السفيه أو الضعيف الذى له ولى مال تكون عبارة الولى المالى عبارته ، ويلتزم بما تثبته.

ويفيد ثالثا بأن شهادة المرأة لا تسمع وحدها ، بل تسمع مع أختها التى تشهد معها ، لأن الله تعالى يقول : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) وذلك يقتضى أن تحضرا معا لتسترشد كل واحدة بالأخرى إن ضلت ، وذلك فهم من مقتضى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، لأنه لا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا اجتمعتا فى

٢٠٢

الأداء ، وسمعت كل واحدة كلام الأخرى ، وذلك بخلاف شهادة الرجل فإنه لا بد أن يسمع كل واحد منهما منفردا ، لكيلا يومئ أحدهما إلى الآخر.

ومن النصوص التى تدل بإشارتها وعبارتها قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة : ٢٣٣].

قد فهمت الأحكام التى ذكرتها الآية الكريمة بالنص ، وفهم بالإشارة معان أخرى تلازم ما نص عليه كنتيجة له ، وما نص عليه فى العبارة هو ملزوم والثانى لازم له.

ومن ذلك أولا : أن المولود ينسب إلى أبيه لا إلى أمه ، لأنه المولود له ، فاللام تفيد ذلك الاختصاص.

وتفيد ثانيا : أن المولود لأبيه له عليه شبه ملكية ، فمال الولد لأبيه عليه نوع ملك فالولد كسب أبيه ، ولقد صرح بذلك النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أنت ومالك لأبيك».

ويفيد ثالثا : أن الأب لا يشاركه فى نفقة ولده أحد وأن الولد لا يشاركه فى نفقة أبيه أحد.

ويفيد رابعا : أن الأصل فى الإرضاع أن يكون على الأم ، ويجوز الاسترضاع باتفاقهما ، وأن أجرة الرضاعة تكون على الأب.

وتفيد خامسا : أن فصل الولد الذى لا إرادة له على الأم فى رضاعته يكون عن تراض منهما وتشاور.

وهكذا نجد أسرار البيان القرآنى تتكشف عن طريق هذه اللوازم التى تجىء تبعا للمنطوق ، وتتفاوت فيها الأحكام من غير أن تكلف الألفاظ من المعانى اللازمة ما لا تطيق بتكليف التأويل ، وتجىء الأسرار القرآنية العالية التى لا تكون إلا لكلام الله سبحانه وتعالى.

ومن الآيات القرآنية التى تدل فيها العبارات على معان من الألفاظ ثم تجىء لازما لها عن طريق الإشارة كما يعبر الأصوليون ، أو الكنايات كما يعبر علماء البلاغة ، قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٣٨] فإن هذا النص الكريم أفاد بالعبارة أن الحكم الإسلامى وإدارة الدولة الإسلامية فى اقتصادها ونظمها ، وإدارتها تقوم على الشورى ، وهذا ما تفيده الآية بالنص.

٢٠٣

وتفيد مع ذلك بطريق الإشارة ، والنتائج التى تكون ثمرة لهذا النص أو طريقا لتنفيذها :

أولا : أنه لا بد أن يكون اختيار الحاكم أو الخليفة برضا المسلمين فلا تصح الخلافة إلا باختيار المسلمين ورضاهم ، ولذلك كانت البيعة فى الإسلام.

وتفيد ثانيا : أنه لا ينفذ حكم أو قانون إلا إذا أقرته جماعة المسلمين ، أو الصفوة المختارة منهم.

وتفيد ثالثا : أنه لا بد من وجود جماعة مختارة من الشعب اختيارا أساسه الحرية والرضا ، يكون عملها مراقبة الحكام ، والنظر بعين فاحصة فى أعمالهم ، وألا يسن قانون إلا برأيهم ، فكل هذه لوازم لتحقيق معنى الشورى وتنفيذه.

وتفيد رابعا : أن الأعمال الفنية كقيادة الحرب والصناعة ، تكون تحت رقابة على القائمين بها من صفوة مختارة منهم ، يكون عملها التوجيه.

وهكذا تثبت هذه الأمور كنتائج لتنفيذ الأمر بالشورى.

وإن دلالة العبارات التى يمكن معرفتها بالسنة واللغة هى المفاتيح لما تومئ إليه ، فلا يمكن أن تعرف أسرار القرآن الكريم إلا إذا عرفت المعانى الأولى ، وإن معرفة ما تومئ إليه ألفاظ القرآن من إشارات لا يكون إلا بعد الدخول إلى الساحة العليا ، والارتفاع بالعقل إلى المدركات الإنسانية ، ولذلك يقول الغزالى رضى الله عنه : «إن معرفة السنة واللغة هى المفتاح الذى يدخل منه العالم إلى علوم القرآن ، وفيه علم كل شىء يتعلق بالشرائع والنفس الإنسانية ، وعلاج أدوائها ، واليوم الآخر ، وما أخبرنا به العزيز الحكيم علام الغيوب».

٤ ـ نظم القرآن وفواصله

١١٩ ـ تكلمنا فى ماضى قولنا فى وصف عام لبلاغة القرآن وتكلمنا فى ألفاظه ، وبينا بشواهد الآيات أن كل كلمة لها صورة بيانية فى السياق الذى سيقت له ، ثم تكلمنا عن الأسلوب ، وذكرنا مستشهدين بالآيات البينات أن كل كلمة لقف مع أختها ، ويتكون من مجموع الكلمات المتلائمة المتآخية صورة كاملة للبيان تعطيك صورة بيانية ، كل كلمة تعطيك جزءا منها ، مع كونها فى ذاتها صورة بيانية وحدها ، وضربنا لك الأمثال.

ثم تكلمنا من بعد على تصريف البيان القرآنى ، فبيّنّا كيف كان التصرف فى الاستدلال على وحدانية الديان ، وبطلان عبادة الأوثان ، وكيف كان التنويع فى البراهين التى يسوقها ، والتى تعلو فى دقة الحكم على الأدلة الخطابية ، وتعلو فى النسق البيانى ، والنغم الموسيقى عن البرهان المنطقى. مع اشتمالها على أدق معناه ، وإن غاير الأشكال.

