المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

عطشان صاديا ، حتى إذا أجهدته المشقة وبعد الشقة لا يجد شيئا ، والثانى يعطى صورة لشخص كانت عليه الظلمات توضع واحدة فوق واحدة ، وإذا كانت فيها فرجة يرجو منها الرؤية لا يصل إليه النور للسحاب الذى كأنه الغمة ، ومن تشبيه الأمر غير المحسوس بالأمر المحسوس ، كالمثل السابق فى قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٨) [إبراهيم : ١٨].

ويقول الرمانى فى التعليق على التشبيه : «فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة ، فقد اجتمع المشبه والمشبه به فى الهلاك وعدم الانتفاع ، والعجز من الاستدراك لما فات ، وفى ذلك الحسرة العظيمة والموعظة البليغة» هذا كلام الرمانى ، وهو صدق ، وإنى أذوق من التشبيه شيئا بيانيا آخر ، ذلك أن أولئك الكافرين كانوا يحسبون أن أعمالهم لها أثر فى الوجود فى زعمهم ، ويتوهمون وقوع ذلك وأنهم قدموا ، ولكنهم يفاجئون بريح شديدة فى يوم عاصف ، تبدد ما كانوا عليه من أحلام ، كانوا يتوهمون أن ما لهم فى الدنيا ينفعهم ، فلما جاء يوم القيامة بددت أحلامهم ، فتقدموا عاطلين فى حلبة العمل الطيب ، وكان ذلك هو الضلال البعيد ، لأنهم زعموا باطلا ، ثم رأوا الحقيقة عيانا ، وفى ضمن القول عبر عن عملهم بأنه سراب ، أى أنه شىء ليست له قيمة ذاتية بل هو هباء فى ذاته.

١٠٧ ـ وقد جاء الرمانى بمثل فيه تشبيه ما لم تجر به العادة بما تجرى به العادة ، وهو قوله تعالى فى توثيق الميثاق على بنى إسرائيل : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١) [الأعراف : ١٧١] ، ويقول فى ذلك الرمانى : «وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به العادة ، وقد اجتمعا فى معنى الارتفاع فى الصورة ، وفيه أعظم الآيات لمن فكر فى مقدورات الله تعالى عند مشاهدته لذلك أو علمه به ، ليطلب الخير من قبله ، ونيل المنافع بطاعته».

هذا ما ذكره الرمانى فى معنى التشبيه. وهو تشبيه ما لم تجر به العادة ، إلى ما جرت به العادة ، كأن التشبيه كان لغرض تقريب المعنى ، وتصوير الغريب كأنه قريب ، وذلك فى تشبيه الجبل مرتفعا كأنه ظلة ، وهذا المعنى فى ذاته صحيح ولكنه فيما أعتقد ، لا يصور معنى التشبيه من كل الوجوه ، لأن رفع الجبل كان لتوثيق الميثاق عليهم ، وحملهم على الأخذ به وإثبات قدرة الله تعالى ، وإلقاء المهابة فى قلوبهم ، فالتشبيه بالظلة للدلالة على الإحاطة ، وتصويره لهم كأنه نازل بهم واقع عليهم ، ليعرفوا أن ميثاق الله له رهبته وأن عليهم طاعته ، ولذلك قال سبحانه بعد أن رأوا الجبل مرفوعا

١٨١

عليهم وأنه محيط بهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) ـ أى بعزم شديد ـ (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

ومن هذا النوع الذى ذكره الرمانى قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤) [يونس : ٢٤].

وقد أخرج الرمانى التشبيه كالآية السابقة فى نظره ، فقال : «قد أخرج ما لم تجر به العادة ، إلى ما جرت به العادة ، وقد اجتمع المشبه والمشبه به فى الزينة والبهجة ، ثم الهلاك بعده ، وفى ذلك العبرة لمن اعتبر ، والموعظة لمن تفكر فى أن كل فان حقير ، وإن طالت مدته ، وصغير ، وإن كبر قدره».

وما ذكره الرمانى حق فى إيجازه ، ولكنه ناقص ، ونوضحه بعض التوضيح فنقول : إن التشبيه تصوير للحياة ، فإن مثلها فى بهجتها ومسراتها ، وهناءتها والسعادة فيها مهما تبلغ من المظهر البهى ، والزينة الباهرة ليس لها بقاء ، وإنما مآلها إلى الفناء ، كمثل الماء ينزل من السماء فينبت النبات الذى يأكل منه الناس مستمتعين ، والأنعام والدواب ، وأنه إذ يبلغ أقصى زخرفه ونضرته ومتعته ، وامتلاء أهل الأرض بالغرور ، وظنوا أن كل شىء فى قبضة أيديهم جاءهم أمر الله ، فصار النبات هشيما ، والإنسان رميما كأن لم يغن أحد بالأمس.

وإن ما ذكره الرمانى صادق فى إيجازه ، ولكنه لا يصور الصورة التى يدل عليها التشبيه ، وهو يريك الحياة كالعروس فى جلوتها ، ثم كالهشيم فى صغاره.

ومن التشبيهات التى ساقها الرمانى قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢٠). [القمر : ١٩ ، ٢٠]

ويقول الرمانى فى بيان وجه التشبيه : «وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به عادة ، وقد اجتمعا فى قلع الريح لهما وإهلاكه إياهما وفى ذلك توحد الآية الدالة على عظم القدرة ، والتخويف من تعجيل العقوبة».

وإن هذا القدر الذى ذكره الرمانى متحقق ، ولكن لا يمكن أن يكون وجه التشبيه هو تشبيه ما لم تجر العادة به بما جرت به العادة فقط ، إنما الألفاظ والأسلوب ، وما يثيره من صور بيانية تعلو به عن أن يكون لمجرد إثبات ما لا تجرى به العادة إلى ما تجرى. إنما المقصود من التشبيه فيما نحسب تصوير عذاب الله تعالى ، فالله تعالى

١٨٢

أرسل عليهم ريحا شديدة البرد ، فى يوم كله بأس وشدة ، وهو كالنحس عليهم ، طويل فى آلامه ، ومستمر فيها ولو كان الزمن قصيرا ، ثم يصور الله تعالى نزع المشركين من غرورهم واعتزازهم بمالهم وطغوائهم ، وينزعون بعنف شديد لا يقوون فيه على الامتناع ولا الإصرار على البقاء ، كما تنزع مؤخرات وجذور نخل غاصت فى أعماق الأرض.

هذا بريق التشبيه المرعد الذى يصور ما ينزل بالمشركين الذين طغوا فى البلاد وأكثروا فيها الفساد.

ومن التشبيهات التى ذكرها الرمانى على أنها تقرب ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة ، قوله تعالت كلماته : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٣٧) [الرحمن : ٣٧]

وقال فى التشبيه : قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما قد جرت به عادة وقد اجتمعا فى الحمرة وفى لين الجواهر السيالة ، وفى ذلك الدلائل على عظم الشأن ونفوذ السلطان لتنصرف الهمم إلى ما هناك بالأمل.

وإن تصوير التشبيه ، وقصره على ذلك الوجه ، وهو تشبيه ما لم تجر به عادة إلى ما يجرى به عادة ربما يكون غير مصور لمعنى التشبيه ، وما يثير من صور.

إن التشبيه تصوير لما يقع إذ تقوم القيامة ، فالسماء ذلك البناء الذى تجرى فيه الكواكب والنجوم ، كل فى مساره ، وهى البناء الذى بناه الله تعالى شامخا عظيما ذا بروج صار وردة كالدهان.

