المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

التصريف البيانى فى قصص القرآن :

ذكر الله تعالى الحقائق الإسلامية فى القصص ، فلم يكن عبرة فقط بل كان بيانا لحقائق الإسلام ، فتجد فيه بيانا لعقيدة التوحيد ، والبرهان عليها جاء فى سياق القصص عن النبيين السابقين. فقد رأيت فى قصص سيدنا إبراهيم عليه‌السلام ، كيف كانت الدعوة إلى التوحيد ، وكيف أبطل عبادة الأوثان بأنها لا تضر ولا تنفع ، وأنه جعلها جذاذا إلا كبيرا لهم ، وأنهم أرادوا عقوبته بالحرق بالنار ، فجعلها الله تعالى بردا وسلاما على إبراهيم.

واقرأ بعض القصص عن سيدنا نوح الأب الثانى للبشر ، ترى الأدلة على التوحيد بأن نجد فى بعضها أدلة التوحيد تساق للضالين ، ويوجه أنظارهم إلى الكون وما فيه فقد قال تعالى :

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠) [نوح : ٢ ـ ٢٠].

ألم تر فى هذه النصوص السامية تسلية واضحة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ فيها بيان ما لقيه نوح ، وكيف كانت الأدلة القاطعة لا تزيدهم إلا نفورا من الحق وفرارا من اتباعه ، وإصرارا على الباطل ، وفى كل ذلك عزاء للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا تذهب نفسه حسرات على كفر الكافرين وجحودهم بعد الأدلة القاطعة.

ومع هذا العزاء الروحى ، والعبرة التى تريح الدعاة إلى الحق ، نجد فى السياق البرهنة على التوحيد ، وأن الله تعالى وحده هو الخالق وأنه بالتالى المستحق للعبادة وحده ، فلا معبود سواه.

وسوق الأدلة على التوحيد فى سياق قصة ، يجعله يسرى إلى النفس من غير مقاومة ، وتكراره يجعله يخط فى النفس خطوطا ، وتتعمق الخطوط فيكون الإيمان.

١٤١

وإنك لترى الدعوة إلى التوحيد واضحة فى قصة يوسف عليه‌السلام ، فهو فى السجن يدعو إلى التوحيد وعبادة الله وحده ، ويجعل سلواه وهو فى السجن الدعوة إلى الوحدانية ، وسوق الأدلة ، فالله تعالى يحكى عنه أنه يقول لصاحبيه فى السجن : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٠). [يوسف : ٣٧ ـ ٤٠]

انظر إلى الاستدلال القيم على أن الواحد الأحد خير من أرباب متفرقين ، يتيه العقل فيهم ، وأنهم لا حقائق لهم تتعلق بالألوهية ، ثم يذكر ذلك عقب أن بين تأويل ما عجز عنه المؤولون من رؤى ، وقال أنه قد علمه ربه.

ثم انظر إلى هذا القصص ، وذكر التوحيد يجيء فى أثناء السجن بسبب فرية نسائية افترينها عليه ، ويجيء فى وسط قصة نسوة المدينة ، أنه يكون طريفا ، فيكون له تأثيرا أقوى وأشد.

٨٤ ـ وليس القصص القرآنى فيه إثبات أن الله وحده هو المستحق للعبادة ، وبطلان عبادة الأوثان التى هى أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، بل فيها إثبات الوحدانية أمام الذين يدعون ألوهية المسيح عليه‌السلام.

واقرأ قصة عيسى عليه‌السلام ، فإن فيها الدليل على أنه ليس إلا عبدا لله تعالى ، ولقد قال سبحانه وتعالى فى ذلك : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢). [النساء : ١٧١ ـ ١٧٢]

ونرى من هذا أن ذكر قصة عيسى أو ذكر جزء منها اختص ببيان وحدانية الله وإثبات بطلان أن الله تعالى ثالث ثلاثة ، وساق الدليل ، وهو أن الله تعالى خالق كل شىء وله ما فى السموات والأرض ، وصلة كل مخلوق كمثيله وإن اختلف طريق غيره ،

١٤٢

فصلة المسيح عليه‌السلام بالله من حيث الخلق والتكوين كصلته بأى مخلوق سواه ، ولا يؤثر فى هذه الصلة التكوينية أنه عبد ممتاز ، وأنه رسول من رب العالمين ، وإن كانت طريقة تكوينه أنه وجد من غير أب ، فإن ذلك لا يجعله إلها أو ابن إله ، كما قال تعالى فى مقام آخر فيه إشارة إلى قصة عيسى ، إذ قال الله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩) [آل عمران : ٥٩].