٢٠٤

وذكرنا الاستدلال على الوحدانية فى سياق القصص والعبرة ، ثم بينّا من بعد ذلك تصريف القول بطريق القصص ، والتصوير القصصى للوقائع حتى كأنك ترى المشاهد ، لأنك تقرأ القصص.

ثم تكلمنا فى الاستفهام القرآنى ، وخضنا فى التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية والإشارة البيانية لمن يغوص فى علوم القرآن الكريم ، ويتعرف أسرار الحقائق التى اشتمل عليها ، سواء أكانت حقائق كونية أو نفسية ، أم كانت تتعلق بنواميس الاجتماع وتربية المجتمعات.

ذكرنا ذلك فى إجمال يشير ولا يحيط ، ويوجز ، ولا يفصل.

ولكن مع ذلك نرى للقرآن صورة هى فى الإعجاز أبعد مما سبق ، ذلك أنك إذا قرأت القرآن مرتلا ، أو كاشفا بالصوت مع الترتيل تحس بأنه ليس من الكلام الذى سمعته وتسمعه وتقرؤه ، وأنك تميز بذوقك القرآن عند سماعه من غيره ، فله نظم يعلو عن كلام البشر ، وله نغم أعلى من أن تسميه موسيقى ، يذوقه كل فاهم ، وإن كان لا يستطيع وصفه ولا تعريفه ، ولا بيان سره ، كما يذوق الذائق طعاما طيبا ، ولا يعرف اسمه ، ولا أرضه ، ولا سر طيبه ، ولكنه يحكم بطيبه وإن كان تفصيل السبب لا يعرف.

وليس ما نقوله هو من قبيل ما فندناه من قبل ، وهو ما سمى بالصرفة ، فإن الصرفة على قول الذين يزعمونها ، عجز عن المحاكاة أو المشابهة بصرف الله تعالى.

إنما الذى نقوله هو أن الإعجاز من خصائص القرآن البيانية وغيرها ، وإن كانت البيانية أظهرها. وهى التى يتحدى الله تعالى بها العرب أن يأتوا بمثلها ولو مفتريات ، فالنظم والنغم ، والفواصل ، وما يشبه الموسيقى ، وإن كان أعلى أوصاف ذاتية ، ولعلنا نتنزل بالقرآن إن سمينا ما نذكر موسيقى ، فروعة القرآن أعلى ، وذلك سبب من أسباب العجز ، وهو غير الصرفة.

لقد وجدنا للقرآن حلاوة فى الألفاظ والأسلوب والفواصل ، وغير الفواصل ـ ليست فى غيره ، وهذا ما سميناه النظم تقريبا للفهم ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى ، وهو ما وصفه الوليد بن المغيرة بقوله :

«إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر».

١٢٠ ـ وبعد هذه التقدمة التى نمهد بها للقول ، نقول : إن نظم القرآن ليس من أى نوع من أنواع النظم الذى عند أهل البيان. فليس نثرا مرسلا. وليس نثرا مصنوعا. وليس نثرا فيه ازدواج. كما أنه ليس نثرا مسجوعا. وليس فيه فواصل تشبه السجع. ولكنه شىء غير هذا ، وغير ذلك.

٢٠٥

ويقول الباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن عن بديع نظمه : إنه بديع النظم عجيب التأليف ، متناه فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عنه والذى أطلقه العلماء هو على هذه الجملة ، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ، ونكشف الجملة التى أطلقوها. ثم يتكلم عن الإعجاز فى النظم فيقول :

«فالذى يشتمل عليه بديع نظمه وجوه :

منها ما يرجع إلى الجملة ، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه. وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم ، وله أسلوب يختص به ، ويتميز فى تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد ، وذلك أن الطرق التى يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالا ، فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعانى المعترضة على وجه بديع ، وترتيب لطيف ، وإن لم يكن معتدلا فى وزنه ، وذلك شبيه بجملة الكلام الذى لا يتعمل فيه ، ولا يتصنع له ، وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه ، ومباين لهذه الطرق ، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع ، ولا فيه شىء منه ، وكذلك ليس من قبيل الشعر ، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ، ومنهم من يدعى أن فيه شعرا كثيرا ، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الوضع.

فهذا إذا تأمله المتأمل ، تبين له بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة ، وأنه معجز ، وهذه خصوصيات ترجع إلى القرآن وتميز حاصل فى جميعه.

وإن الباقلانى لا يكتفى بذكر ما بين أن القرآن ليس على الصفة التى امتاز بها بليغ الكلام عند العرب ، بل هو أعلى من ذلك يأتى بأبلغ الشعر وأبينه وأجود الخطب وأوقعها ، ثم يأتى بأكمل الكتب ، ولا يكتفى بذكر كلام البلغاء ، بل بكلام صاحب جوامع الكلم وهو محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقرر أنه وإن كان فوق أى كلام للبشر ، دون كتاب الله ، المعجز بكل ما اشتمل عليه ، وبكل ما فيه من لفظ ونغم وأسلوب.

ويذكر رضى الله عنه وجها آخر من وجوه الإعجاز فى نظم القرآن وأسلوبه ، فيقول :

«ومنها أنه ليس للعرب كلام يشتمل على هذه الفصاحة والغرابة ، والتصرف البديع ، والمعانى اللطيفة ، والفوائد الغزيرة والحكم الكثيرة ، والتناسب فى البلاغة ، والتشابه فى البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر ، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات محدودة ، وألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة (قليلة أو كثيرة) يقع فيها ما

٢٠٦

نبينه بعد هذا من اختلال ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف ، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز ، والتعسف ، وقد كان القرآن على طوله متناسبا فى الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به ، فقال عز من قائل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الزمر : ٢٣] ، وقوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] فأخبر سبحانه أن كلام الآدمى إن امتد وقع التفاوت ، وبان الاختلال.

وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذى بدأنا ذكره. فتأمل تعرف الفضل.

وفى ذلك معنى ثالث ، وهو أن عجيب نظمه ، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التى يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج ، وحكم وأحكام ، وإعذار وإنذار ، ووعد ووعيد ، وتبشير وتخويف ، وأوصاف وتعليم ، وأخلاق كريمة وشيم رفيعة ، وسير مأثورة ، وغير ذلك من الوجوه التى يشتمل عليها ، وتجد كلام البليغ الكامل ، والشاعر المفلق ، والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور».