وفى ذلك تصوير للدنيا إذ تقوم القيامة ، فتكون السماء لينة كالورد الذى يشبه الدهن مبالغة فى ليونته التى تصل إلى حد السيولة.

١٠٨ ـ ويسوق الرمانى أمثلة يتبين فيها تشبيه ما لم يعلم إلا بالنظر بما يعلم بالبداهة من غير محاولة نظر واستدلال ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١] ، ويقول فى التشبيه هنا : «قد أخرج ما لا يعلم بالبداهة إلى ما يعلم ، وفى ذلك البيان العجيب بما قد تقرر فى النفس من الأمور ، والتشويق إلى الجنة بحسن الصفة مع ما لها من السعة وقد اجتمعا فى العظم».

وإنا نجد الآية الكريمة فى تشبيهها ليست من قبيل تشبيه ما لا يعلم بالبداهة بما يعلم بالبداهة ، فإننا نرى أن كليهما لا يعلم بمجرد البداهة ، بل يعلم بالنقل المصدق ، فهما سواء فى صلتهما بالعلم الضرورى ، وإنما إذا قيل أن المراد تصوير المعقول بما يتصور أن يكون مشهودا محسوسا ، والجميع بإخبار الله تعالى ، لا بمجرد النظر ، سواء كان الأمر ضروريا أم نظريا ، وإنا إذا تلونا ما قبل هذا النص وما بعده وهو قوله تعالى :

١٨٣

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢١) [الحديد : ٢١].

ونرى من هذا أن المراد السعة فى النعمة ، وأن السعة فى النعمة كالسعة فى المكان ، وهى تدل عليه ، والمراد من الكلام كله الحث على طلب مغفرة الله تعالى ، وأن الكلام كله يصور الجنة ، بأنها خير من الوجود كله ، وأنها أوسع ، وأنه إذا كانت النار تسع كل المجرمين ، لأن لها سبعة أبواب لكل باب جزء مقسوم ، فالجنة تسع المتقين الأبرار ، لأنها واسعة عريضة كعرض السماء والأرض.

ومن التشبيه الذى ذكره الرمانى على أنه تشبيه ما لا يعلم بالبداهة إلى ما يعلم بها قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] ، ثم قال : وهذا تشبيه قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة ، وقد اجتمعا فى الجهل بما حملا ، وفى ذلك العيب لمن ضيع العلم بالاتكال على حفظ الرواية من غير ، ولسنا نرى فى الكلام ما يدل على أن المشبه لا يعلم بالبداهة ، والمشبه به يعلم بالبداهة.

إن الذى نراه ليس علم الرواية وعلم الدراية ، إنما الذى تتجه إليه الآية الكريمة فى صدرها ونهايتها ، وهو تشبيه علم لا يقرنه العمل ، بعدم العلم ، فهم يحملون علما لا ينتفعون به عملا ، بل يعملون بنقيضه ، يحملون علم الهداية ولا يهتدون ، كمثل الحمار يحمل أسفارا.

وكان تشبيههم بالحمار الذى يحمل أسفارا وهو غير صالح للانتفاع ، وفى التعبير القرآنى إشارة بيانية تبين أن العمل هو ثمر العلم ، ولا يقال أنه قد نال من أخذه من غير عمل ، وذلك قوله تعالى : (حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أن الله حملهم التوراة علما لأجل العمل ، فعلموها ولم يعملوا بها فكانوا غير حاملين.

١٠٩ ـ وقد ساق الرمانى من تشبيهات القرآن تشبيهات فيها المشبه يكون أضعف صفة من المشبه به فيلحق به لأنه أقوى صفة منها ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٢٤) [الرحمن : ٢٤] ، ويقول فى ذلك : «فهذا تشبيه قد أخرج ما لا قوة له فى الصفة إلى ماله قوة فيها ، وقد اجتمعا فى العظم إلا أن الجبال أعظم ، وفى ذلك العبرة من جهة القدرة ، فيما سخر من الفلك الجارية مع عظمها ، وما فى ذلك من الانتفاع بها ، وقطع الأقطار البعيدة فيها» وإن ذلك الكلام حق ، فإنه إذا كان الجامع بين المشبه والمشبه به القوة ، فالجبل أقوى ، وإذا كان الظهور فالجبل أظهر ، ولكن يلاحظ أن المقصود من التشبيه لا يعنى به الرمانى كثيرا ، بل تكون عنايته بالأوصاف الظاهرة ، أو المقاصد القريبة. وأن المقصود فى هذا السياق هو بيان سر الله

١٨٤

تعالى فى خلقه وتسخيره للإنسان ، فإنه إذا كانت الجبال والأوهاد وجدها الإنسان كذلك ، وهى رواسى الأرض ، وبها ثباتها ، فإن الجوارى ، وهى السفن التى تقارب فى علوها وفى قوتها وأثقالها الجبال تجرى على الماء وهو يحملها مع أنه سائل لا صلابة فيه ، وتجرى فيه ، وتنقلهم إلى بلد لم يكونوا واصلين إليه بغيرها ، فقدرة الله تعالى فيها أظهر ، لأنها منشأة ترى نشأتها ، وهى تجرى بأمر الله تعالى ولا يجرونها.

ويضرب الرمانى مثلا فيما يجرى فى المعنويات ، ومن ذلك قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٩]. ثم يقول : «وفى هذا إنكار لأن تجعل حرمة السقاية والعمارة كحرمة من آمن بالله وكحرمة الجهاد ، وهو بيان عجيب وقد كشفه التشبيه بالإيمان الباطل والقياس ، وفى ذلك الدلالة على تعظيم حال المؤمن بالإيمان. وأنه لا يساويه مخلوق على صفته فى القياس. ومثله قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الجاثية : ٢١].

ونجد الرمانى فى المثال يأتى بالتشبيه منفيا مستنكرا ، كما أتى به محققا موجها ، فإن الاستفهام هنا لإنكار الواقع ، فهم قد آثروا أن يكونوا عامرين للبيت ، قائمين بالسقاية والرفادة ، وتنافسوا على ذلك زاعمين أن فيه الخير كله ، وأنه قد يغنيهم عن الإيمان بالله ورسوله والجهاد فى سبيله ، بل يزعمون أنهم بسدانة البيت الحرام ، والقيام على السقاية والرفادة أفضل ممن آمن بالله وجاهد فى سبيله. والحقيقة أنهما لا يستويان ، فالإنكار للمشابهة والتساوى بينهما فضلا عن اعتبار السقاية والعمارة أفضل وأشرف. والله سبحانه وتعالى أعلم.

هذا ما ساقه الرمانى من وجوه التشبيه ، وقد نقلناها ، كما نقلها الباقلانى لأنها وجوه لها اعتبارها ، ولأن فيها ضبطا لأقسام التشبيهات القرآنية ، وإن كانت غير شاملة لكل الأقسام ، بل إنها ذات وجوه شتى.

ولكنه لم يتعرض إلا قليلا لأغراض التشبيهات ومراميها ، وما تصوره من صور بيانية ، وما تنتجه من بسط للمعانى النفسية ، وتوجيه للحقائق الكونية والروحية ، ووصف للملائكة الأطهار ، والآدميين الأخيار.