واقرأ قصة أخرى لسيدنا عيسى عليه‌السلام ، فقد قال الله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٧٦) [المائدة : ٧١ ـ ٧٦].

وهنا نجد الرد على من يجعلون المسيح إلها ، لقد نفى الدعوى من أصلها إذ بين أن المسيح الأمين لم يكن يدعيها ، ولا يمكن أن يدعيها فقد كان هو داعيا إلى التوحيد ، نافيا للشرك بربوبية الله ، وأنه كسائر الناس مخلوق وأن الله ربه كما هو رب الناس جميعا ، وبين سبحانه بطلان دعوى الألوهية له ولأمه بأنهما محتاجان ، ويأكلان الطعام كسائر الناس ، والله تعالى غنى لا يحتاج ، وليست له صفة الحوادث من طعام وغذاء ، وبين ثالثا أنه لا يضر ولا ينفع إلا بإذن من الله تعالى خالقه من غير أب ، وأنه من بعد ذلك عبد لا يستنكف ولا يستكبر.

ونرى أن نفى التثليث وإثبات بطلانه بالدليل ، جاء فى ضمن قصة فكان تصريفا فى الاستدلال ، إذ إن سوق الدليل فى ضمن قصة يجعله أكثر سريانا فى النفس ، وانسيابا فى أطوائها.

الحث على المعاملة الطيبة فى القصص :

٨٥ ـ وإنه مما جاء فى القصص أن دعوة النبيين عليهم الصلاة وأتم السلام جاءت للخير إلى حسن التعامل ، وإصلاح الأرض ، وأن إصلاح الأعمال والنفوس ومنع الفساد فى الأرض من أعظم المقاصد فى الشرائع السماوية بعد عبادة الله تعالى والإيمان باليوم الآخر ، وإذا كان ذلك فى ضمن قصة استمكنت فى النفس واتجهت إلى مداخلها من غير تعويق من ملاحاة جديدة ، غير ما كان فى عهد النبى الذى ذكرته القصة.

١٤٣

اقرأ قصة شعيب عليه‌السلام ، فقد قال تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٧) [الأعراف : ٨٥ ـ ٨٧].

أما ترى فى هذا النص القرآنى الذى تتضمنه قصة شعيب عليه‌السلام دعوة صريحة إلى ناحية علمية ، تتصل بالإصلاح الاجتماعى ، ومنع الفساد فى الأرض ، والقيام بحق الأمانة فى التعامل.

وفى موضع آخر من قصة شعيب نجده يكرر الدعوة ، ثم يبين سبحانه كيف تقاوم دعوة الحق بالإصرار على الشر ، وكيف كان الإصرار عليه إلى أن يديل الله تعالى بما ينزل بالعصاة ، ومما يؤدى إلى فساد أخلاق الأمة ، لقد قال الله تعالى حكاية لقول شعيب : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨) [هود : ٨٤ ـ ٨٨].

ونرى من هذه المجاوبة أنهم يصرون على ما هم عليه ، ويعدون إرشادهم إلى الحق فى المعاملة ، تدخلا فى شئونهم المالية ، وكأنهم يظنون أن شئون المال لا صلة لها بالتدين ، كما يجرى على ألسنة بعض الذين لا يريدون بالدين الحق وقارا ، ويبين سيدنا شعيب عليه‌السلام أنه إذ ينهاهم ، هو أول من يتمسك بألا يفعل ما نهى عنه ، إذ يقول : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) وفى ذلك إشارة إلى أن من يدعو إلى أمر يهدمه إن خالفه فى عمله ، وأن الاستجابة إلى الداعى إلى الخير تقتضى أن يكون الداعى مستجيبا له وهكذا ، فإن الله تعالى يأخذ على بنى إسرائيل ، أنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، فقد قال تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤) [البقرة : ٤٤].