ثم يقول رضى الله عنه : «وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التى قدمنا ذكرها على حد واحد فى حسن النظم ، وبديع التأليف والرصف ، لا تفاوت فيه ، ولا انحطاط عن المنزلة العليا ، ولا إسفاف فيه إلى المرتبة الدنيا ، وكذلك قد تأملنا ما تنصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة ، فرأينا الإعجاز فى جميعها ، على حد واحد لا يختلف ، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا بينا ، ويختلف اختلافا كبيرا ، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة ، فرأيناه غير مختلف ، ولا متفاوت ، بل هو نهاية البلاغة ، وغاية البراعة ، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه» (١).

ويذكر الباقلانى أن من دلائل الإعجاز تفاوت كلام البلغاء فى الوصل والفصل والانتقال من معنى إلى غيره ، وتقريب المعانى وتبعيدها ، وأن القرآن ليس فيه ذلك النقص الذى يعرو كلام البشر ، ويختلف قوة وضعفا فى ضم المعانى وتفريقها ، والقرآن فى ذلك النمط المتسق الذى لا يجارى.

١٢١ ـ هذه أمور تقريبية تقرب معنى الإعجاز ولا تحده ، وتذكر بعض الأسباب ولا تتقصاها ، إنه ككل الأمور التى نحس بها ولا نستطيع تعرف دقائق أسرارها ، فهو كتاب الله الذى يعلم السر وأخفى ، ولكنا نقر بالعجز عن الإتيان بمثله لأننا ندرك علوه ،

__________________

(١) إعجاز القرآن للباقلانى.

٢٠٧

ولا نعرف الأسباب التى علت به ، وليس هذا من الصرفة ، كما ذكرنا ، إنما الصرفة أن نعرف قدره وقدرتنا على مثله ، ولكن ننصرف عن ذلك.

وإن القرآن ليس من قبيل ما اصطلح عليه الناس فى علوم البلاغة ، فليس نثرا مرسلا كما ذكرنا ، لأن النثر المرسل ليس له نغم مؤتلف ، وهو فى قدرة كل إنسان بليغ ، وقد تلونا عليك بعض الآيات فى الأحكام الشرعية ، فرأينا ائتلافا فى النغم ، وروعة فى البيان ، لا تجعلانها كلاما مرسلا كسائر الكلام ، فإنك واجد التآخى بين الألفاظ والتناسق فى الأسلوب ، والمعانى التى تتداعى ويأخذ بعضها بحجز بعض ، وكل كلمة تومئ إلى أختها.

ولنضرب مثلا من الكلام الذى ليس فيه ما يشبه السجع ولا القافية ولا الازدواج ولا الشعر ، اقرأ قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٩٨) [الأنعام : ٩٥ ـ ٩٨].

إنك واجد فى كل كلمة مع أختها إشراقا ، وصورا بيانية ، لقد ذكر سبحانه ، كيف يخلق الحب فيكون زرعا ، إذا أتى حصاده أكل منه الإنسان والحيوان ، وازّينت به الأرض ، وأتت من كل زوج ، وغير ذلك من الصور والأحياء ، ثم التعبير بفالق النوى ، وكيف يخرج من النوى الدوحة الباسقة الوارفة الظلال ، والأشجار الدانية القطوف ، واليانعة الثمار ، ثم كيف يعطر الوجود بالرياحين والزهور من هذه النواة اليابسة ، وكيف يخرج سبحانه وتعالى من التراب أحياء ، ومن الحب الجامد والنواة الصلبة غصونا حية ، وزروعا رطبة ، وكيف تدور الحياة إلى موت ، فيخرج الميت من الحى وإن ذلك مرئى ، وإنما ينبت الزرع ويخضر ، ويستوى على سوقه بعد أن يخرج شطأه ، ثم يصير حطاما.

ثم بين سبحانه أن الذى فعل ذلك هو سبحانه فى إشارات بيانية ، فيها استعلاء ، وفيها توجيه بأبلغ ما يكون التوجيه ، ثم كان الختام باستفهام إنكارى وتعجب ، لأن الأمر يستدعى التعجب فى ذاته ، ثم ختم الكلام بختام فيه رنات قوية لائمة فى معناها. ومنبهة للعقول فى نغمها وفى موسيقاها ، ثم جاء بعد البيان عن الأرض وما فيها من زرع وضرع ، وباسقات ـ إلى السماء ، وما فيها من بروج وأفلاك ونجوم وشمس وقمر ،

٢٠٨

وما يصدر عنها من نور وضياء ، وكان الانتقال من الأرض إلى السماء بتقريب فى الألفاظ والمعانى ، فعبّر سبحانه عن خروج النهار من الليل بالفجر الصادق الذى يشق الظلام ، فقال سبحانه ـ فالق الإصباح ـ وفى ذلك مقاربة فى التعبير بين فلق الحب والنوى ، وشق النور فى الظلام ، ثم جعل من بعد ذلك نتيجة لهذا الإصباح أن كان الليل سكنا ، ووجه الأنظار إلى الشمس والقمر ، فجعلهما سبيلا لحسبان الأيام والليالى والشهور ، ثم ختم النص بما يفيد أن ذلك كله من حكمة الله تعالى العلى القدير ، وهنا نجد المعنى واللفظ يختمان بختام من القول يدل على انتهاء هذا الجزء ، ومثله فى ذلك ـ ولكلام الله تعالى المثل الأعلى ـ كمثل من يصور أجزاء كل جزء منه ناطق وحده متميز بوجوده مع الاتصال الوثيق بما يليه ، وقد كانا على مقربة بعضهما من بعض فى نسق بيانى ، لا هو من السجع ، ولا من الإرسال ولا الشعر ، ولكنه فوق ذلك ، وفيه مزايا كل واحد من هذه الأقسام مع الزيادة التى تجعل الكلام لا يطاول بيانا.

وقد ذكر من بعد ذلك زينة السماء إذ قد زينت بالنجوم كالمصابيح للأرض يهتدى بها فى ظلمات البر والبحر ، وفى ذلك إشارة واضحة إلى بيان نعم الله تعالى فى اليابس والماء ، ففي الأرض زروع وثمار ، وحيوان ، قد سخرت لبنى الإنسان ، ومن البحر تستخرج حلية ، وتأكل منه لحما طريا ، وفى السماء يهتدى بالنجوم فى دجنة الليل ، ويسير فى البحر بالجوار المنشئات كأنها الأعلام.