ولنضرب بعض أمثلة القرآن الكريم التى تجعل فيها المعانى كأنها صور محسوسة لافتة للعقول إلى الكون وما فيه ، اقرأ قوله تعالى فى تشبيه المنافقين وترددهم بين الحق والباطل ، وظهور ضوء الحق ، وعمى بصائرهم عنه ، فقد قال تعالى :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) [البقرة : ١٧] ، وترى هنا تشبيه حال المنافق المضطرب بين

١٨٥

الحق والباطل ، ولكن يريد الحق تابعا لهواه ، فهو يطلبه ليستضيء بنوره ، ولكن ما أن يبدو النور ، حتى يصاب بالعمى بسبب الهوى الذى يسيطر على قلبه ، فيضيء النور ما حوله ، ولا يستضيء به ، وهو الذى استوقد النار ، ثم ينتهى أن يصير كالصم الذين لا يسمعون ، لأنه لا يستمع لنداء الحق ، ويصير كالبكم لأنه لا ينطق بالحق الذى يجب عليه أن ينطق به ، وكالأعمى الذى لا يميز بين الأشياء لأنه قد طمس الله تعالى على بصيرته ، فأصبح لا يميز بين باطل استهواه لفساد قلبه ، وحق قامت البينات عليه ، وفى الحكم عليهم بالصم والبكم والعمى تشبيهات فردية ، وهى تقوم على التشبيه.

والتشبيه فى هذا النص تشبيه حال بحال ، والآية صريحة فى ذلك لأن الله تعالى يقول : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ، أى حالهم كحال الذى استوقد نارا ، فهو تشبيه تمثيلى شبهت حال المنافقين ، وأكثرهم من اليهود فى كونهم كانوا يتطلعون إلى نبى قد حان حينه ، وأدركهم إبانه ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلما بدا الضوء أضاء من حولهم ، ولم يستضيئوا به ، فلم يهتدوا بقول سمعوه ، ولا نطقوا بحق عرفوه ، ولا استرعتهم بينات رأوها فكانوا صما بكما عميا.

وقد ضرب سبحانه وتعالى فى السياق القرآنى مثلا بتشبيه آخر ، يمثل جانبا من جوانبهم ، فقال بعد التشبيه الأول : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) [البقرة : ١٩ ، ٢٠].

وفى هذا المثل شبه سبحانه وتعالى حالهم بأمرين : كل واحد منهما تشبيه قائم بذاته ، أولهما : أنه سبحانه وتعالى شبه حالهم بحال قوم أصابهم مطر شديد ينصب عليهم انصبابا ، صحبه غمام بعد غمام فيه ظلمة بعد ظلمة وفيه رعد وبرق ، وفيه الإنذار بالعذاب الشديد ، فهم فى خوف ووجل يحسبون كل صيحة فيها الموت ، ويجعلون أصابعهم فى آذانهم حذر الموت ، وفى هذا تصوير لنفس منافقة ، فهى نفس تائهة فارغة دائما لا تستقر على أمر ، ولا تطمئن على قرار ، فهم فى اضطراب ، لأنهم لا يؤمنون بشيء ، والإيمان هو المطمأن دائما. ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، وإذا كان التشبيه السابق يصور حالهم فى طلب الدليل وعدم الأخذ به لغلبة الهوى ، وسيطرة الشهوة ، والجحود الموروث ، فهذا التشبيه يصور حالهم من هلع مستمر ، وخوف من غير مخوف ، ولذلك يقول بعض علماء النفس : إن النفاق منشؤه ضعف فى النفوس.

والتشبيه الثانى متفرع عن التشبيه الأول ، وإن كان يصلح تشبيها قائما بذاته ، وهو ما أومأ الله تعالى إليه بقوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ). وإن هذا تتميم للأول ،

١٨٦

وهو أيضا قائم بذاته ، فإنه إذا كان الرعد يجعلون أصابعهم فى آذانهم به ، فالبرق الذى يصحب الصيب شديد مفزع له بريق يكاد يخطف أبصارهم ، ولكن كان هو تشبيها لحالهم ، وهى أن المنافق متردد دائما. فالبريق يضيء لهم فيمشون فيه ، ولكن سرعان ما تظلم عليهم نفوسهم فيقيمون حيث هم من نفاق ، ويختم الله تعالى النص القرآنى فى هذا التشبيه المحكم ببيان قدرة الله تعالى وسيطرته عليهم ، وأنه سبحانه لو شاء لأفقدهم سمعهم وبصرهم حقيقة ، كما فقدوا سماع الحق استماع إنصات ، وإدراكه إدراك طالب للحقيقة.

والتشبيه فى هذا المثل كسابقه ، تشبيه تمثيلى ، إنه شبه حالهم فى ضعف نفوسهم والبلبال المسيطر عليهم واضطراب أحوالهم بحال قوم أصابهم مطر لم يكن غيثا منقذا ، بل مرهبا ومفزعا ، فكانوا فى خوف واضطراب من غمام مظلم ، وريح عاصف ، ورعد قاصف ، وبريق خاطف ، وصاروا يجعلون أصابعهم فى آذانهم حذر الموت ، فهو تصوير لضعفهم ، وفى التشبيه الثانى الذى هو فرع بالنسبة لما قبله ، تصوير لفزعهم من البرق ، وتصوير لكون أسباب الهداية بين أيديهم ، وهى فى ذاتها مضيئة ، ولكنها تظلم عليهم فيقيمون على نفاقهم ، ويستمرون فى غيهم ، والله قاهر فوقهم ، لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم.

١١٠ ـ وقبل أن نغادر الكلام فى التشبيه إلى الاستعارة ، وهى لون من ألوانه لا بد أن نشير إلى أمور ثلاثة :

أولها ـ أن التشبيه بلا شك من أسرار الإعجاز ، ويعده الباقلانى من أسباب الإعجاز ، ولكن يعد الكلام فى القرآن من غير مجاز ولا تشبيه بأى لون من ألوانه معجزا بلغ ذروة البلاغة من غير أن تعرف سببا واضحا يدرس على أساسه ، وتتعرف أسرار البلاغة فيه من إشعاعه ، وليس معنى ذلك أن الإعجاز ليس بيانيا ، بل هو بيانى ، ويبدو ذلك فى تساوق المعانى ، وأخذ الألفاظ بعضها بحجز بعض فى إحكام قول ونغم ورنين يكون أحيانا شديدا يصك آذان المنذرين ، وأحيانا كأنه نسيم عليل يحيى النفوس ويشفى أسقام القلوب ، وأحيانا يكون وصفا عميقا لخواطر النفوس ، وما يستكن فى القلوب ، وهذه هى البلاغة فى القرآن التى تعلو عن أن توضحها الأفهام كما يرى ضوء الشمس ولا يعرف كنهه ، وكما تحس بالحرارة الدافئة ، ولا تعرف ماهيتها ، والله على كل شىء قدير.

الأمر الثانى ـ أن تشبيهات القرآن أيا كان وجهها صور بيانية ، تتضح منها الحقائق الظاهرة ، والمعانى العاطفة ، كأنها أمور محسوسة مرئية ، فإذا كان التشبيه بأمر محسوس كانت الصورة البيانية كأنها مرئية واضحة ، فالتشبيه الأول من تشبيهات المنافقين تقرؤه كأنك ترى رأى العين رجلا استوقد نارا ، والسين والتاء للطلب ، وهما يدلان على أنه

١٨٧

بذل مجهودا فى طلب الضوء ، وعالج الأمور فى طلب الوقود ، حتى وصل إليه بجهد ومشقة ، ولكن ما أن أضاء حتى ثبت أنه لم يكن فى الضوء فائدة له ، فلم ير النور الذى طلبه ، وأصم أذنه عن الحق ، وانقبض لسانه فلم ينطق بحق ، والبيان القرآنى الكريم صور ذلك كأنك تراه لا تقرؤه ، تعالت كلمات الله.

