المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (٥) [الكهف : ١ ـ ٥].

والصلاة والسلام على محمد الذى أرسل للعالمين بشيرا ونذيرا ، وأنزل عليه الكتاب المبين حجة باقية شامخة إلى يوم الدين. ورضى الله عن صحابته الأكرمين ، الذين بلّغوا من بعده شريعة القرآن ، ومعه العدل والقسطاس المستقيم.

١ ـ أما بعد : فقد اتجهت النفس متسامية إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتعرف سيرته الطاهرة العطرة لأقتبس من نور هديه. وأتنسم نسيم عرفه ، ولأشاهد إرهاصات النبوة ، بل الإعجاز فى حياته الأولى ، كما أيده الله تعالى بالمعجزات فى حياته الثانية بعد أن بعث رحمة للعالمين. وقد تابعنا حياته عليه‌السلام الأولى ، ثم تسامينا إلى متابعة حياته الثانية بعد أن نادى فى الجزيرة العربية بصوته القوى العميق يدعو إلى التوحيد فى وسط الوثنية. وهو يصبر ويصابر. ويجاهد ويناضل ، ويلاقى الأذى ، والمؤمنون الصادقون الذين معه يعذبون ، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان لا ينطقون بالكفر ، ولو مزق الأذى أجسامهم. وطواغيت الشرك يتمتعون بالإيذاء ، بينما أهل الإيمان يرضون بالعذاب عن الكفران ، وقد أخذ النبى من بعد ذلك يعرض نفسه على القبائل ، تمهيدا لبناء دولة الإسلام الفاضلة ، فى غير مكة ، وأخذ النور يسرى فى ظلمات الجاهلية ، منبثقا من مكة ، وإن لم يستضئ أهلها بنوره لعمى البصائر. (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) [سورة الحج : ٤٦].

والمعجزة الخالدة التى يتحدى بها قريشا وسائر العرب هى «القرآن الكريم» .. رأينا من مساوقة الحوادث أن نتكلم فى هذه المعجزة الكبرى. على أن يكون كلامنا فيها تبعيا وليس أصليا ، وبالعرض لا بالذات.

٣

٢ ـ ولكن ما إن قاربنا نوره ، حتى بهرنا ضياؤه ، واستغرق نفوسنا سناؤه ، وانتقلت نفوسنا إلى الاتجاه إليه قاصدين ذاته أصلا ، لا تبعا للسيرة ، ولو كانت سيرة من نزل عليه القرآن ، وخاطب فى ظله الأجيال ، سيدنا الهادى رسول الله رب العالمين.

وقد حاولنا أن نملأ نفوسنا من ينابيع الهداية فيه ، وأن نشفى أمراض قلوبنا بما فيه من دواء ، وأن نكشف الغمة بما فيه من حكم وعبر.

لذلك صار القرآن وعلم القرآن ، وكل ما يتعلق به هدفا لنا مقصودا ، وأملا منشودا لا نبغى سواه ، ولا نطلب غيره.

فكان لزاما علينا أن نخص كتاب الله ببحث ودراسة ، وأن نخرج من ذلك البحث كتابا نرجو أن يكون قيما فى ذاته ، وإن كان لا يعلو إلى حيث يكون مناسبا لموضوعه ، فموضوعه أعلى من أن تناهده همتنا ، وأن تتسامى إليه عزيمتنا ؛ لأنه كتاب الله تعالى ، وأنى لضعيف مثلى أن يصل إلى وصفه أو التعريف به ، إنه فوق منال أعلى القوى إدراكا ، وأعظم النفوس إشراقا.

(أ) وقد اتجهت ابتداء إلى بيان نزول القرآن منجما ، وحكمته مستمدا هذه الحكمة من نص القرآن ، وما أحاط بالتنزيل ووجوب حفظه فى الصدور ، ثم بينت أنه كتب فى حياة الرسول ، وأن النبى عليه‌السلام كان يملى الآية أو الآيات التى تنزل عليه على كتاب الوحى ، حتى إذا تم نزوله ، كانت كتابته قد تمت ، وقراءته بهذا الترتيب الذى نراه فى الآيات والسور ، قد كملت ، وقد تكلمت من بعد ذلك فى جمع المكتوب فى عهد الصديقين أبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما ، ثم فى عهد ذى النورين عثمان رضى الله تعالى عنه.