١٤٤

ميزان العدالة فى الحكم :

٨٦ ـ ويبين الله سبحانه وتعالى بطريق القصص القرآنى ـ لأنه من تصريف البيان ، كما أشرنا ـ أن مقياس الحكم العادل إدراك الحق ، وألا يجعل القاضى أو الحاكم ، للهوى سلطانا فى الحكم ، فإن كان الهوى كان الشطط فى الحكم ، ومظنة الوقوع فى الظلم ، وإن كان الحاكم لا بد أن يكون مدركا للحق فلا بد من عنصر العلم ، وإبعاد الهوى.

واقرأ قصة داود عليه‌السلام الذى أعطاه الله الملك والحكمة ، فاقرأ العبارات السامية التالية : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦). [ص : ٢١ ـ ٢٦]

هنا نجد القصة عن نبى الله داود عليه‌السلام تتضمن ثلاثة أمور فى التنبيه على كل واحدة منها تنبيه إلى أمثل الطرق للوصول إلى العدل فى الأحكام.

أولها : أنه سبق إلى الحكم من غير أن يستمع إلى كلام الخصم ، فقضى لأحد الخصمين ، قبل أن يستمع إلى كلام الآخر ، فإن ذلك مدرجة الظلم ، بل قد يكون ظلما.

ثانيها : أنه لم يكتف بالحكم فى القضية المعروضة ، بل عمم الحكم ، والقضاء يكون فى القضية المدروسة ، ولا يتجاوزها.

الأمر الثالث : وهو يفصل التفرقة بين الحكم الظالم والحكم العادل ، أن الحكم العادل لا يكون بالهوى والشهوة ، وأما الحكم الظالم فإنه يكون تحت سلطان الهوى والشهوة. وأن الملوك والحكام المستبدين يكون مصدر شرهم أهواؤهم ، فهم يتبعون أهواءهم فيما يحكمون به ، وما ينزلونه بالناس ، فهم يسنون النظم تبعا لأهوائهم ويطبقونها تبعا لأهوائهم ، ويجعلون شيعتهم تسارع إلى تنفيذ أهوائهم ، ولا يفهمون المصلحة إلا تابعة لأهوائهم ، فإذا نهى الله تعالى نبيه داود عن اتباع الهوى وهو خليفة

١٤٥

حاكم ، فإنما نهاه عما يؤدى إلى فساد الحكم ، وبهذا يتبين أن حكم الهوى كان مصدر فساد الحكم فى الماضى ، كما هو مصدر الفساد فى كل الأزمان ، وذكر ذلك فى قصة من قصص القرآن يزيد المبدأ تبينا وتأكيدا ، وقد بينا أن ذكر أى أمر فى قصة يجعله يسرى فى النفوس ، ويدخل إلى الضمائر إن كان فيها استعداد للحق.

ولا شك أن هذا كله يدل على أن القرآن يصرف فيه سبحانه البيان تصريفا ليكون أقرب إلى التأثير والدفع إلى العمل ، وليس ذكر القصص للعبرة فقط ، بل هو مرشد وهاد مع ذلك إلى أقوم السبيل ، والله أعلم.

بيان بعض الأحكام بالقصص القرآنى :

٨٧ ـ من صور التصريف البيانى بالقصص القرآنى بيان بعض الأحكام الشرعية ، فإن ذلك يثبت هذه الأحكام ويدعمها ، لأنها تكون أحكاما متفقا عليها فى كل الشرائع السماوية ، وبيان أنها غير قابلة للنسخ ، وأنها مؤكدة ثابتة ، وفى القصة تكون حكمة شرعيتها قائمة والغاية منها ثابتة ، ولنذكر من قصة قابيل وهابيل ولدى آدم.

فقد قال الله تعالى فيها : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١) [المائدة : ٢٧ ـ ٣١].

هذه القصة تثبت أن الغيرة والحسد يؤديان إلى الاعتداء ، وأن ذلك يحدث بين أقرب الناس بعضهم لبعض ، وأنه لا علاج للحسد بإخراجه من النفوس ، فهو فيها دفين ، نعم إنه مرض ، ولكنه مرض لا يمكن أن يكون منه شفاء ، والناس ليسوا سواء فمنهم شقى وسعيد.