وختمت الآية الكريمة بما يدل على أن إدراك هذه النعم يحتاج إلى علم وإيمان بالحق ، ولا حياة لعلم بغير إيمان بالحق ، ولا حياة لإيمان من غير علم ، فهما متلازمان.

ثم بين سبحانه خلق الإنسان ، وهو كون قائم بذاته فى إدراكه ببصر وبصيرة ، وفى أصل نشأته ما يساوى أصل الوجود كله ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (٢٢). [الذاريات : ٢١ ، ٢٢]

وإن الله ختم الآية الكريمة بما يناسب خلق الإنسان الدقيق الذى لا يدركه إلا نافذ البصيرة ، فقال سبحانه : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) فالفقه هو العلم الدقيق العميق الذى يشق الظلام حتى يصل إلى الحقيقة.

وإننا نجد من هذا أن القرآن لا يمكن أن يوصف بأنه نثر ، ولا بأنه مزدوج له فواصل ، ولا بأنه سجع له قواف ، ولا بأنه شعر ، فليس له أوزان ولا قواف ، بل هو ذو نظم اختص به من كل الكلام.

٢٠٩

ولو حاولنا أن نعرف سر ذلك النغم وتلك الموسيقى ، وذلك التآخى لعجزنا أن نعرفه على وجه التحقيق ، إنما نعرف تأثيره فى نفوسنا إذا تهدت ووصلت إلى ذوق الأسلوب ، وذلك أمر يدرك لذوى الألباب ، ولا يعرف سره.

وإن النظم القرآنى فى تأليفه كله له رنين الموسيقى ، لقد جرى العرب كتابا وشعراء وخطباء على أن يجدوا النغم فى فاصلة سجع أو قافية شعر ، لكن نظم القرآن ونغمه ينبعث من كلماته وحروفه وأسلوبه ، فحروفه متآخية فى كلماته ، لها موسيقى ونغم تهتز لها المشاعر ، وتسكن عندها ، وتطمئن النفوس ، والكلمات فى تآخيها فى العبارات تنتج موسيقى ونغما يختص به القرآن وحده ، وأن أى كلام مهما يكن علو صاحبه فى البيان لا بد أن يكون متخلفا عن القرآن لا يمكن أن يلحق به ، لأنه كلام الله تعالى وفوق طاقة البشر.

ويعجبنى ما كتبه فى هذا الكاتب المؤمن مصطفى صادق الرافعى إذ يقول : «كان العرب يترسلون فى منطقهم كما اتفق لهم ، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت دون تكييف الحروف التى هى مادة الصوت إلى أن يتفق من هذا قطع فى كلامهم تفى بطبيعة الغرض الذى تكون فيه ، أو بما تعمّل لها المتكلم على نمط من النظم الموسيقى إن لم يكن فى الغاية ، ففيه قرب من هذه الغاية».

فلما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه ، فى كلماته ، وكلماته فى جمله ألحانا لغوية رائعة ، كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة ، قراءتها هى توقيعها ، فلم يفتهم هذا المعنى ، وأنه أمر لا قبل لهم به ، وكان ذلك أبين فى عجزهم ، حتى أن من عارضه منهم كمسيلمة جنح فى خرافاته إلى ما حسبه نظما موسيقيا ، وطوى عما وراء ذلك من التصرف فى اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البيانى ، كأنما فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية ، إنما هى فى أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها ، وليس يتفق ذلك فى شىء من كلام العرب إلا أن يكون وزنا من الشعر أو السجع».

التلاؤم

١٢٢ ـ إن المعنى الذى ذكره المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعى هو ما سماه الرمانى بالتلاؤم ، أى تكون نغمات الحروف متلائمة بعضها مع بعض فى الكلمة ، والكلمات يتألف نغمها بعضها مع بعض فى الجمل ، والجمل يتألف بعضها مع بعض فى القول كله ، كما نرى فى القرآن الكريم ، فإن الآية تتضافر ألفاظها فى نغم هادئ إن كانت الآية فى تبشير ، أو داعية إلى التأمل والتفكير إن كانت فى عظة ، وتتلاءم نغماتها قوية إذا كانت فى إنذار ، أو فى وصف عذاب ، اقرأ قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا

٢١٠

بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) (١٠) [الحاقة : ١ ـ ١٠].

إنك ترى فى هذه الآيات الكريمات ، وهى إنذار بما يكون يوم القيامة ، وما يستقبل الذين طغوا فى البلاد ، وأكثروا فيها الفساد ، من عذاب شديد يترقبهم ـ ترى فى النغم قوة شديدة قارعة لأسماع الذين يشركون ، ويكفرون بالله تعالى ، ويفسدون ، ويعتدون ، ويظلمون ـ ويشترك فى نغمة الترهيب الألفاظ بحروفها ، والجمل بكلماتها ، والخواتم بشدة جرسها ، وقرع الأسماع بها.

ثم اقرأ فى سورة الضحى نغمات الرحمة الواسعة ، إذ يقول سبحانه :

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١) [الضحى كلها].

وانظر إلى الآيات الداعية إلى التأمل فى الكون ، وما فيه من أمور هادية تجد فيها النغمات الهادئة اللافتة الموجهة من غير قرع للأسماع ، بل بتوجيه للأفهام ، اقرأ فى سورة الغاشية.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦) [الغاشية : ١٧ ـ ٢٦].

وإنك ترى فى هذا النص المبين أنه قد اجتمع التأمل ذو النغمة الهادئة الموجهة من غير عنف ، فى جرس يسترعى الأسماع ويصرف الأنظار ، واجتمع الإنذار الشديد القوى ، ولم يكن ثمة تنافر بين الإنذار الشديد ، والتأمل السديد ، بل كان الانتقال من مقام إلى مقام لا يبدو فيه التباين ، وإن كان المقام الثانى إنذارا ؛ ذلك لأن الإنذار كالثمرة للتوجيه بالنسبة لمن لم تهده الآيات ، وتوجهه النظرات إلى الكون وما فيه.