والتشبيه بما تضمن من تشبيه فى آخره ، يريك صورة الضعف ، وما يحدثه النفاق فى النفوس من ضعف يجعلها تطير حول كل مطار ، ولا تطمئن على قرار ، فهى تسير برعونة نحو المطامع ، وتستخذى وتذل أمام المفازع ، وقد شبههم بقوم نزل عليهم مطر ينصب انصبابا ، والظلمات قد صارت كسقف مرفوع فوقهم ، والرعد بهزيمه يزعجهم ، والبرق يخطف أبصارهم ، وذلك تصوير كأنه المرئى ، وتبيين لمعنى الخوف والاضطراب الذى يسكن قلوبهم ، ويجعلهم بين خوف يؤرقهم ، ومطامع تحركهم ، والشر يحوط بهم فى كل أحوالهم.

الأمر الثالث : الذى نجده فى تشبيهات القرآن أننا نجده يقرب المعانى ، ويأخذ من التشبيهات الأدلة المفرقة بين الحق والباطل ، اقرأ قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٦) [النحل : ٧٥ ، ٧٦].

ونرى أن التشبيه الأول من قبيل التمثيل ، وهو تشبيه حال من يعبد الأصنام إذ يسوى بينها وبين الخلاق العليم ـ بحال من يجعل العبد المملوك الذى لا يقدر على شىء ، بحال من رزقه الله تعالى رزقا حسنا ، وهما لا يستويان حالا وشأنا ، والنتيجة لا يستوى صنم لا يقدر على شىء بالله تعالى الذى يملك الوجود كله ، وهو على كل شىء قدير.

وفى التشبيه الثانى كان التشبيه بين حال المشركين فى تسويتهم بين الله القادر ، والحجر الذى لا يضر ولا ينفع ، وحال من يسوى بين رجل أبكم وهو كل ، وبين رجل ينطق بالحكم ويقيم العدل لا يستويان ، فلا تصح عبادة الأوثان وتسويتها بالله.

وإن الله سبحانه وتعالى يقرب الحقائق بين قوم حسيين بالمحسوسات ، يضرب الأمثال بالتشبيهات لتقريب الحقائق ، وتوضيح الأدلة بما يقربها ، ولو كان ذلك بالأشياء التى يستحقرها المشركون ، وهى فى ذاتها ليست بحقيرة ولكنها جليلة ، لأنها من خلق الله تعالى ، ولقد قال الله تعالى فى ذلك : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً

١٨٨

فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢٦) [البقرة : ٢٦].

وبعد : فإن القرآن غذاء الأرواح ، ومائدة الله للنفوس مختلف ألوانها ، وكلها طيب الثمرات ، نفعنا الله به وجعله درعنا فى الأحداث التى تنزل بنا ، نأوى عنده ونركن إليه ، ولا نعشو إلا إلى ضوئه.

الاستعارة

١١١ ـ الاستعارة ضرب من ضروب التشبيه وتكون العلاقة بين المعنى الأصلى للفظ بالوضع الأصلى والمعنى فى الاستعمال المجازى المشابهة ، فإذا قال القائل عن رجل شجاع معبرا عنه بكلمة الأسد ، أو قال عن رجل خطيب شجاع أنه على بن أبى طالب فإن العلاقة تكون فى الأول الشجاعة التى يضرب بالأسد المثل فيها ، وفى الثانى الشجاعة والخطابة.

وعلى ذلك يكون بين التشبيه والاستعارة اتصال. وإن شئت فقل : إنها طريق من طرق التشبيه ، أو هى تشبيه فيه مبالغة فإن المشبه يدعى فيها أنه فرد من أفراد المشبه به ، ولذلك لا بد فيها من أمرين : أولهما ألا تكون ثمة أداة تشبيه كالكاف أو الاستعمال أو أن يكون المشبه محمولا عليه والمشبه محمولا مثلا ، وألا يكون المشبه مذكورا بأى صورة من الصور ، وثانيهما ـ أن يكون اللفظ الدال على المشبه به لفظا عاما كاسم جنس ، لكن يدخل المشبه فى عموم أفراده بمظهر اللفظ ، كأن يقول تقدم للأعداء أسد له لبد ، فانتقم الله تعالى به منهم ، فإن قرينة القول تدل على أنه إنسان ، وكأنك ادعيت أن من أفراد الأسد ذلك الرجل الشجاع الذى أطلقت عليه اسم الأسد.

وقد عرف أبو الحسن الرمانى الاستعارة ، فقال : وهى تعليق العبارة على غير ما وضعت له فى أصل اللغة على جهة النقل للإبانة ، وهذا التعريف هو فى معنى ما ذكرنا. غير أنه أشار إلى أن الاستعارة نقل اللفظ من المعنى الذى وضع له إلى معنى آخر لعلاقة المشابهة بين المعنيين. وهو فى المعنى ادعاء أن لفظ المشبه به اتسع حتى صار عاما ، فدخل فى عمومه المشبه ، ويفرق بين المعنى بالوضع الأول والمعنى بالوضع الثانى بالقرينة ، فهى مانعة من إرادة المعنى بالوضع الأصلى.

والاستعارات فى ألفاظ القرآن كثيرة منها قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما

١٨٩

تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧) [آل عمران : ٧].

فالتعبير بأم الكتاب تعبير مجازى بالاستعارة ، لأن الأم هى الأصل وهى التى تقوم على أولادها ، ويرجعون إليها فى غذائهم وعواطفهم ، فشبهت بها الآيات المحكمات التى هى أصل الدين ومرجعه ، وإذا كانت متشابهات ، فهى تفسر بالرجوع إلى هذا الأصل ، وهو المحكمات.

ومثل ذلك قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩) [الرعد : ٣٩] ، والتعبير مجازى بالاستعارة ، والمراد بالأم الأصل ، وهو الشريعة المتفقة فى كل الديانات ، فينسخ الله تعالى ، ويثبت ، ولكن أصل هذه الشرائع لا يتغير ، وهو الذى بينه الله تعالى فى قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣) [الشورى : ١٣].

ومن الاستعارة فى الأفعال قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) [التوبة : ١١١]. فقد شبه سبحانه وتعالى تقديم المؤمنين أنفسهم رجاء ما عنده من نعيم مقيم ، ورضوان من الله أكبر ، شبه ذلك بمبايعة بينهم وبين ربهم لكمال الالتزام عليهم ، ورجاء ما طلبوه من رضوان ونعيم مقيم ، وهى استعارة تمثيلية ، والاستعارة التمثيلية فيها تشبيه حال بحال ، لا تشبيه ألفاظ مفردة بمثلها ، وإن المشبه محذوف ، ولذا تحقق كونها استعارة.

ومن الاستعارة التعبير عن النفاق بالمرض ، وإن ذلك كثير فى القرآن ومنه قوله تعالى فى وصف المنافقين : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] ، وقوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) [التوبة : ١٢٤ ، ١٢٥].

وفى الآيتين الكريمتين نجده سبحانه وتعالى عبر عن النفاق بالمرض ، وذلك للمشابهة بين مرض الأجساد والنفاق فهو يفسد القلوب ، والعقول والمدارك ، كما يفسد المرض الأجساد ويضعف الحركات وقد يشلها ، ومعه الوهن دائما.

ومن الاستعارات القرآنية التى تعلو إلى أسمى مراتب البلاغة ، ولا يصل إليها بيان إنسانى ، إنما هو بيان القرآن فقط قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً

١٩٠

مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) [النحل : ١١٢].