(ب) وقد اتجهت إلى الحق فى وسط ما أثاره بعض العلماء من خلافات حول أحرف القرآن الكريم ، وقراءاته ونزوله ، وقد أسرف بعض العلماء على أنفسهم وعلى الحق ، فأثاروا أقوالا باطلة ما كان من المعقول إثارتها. حتى أن بعض المغرمين بالجمع ونقل الخلاف قالوا أمورا تخالف نص القرآن الكريم ، فيما ذكر من نزوله ، وتهافتت الأقوال حتى وجدنا الذين لا يرجون للإسلام وقارا يتعلقون بأقوال ذكرت لهؤلاء ، كقول بعضهم : إن هناك رأيا يقول : إن القرآن نزل على قلب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعنى واللفظ للنبى ، ونسوا قوله تعالى معلما للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم القراءة والنطق بها : (لا تُحَرِّكْ بِهِ

٤

لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) [سورة القيامة : ١٦ ـ ١٩]. فإن ذلك صريح فى أن القرآن نزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم باللفظ والمعنى والقراءة ، وأن ذلك عليه إجماع المسلمين ، والعلم به علم ضرورى ومن يخالفه يخرج من إطار الإسلام. وقد صرح القرآن الكريم بأن الله تعالى هو الذى رتل القرآن. فقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) [سورة الفرقان : ٣٢].

(ج) ولقد تكلمنا من بعد ذلك فى إعجاز القرآن ، وبينا وجوه الإعجاز ، ودفعنا القول بالصرفة دفعا ، ثم تكلمنا فى علم الكتاب ، وجدل القرآن ، وتفسير القرآن ، ومناهج التفسير ، وبينا التفسير بالأثر ، ومقامه من التفسير بالرأى ، وأن الرأى يجب ألا يناقض المأثور ، وأن التفسير باللغة والأثر مفتاح التفسير بالرأى.

(د) وتكلمنا فى الغناء بالقرآن وتحريمه ، والتغنى الجائز المأثور ، وإبطال ما سواه ، وسرنا فى طريق الحق الذى لا عوج فيه ، ولا أمت.

٣ ـ وإنا نحمد الله تعالى على ما اختبرنا به فى أثناء كتابة ما كتبناه ، لقد اختبرنا الله تعالى فى أول كتابة ما كتبنا عن القرآن فانقطعنا عن الاتصال بالصحف السيارة ، نخاطب المسلمين من فوق منبرها ، وقطعنا عن المجلات العلمية نوجه الفكر الإسلامى من طريقها ، ومن كل طرق الإعلام فلا نصل إليها ، وكان الهم الأكبر أن انقطعنا عن دروسنا ، وعن المحاضرات العامة.

ولكن القرآن آنسنا فى وحدتنا ، وأزال غربتنا ، فكان العزاء النفسى والجلاء الروحى ، واختبرنا الله تعالى بالضر كما اختبر نبيه أيوب إذ قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٨٣) [سورة الأنبياء : ٨٣] وإنه وإن تشابه المرض فإنه يختلف المقام فهذا نبى يوحى إليه ، ونحن من الأتباع ، ونرجو أن نكون من الأبرار فى اتباع النبيين ، لزمنا المرض المقعد نحو شهرين ، فكان ألم الابتعاد عن القرآن أكبر من ألم المرض الممض ، ولقد من الله تعالى بالشفاء ، فخرجنا من الداء العقام ، وما منعتنا وعثاء المرض فعدنا إلى القرآن ، نقبس من نوره ، ونعبق من عرفه ، فهو أنس المستوحش ، وسمير المستغرب ، فأنسنا بعد طول الغياب ، ومنحنا الله تعالى به العافية ، فوفقنا لأن نقطع كل ما أردنا عرضه فى مدة المرض ، وكأنا فى مجموع ما بلينا فى طول المدة أصحاء فى أبداننا ، لأنه سلمت نفوسنا من السقام ، بفضل القرآن.

٥

واختبرنا الله تعالى من بعد بهم واصب بأن أصاب رفيقة حياتى بكسر أقعدها ، وأقعدنى بالغم الشديد والكرب البعيد الأثر ، العميق فى النفس.

ولكن أنس القرآن خفف همى ، وكشف غمى ، لأنه ملأها إيمانا بقضاء الله وقدره ، ووضع فى نفوسنا الصبر الجميل ، من غير أنين ، ولا ضجر ، ولكن برضا لما أراد ، وهو اللطيف الخبير ، وهو الشافى فى المرض والجابر فى الكسر ، والمعين فى الشدة ، ولا رجاء فى غيره.

هذه أمور جرت لنا ، ونحن نكتب فى المعجزة الكبرى ، فما عوقت وما منعت ، وما أيأست.

اللهم احفظنا بالقرآن ، وآنسنا بنوره ، ووفقنا للقيام بحقه آحادا وجماعات ، وإنك وحدك القائم على كل شىء ، اللهم قنا شر نفوسنا ، واحفظ الأمة من فساد يعم ، وشر يطم ، اللهم إنك عفو قدير فاعف عنا ، ولا تؤاخذنا بما تكسب أيدينا ، وارفع عنا المقت الذى حل بنا ، إنك عوننا وأنت نعم المعين.

محمد أبو زهرة

أول رمضان سنة ١٣٩٠ ه‍.