وإنك إذ تنظر فى وصف الجحيم تجده فى نغم كأنما يخرج منه ريح السموم ، وإن وصف الجنة تجد فى نغمه أصواتا حلوة كأنها روح وريحان لأنها جنة ، واقرأ بعض السورة التى تلونا منها آنفا ، وصفا للجحيم ووصفا للنعيم ، فإنك واجد لا محالة الفرق

٢١١

فى النغم ، اقرأ قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦). [الغاشية : ١ ـ ١٦]

تجد فى هذه النصوص وصفين لأمرين متباينين ، أولهما وصف الجحيم وأصلها وتجد فيه الألفاظ والمعانى والنغم ، كله يلقى بالألم فى النفس والخوف من العذاب الشديد ، والمصير العتيد. والثانى وصف النعيم وأهله ، وترى فيها الراحة ، والاطمئنان والقرار ، والسعادة ، ويشترك فى هذا ألفاظ وجمل ومعان ، ونغم حتى كأنك ترى لا تسمع.

١٢٣ ـ وإن كان الكلام الذى يتسم بالبلاغة لا بد أن يكون فيه التلاؤم ، والتلاؤم ضد التنافر ، وعرفه الرمانى ، فقال : «التلاؤم نقيض التنافر ، وهو تعديل الحروف فى التأليف ، والتأليف متنافر ، ومتلائم فى الطبقة الوسطى ، ومتلائم فى الطبقة العليا ، ثم يضرب الأمثلة على التنافر الذى هو ضد التلاؤم ، ثم يذكر أن التلاؤم الذى يكون فى الدرجة الوسطى هو التلاؤم الذى يكون فى كلام البلغاء وأهل الفصاحة من الناس ، أما التلاؤم فى الطبقة العليا ، فإنه لا يكون إلا فى القرآن الكريم ، ويقول فى ذلك رضى الله عنه.

«والمتلائم فى الطبقة العليا فى القرآن كله وذلك بين لمن تأمله ، والفرق بينه وبين غيره من الكلام فى تلاؤم الحروف على نحو الفرق بين المتنافر والمتلائم فى الطبقة الوسطى ، وبعض الناس أشد إحساسا بذلك وفطنة له من بعض ، كما أن بعضهم أشد إحساسا بتمييز الموزون فى الشعر من المكسور ، واختلاف الناس فى ذلك من جهة الطباع كاختلافهم فى الصور والأخلاق ، والسبب فى ذلك تعديل الحروف فى التأليف فكلما كان أعدل كان أشد تلاؤما».

ويستفاد من هذا الكلام أنه يرجع السبب فى علو التلاؤم فى القرآن كله إلى التعديل بين الحروف بأن تكون الحروف متلاقية فى النطق ، فليس فيها تباعد فى المخارج شديد ، بحيث يصعب الانتقال من مخرج إلى مخرج ، ولا التقارب الشديد الذى يجعل بعض الحروف يندغم فى بعض.

وإن ذلك ينطبق على النطق ، فالتعديل فى المخارج بالبعد عن الاختلاف الشديد أو القرب الشديد ، إنما هو يتعلق بالنطق وإنك بلا ريب تجد ألفاظ القرآن الكريم وجمله بعيدة عن هذا كل البعد ، بل إنه المثل الأعلى فى ذلك.

٢١٢

وإن التلاؤم فى ألفاظ القرآن الكريم وجمله وآياته ومواضع الوقف فيه ليس فى المخارج فقط ، بل هو فيما هو أعلى من ذلك ، إنما هو فى النغم ، وجرس القول وموسيقاه ، فلا تجد حرفا ينشز فى موسيقاه عن أخيه ، ولا الكلمة عن أختها ، ولا الجملة عن لاحقتها ، والآية كلها تكون مؤتلفة النغم فى الغرض الذى سيقت له ، فإن كان إنذارا كان النغم إرعادا ، وإن كان تبشيرا كان نسيما ، وإن كان عظة كان تنبيها ، وإن كان تفكيرا ، كان توجيها لافتا عما سواه ، وهكذا.

وقد قال الرمانى : «والتلاؤم فى التعديل من غير بعد شديد أو قرب شديد ، وذلك يظهر بسهولته على اللسان ، وحسنه فى الأسماع ، وتقبله فى الطباع ، فإذا انضاف إلى ذلك حسن البيان فى صحة البرهان فى أعلى الطبقات ظهر الإعجاز للجيد الطباع البصير بجواهر الكلام ، كما تظهر له أعلى طبقات الشعر من أدناها إذا تفاوت ما بينها. وقد عم التحدى للجميع لرفع الإشكال ، وجاء على الاعتبار بأنه لا تقع المعارضة لأجل الإعجاز فقال عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) [البقرة : ٢٣] ، ثم قال سبحانه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] ، فقطع بأنهم لن يفعلوا ، وقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] ، ولما تعللوا بالعلم والمعانى التى فيه قال عز من قائل : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] فقد قامت الحجة على العربى والعجمى».

وإن هذا يدل على أن العجز لم يكن لأجل المعانى فقط ، وإن كانت معجزة فى ذاتها ، ولكن التحدى كان بالألفاظ والأساليب ، لأنهم أمة بليغة ولكنها أمية.

وقد أدركوا من أول الأمر ما فى الألفاظ من جمال ، وما فى تأليف القول من نسق وانسجام ، وما فى جرسها من نغم ، ولما تورط بعض منهم فى أن يحاكوا القرآن ، لم يكن اتجاههم إلا إلى النغم أرادوا محاكاته فى نغمه فجاء كلامهم غثا ، ليس فيه نغم ولكن فيه ما يدل على إدراك سقيم.