ففي هذا النص السامى تلاقينا عدة استعارات تبلغ أعلى درجات السمو البيانى ، ولنأت من آخر النص الكريم فآخره كأوله فى اجتذاب النفوس والعقول والمشاعر إلى معانيه ومبانيه ، أضاف اللباس إلى الجوع ، وفى ذلك تشبيه بالجوع من إضافة المشبه به على سبيل الاستعارة ، فالجوع القائم المستمكن الذى يعم فيه القل ويكثر العدم ، والخوف الذى يفزع النفوس ، ويذهب بالاطمئنان ، ويلقى بالاضطراب شبه باللباس السابغ ، لأن اللباس يعم ويكسو الجسم كله ، وكذلك الجوع إذا عم ، والخوف إذا طم ، فإنه لا يبقى فى الجماعة أحدا لم ينله ، لأن الأزمات الجائحة ، والخوف من عدو داهم لا ينجو منه أحد ، فكان التعبير عن هذه الحالة باللباس ، وفوق ذلك فإن اللباس يلتصق بالجسم ويلازمه ولا يفارقه ، وكذلك الجوع والهم والغم والخوف ، وفى ذلك تصوير للأمة أو المدينة إذا عمها البؤس والشقاء وداهمها الخوف من كل ما يحيط بها.

وهناك استعارة أخرى ، وهى قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) فإن اللباس يلبس ولا يذاق ، ولكن لباس الجوع والخوف لأنه يتصل بالنفس ، وبالنعمة تزول بعد أن كفروا بها ، عبر عنه بالذوق ، فشبه حال النزول بحال الإذاقة ، للنزول الذى ترتب عليه أن أحسوا بمرارة المذاق بعد أن كانوا فى بحبوحة العيش ، فكان التعبير بأذاق أنسب لهذا المعنى.

وهناك استعارة تمثيلية ثبتت من مجموع العبارات ، وهى تشبيه حال جماعة من الناس كانت مؤمنة مرزوقة فلما كفرت بالنعم فلم تقم بحقها ، ولم تؤد الطاعات ، ولم تنته عن المنهيات بحال قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها واسعا من كل مكان فجحدت نعمة الله تعالى فضاق رزقها ، وبدلت من الأمن خوفا ، ومن الرغد جوعا.

١١٢ ـ ومن الأمثلة التى ساقها الرمانى للاستعارة قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، ، يقول فى التعليق على هذا النص الكريم : أصل الاشتعال للنار وهو فى هذا النص أبلغ ، وحقيقته كثرة شيب الرأس ، إلا أن الكثرة لما كانت تتزايد تزايدا سريعا ، صارت فى الانتشار والإسراع كاشتعال النار ، وله موقع فى البلاغة عجيب ، وذلك أنه انتشر فى الرأس انتشارا لا يتلافى كاشتعال النار.

وإن هذا التعبير لم يكن معروفا عند العرب ، وذلك أنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار ، للسرعة ، وللبياض ، وللملازمة ، ولأنه ينتهى بتدمير ما تتصل به ، وتجعل حطامه ترابا.

١٩١

ويسوق الرمانى من أمثلة الاستعارة قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٧) [يس : ٣٧] ، ويقول الرمانى فى ذلك ، نسلخ مستعار ، وحقيقته يخرج منها النهار ، والاستعارة أبلغ ، لأن السلخ إخراج الشيء مما لابسه ، وعسر انتزاعه منه لالتصاقه به ، فكذلك لباس الليل.

هذا ما قاله الرمانى ، ولكى نتصور الاستعارة ، وما تضفيه من معان على الحقيقة المجردة نقول : إن مفردات الراغب الأصفهانى جاء فيها من مادة سلخ ، السلخ نزع جلد الحيوان ، وقال تعالى : (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أى ننزعه ، ومؤدى هذا الكلام أن المسلوخ المنزوع هو النهار ، وأن الجسم الذى انسلخ منه هو الليل ، ولذلك قال تعالى كنتيجة للسلخ : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) ، أى أن النزع كانت نتيجته أن صار الناس فى ليل مظلم ، ويكون معنى الاستعارة أن القرآن الكريم شبه فيه النهار بالنسبة لليل بإهاب من النور أحاط بالليل إحاطة الإهاب بالشاة مثلا ، فلما نزع كان الليل ، والجامع بين السلخ والنزع ، وهو الرفع لشىء ملازم محتك ، ولا شك أن الاستعارة أبلغ كما ذكر الرمانى ، ولكن ما وجه البلاغة المفضلة ، نقول فيما نحسب أن الاستعارة تدل على أن الذى أحاط هو النهار ، ونسلخ لا تدل على أن أيهما هو المحيط بالآخر ، ولكن المسلوخ هو النهار ، إن هذا يدل على أن النور بالنسبة للكرة الأرضية عارض من نور الشمس ، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى الشمس فقال : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٩). [يس : ٣٨ ، ٣٩]

ومن الاستعارات الواردة فى القرآن التعبير عن العلم والإيمان بالنور وعن الكفر والعناد بالظلمات مثل قوله فى أول سورة إبراهيم : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١) وقد قال فى ذلك الرمانى : «كل ما جاء ذكره من الظلمات إلى النور ، فهو مستعار ، وحقيقته من الجهل إلى العلم والاستعارة أبلغ ، لما فيه من البيان بالإخراج إلى ما يدرك بالأبصار».

وإن الظلمات ليست الجهل فقط ، بل هى تشمل الجهل والكفر والجحود والعصبية الجاهلية وكل ما يسيطر على الأنفس من غير سلطان من الحق ولا العقل ، ولا الاتجاه إلى الحق فى طريق مستقيم لا التواء فيه ، ولذلك عبّر عن الباطل بالظلمات ، لأن له أسبابا متكاثفة بعضها فوق بعض والنور واحد ، وهو الحق وطلبه والإذعان له.

وإن الإخراج من الظلمات إلى النور نقول أنه استعارتان ، إن جعلنا الاستعارة فى معنى الظلمة ، فاستعير لفظ الظلمة وهى حسية للجهل والكفر وتحكم الهوى والجحود ، لأن هذه يحدث منها ضلال فى طلب الحق ، كما يحدث الضلال من السير

١٩٢

فى الظلام ، فكان وجه الشبه الضلال فى كلّ ، والإيمان مع الإذعان له يبعد عن الضلال بالنور إذ يبعد عن الضلال ، كما يبعد النور عن السير فى الطريق الضال ، ويهدى إلى الطريق المستقيم ، أو نقول أن القرآن الكريم يشبه حال الضالين الذين يطلبون الحق ، ويجدون الهداية ويأخذون بها ، ومع رسولهم الكتاب المبين الذى يهدى بحال أولئك الذين يكونون فى ظلام دامس لا يهتدون معه ، ويخرجون من الظلمة الحالكة إلى النور ، فهو تشبيه حال بحال بجامع الحيرة ثم الاهتداء فى كلّ.

١١٣ ـ ويذكر الرمانى من الاستعارة البيانية قوله تعالى : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (٤١) [الذاريات : ٤١] ، ويقول فى ذلك الرمانى : العقيم مستعار للريح ، وحقيقته ريح ليس بها سحاب غيث ، والاستعارة أبلغ ، لأن حال العقيم أظهر من حال الريح التى لا تأتى بمطر ، لأن ما يقع لأجل حال منافية أوكد مما يقع فى حال منافية وأظهر ، والمعنى أن الاستعارة هنا فى لفظ عقيم ، لأن العقيم لا يرجى معها خير قط ولا تنتج ، لأن العقم حال تمنع الإنتاج ، فعدم إنتاج الريح بماء ذكر سببه ، وهى أنها ليست منتجة بذاتها كحال العقيم التى لا تحمل ولا تلد ، والوصف بالعقم مناسب لأنهم توقعوا أن يكون غيثا ، فكان فيها الهلاك ، ولقد بين الله تعالى معنى عقمها فى آية أخرى فقال تعالت كلماته : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) [الأحقاف : ٢٤ ، ٢٥].