٣١ أكتوبر سنة ١٩٧٠ م.

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المعجزة الكبرى

تمهيد

١ ـ يسير الكون على سنن قد سنت ، ونظم قد أحكمت ، وارتباط بين الأسباب والمسببات العادية لا يتخلف ، وإن تخلفت المسببات عن أسبابها ووجدت الأمور منفكة عن علتها ، كالولد يولد من غير أب ، وكالحركة تجىء من جامد لا يتحرك كعصا ، ونار تنطفئ وقد أوقدت ، إذا كان ذلك الانقطاع بين الأسباب العادية ومسبباتها حكم العقل بأن الذى فعل ذلك فوق الأسباب العادية ومسبباتها ، ولو ساير العقل منطقه إلى أقصى مداه (وليس بعيدا فى حكم المنطق العقلى المستقيم الذى يصل إلى المدى من أقر به) فإنه لا بد واصل إلى أن الذى خرق العادات وخالف أسبابها ومسبباتها لا بد أن يكون خالقها وموجدها. وإذا كان القصور العقلى لا يصل إلى هذه الغاية ، فإنه لا بد واصل إلى أن خرق هذه العادات لا بد أن يكون لغاية ، وأنه إذا وجدت هذه الغاية وبينت مقاصدها ، وعلم أن ذلك الخرق لهذه الغاية تبين معه صدق ما يدعى ، وأنه يعلم من وراء ذلك الخالق الحكيم ، المسيطر على كل شىء الذى يفعل ما يريد ، ولا يقيده نظام خلقه ، ولا عادات أوجدها.

لذلك كان الأمر الخارق للعادة حجة الصدق لمن يدعى أنه يتكلم عن الخالق الحكيم الفعال لما يريد ؛ لأنه لا يغير العادات سواه وإن الصادق يعلن دعواه ، ويقيم ذلك برهانا عليها ، ويتحدى الناس أن يفعلوا مثلها ، ويسمى فى هذه الحال أنه معجزة.

ولذلك عرفوها بأنها : الأمر الخارق للعادة الذى يدعى به من جرى على يديه أنه نبى من عند الله تعالى ، ويتحداهم أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين ، وأن المعجزة المادية تتحدى بنفسها مع ادعاء الرسالة. فإن النار لا تنطفئ من تلقاء نفسها ، إذ يلقى فيها إبراهيم عليه‌السلام فتكون بردا وسلاما عليه فلا يحترق ، وكالعصا التى تتحرك وتتلوى كأنها ثعبان مبين وليست سحرا كما أدرك الساحرون ، وكانوا أول المؤمنين ، وكإبراء عيسى للأكمه والأبرص بإذن الله ، وكإحيائه الموتى بإذن الله ، فما كان له أن يطلب منهم أن يأتوا بمثلها ، والقصور بين ، والعجز واضح ، ومع ذلك فالتحدى قائم ، والعجز ثابت ، والحجة قائمة ، وكان عليهم أن يؤمنوا بالحق إذا جاءهم.

٧

وهناك بجوار المعجزة المادية معجزة هى شىء قائم بذاته ثابت ، ولكن الإعجاز فيه أمر لا يدرك بالحس ، ولكن يدرك بالدراسة والفحص ، وقد يدعى بعض من لا يسبر غوره ، ويعرف أمره ، أنه يستطيع أن يأتى بمثله وما هو بمستطيع ، وأنه فى قدرته ، وليس بقادر عليه ، وهو من غرور النفس ، أو ادعاء القدرة أو اللجاجة فى الأفكار ، والمباهتة المناهضة للحقائق.

وإن ذلك يكون فى المعجزة التى تكون من نوع الكلام ، وهى معجزة القرآن الكريم ، فقد كان الغرور يوهم بعض المخاطبين به أن عندهم القدرة على الإتيان بمثله ، فكان لا بد من كشف هذا الغرور ، وإزالة تلك الغشية الباطلة ، ليتبين وضح الحق ، ولذلك طالبهم الله تعالى بأن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين فى مثل قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) [سورة البقرة : ٢٣] ، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وقرر سبحانه أن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله ، فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). [سورة الإسراء : ٨٨]

٢ ـ وهنا يسأل سائل : لما ذا كانت معجزة إبراهيم نارا موقدة صارت بردا وسلاما ، ومعجزة موسى عليه‌السلام كانت عصا صارت حية تسعى ، وغيرها أيده الله به إلى تسع آيات كلها كانت مادية حسية ، وكذلك كانت معجزة عيسى عليه‌السلام إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، وإنزال مائدة من السماء ، بل كانت ولادته ذاتها معجزة حسية إذ ولد من غير أب ، وتكلم فى المهد صبيا ، إذ قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣) [سورة مريم : ٣٠ ـ ٣٣].