الفواصل

١٢٤ ـ يعرف الرمانى الفواصل بأنها : حروف متشابكة فى المقاطع توجب حسن إفهام المعانى ، ويقول : «الفواصل بلاغة والأسجاع عيب ؛ وذلك أن الفواصل تابعة للمعانى ، وأما الأسجاع ، فالمعانى تابعة لها ، وهو قلب ما توجبه الحكمة فى الدلالة ، إذ كان الغرض الذى هو حكمة إنما هو الإبانة عن المعانى التى إليها الحاجة ماسة ، فإذا كانت المشاكلة موصلة إليه فهو بلاغة ، وإذا كانت المشاكلة على خلاف ذلك فهو عيب

٢١٣

ولكنة ، لأنه تكلف من غير الوجه الذى توجبه الحكمة ، ومثله مثل من رصع تاجا ، ثم ألبسه زنجيا ساقطا ، أو نظم قلادة ، ثم ألبسها كلبا ، وقبح ذلك وعيبه بين لمن له أدنى فهم ، فمن ذلك ما يحكى عن بعض الكهان : «والأرض والسماء ، والغراب الواقعة بنقعاء ، لقد نفر المجد إلى العشراء» ، وهكذا نجد الرمانى يفرق بين السجع والفاصلة ، بأن الفاصلة بلاغة ، وأن السجع عيب ، وأن الفواصل الألفاظ فيها تتبع المعانى ، والأسجاع الألفاظ فيها مقصودة ، والمعانى تابعة ، ويظهر أنه لم يكن بين يديه إلا سجع الكهان ، ولكن أكلّ السجع كذلك ، وألا يوجد سجع يزيد المعانى قوة ، وتكون فيه المعانى هى المتبوعة ، وليست تابعة ، وأن السجع يزيد المعانى ، ويعطيها قوة ويسهل قبولها ، ويكون بابا من أبواب تأكيدها.

ولذلك خالف الرمانى فى ذلك كلام الذين كتبوا البلاغة من بعد ، وقبل أن نخوض فيما قالوه ، نقرر أن الفرق ، هو بين الفواصل والسجع ، إن الفواصل معناها أن تكون مقاطع الكلام متقاربة فى الحروف كالنون والميم فى قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) ، وأما السجع فهو أن تكون المقاطع متحدة فى الحروف ، ونلاحظ أن الرمانى متأثر فى فكرة السجع بسجع الكهان الذى قصد به اتحاد الحروف من غير نظر إلى المعنى ، ومن غير أن تكون المعانى فى ذاتها ذات قيمة ، بل لا يقصدون ، إلا إلى رص الكلمات متحرين اتحاد المقاطع.

وإنه عند التحقيق نجد أن الفواصل أعم من السجع ، فهى إما سجع تتحد فيه حروف المقاطع ، أو مجرد فواصل تتقارب فيها حروف المقاطع ، وذلك رأى ابن سنان فى كتابه سر الفصاحة (١) فهو يقول : الفواصل على ضربين : ضرب يكون سجعا ، وهو ما تماثلت فيه حروفه فى المقاطع ، وضرب لا يكون سجعا ، وهو ما تقابلت حروفه فى المقاطع ، ولم تتماثل. ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين من أنه يأتى سهلا طوعا وتابعا للمعانى ، وبالضد من ذلك حين يكون متكلفا يتبعه المعنى ، فإن كان من القسم الأول فهو المحمود الدال على الفصاحة ، وحسن البيان ، وإن كان الثانى فهو مذموم.

وإن هذا الكلام معناه أنه ليس فى كل فاصلة تكون الألفاظ تابعة للمعانى ، فيكون الحسن والإفصاح والإحسان ، وليس فى كل سجع تكون المعانى تابعة للألفاظ ، فيكون التكلف ، بل التعميم بالحسن فى غير السجع والقبح فى السجع هو الخطأ ، ولا شك أن فواصل القرآن كلها من البليغ الذى تكون فيه الألفاظ تابعة للمعانى.

وأنه بلا ريب فى القرآن مقاطع تتحد فيها الحروف ، ومقاطع أيضا لا تتحد فيها الحروف ، ولكن تتقارب ، ومن المقاطع التى تتحد فيها الحروف قوله تعالى فى سورة

__________________

(١) سر الفصاحة ص ١٥٦.

٢١٤

الغاشية : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦) [الغاشية : ١ ـ ١٦].

ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٨) [الطور : ١ ـ ٨].

ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٨) [العاديات : ١ ـ ٨].

وهكذا نجد اتحاد حروف المقطع ، فى مقطعين أو أكثر ، ثم تتغير إلى اتجاه المقاطع فى حرف آخر ، ومن القرآن ما تتقارب فيه المقاطع ، مثل قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٦) [ق : ١ ـ ٦].

إننا لا نجد المقاطع متحدة الحروف ، ولكن نجد أمورا ثلاثة :

أولها : تقارب مخارج الحروف فى المقاطع ، فالدال والباء ، والظاء مخارجها واحدة ، والنطق فيها متقارب ، ولا نفرة بينها.

ثانيها : وجود حرف المد قبل الحرف الأخير من كل مقطع ، وهو حرف الياء فى خمسة منها ، وواحد بالواو. والوزن فى الخمس الأول منها هو وزن فعيل.

وبهذين الأمرين كان التقارب فى المقاطع ، تقاربا بينا يجعل نسق القول واحدا ، ولو لم تتحد المقاطع.

والأمر الثالث : هو اتحاد النغم والموسيقى فى كل المقاطع ، فهى كلها مؤتلفة فى حروفها وألفاظها ، وجملها ومقاطعها ، حتى كونت صورة بيانية تجعل كلام الله العزيز فوق كل منال.

٢١٥

وقد يكون الكلام فى القرآن خاليا من المقاطع فى بعض الآيات ، ولا ينزل فى نغمه وموسيقاه عن سمته ومستواه الأعلى ، ومن ذلك قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) [الفتح : ٢٩].

ومن ذلك كثير من آيات الأحكام مثل آية المواريث ، فالله تعالى يقول :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٣) [النساء : ١١ ـ ١٣].

وإننا لا نجد فى هذا الكلام إلا مقطعين لا يعدان فواصل متقاربة ، ولا فواصل متحدة فى آخرها بحروفها ، إنما هو كلام الله المنثور من غير إرسال ، بل النغم متآخ ، والمعانى متلاقية ، والألفاظ متجانسة ، ومتلائمة مع بيان للأحكام ميسرا سهلا ، فلم ينزل ذكر الأرقام بمرتبة الكلام عن حد التلاؤم والتآخى.