وإذا كان الأمر كذلك فلا علاج إلا ببتر من استكن فى قلبه الحسد ، وصار من شأنه التعدى استجابة له. والاعتبار فى النظم لصلاح الجماعة ، لا لصلاح الآحاد فقط ، ولذلك قال الله تعالى عقب ذكر قصة ولدى آدم : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (٣٢) [المائدة : ٣٢].

١٤٦

وإنا لنرى هذا القصص المحكم قد ارتبط فيه الحكم بسببه. فهو فى جزء من القصص ذكر سبحانه ما كان بين الأخ وأخيه من محاربته فطرة الأخوة الرابطة ، وأنه حمل نفسه حملا على ارتكاب جريمته ، إذ هى مخالفة للطبائع السليمة ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) حتى إذا تمت الجريمة رأى بشاعتها فى جثة أخيه ، فأراد أن يواريه فضلّ ، حتى رأى غرابا يبحث فى الأرض ليوارى جثة غراب مثله ، وعندئذ بدا له جهله وندم إذ رأى غرابا هو أحن على أخيه منه ، وهو أعلم كيف يوارى سوأة أخيه.

وما كانت أمور الناس لتترك فوضى. يجرم من يجرم ثم يندم ، فكانت شرعية القصاص ، لأن الاعتداء بالقتل اعتداء على حق الحياة فى كل إنسان ، ومن قتل نفسا بغير حق فهو على استعداد لقتل غيرها ، ففي عمله تعريض النفوس الإنسانية لاعتداء المعتدين المفسدين ، ومن أحياها بالقصاص من القاتل ، فكأنما أحيا الناس أجمعين ، كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].

وإن هذا يدل على أن شريعة القصاص شريعة أزلية خالدة باقية ، وأنها كانت فى الشرائع السابقة ، ولم تخل شريعة من شرائع النبيين الكرام منها ، ولقد ذكرت بحكمتها ؛ ونتيجتها ، وهى إحياء للأمة وإهمالها إماتة لها.

ولا شك أن ذلك تصريف بيانى قرآنى فى بيان الأحكام.

وقد جاءت الأحكام أكثر تفصيلا فى بيان القصاص فى الأطراف مع النفس فى قصص عن بنى إسرائيل. والتوراة وما جاء فيها. ولنتل على القارئ الكريم بعض ما جاء فى ذلك ، وإن كنا سنتلو أكثر مما تلونا من الماضى ، ولقد قال الله تعالى فى وصف بعض بنى إسرائيل فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين أرادوا أن ينفروا من حكم التوراة فى مجرم ارتكب جريمة ، لاجئين إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاسبين أن عنده حكما أخف من حكم التوراة ، لهوى فى نفوسهم. قال تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ

١٤٧

مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥٠) [المائدة : ٤٢ ـ ٥٠].

وترى من هذا النص الكريم بيانا للأحكام الشرعية الخاصة بالقصاص فى تفصيل محكم مستقر مقنع. فهو يجعل القصاص فى الأطراف ، كما هو ثابت فى النفس ، بل إنه يثبت القصاص فى الجروح ، ويوثق الأحكام بأنها نفذت فى الإنجيل إذ جاء الإنجيل مصدقا لما بين يديه من التوراة ويوثقها بأن القرآن مصدق لما جاء فى التوراة ، ولكن له هيمنة ، وسلطان ، يبقى ما يبقى ، وينسخ ما ينسخ ، وما يثبت أنه نسخ من أحكامها ، فهو منسوخ ، لأن له الهيمنة الكاملة.

وفى القصاص الشريعة باقية. وفى التوراة كما هو فى القرآن جواز العفو عن القصاص ، إذ يقول سبحانه : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) والقصاص ثبت بالقرآن ، فالله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩) [البقرة : ١٧٨ ، ١٧٩].

وهكذا نجد ذكر الأحكام الثابتة التى لم يعترها تغيير ونسخ بطريق القصص نوع من تصريف البيان وتثبيت الأحكام.

أسلوب القصص فى القرآن

٨٨ ـ قد ذكرنا فى القول السابق ما يختص به أسلوب القرآن من صور بيانية فى ألفاظه ، فكل لفظ يعطى صورة بيانية ، يناسب المقام الذى ذكر فيه ، ويتجمع من الأسلوب صورة بيانية تكون الصور اللفظية أجزاء فيها ، وإن كان لها صفة الاستقلال ، ومن المجموع تتكون صور تصور المعانى ويكون لها أطياف فى اجتماعها وانفرادها.