لما ذا كانت معجزات الأنبياء السابقة حسية على ذلك النحو ، ومعجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معنوية ، فقد كانت بيانا يتلى ، وذكرا حكيما ، يحفظ فيه بيان الشرائع المحكمة الخالدة؟

قبل أن نخوض فى الإجابة عن السؤال الوارد فى موضعه ، نقرر أن كون المعجزة مادية حسية تبهر الأعين بادئ الرأى لا يدل على علو المنزلة ، أو عكسها ، ولكنها حكمة الله تعالى العليم بكل شىء ، القادر على كل شىء ، والله تعالى فضل بعض الرسل على بعض ، فمنهم من كلم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، ولكن ليست

٨

الرفعة بكون الآيات مادية أو حسية ، بل بأمور قدرها الحكيم العليم الذى له وحده حق نوع التفضيل والرفعة.

ونعود بعد ذلك إلى الإجابة عن السؤال الوارد ، فنقول : إن العلماء قالوا : إن كل معجزة مناسبة للعصر الذى أرسل فيه كل نبى ، إذ تكون هادية ومرشدة ، وخرقها للعادات الجارية يكون أوضح ، ومناسبتها لرسالة النبى المبعوث يكون دليلا على كمال الرسالة وعموم شمولها لكل الأزمنة.

وقد نخالفهم فى بعض ما ذكروا أو نوافقهم ، فنرى أن إبراهيم جاء فى قوم كانوا على مقربة من عبدة النار ، فكان فى إطفاء الله تعالى للنار من غير سبب ظاهر بيان بعجز النار التى تعبد.

ونوافقهم فى أن معجزات موسى عليه‌السلام كانت مناسبة لأهل مصر لأن السحر والكهانة كانا فيهم ، وقد كان للسحرة مكانة عندهم ، وبقية المعجزات كانت متعلقة بالزرع وآفاته ، وهم أهل زرع وضرع من أقدم العصور ، كما قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٥) [سورة الأعراف : ١٣٣ ـ ١٣٥].

وهكذا كانت تسع آيات حسية مناسبة لأهل مصر ، وبنى إسرائيل ، فكانوا يقولون أنه سحر ، واقرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (١٠٢).

[سورة الإسراء : ١٠١ ـ ١٠٢]

٣ ـ هذه معجزات إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام وهى مناسبة لزمنهما ، وكذلك معجزة عيسى عليه الصلاة والسلام كانت مناسبة لعصره ، لا لأن عصره شاع فيه علم الطب كما يقول بعض علماء الكلام ؛ لأن علم الطب لم يكن رائجا بين بنى إسرائيل ، فلم يكن بينهم علم أبقراط ، كما قرر رينان فى كتابه «حياة يسوع» بل إن معجزاته كانت من ذلك النوع لسبب آخر يجب أن نتلمسه من غضون التاريخ ، ومن حال بنى إسرائيل ، ذلك أن العصر كان عصرا ماديا يؤمن بالمادة ولا يؤمن بالغيب ، بل كان من اليهود من لا يؤمن باليوم الآخر ، وإنك لترى أن التوراة التى بأيدينا ، وهى ميراثهم من التوراة التى حرفت ، تقرر أن نفس الإنسان هى دمه.

٩

وكان بجوار هذه الروح المادية التى سادت بنى إسرائيل استجابة لما هو سائد فى عصرهم الرومانى الذى كان يزمن بالمادة ، كان بجوار هذا إيمان بالأسباب العادية والمسببات ، بحيث يعتقدون أنه لا يمكن أن ينفك السبب عن مسببه ، واللازم عن ملزومه ، فلا توجد نتائج من غير سبب عادى ، فلا ولد من غير والد ، ولا حياة تكون بعد موت من يموت ، فلا يرتد حيا ، وقد عجزت الأسباب عن أن يرتد حيا من يموت ، وعجزت الأسباب عن أن يرتد بصيرا من يولد أعمى.

لقد سادت الفلسفة الأيونيه ، والفلسفة اليونانية التى تقرر لزوم الأسباب العادية ، حتى لقد فرضوا أن الأشياء نشأت عن الخالق لها بقانون السببية ، فقالوا : إن الكون نشأ عن المنشئ الأول نشوء المسبب عن سببه بلا إرادة مختارة منشئة. لقد قرروا أن قانون الأسباب هو الذى يحكم كل شىء.

لذلك كانت معجزات عيسى عليه‌السلام متضمنة الرد والتنبيه فى أمرين :

أولهما : بيان سلطان الروح ، فقد ظهرت الروح مسيطرة موجهة مرشدة فى أنه كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم ، وفى أنه عليه‌السلام أحيا الموتى بإذن الله ، وأخرجهم من قبورهم بإذن الله ، وأنزل عليه مائدة من السماء بإذن الله تعالى.