أفى القرآن سجع؟

١٢٥ ـ الأمر الذى لا مراء فيه أن القرآن الكريم فيه فواصل قد تتحد فيها حروف المقاطع أحيانا ، وقد تلونا فيما مضى من القول آيات بينات فيها من المقاطع متحدة الحروف ، فهل تعد هذه سجعا؟ اختلفت فى ذلك عبارات كتاب البلاغة فى القديم.

ونجد الرمانى يحكم بأن القرآن فيه فواصل ليست من السجع ، وبذلك يعلو القرآن فى نظره عن أن يكون سجعا ، ويقاربه فى ذلك الرأى أو يوافقه الباقلانى فى كتابه دلائل الاعجاز ، وسنعود إلى الاستدلال لذلك الرأى إن شاء الله تعالى.

٢١٦

ولكن الآن نتكلم فى وجهة نظر الذين أثبتوا أن القرآن فيه سجع وإن كان أعلى مما يستطيعه الناس أو يزاولون.

ومن هؤلاء أبو هلال العسكرى فى كتابه «الصناعتين» فهو يقول :

«وجميع ما فى القرآن مما يجرى على القرآن من التسجيع والازدواج مخالف فى تمكين المعنى وصفاء اللفظ ، وتضمن التلاوة ، لما يجرى مجراه من كلام الخلق ، ألا ترى قوله عز اسمه : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (٥) [العاديات : ١ ـ ٥].

قد بان عن جميع أقسامهم الجارية هذا المجرى من مثل قول الكاهن : «والسماء والأرض ، والقرض والفرض ، والغمر والبرض» ، ومثل هذا من السجع مذموم ، لما فيه من التكلف والتعسف ، ولهذا قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجل الذى سأله : «أندى من لا شرب ولا أكل ، ولا صاح فاستهل ، فمثل ذلك يطل : «أسجعا كسجع الكهان». لأن التكلف فى سجعهم فاش» ، ولو كرهه عليه الصلاة والسلام لكونه سجعا لقال : أسجعا ثم سكت ، وكيف يذمه ويكرهه ، وإذا سلم من التكلف ، وبرئ من التعسف لم يكن فى جميع صنوف الكلام أحسن منه ، وقد جرى عليه من كلامه عليه‌السلام».

ونرى من هذا أن أبا هلال العسكرى يخالف الرمانى فى أن السجع كله مذموم ، بل منه المذموم الذى يظهر فيه التكلف ، ويرهق الألفاظ والمعانى ، حتى يحاول القائل أن يكون كلامه رصا غير متماسك ببلاط من المعانى.

ويرى أنه لا مانع من أن يوصف القرآن بأن فيه سجعا ، ولكنه سجع فى أعلى مراتب الكلام ، بحيث لا يمكن أن يجاريه أحد ، ولا يصل إلى علوه أحد من الخلق.

وابن سنان فى كتابه سر البلاغة يسمى ما فيه المقاطع متحدة سجعا ولكن فى درجة العلو القرآنى الذى لا يستطيع أحد أن ينهد فى كلامه إليه.

ويسوق نصوصا قرآنية يعدها من السجع منه ما تلونا ، ومنه قوله تعالى :

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) (١٢) [الفجر : ١ ـ ١٢].

ويقول ابن سنان أن نغم السجع كان مقصودا ، فقد حذفت الياء فى يسر ، وحذفت الواو ، وذلك صحيح فى اللغة ، ويقول : قصد إليه طلبا للموافقة فى الفواصل.

٢١٧

ويستدل أيضا بقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢) [القمر : ١ ، ٢].

ويتكلم ابن سنان فى البواعث التى بعثت الذين ينكرون أن يكون فى القرآن سجع ، فيحمد تلك البواعث مع الإصرار على المخالفة فيقول : وأظن أن الذى دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما فى القرآن فواصل ، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعا ، رغبة فى تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروى عن الكهنة وغيرهم ، وهذا غرض فى التسمية قريب ، فأما الحقيقة فما ذكرناه ، لأنه لا فرق بين مشاركة بعض القرآن لغيره فى كونه مسجوعا ، وبين مشاركة جميعه فى كونه عرضا وصوتا وكلاما عربيا مؤلفا ، وهذا مما لا يخفى ، فيحتاج إلى زيادة فى البيان ، ولا فرق بين الفواصل التى تتماثل حروفها فى المقاطع وبين السجع.

ويقول فارضا اعتراضا ، ورادّا عليه ، فإذا قال قائل : «إذا كان عندكم أن السجع محمود ، فهلا ورد القرآن كله مسجوعا ، وما الوجه فى ورود بعضه غير مسجوع؟ قيل : إن القرآن أنزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعادتهم ، وكان الفصيح من كلامهم لا يكون كله مسجوعا لما فى ذلك من أمارات التكلف والاستكراه ، والتصنع ، ولا سيما فيما يطول من الكلام ، فلم يرد مسجوعا ، جريا على عرفهم فى الطبقة العالية من الكلام ، ولم يخل من السجع ، لأنه يحسن فى بعض الكلام على الصفة التى قدمناها ، وعليها ورد فى فصيح كلامهم ، فلم يجز أن يكون عاليا فى الفصاحة ، وقد أخل فيه شرط من شروطها ، وهذا هو السبب ، فأورد القرآن مسجوعا ، وغير مسجوع».

ونحن لا نفرض احتمال التكلف فى القرآن قط ، لأنه من عند الله تعالى. ولكن نقول هكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون هكذا كتابه ، وإذا أردنا أن نلتمس حكمة لذلك ، فهى فيما قال سبحانه : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [الكهف : ٥٤] فتصريف القول فى القرآن ، كان من جماله الذى يعلو على كل البشر بأن يكون تصريف القول فيه بسجع أحيانا إن ارتضينا مذهب السجع ، أو الفواصل المتقاربة حروفها فى المقاطع أحيانا أو إطلاق الألفاظ فى القرآن ، من غير مقاطع ، مع ملاحظة أن ذلك كله فى أعلى درجات البلاغة التى لا يصل إليها أحد من البشر.

وابن الأثير فى كتابه المثل السائر يستنكر قول الذين يذمون السجع ، ويستنكر قول الذين لا يسمون ما فى القرآن من اتحاد المقاطع فى الحروف سجعا ، ويقول فى ذلك :

«وقد ذمه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة ، ولا أرى لذلك وجها سوى عجزهم أن يأتوا به ، وإلا فلو كان مذموما لما ورد فى القرآن الكريم ، فإنه قد أتى منه

٢١٨

بالكثير ، حتى إنه ليؤتى بالسورة جميعها مسجوعة كسورة الرحمن ، وسورة القمر وغيرهما ، وبالجملة فلم يخل منه سورة».