١٤٨

وذلك ثابت فى أسلوب القصص ، كما هو ثابت فى كل أساليب القرآن الكريم من غير تخصيص فيها ، بل كلها درجة واحدة يعجز البشر عن أن يصلوا إليها ، فكل لفظ له إشعاع نورانى يشع منه ، وكل جملة ينبثق منها النور الإلهى الذى تنطفئ بجواره كل الأنوار.

ومع هذا فالقصص القرآنى باعتباره قصصا ، فيه إخبار عن أمم ووقائع وأنبياء يجادلون أممهم وأشخاص يعاندونهم ، وأن القصص يمتاز مع الصور البيانية التى تنبعث من الكلام مجردا ، بصور أخرى تصور الأشخاص والوقائع والمشاهد ، فإذا ذكرت حال شخص صور تصويرا واضحا كأنك تراه وتشاهده ، والعبارات تصور حاله من خوف ، أو حنان ، أو انزعاج أو جحود ، وكأن المعانى صور واضحة فى الشخص المتحدث عنه ، ولو أن مصورا متحركا يصور الشخص فى مشهد من مشاهد الذعر ، ما كان أكثر تصويرا من الألفاظ القرآنية والأساليب فى تصويرها.

ولنذكر فى ذلك بعض ما تلونا من قبل ، لنعيد تلاوة حال أم موسى ، وقد ولدت ولدها ، وهى تعلم أن فرعون يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم ، وتضطرها الفطرة الملهمة التى كانت بمثابة وحى أو هى وحى لها أن تلقى ولدها فى اليم ، لأنه خير لها أن يلقى لقدر الله تعالى وقضائه ، من أن يذبح بين يديها ، وهذا ما نعيد تلاوته ، وما أطيب القرآن فى إعادة تلاوته : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١٢). [القصص : ٧ ـ ١٢]

إن القصة ترينا صورة أم مضطربة منزعجة خائفة لما أثقلت ألقت حملها ، فإذا أثقال جديدة ، إنما تريد نجاته ، فيعلوها الاضطراب والخوف والفزع ، وإذ الإلهام يجيئها بإلقائه باليم مع إثلاج قلبها بألا تخاف ، وألا تحزن ، ومنّ الله تعالى عليها بالاطمئنان بأنه سيعود إليها ، وهكذا يكون الاطمئنان فى موطن الخوف ، والقرار فى موطن الاضطراب ، والسكون فى موطن الهلع ، يغيب عنها فلذة كبدها فيفرغ قلبها ، ويغلب الفزع على الاطمئنان وهى تغالب حال الفزع بحال الاطمئنان إلى أن وعد الله تعالى بالاطمئنان ، ويصطرع الأمران فى نفسها ، يغلب الإلهام فتطمئن ، ويغلب الفزع القلبى

١٤٩

فتكاد تبدى أمرها ، وتظهر سرها ، ولو علم به أعداؤه وأعداؤها أعداء الله تعالى ؛ ولكن الله تعالى يربط على قلبها بالصبر وهى تصبر ولكنها لا تسكن بل تتحرك بعمل ، فترسل أخته لتتقصى أخباره ، وتتعرف أحواله فترى المعجزة الكبرى ، إذ يمتنع عن المراضع ، حتى يعود إلى أمه وتأخذه أخته إلى الأم التى تضطرب بين اليأس والرجاء ، بين الأمل الباسم والحرمان الدائم.

اقرأ النص القرآنى ، وتراه مصورا لحال تلك الأم الرءوم. فهل تجد مصورا متحركا أو واقفا يستطيع تصوير هذه الحال ، ولكنه القصص القرآنى المصور الذى نزل من عند الله تعالى.