وثانيهما : أنه كانت معجزاته عليه‌السلام هادمة لارتباط الأسباب العادية بمسبباتها ، لقد ولد من غير أب ، والأسباب العادية تقرر أنه لا مولود من غير والد ، وتكلم فى المهد صبيا ، وذلك غير المقرر فى الأسباب والمسببات ، وأخبر عن بعض المغيب عنه ، وذلك غير الأسباب العادية التى توجب المعاينة فى صدق الأخبار. وأحيا الموتى بإذن الله ، وذلك ما لا يتحقق فى الأسباب العادية.

وهكذا نجد معجزات عيسى عليه‌السلام ورسالته كانت إيقاظا شديدا لعصره ، وتنبيها لمكان الروح ، وسلطانها ، وبيانا لقدرة الله تعالى ، وأنه الفعال لما يريد ، فكانت رسالته ومعجزاته مناسبة لعصره.

معجزة القرآن

وكل معجزات الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم سواء أكانت مادية فى كونها ، أم كانت متضمنة معانى روحية ـ كانت من النوع الذى يحس بالرؤية ، ويكون من بعدها التأمل ، وليس من النوع الذى يكون بالتأمل ، ولا يدرك إلا بالتأمل ، وإن كان قائما ثابتا فى الوجود من غير ريب ، وكانت حوادث تقع ، ولا تبقى ، ولا يبقى منها إلا الإخبار بها ، فلا يعرفها على اليقين إلا من عاينها.

١٠

٤ ـ ولكن معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت من نوع آخر ، لم تكن حادثة تقع ، وتزول من غير بقاء لها إلا بالخبر ، بل كانت قائمة تخاطب الأجيال ، يراها ويقرؤها الناس فى كل عصر ، ونقول : إنها مناسبة لرسالة النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعمومها فى الأجيال ، ولمكانته بين الرسل ، ومقامه فى هذا الوجود الإنسانى إلى يوم القيامة.

إن معجزات الأنبياء السابقين لا يعلم وقوعها على وجه اليقين إلا من القرآن ، فهو الذى سجل معجزات نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، ولو لا أنه سجلها ما علمها الناس ، وإذا كانت بعض الكتب القائمة اليوم ذكرت بعضها فقد ذكرته مشوبا بأمور غير صادقة كإخبارهم بأن لوطا كان مخمورا فوقع على ابنتيه ، وما يكتب فيه مثل هذا عن بعض النبيين لا يمكن أن يكون مقبول الخبر عن سائرهم ومعجزاتهم.

ونقول : إن معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت القرآن ، لقد أجرى الله تعالى على يديه خوارق عادات أخرى مثل إخباره عن بعض ما يغيب عن حسه ، ومثل حنين الجذع إليه ، ومثل بكاء الناقة عنده ، ومثل الإسراء والمعراج ، ولكن لم يتحدّ إلا بالقرآن الكريم ، ولم ير المشركون صرحا شامخا يتحداهم به سوى القرآن الكريم.

ولما ذا كانت معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، وما كان يرجو الاتباع إلا به ، ولقد روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من نبى إلا أوتى ما مثله آمن به البشر ، وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحى به إلى ، وإنى لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ومن هذا يتبين جواب ذلك السؤال ، وهذا لأن رسالة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالدة ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين ، ولا نبى بعده ، فيجب أن تكون معجزته مناسبة لهذه الرسالة الخالدة الباقية التى لا يحدها زمان فى المستقبل ، بل تبقى إلى يوم القيامة ولا تكون معجزته واقعة تنقضى ، وتنتهى بانتهاء الزمن الذى وجدت فيه ، بل تبقى الحجة ما بقيت الشريعة ، وذلك محقق فى القرآن ، فهو حجة قائمة على العرب والعجم إلى يوم الدين ، وهو معجز لكل الخلائق ، وذلك ما نتصدى لبعضه ، والله هو المعين.

المعجزة الخالدة

٥ ـ تلك المعجزة الخالدة هى القرآن الذى يتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بمثله ، ولو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، كما ذكر الله سبحانه وتعالى فى محكم التنزيل الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، هو حجة الله على خلقه ، وحجة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى رسالته ، وسجل الشريعة المحكم فى بيانه ، وهو المرجع عند الاختلاف ، والحكم العدل عند الافتراق ، وهو الطريق المستقيم المرشد عن الاعوجاج ، من سلكه وصل ، ومن لجأ إليه اهتدى.

١١

روى الترمذى بسنده عن على بن أبى طالب رضى الله عنه ، وكرم وجهه فى الجنة أنه قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ستكون فتن كقطع الليل المظلم ، قلت : يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله ، هو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم ، وهو الذى لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تتشعب معه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الأتقياء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضى عجائبه ، وهو الذى لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد ، من علم علمه سبق ، ومن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ، خذها إليك يا أعور».