وهكذا نجد الاستعارات البيانية فى القرآن كثيرا ؛ وذلك لأسباب كثيرة نذكر منها ثلاثة :

أولها : أن اللغة العربية لا تتسع للمعانى النفسية السامية فى القرآن ، فإنه علم لا تدل على حقائقه ألفاظ ذات دلالة معينة ، وكانت بلغة العرب الذين لم يصلوا هم ولا غيرهم إلى الحقائق العلمية والنفسية التى يتصدى القرآن الكريم لبيانها ، وكشف عيون الحقائق فيها ، فكان لا بد من الاستعانة بالاستعارة من الألفاظ التى وضعت للمعانى الحسية لتكشف بها العلوم النفسية والاجتماعية والعقلية ، ولتقرب المعانى إلى ذهن الأعراب ، ومن هم أعلى منهم إدراكا لأنه الكتاب المبين ، وليخرج الأميين إلى حيث العلم وإلى الكتاب الذى علم الإنسان ما لم يعلم.

ثانيها : أن القرآن الكريم فيه الأخبار عن الأمور المغيبة التى وقعت فى الماضى ، والأمور القابلة ، وخصوصا ما يكون فى الجنة من نعيم وفى النار من عذاب أليم ، فنعيم الجنة فيه فاكهة ونخل ورمان ، وفيها أنهار من عسل مصفى ، وفيها أنها من خمر لذة للشاربين ، وهكذا ، ولكن أهي من نوع خمر الدنيا ، وفاكهتها؟ لقد ورد عن ابن عباس

١٩٣

أنها ليست كخمر الدنيا ، وما يذكر فيها ليس من نوع ما فى الدنيا ، ولا من جنسه ، ولقد قال عليه الصلاة والسلام : «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

ونحن نؤمن أولا بأن نعيم الجنة حسى وعذاب النار حسى ، ونؤمن ثانيا ، بأن كل ذلك ليس من جنس ما هو فى الدنيا ، بل هو أعلى وأعظم فكأن الألفاظ التى تقال عن ذلك مستعارة من ألفاظ الدنيا ، ليمكن تقريبها إلى النفوس والأشخاص الذين لا يرون إلا المحسوس.

ثالثها : أن الاستعارة تثير صورا بيانية فى الألفاظ والمعانى كالتشبيه ، لأنها تربط بين المعانى بعضها مع بعض ، وفيها نقل ألفاظ الناس من معان إلى القريب منها المتناسب معها ، فوق ما يثيره من أخيلة تحلق بالتالى للقرآن فى أجواء من البيان ، اقرأ قوله تعالى فى تصوير حال من اعتراه الندم ، ولا يجد مخلصا إلا أن يعترف قوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١٤٩) [الأعراف : ١٤٩].

فالتعبير فى قوله تعالى : (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) هو استعارة فى الدلالة على الندم ، لأن النادم يحس بالسقوط ، ويحس بأنه هبط ، فشبه القرآن حالهم فى أن الندم برح بهم بمن سقط فى يده وهو دال على سقوطه فيما لا يليق ، فشبه المعنى الخاص بالندم من ألم ، ومن ظهور للخطأ ، أو الإحساس بالخطيئة بمن سقط فى يده دليل إثمه ، ولا يجد مناصا من التخلص من جرمه ، وأن الصورة البيانية التى تصورها كلمة سقط ، وتبين حالهم لا يقوم مقامها كلمة ندموا.

ولقد صور سبحانه وتعالى حال أهل الكهف فى أنهم لا يسمعون.

فقال تبارك وتعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (١١). [الكهف : ١١]

فإن كلمة ضرب تدل على أن الله تعالى منع السماع ، كأنه غلق عليهم باب السمع ، وضرب عليه ، فلا يفتح سنين عددا ، وذلك يصور حالهم من أنهم لا يسمعون ما يجرى ، والناس يحسبونهم أيقاظا يحسون بما يحس غيرهم ، ولقد بيّن الرمانى معنى الاستعارة هنا ، فقال : حقيقة معناه ، منعناهم الإحساس بآذانهم من غير صمم ، والاستعارة أبلغ ، لأنه كالضرب على الكتاب ، فلا يقرأ ، كذلك المنع من الإحساس فلا يحس ، وإنما دل على الإحساس بالضرب على الآذان دون الضرب على الأبصار ، لأنه أدل على المراد من حيث كان قد يضرب على الأبصار من غير ذهاب للبصر فلا يبطل الإدراك رأسا ، وذلك بتغميض الأجفان ، وليس كذلك منع الأسماع من غير صمم فى

١٩٤

الآذان ، لأنه إذا ضرب عليها دل على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك ولأن الآذان كانت طريقهم إلى الانتباه ، فلما ضربوا عليها لم يكن سبيل إليه.

ومؤدى هذا الكلام أن الضرب على الآذان يفيد فقد الإحساس المطلق بعمل الله ، وهو غير الضرب على الأبصار ، لأن عدم الأبصار لا يقتضى فقد الإحساس إذ قد يكون غير مبصر بإغماض ، ولكن الإسماع لا يفقده مع بقاء الآلة سليمة إلا بفقد الإحساس ، فإذا كان الله تعالى قد ضرب على آذانهم ، مع بقاء الآذان سليمة ، فإن ذلك لا يكون إلا بفقد الإحساس ، والله على كل شىء قدير.

المجاز والكناية

١١٤ ـ المجاز يعم الاستعارة وغيرها من أنواع المجاز ، إذ إن المجاز معناه أن ينقل اللفظ من دلالته على المعنى الذى وضع له إلى معنى آخر ، لعلاقة بينهما ، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلى ، مثل قوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١٨) [العلق : ١٧ ، ١٨].

فإن المكان لا يدعى إنما يدعى من يحلون فى هذا المكان ، والقرينة الاستحالة ، والعلاقة هى المحلية ، أطلق المحل وأريد الحال ، ومثل قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) [البقرة : ١٩].

والآذان لا تدخلها كل الأصابع ، وإنما أريد بعضها ، والعلاقة هى الجزئية أطلق اسم الكل وأريد الجزء ، وهكذا.

وتختص الاستعارة من بين أنواع المجاز بأنها مجاز علاقته المشابهة بين المعنى الأصلى ، والمعنى الذى نقل اللفظ إليه ، وقد كان التقسيم المنطقى يوجب أن نتكلم فى استعارات القرآن بعد الكلام فى المجاز ذاته ، لأن الكلام فى العام يسبق الكلام فى الخاص ، إذ إن العام جزء من الخاص ، والخاص جزئى والعام كلى ، ومن المقررات المنطقية أن كل عام جزء لجزئيه ، ويضربون ذلك مثلا بالحيوان والإنسان ، فالإنسان حيوان ناطق ، فيتكون من جزءين جزء هو الحيوانية ، والثانى النطق بمعنى العقل والإدراك ووزن الأمور ، فالحيوان وهو الكلى جزء من الإنسان ، وهو النوع الجزئى.

ولكن عدلنا عن منطق التقسيم فى التصنيف إلى تقديم الجزئى على الكلى أو إلى تقديم الاستعارة على عموم المجاز ؛ لأن الاستعارة من حيث إن العلاقة فيها المشابهة كانت ضربا من ضروب التشبيه دخل فيه المشبه فى عموم المشبه به فكانت المناسبة بينها وبين ما سبقها من تشبيه أقوى من دخولها فى عموم المجاز.