وترى أنه يستحسن السجع ، ويرمى الذين لا يستحسنونه بأنهم لا يجيدونه ، ونقول أنه لا يمكن أن يكون حسنا فى كل الأحوال ، فمثلا بيان الأحكام الشرعية فى أى كلام بليغ لا يصح أن يكون سجعا ، ولكل مقام مقال كما يذكر علماء البلاغة.

وخلاصة ما يقرره المثبتون للسجع فى القرآن أنهم يعتمدون على ما يتلونه من اتحاد الحروف فى مقاطع القرآن ، ويقررون مع ذلك أن سجع القرآن أعلى من كلام البشر ، فليس على شاكلة مثله فى كلام الناس ، لأنه أعلى من كلام الناس.

١٢٦ ـ من هذه النقول التى نقلناها نجد الذين يقررون أن فى القرآن سجعا يعتمدون :

أولا ـ على نصوص القرآن التى ثبت فيها أن الفواصل المتحدة فى الحروف كثيرة فى القرآن.

وثانيا ـ على أن السجع ليس عيبا فى القول ، ولكنه من محسنات القول ، وقد وقع كثيرا فى كلام العرب الجيد ، وأنه لم يكن سجع الكهان هو السائد فقط ، بل كان من بلغاء العرب من اتجه إلى السجع البليغ ، فقد روى عن أبى طالب عم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لسيف بن ذى يزن :

«أنبتك الله منبتا طابت أرومته ، وعزت جرثومته ، وثبت أصله ، وبسق فرعه ، ونبت زرعه فى أكرم موطن ، وأطيب معدن».

وإن الذين نفوا السجع من القرآن قالوا إنه مذموم ، وعلى رأسهم الرمانى ، وجاء من بعده أبو بكر الباقلانى ، فنهج ذلك المنهج وسار على ذلك الخط ، ونسبه إلى الأشاعرة ، فقال :

«ذهب أصحابنا كلهم إلى نفى السجع فى القرآن وذكره الشيخ أبو الحسن الأشعرى فى غير موضع من كتبه».

وإذا كان الذين ردوا على الرمانى قد بينوا أن السجع ليس مذموما على إطلاقه ، إنما المذموم منه سجع الكهان ، وما كان فيه اللفظ هو المقصود ، والمعنى تابع له.

وقد أنكر الباقلانى أن يكون فى القرآن سجع ، وما ادعوه من سجع فيه وساقوه ، هو وهم لا أساس له فقال :

«والذين يقدرون أنه سجع هو وهم ، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع ، وإن لم يكن سجعا ، لأن ما يكون به الكلام سجعا ، يختص ببعض الوجوه دون بعض ،

٢١٩

لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذى يؤدى السجع ، وليس كذلك ما اتفق مما هو فى تقدير السجع من القرآن لأن اللفظ لا يقع فيه تابعا للمعنى ، وفصل بين أن ينتظم الكلام فى نفسه بألفاظه التى تؤدى المعنى المقصود فيه ، وبين أن يكون السجع منتظما دون اللفظ ، ومتى ارتبط المعنى بالسجع ، كانت إفادة السجع كإفادة غيره ، ومتى انتظم المعنى نفسه دون السجع كان مستجلبا لتحسين الكلام دون ضجيج».

وإننا هنا نجد افتراقا بين الباقلانى وابن الأثير وابن سنان وأبى هلال العسكرى فى تعريف السجع ، فأولئك يعتبرون السجع ما اتحدت فيه ألفاظ المقاطع ، سواء أكان المعنى هو المقصود ، وجاء الاتحاد تحسينا للقول ، أم كان المقصد هو اللفظ واتحاد ألفاظ المقاطع هو المقصود ، وفى الأول يكون السجع محمودا ، وفى الثانى لا يكون لائقا بمقام القرآن الكريم.

أما الباقلانى وسائر الأشاعرة ، ومن سلك طريقتهم ، فإنهم لا يذكرون السجع إلا فى الصورة التى يكون فيها اللفظ مقدما على المعنى.

وإن الذى دفع الباقلانى إلى هذا هو تشبيه السجع بالشعر ، فالشعر تقصد فيه القوافى والمقاطع المتحدة فى الألفاظ ثم تكيف المعانى على الألفاظ ليستقيم المقطع ، كما تستقيم القافية ، وإذا كان الشعر منفيا فى القرآن بالاتفاق فكذلك السجع الذى ينهج منهجه ، ويتبع طريقته ، وتجىء المعانى تابعة للألفاظ مكيفة بكيفها ، مأخوذة بطريقها ، وإن الله تعالى عند ما استنكر أن يكون قول شاعر ولا كاهن ، أدخل السجع فى النفى ، وهو السجع الذى يكون فيه المقصد الأول للفظ.

إنه إذا كانت الفكرة نفيا أو إثباتا قائمة على الاختلاف فى الاصطلاح فإنه قد زال الخلاف ، إذ لا مشاحة فى الاصطلاح.

وبذلك ننتهى إلى الاتفاق على أن القرآن فيه فواصل تتحد فيها المقاطع ولعلوها وسموها فى البلاغة كانت المعانى هى المقصد الأول ، وجاءت الألفاظ بجمالها وإشراقها وحسن نغمها ، ورنة موسيقاها تابعة لذلك ، وقد يكون اتحاد المقاطع فى الحروف من مظاهر الجمال وحسن النغم ، وانسجام الموسيقى ، وفى ذلك قوة التأثير ، بما لا يستطيع أحد أن يأتى بمثله.

وعلى ذلك نقول أن من يفسر السجع بأن الاتحاد فى حروف المقاطع من غير أن يكون المعنى تابعا للفظ يحكم بأن القرآن الكريم فيه سجع فوق قدرة البشر أن يأتوا بمثله ، ومن يقول أن السجع كالشعر يكون المعنى فيه تابعا للقافية والأوزان يكون القرآن الكريم منزها عنه.

٢٢٠