وقد رواه الحارث الهمذانى برواية الترمذى ، وقد حسن رواية الحارث كثيرون من المحدثين ، منهم الفقيه المحدث ابن عبد البر ، وإن الذين اتهموا حارثا فيهم نزعة أموية ، ومنهم الشعبى ، وقد قال فيه ابن عبد البر : «أظن الشعبى عوقب لقوله فى الحارث الهمذانى : حدثنى الحارث وكان أحد الكاذبين».

وإنه فى معنى هذا الحديث ما روى عن عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه ، إذ جاء أنه فيما روى عنه «إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن هو حبل الله والنور المبين ، والشفاء النافع ، عصمة من تمسك به ، ونجاة من اتبعه ، لا يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضى عجائبه ، فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات».

وإن هذه الأخبار ومثلها كثير تدل على منزلة القرآن فى الإسلام ، وأنه العصمة من الزيغ ، وأنه المرجع المتبع ، وأنه يشتمل على شرائع الإسلام كلها ، وأنه بذلك هو الحكم بين الناس الذى لا يضل حكمه ، وأن من تركه من جبار قصم الله تعالى ظهره ، وأنه لا تتشعب الآراء فى حقيقته إذا استقامت الأفهام ، ولم تضل المدارك.

والعلماء يجدون فيه المعين الذى لا ينضب ، والثروة الإسلامية التى لا تنفد. فيه حكم الأمور كلها ما وقع وما لم يقع ، وأن كل ما فيه حق ، وأنه مصلحة الدنيا والأخرى ، ما من خبر إلا له فى القرآن أصل معتمد ، ونص يمكن الحمل عليه ، فما ترك الله الإنسان سدى. وقد قال تعالى وقوله الحق : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الأنعام : ٣٨]. وفيه عبر الماضين وأخبار كل النبيين ، فهو كتاب الله الكامل ،

١٢

فيه معانى كل الكتب المنزلة على الرسل ، وفيه أخبار أولئك الرسل مع أقوامهم ، وفيه المثلات المرشدة ، والعظات الموجهة ، وفيه أعلى الآداب الإنسانية وأقوم السلوك الكامل للخلق أجمعين ، وفيه تعليم الإنسان الاتجاه إلى الكون وتعرف ما فيه ، والأخذ بالعلم من قوادمه وخوافيه ، وفيه الدعوة إلى العلم بكل ضروبه ، علم الإنسان ، وعلم النفس ، وعلم الكون ، وإلى العلم بالنجوم فى مسالكها ، والسموات وأفلاكها ، والأرض فى طبقاتها ، فيه الدعوة إلى العلم بما لم يعلم ، وطلبه فى كل مداراته.

خاطب الله تعالى به أولياءه فعرفوه ، وأصحاب العقول المستقيمة فأدركوه ، وكان حقا كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) [سورة الرعد : ٣١]. ذلك هو كتاب الله تعالى بما حمل من معان وتكليف ، وما كساه الله تعالى به من روعة وتشريف ، وهو كما وصفه الله تعالى بقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [سورة الزمر : ٢٣].

***

١٣
١٤

القسم الأول

نزول القرآن

١٥
١٦

نزول القرآن

٦ ـ من وقت أن من الله تعالى على الإنسانية بالبعث المحمدى ابتدأ نزول القرآن ، فأول آية نزلت كانت الخطاب من الله تعالى بالتكليف الذى كلفه تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمل الرسالة إلى خلقه ، فقد نزلت أول آية وهى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) [العلق : ١ ـ ٥]. فكان هذا إيذانا بأن دين العلم قد وجب تبليغه ، وأن كتاب العلم قد ثبت تنزيله ، وأن إعلاء شأن الفكر قد جاء به خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وفيه إيماء إلى أن الإسلام والعلم يجتمعان ، ولا يتناقضان أبدا.

توالى نزول القرآن منجما فى مدة الرسالة المحمدية التى استمرت ثلاثا وعشرين سنة يدعو فيها بالحق ، وإلى صراط مستقيم ، ينير السبيل ، ويهدى للتى هى أقوم.

فكانت الآيات القرآنية تنزل وقتا بعد آخر ، وكان التحدى بما نزل وإن لم يكن ما نزل كل القرآن ، لأن كل جزء منه ينطبق عليه اسم الكتاب ، بل القرآن ، إذ إن التحدى يقع به ، والمعجزة تتحقق فيه ، فقد تحدى أهل مكة أن يأتوا بمثله ، ولم يكن قد نزل كله ، فقد قال تعالى فى سورة يونس ، وهى مكية : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (١٧) [يونس : ١٦ ، ١٧] ، وجاء التحدى فى هذه السورة أيضا فقال تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) [يونس : ٣٧ ، ٣٨] ، وجاء فى سورة هود وهى مكية (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣) [هود : ١٣].