١٩٥

وقدمنا الاستعارة لأنها أشهر وأكثر فى القرآن ، وأكثر تصويرا لمعانى البيان ، والصور البيانية القرآنية فيها أوضح ، وقد ضربنا على ذلك الأمثال ، وقصر عبد القاهر فى كتابه دلائل الإعجاز القول على الاستعارة وما يتبعها من تمثيل وضرب للأمثال ، فقد قال رضى الله تبارك وتعالى عنه :

وأنا أقتصر هنا على ذكر ما هو أشهر منه (أى من المجاز) وأظهر ، والاسم والشهرة لشيئين الاستعارة والتمثيل ، وإنما يكون التمثيل مجازا إذا جاء على حد الاستعارة.

فالاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشىء ، فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره وتجىء إلى اسم المشبه به فتعتبره المشبه وتجريه عليه ، تريد أن تقول رأيت رجلا هو كالأسد ، فى شجاعته وقوة بأسه سواء ، فتدع ذلك وتقول رأيت أسدا.

وأما التمثيل الذى يكون مجازا لمجيئك به على حد الاستعارة فمثاله قوله فى الرجل يتردد فى الشيء بين فعله وتركه ، أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فالأصل فى هذا أراك فى ترددك كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، ثم اختصر الكلام ، وجعل كأنه يقدم رجلا ويؤخر أخرى على الحقيقة.

وكذلك نقول للرجل يعمل فى غير معمل : أراك تنفخ فى غير فحم ، وتخط على الماء ، فتجعله فى ظاهر الأمر كأنه يخط ، والمعنى على أنك فى فعلك كمن يفعل ذلك ، ويقول فى الرجل يعمل الحيلة ، حتى يميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه ، ويمتنع منه : ما زال يفتل له فى الذروة والغارب ، حتى بلغ منه ما أراد ، فتجعله بظاهر اللفظ كأنه كان من فتل ذروة وغارب ، والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصعب ، فيحكه ، ويفتل الشعر فى ذروته وغاربه ، حتى يسكن ويستأنس ، وهو فى المعنى مثل الرجل يقول فلان يقرد فلانا ، يعنى به أنه يتلطف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذ لذلك ، فيسكن ويثبت فى مكانه ، حتى يتمكن من أخذه ، وهكذا كل كلام رأيتهم قد نحوا فيه هذا التمثيل ، ثم لم يفصحوا بذلك ، وأخرجوا مخرجه ، وإن لم يريدوا تمثيلا.

وإن الأمثال كلها من قبيل التمثيل ، وهو من باب الاستعارة ، كما قال عبد القاهر ذلك ؛ لأن الاستعارة ذات شعبتين ، إحداهما أن تكون فى تشبيه شىء بشيء ، من غير أداة كتشبيه الرجل بالأسد ، وتشبيه شيوع الشيب فى الرأس باستعار النار فى وقودها ، والشعبة الثانية تشبيه حال بحال ، وهو التمثيل ، وهاتان الشعبتان تجريان فى التشبيه الذى يكون بأداة التشبيه ، كما تكونان فى الاستعارة ، إذ إنهما متلاقيان فى المعنى والاختلاف فى طريقة الأداء.

١٩٦

ومن الاستعارة التمثيلية ظهرت الأمثال التى تعد من جوامع الكلم ، فهى ليست إلا تشبيه حال بحال ، فهى تشبيه حال مضربها بحال موردها ، تقول العرب : «الصيف ضيعت اللبن» فموردها أن شيخا طلب يد فتاة فردتها لكبر سنه ، وكان الزمان صيفا ، ثم احتاجت من بعد إلى قدر من اللبن عنده ، فقال لها : «الصيف ضيعت اللبن» فصار مثلا ، يضرب لمن يرفض أمرا ، ثم يجيء يطلب شيئا ما كان يحتاج إليه لو لم يرفض.

وهكذا ، والأمثال من أبلغ كلام العرب ، لأنها تؤدى معانيها فى أوجز لفظ ، وأروع خيال.

١١٥ ـ وإن عبد القاهر يعد طرق التعبير ثلاثة ، الحقيقة ، ويدخل فيها التشبيه على طريق علماء البلاغة ، وقد بينّا من قبل أننا نعد الحقيقة ما لا يدخل فى عمومها التشبيه ، ولا مشاحة فى الاصطلاح ، والاختلاف لفظى.

والثانى من طرق البيان المجاز ، وقد أشرنا إلى القول فيه.

والثالث من الطرق الكناية ، ويعرف عبد القاهر الكناية بأنها : «أن يريد المتكلم إتيان معنى من المعانى ، فلا يذكره باللفظ الموضوع له فى اللغة ، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه فى الوجود ، فيؤتى به إليه ، ويجعله دليلا عليه ، مثال ذلك قولهم طويل النجاد ، (أى طويل علاقة السيف) يريدون طويل القامة ، وكثير الرماد يعنون كثير القرى ، وفى المرأة نئوم الضحى ، والمراد أنها مترفة مخدومة ، لها من يكفيها أمرها ، فقد أرادوا فى هذا كله ـ كما ترى ـ معنى ، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به ، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر ، من شأنه أن يردفه فى الوجود ، وأن يكون إذا كان ، أفلا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد ، وإذا كثر القرى كثر رماد القدر ، وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها ، ردف ذلك أن تنام إلى الضحى».

ويلاحظ فى الكناية أنه لا مجاز فى المعنى ، واللفظ على ظاهره بادى الرأى ، ولكن لا يراد ذلك الظاهر ، وإنما يراد لازمه وسماه عبد القادر رادفه.

أى أنه يفهم تبعا له ، واللزوم ليس هو اللزوم العقلى دائما ، بل قد يكون فى بعض الأحوال لزوما عاديا يجوز أن يختلف ، فمثلا طويل النجاد يلزم عقلا أن يكون طويل القامة ، ولكن كثير الرماد ، لا يلزم لزوما عقليا أن يكون كثير نار القدر ، فقد يكون وقود النار لغير القدر ، ونئوم الضحى قد تكون لأنها مترفة عندها من يقوم بحاجتها ، وقد يكون ذلك كسلا ، أو مرضا ... إلى آخره ، ولكن الكثير فى العادة أن يكون ذلك عن ترف.

وقد ذكرنا فى الماضى مكان المجاز ، بكل صوره فى دلائل الإعجاز ، وقد ذكر عبد القاهر مكان الكناية فى الكلام البليغ فقال رضى الله عنه : «قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح ، والتعريض أوقع من التصريح ... إلا أن ذلك وإن كان

١٩٧

معلوما على الجملة فإنه لا تطمئن نفس العاقل فى كل ما يطلب به العلم حتى يبلغ فيه غايته ، وحتى يغلغل الفكر فى زواياه وحتى لا يبقى موقع شبهة ، ولا مكان مسألة».

١١٦ ـ هذا ، وإن هذه الطرق البيانية من تشبيه واستعارة وسائر أنواع المجاز ، والكناية ليست فى ذاتها ، بحيث إذا وجدت فى أى قول كان بليغا ، إنما البلاغة لا بد أن تكون متحققة ابتداء فى مادة الكلام وفى موضعه ، وفى صوره البيانية ، وإن هذه طرق تكون جزءا من بلاغة الكلام البليغ ، وليست هى الخاصة التى تجعله بليغا ، ولو لم يكن ذا موضوع ، أو كان موضوعه من سفساف القول ، وغث المعانى ومبتذلها ، إنما قد تكون مع أخوات لها فى مثل جمالها ، وجلال موضوعها».