٨٩ ـ ولنعد إلى قصة موسى وقد تربى فى قصر فرعون ، حيث الترف والبطر ، وفى جو الغطرسة والسلطان ومن يدعى لنفسه الألوهية ، فهل شعر موسى بما يشعر به المترفون المسرفون ، الذين يستعبدون الناس ، ولكنه فى الوقت ذاته كان يعيش فى أحضان قومه ، حيث كان على كثب ممن يقتل فرعون أبناءهم ، ويستحيى نساءهم فهو البعيد عنهم بحسه القريب منهم بنفسه ، يعيش معهم ، وإن جفاهم فى المسكن والإقامة ، ولذلك كان القريب فى قصر فرعون المستأنس بمن يؤويهم فرعون ، فيعيش معهم.

ولقد بدا ذلك على أكمله يوم أن بلغ رشده ، واستطاع أن يخرج من محبس فرعون فى النعيم ، ويلاقى الحياة التى يلاقيها قومه ، ولقد قص الله سبحانه وتعالى قصصه بعد أن بلغ رشده ، وصار رجلا سويا ، فى أسلوب ينم على الرغبة فى الجهاد وتحمل شدائد الحياة ، فيقول سبحانه فى أحسن قصص مصور : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) [القصص : ١٤ ، ١٥].

خرج موسى من المحبس ، ودخل المدينة ، وأهلها لا يتوقعون أن يخرج رجل فى ظل القصر ، إلى حيث الشعب ، ينازل من ينازل ويسالم من يسالم إلى حيث الحياة اللاغبة العاملة ، فكان ذلك مفاجأة ، عبر عنها القرآن بقوله : (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ، خرج ونفسه مملوءة غيظا على الذين كانوا أداة فى يد فرعون يسوم بهم الناس عذابا ، فوجد مصريا يقتل واحدا من شيعته فسارع إليه دفاعا عن اليهودى المعتدى عليه ، فاندفع فقتل المصرى.

ولكنه قد استرجع ضميره الذى كان فى غفوة بسبب العداوة المستحكمة بين العنصرين ، وبسبب ما رأى من فرعون ومن معه من جند وأشياع ، وأهل مصر صامتون كدأبهم عند ما يرون ظلما عنيفا صارخا يقفون كالنظارة ، لا يتحركون لظلم واقع ، ولا لهمّ مستحكم مانع.

١٥٠

وتكررت المأساة بين اليهودى الذى استنصره بالأمس ومصرى آخر ، فيقوى صوت الضمير على استغاثة اليهودى ، ويعلم أنه فرعونى ضالّ كثير الشكاس ، وأن المصرى مظلوم فى معاملته ، ولكنه مع ذلك تغالبه فى نفسه مشاعر ، فيهم بأن يبطش بالذى هو عدو لهما. عندئذ نطق المصرى لائما ، مذكرا موسى بأنه يريد أن يكون جبارا فى الأرض ، وما يريد أن يكون من المصلحين الذين يعملون على الإصلاح بين المتخاصمين من غير إضافة اعتداء إلى اعتداء ، ويقول له فى عتب لائم : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩) [القصص : ١٩].

وموسى فى نفس حائرة بين عز الدنيا وقد تركه وراء ظهره ، وجعل نداءه دبر أذنه ، وبين الحق والعدل والإخلاص وهو إلى الثانى يميل ، ومن الأول ينفر ، وبينا هو على هذه الحال يتردد بين ماض مريح ، وجديد يريد أن يخوض فى شدائده ، ليعيش كما يعيش قومه ، فيشاركهم فى ضرائهم وإذا النذير ينذره : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٠) [القصص : ٢٠]. قضى الأمر ، وانتهت الحيرة ، واستقبل الحياة الجديدة بلأوائها وجها لوجه ، ولنترك القول لكتاب الله تعالى يذكر لنا حاله من بعد ذلك الإنذار. إذ نجد التصوير الذى تعجز عنه كل أدوات التصوير الساكن والمتحرك ، وهو يصور موسى قد أحس بخطر قوم فرعون ، وفرعون ، وآل مصر ، يترقبونه ، فالله يقول فى كلام مصور للأرواح والأشباح : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢٤) [القصص : ٢١ ـ ٢٤].

تصوير للحيرة. فربيب النعمة خائف يترقب المتتبع والمترصد ، ويتوجه من ريف مصر وخضرته إلى لفح الصحراء وجدبها ، ثم هو يحس بالحاجة وهو الذى كان يتناول ويرمى ، وإذ لفحته الشمس أوى إلى الظل ، لا يرجو إلا الله ويعلم أن الله تعالى لا يتخلى عنه.