ومن هذا كله يتبين أن بعض القرآن قرآن يتحدى فيه ، فهو الكتاب الكامل فى كله ، والكامل فى جزئه ، وهو معجز فى أجزائه ، كما هو معجز فى ذاته ، وإن شئت فقل إنه معجزات متضافرة ، وإذا كان لموسى تسع آيات بينات فلمحمد مئات من المعجزات البينات.

حكمة نزوله منجما

٧ ـ وقد يسأل سائل : لما ذا نزل القرآن منجما ولم ينزل دفعة واحدة كما نزلت الألواح العشر على موسى عليه‌السلام ، وكما نزل الزبور على داود؟ وإن مثل هذا

١٧

السؤال جاء على ألسنة المشركين معترضين ، متخذين منه سبيلا للجاجتهم ، وقد نقل القرآن الكريم عنهم ذلك ورده. فقد قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) [الفرقان : ٣٢].

ونرى أن النص الكريم قد نقل اعتراض المشركين ، ورده سبحانه وتعالى عليهم ، وقد تضمن الرد ثلاثة أمور تومئ إلى السبب فى نزوله منجما :

أولها : تثبيت فؤاد الرسول بموالاة الوحى بالقرآن فإن موالاته فيها أنس للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتثبيت لعزيمته ، وتأييد مستمر له ، فيقوم بحق الدعوة بالجهاد فى سبيلها ، وإذا كان المرء يستأنس بوليه إذا والى الاتصال به فكيف لا يستأنس رسول الله تعالى بلقاء الروح الأمين الذى يجيئه بكلام رب العالمين فى موالاة مستمرة.

ثانيها : أن تثبيت الفؤاد بنزول القرآن يكون بحفظ ما ينزل عليه جزءا جزءا ؛ ذلك أن هذا القرآن نزل ليحفظ فى الأجيال كلها جيلا بعد جيل ، وما يحفظ فى الصدور لا يعتريه التغيير ولا التبديل ، وما يكتب فى السطور قد يعتريه المحو والإثبات والتحريف والتصحيف ، ولأن الله تعالى كتب للقرآن آن يحفظ ، كان يحفظ جزءا جزءا ، وكان ينزل مجزأ ليسهل ذلك الحفظ ، وكان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على أن يحفظه عند نزوله ، فكان يردد ما يتلوه عليه جبريل ويتعجل حفظه ، وقد قال الله سبحانه وتعالى لنبيه فى ذلك : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) [القيامة : ١٦ ـ ١٩]. وترى من هذا النص حرص النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يحفظ ما يوحى إليه ، فيحرك به لسانه مستعجلا الحفظ فينبهه الله تعالى إلى أنه يتولى جمعه وإقراءه له ، وأنه مبينه وحافظه ، كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩].

الأمر الثالث : هو ترتيل القرآن بتعليم تلاوته ، وإن هذا النص يستفاد منه أن تلاوة القرآن وطريقة ترتيله هما من تعليم الله تعالى ، إذ إنه سبحانه وتعالى ينسب الترتيل إليه تعالت قدرته وكلماته ، وعظم بيانه. فنحن بقراءتنا وترتيلنا إن أحكمناه إنما نتبع ما علم الله تعالى نبيه من ترتيل محكم جاء به التنزيل ، وأمر به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) [المزمل : ٤] ، وما كان تعليم هذا الترتيل المنزل من عند الله تعالى ليتوافر إذا لم ينزل القرآن منجما ، فلو نزل جملة واحدة ما تمكن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تعلم الترتيل ، ولو علمه الله تعالى بغير تنجيمه ما كان فى الإمكان أن يعلمه قومه وهم حملته إلى الأجيال من بعده.

هذا ما يستفاد من النص الكريم المتلو ، وعبارته السامية فيه واضحة بينة تشرق بمعانيه العالية الهادية الموجهة المرشدة.

١٨

وهناك سبب آخر لنزول القرآن منجما نلمسه من حال العرب ومن شئونهم ؛ ذلك أن العرب كانوا أمة أمية ، والكتابة فيهم ليست رائجة ، بل يندر فيهم من يعرفها ، وأندر منه من يتقنها ، فما كان فى استطاعتهم أن يكتبوا القرآن كله إذا نزل جملة واحدة ، إذ يكون بسوره وآياته عسيرا عليهم أن يكتبوه ، وإن كتبوه لا يعدموا الخطأ والتصحيف والتحريف.

ولقد كان من فائدة إنزال القرآن منجما أنه كان ينزل لمناسبات ولأحداث فيكون فى هذه الأحداث بعض البيان لأحكامه والمبين الأول هو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤].