وقد ذكرنا ذلك فى ماضى قولنا فى الاستعارة فى قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ، فإنا نجد بلا ريب جمالا واضحا فى تشبيه شيوع الشيب فى الرأس باشتعال النار ، ولكن فى الحقيقة لا نجد الجمال فى هذه الاستعارة وحدها ، بل فيها وما معها من نظم ، وتآخ فى الكلمات ، وقد بين ذلك عبد القاهر فى دلائل الإعجاز ، فقال فى بيان أن الجمال والجلال إنما يكون فى مجموع القول لا للاستعارة وحدها : «إنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ، لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة ، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها ولم يروا للمزية موجبا سواها ، هكذا نرى الأمر فى ظاهر كلامهم وليس الأمر على ذلك ، ولا هذا الشرف العظيم ، ولا هذه المزية الجليلة ، ولا هذه الروعة التى تدخل على النفوس لمجرد الاستعارة ، ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء ، وهو لما هو من سببه ، فيرفع به ما يسند إليه ، ويؤتى بالذى هو الفعل له من المعنى منصوبا بعده مبينا أن ذلك الإسناد ، وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل الثانى ، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة كقولهم طاب زيد نفسا ، وقر عمرو عينا ، وتصبب عرقا ، وكرم أصلا ، وحسن وجها ، وأشباه ذلك مما نجد الفعل فيه منقولا إلى ما ذلك الشيء من سببه (١) وذلك أن نعلم أن اشتعل للشيب فى المعنى ، وإن كان هو للرأس فى اللفظ كما أن طاب للنفس ، وقر للعين ، وتصبب للعرق ، وإذا أسند إلى ما أسند إليه كان لأنه سلك فيه هذا المسلك وتوخى به هذا المذهب. وإن تدع هذا الطريق فيه وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحا ، فنقول اشتعل شيب الرأس ، والشيب فى الرأس ، ثم ننظر هل تجد ذلك

__________________

(١) يريد عبد القاهر أن يقول أن الجمال فى «اشتعل الرأس شيبا» ليس فى الاستعارة فقط إنما هو ابتداء فى التمييز المحول من الفاعل ، فقد ذكر الفعل غير مسند لفاعله ، بل أسند لما هو فى موضع الفاعل ، ثم ذكر بعد ذلك الفاعل الحقيقى وهو الشيب على أنه تمييز ، وفى التعبير بالتمييز بدل الفاعل إشارة إلى سبب إسناد الفعل ، وسبب ذكر الاشتعال.

١٩٨

الحسن ، وهل ترى الروعة التى كنت تراها؟ فإن قلت : فما السبب فى أنه كان «اشتعل» إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل ، ولم تأت بالمزية من الوجه الآخر فما وجه هذه البينونة؟ إن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب فى الرأس ـ الذى هو أصل المعنى ـ الشمول ، وأنه قد شاع فيه ، وأخذه من كل نواحيه ، وأنه قد استقر به وعم جملته ، حتى لم يبق من السواد شىء ، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به ، وهذا ما لا يكون إذا قيل : اشتعل شيب الرأس ، أو الشيب فى الرأس ، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة».

وقد أجاد عبد القاهر فى بيان وجه البلاغة فى الاستعارة مع أردافها من مجموع الكلام ، وإذا كانت هى فى ذاتها ، تجمل القول ، فإن سر الإعجاز فيها ، وفى مجموع العبارات.

وقد ضرب الإمام عبد القاهر مثلا آخر مقاربا لقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) وهو قوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] فقال رضى الله تبارك وتعالى عنه فى بيان أن التمييز بعد التعميم ولو من غير استعارة بلاغة معجزة.

«ونظير هذا فى التنزيل قوله عزوجل : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) التفجير للعيون فى المعنى واقع على الأرض فى اللفظ كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس ، وقد حصل بذلك من معنى الشمول هاهنا ، وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد صارت كلها عيونا وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها ، ولو أجرى اللفظ على ظاهره فقيل ، وفجرنا عيون الأرض ، أو العيون فى الأرض ، لم يفد ذلك ولم يدل عليه ، ولكن المفهوم منه أن الماء قد فار من عيون متفرقة فى الأرض ، وانبجس من أماكن منها».

وهكذا يتبين من ذلك الكلام القيم أننا إن كنا قد ذكرنا التشبيه والمجاز والكناية فليس الإعجاز لها وحدها ، بل لها مع مجموع الألفاظ والأسلوب وتناسق العبارات ، فمن كل ذلك يتكون إعجاز الذكر الحكيم.

الكنايات فى القرآن

١١٧ ـ قد تكلمنا فى التشبيه والاستعارات ، وسائر أوجه المجاز بكلام مجمل ، واقتبسنا شواهد من القرآن ، وإن لم تكن كثيرة فإنها منيرة ، وإن لم يكن فيها استقراء ففيها غناء.

ولكن لم نتعرض للكنايات فى القرآن بقدر كاف إذ كانت الكنايات كما تدل عبارات اللغويين وعلماء البلاغة هى الدلالة على اللازم عادة أو عقلا بذكر الملزوم ، فكثرة الرماد كما مثلوا يلزمها كثرة الضيفان ، وطول النجاد يلزمه طول القامة ، فإن

١٩٩

الكنايات فى القرآن كثيرة ، ولكنها تمتاز بإرادة اللازم والملزوم ، وفى ذلك كثرة المعانى مع إيجاز الألفاظ ، ولنضرب على ذلك بعض الأمثال نقتبسها من كتاب الله سبحانه وتعالى ، يقول الله تعالى فى وصف المتقين :

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٦٣) [الفرقان : ٦٣].

هذا وصف حسى لمشيهم ولقائهم ، يمشون غير مسرعين ، ولا متباهين ، بل يمشون مشيا هينا لا سرعة فيه ولا إبطاء ، وإذا خاطبهم الحمقى ، لا يمارونهم ولا يجادلون ، فإن المراء يخل بالوقار ، وملاحاة السفهاء ليست من دأب العقلاء. هذا هو الظاهر وهو المراد ، ولكن المقصود مع هذا هو وصفهم بتقوى الله وخوفه ، والاطمئنان إلى عفوه ، فيلتقى الخوف بتكبير الذنوب ، مع الرجاء فى العفو والغفران.

والمعانى الثانية ملازمة للأولى ، فكان المراد ابتداء هو اللازم والملزوم فى ذاته ، ولكن السياق كان للثانى.

ومن الإشارات الكنائية التى أريد فيها اللازم ، وذكر الملزوم كان للدلالة عليه قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) [يونس : ٦٢] فإن ذلك الكلام السامى فيه حكم على أولياء الله المخلصين له سبحانه بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وذلك مراد لا ريب فيه ، وذلك يلازمه أن يكونوا قريبين من ربهم ، قد أخلصوا له ، واستحقوا رضوانه. ومن يكون قريبا من حبيبه ، لا يخافه فى مستقبل ولا يحزن فيه على ماض وقع منه ، لأن المحبة تجعله قريب الرجاء فى الغفران ، والطمع فى الرحمة ، وقد بين سبحانه الطريق لمحبة الله تعالى ونيل رضوانه ، وهو التقوى ، فقال تعالت كلماته : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٣ ، ٦٤].

ومن كلام الله تعالى فى التنزيل ما جاء عن وصية لقمان لابنه إذ قال تعالت كلماته :

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩) [لقمان : ١٦ ـ ١٩].

٢٠٠