وإنى مهما أحاول من تصوير للقصة بعبارتى ، فلن نصل إلى ما يقع فى نفس القارئ إذا تلاها مجردة من غير تعليق عليها ، إنها تصور ربيب النعمة فى صورة كأنها المرئية ، وكأنها مشاهدة محسوسة ، وليس أخبارا مكتوبة أو متلوة.

إنه حائر ، فيفاجأ بإحدى المرأتين تأتيه تمشى على استحياء ، وهى تدعوه إلى أبيها ليجزيه أجر ما سقى لهما ، ويذهب الشاب القوى إلى الشيخ الضعيف ، وهنا يرى

١٥١

الشجرة الوارفة ، فى وسط الصحراء ، ويجد الحياة الزوجية ، وراحة الحياة بعد شقائها ، ويذوق طعم الدنيا ، ولم يكن فى بيت فرعون يذوقها ؛ ذلك أن النعيم معنى نسبى لا يذوقه إلا من ذاق الألم فى هذه الدنيا ، والنعيم من غير ألم يرنقه يكون راحة عفنة ، فموسى عليه‌السلام بعد أن نال عيشه بالكد واللغوب ، وعاش بين الرجاء والخوف أحس بطعم الحياة ومعناها ، وتأهب للرسالة ، لأن الرسالة لا تكون إلا لمن اصطفاهم الله تعالى ممن ذاقوا طعم الحاجة وعزة الحق ، ولم يترفوا بالنعيم ، وكذلك أمر النبيين والصديقين ، وكذلك كان تاريخ كل الأنبياء ، وخصوصا أولى العزم من الرسل.

هذا ، وإنا نطالب القارئ أن يقرأ أى جزء من قصة موسى فإنك تراه مصورا للموقف الذى يعرض له أبدع تصوير ؛ وكأنك تشاهد. ولا تسمع وتتلو. وإنه لهو القصص الحق.

٩٠ ـ وإنك إذا قرأت مجادلة المشركين مع نبى من الأنبياء ، كنوح وإبراهيم وعيسى ، وشعيب وهود ، تحس بأنك تشاهد مشهدا مرئيا ، لا أنك تستمع إلى كلام متلو ، فتنتقل أنت وعقلك وجوارحك كلها إلى هذا المشهد الكريم الذى يصور عقلية الذين يجادلون ، وما يبذله الرسول ، وما يتحمله فى سبيل إقناعهم ، أو إلزامهم كلمة التقوى ، ولا يريدونها ، اقرأ مجادلة نوح عليه‌السلام لقومه ، وهم يجادلون فى الله ، ونوح يريد أن يهديهم بأمر الله تعالى ، واتل قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٣٣) [هود : ٢٥ ـ ٣٣].

هذا مشهد من مشاهد القول تجد فيه مناقشة قوية بين دعوة الحق ، وجحود أهل الباطل ، وتراه كأنه مصور أمام البصيرة ، وترى فيه صاحب الحق يدلى بالبينات ، والحق وحده أبلج ، وترى فيه أهل الباطل يتخذون من الحس دليلا على الحق ، وحسهم

١٥٢

كاذب ، فيستدلون على أن الدعوة ليست دعوة حق بأن أتباعها الفقراء الأرذلون فى أعينهم الذين يزدرونهم ، والنبى عليه‌السلام يجادلهم بالتى هى أحسن ، وهو يسوق البينات ، ولكنهم يتبرمون بدعوة الحق.

ولا شك أن العبارات تدل على المعانى المقصودة فقط ، بل وضعت الألفاظ ومعانيها وأطيافها فى بيان مصور يسكن به الخيال والنفس ، كأنه واقع محسوس ، لا قصص متلو فقط.

وبعد ذلك بين الله تعالى لنوح أنهم لا يؤمنون ، ولم يبق إلا إنزال العقاب بهم ، واقرأ صورة العقاب تراه قصصا مجردا ، ولكنه مشهد واضح بين يصل إلى درجة المرئى للقارئ المتنبه. اقرأ قوله تعالى :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٨) [هود : ٣٦ ـ ٤٨].