المكى والمدنى

٨ ـ كان نزول القرآن منجما سببا فى أن بعضه نزل بمكة وبعضه نزل بالمدينة ، فكان منه المكى ومنه المدنى ، فالمكى ما نزل قبل الهجرة ، والمدنى ما نزل بعد الهجرة ، فما نزل بعد الهجرة ولو بمكة يسمى مدنيا ، وما نزل قبل الهجرة يسمى مكيا ، فالتقييم زمانى ، وليس بمكانى ، ليست العبرة بمكان النزول إنما العبرة فيه بزمانه.

والآيات المكية فيها بيان العقيدة الإسلامية ، وبطلان عبادة الأوثان ومجادلة المشركين والدعوة إلى التوحيد ، ومخاطبة العرب ، وفيها قصص الأنبياء الذين جاءوا إلى بلاد العرب ولهم آثار فى أجزائها تنادى بما صنع أقوامهم ، وما أصابهم الله تعالى بكفرهم من حاصب ، ومن خسف جعل عالى ديارهم سافلها ، ومن ريح صرصر عاتية.

ولم يكن فى الآيات المكية أحكام للمعاملات ، وإن كان فيها إشارات إلى المحرمات كالخمر والربا ، فقد قال تعالى مشيرا إلى أن الخمر أمر غير حسن : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧) [النحل : ٦٧]. فإن هذا النص الكريم يشير إلى أن الخمر ليست أمرا حسنا ، لأنه سبحانه وتعالى جعلها مقابلة للأمر الحسن ، ولا يقابل الحسن إلا القبيح ، أو على الأقل الأمر غير الحسن.

ولقد جاء أيضا فى سورة الروم ما يشير إلى أن الربا أمر غير مستحسن فقد قال تعالى فى سورة الروم : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٩) [الروم : ٣٩].

وإن عدم وجود أحكام للمعاملات فى مكة سببه أن الدولة التى كانت قائمة كانت دولة شرك ، وأن من المستحيل أن تنفذ أحكام المعاملات الإسلامية فى ظلها ، وكان

١٩

الاتجاه الأول إلى إخراجها من الشرك وإدخالها فى التوحيد أولا ، ثم من بعد ذلك تكون الدولة الإسلامية المنفذة ، ولكن المحرمات كانت ثابتة من أول تشريع الإسلام ، وإن كان مسكوتا عنها. فلم تكن موضع إباحة ، بل كانت موضع سكوت وعفو حتى ينزل التشريع بتحريمها تحريما قاطعا ، فما كانت الخمر مباحة ، ولكن كان مسكوتا عنها ، أو كانت فى مرتبة العفو كما يقول علماء الأصول ، حتى إذا كان المنع الصريح فى المدينة ، كان معه العقاب ، وهكذا كل ما كان مسكوتا عنه لم يكن موضع إباحة.

ولما انتقل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة كان التنظيم الكامل للمعاملات لأنه وجدت دولة إسلامية فاضلة ، تنظم العلاقات بين الناس ، وتقوم على تنفيذها ، والقضاء بها ، فنظم التعامل ، وابتدأ بأعلى أنواع التعاون بين الناس وهو الإخاء الذى آخى فيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار ، والأنصار بعضهم مع بعض ، والمهاجرين بعضهم مع بعض ، وشرعت النظم الاجتماعية ، والمعاملات الإنسانية. من أحكام للبيوع والمزارعات. وتحريم للربويات وغيرها. وفرضية الصدقات وتنظيمها ، وإعطاء الفقير حقه ، والتنظيم الاجتماعى الكامل ، وشرعت الزواجر الاجتماعية من حدود وقصاص. وسنت الأحكام الفاصلة بين الحقوق ، وفتح باب الجهاد. ووضعت نظم الحرب ، وقامت العلاقات الدولية على أسس متينة محكمة ، يراعى فيها حق العدو ، كما يلاحظ حق الولى على سواء ؛ لأن المبادئ المدنية فى الإسلام قامت على إعطاء كل ذى حق حقه من غير بخس ولا شطط ، ولا مجاوزة للحد ولا اعتداء.

ويلاحظ أن مبادئ العدالة جاءت مع وجود الشريعة الإسلامية ، وقد دعا إليها القرآن الكريم فى مكة والمدينة ؛ لأن العدالة حق ابتدائى لا يختلف فى دولة عن دولة ، فهو يتعلق بالنفس الإنسانية فى ذاتها.

فالأمر بالعدالة والإحسان والوفاء بالعهد جاء فى سورة النحل ، وهى مكية عند نظر الأكثرين ؛ لأن الله تعالى يقول فيها وهو أحكم القائلين : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) [النحل : ٩٠ ـ ٩٢].

ولقد أحصى القرطبى فى تفسيره الجامع لأحكام القرآن السور المدنية. فقال : «عن قتادة نزل بالمدينة من القرآن : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، وبراءة ، والرعد ، والنحل ، والحج ، والنور ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والحجرات والرحمن ، والحديد ، والمجادلة ، والحشر ، والممتحنة ، والصف ، والجمعة ،

٢٠