ذلك هو بعض قصص نوح عليه‌السلام من وقت أن يئس من إيمانهم وأخبره ربه العليم الحكيم أنه بلغ الحجة وحقق الرسالة ، وأنه لن يؤمن أحد من قومه لم يكن قد آمن. وأن العقاب نازل لا محالة ، وترى كل نص من نصوص هذا الجزء من القصة مصورا بيانيا لما أنزله تعالى ، فترى جزءا يصور كيف أخذ نوح يبنى سفينته ، والقوم ينظرون إليه ساخرين غير عالمين بالعاقبة التى تنتظرهم ، والغاية التى قدرها الله تعالى

١٥٣

من هذا البناء ، والخيال يرى الصورة من وراء العبارات كأنها بين يديه حقيقة بالعيان وليس خبرا من الأخبار ، وإن كان يذكر فى أعلى صور القصص المصور. ثم ترى الإيذان بالابتعاد عن موطن الغرق ، وقد فار التنور ، وإنى قد أدرك من هذا أنها كانت تسير بالبخار إذ فار التنور فتحركت بعد أن فار ، والله تعالى أعلم بمراده ، وإن كان اللفظ دالا ، بل هو مصور لتنور فار فحرك ببخاره ما حرك من آلات تسيّر السفينة ، وتجرى بهم فى موج كالجبال ، والقارئ يرى فى هذا صورا تثير الخيال ، وتجعل الخبر مرئيا أو كالمرئى ، وإن ذكر الموج فى هذا المقام يصور كيف كان السيل عارما ، وأنه لم يكن غيثا حتى لم يبق إلا من خرج بالسفينة نجيا.

ثم نجد فى ذلك القصص أمرا معنويا مصورا كأنه ملموس ، وهو حنان الأب ، ورفقه بولده ، فقد رأينا فى النبى المجاهد عاطفة الأبوة تعلو ؛ فينادى ابنه وكأننا نسمع النداء فى مشهد من مشاهد الأبوة ، ثم نجد الابن ، وقد غره غرور الصبا ، والابتعاد عن التصديق ، حتى حسب أنه بمنجاة من الغرق ، إذ اعتصم بجبل آوى إليه ، وحال بينه وبين أبيه الموج ، فكان من المغرقين ، والأب تنفطر نفسه ، فتغلبه شفقة الأبوة عن رؤية أمارات الموت ، ويتجه إلى ربه باكيا حزينا إذ نجا أهله إلا ابنه ، فيقول ، وكأننا من فرط التصوير نسمع أنين الأب ، بعد أن نجا كل من فى السفينة ، وقد استوت فى طريقها وهلك الظالمون ، يضرع إلى ربه يقول : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وكان قد وعده ربه بأن ينجى أهله ، فيقول : إن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين ، وهنا نجد رب العالمين يبين أنه داخل فى عموم الكافرين ، لأنه كفر ، وأهلك هم الذين آمنوا ، ولم يعارضوك ، ويقول سبحانه : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦).

تعارض العطف مع الواجب ، فتحت قوة العاطفة الأبوية نطق بما نطق فنبهه الله تعالى إلى الواجب ، ولم ينبه غافلا ، ولكنه نبه يقظا مؤمنا ضارعا وإن كان قد ناجى ربه بصوت البشرية ، فتاب ، و (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧).

القصص الحق المصور فى أهل الكهف

٩١ ـ ومن أروع القصص القرآنى المصور فى صدقه ، وسرد حقائقه قصة أهل الكهف التى هى آية وحدها فى التصوير البيانى القصصى الصادق ، وهى فى كل جزئية تصور الأمر كأنه مرئى بالحس ، لا مذكور بالخبر وحده واقرأ قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً

١٥٤

(١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (٢٦) [الكهف : ٩ ـ ٢٦]

هذه قصة أهل الكهف ، والرقيم ، وهو الحجر الذى رقم عليه أنه رمز لمأواهم ليكونوا عبرة ، وليكونوا دليلا ناطقا ، على الإيمان بالبعث والنشور ، وإن الذين يجحدون بهما يرونهما عيانا فيهم ، إذ بعثهم الله سبحانه وتعالى ، وقد حسبوا أنهم مضى عليهم يوم أو بعض يوم.

والقصة الكريمة كما ذكرها القرآن الكريم فى قصصه الحق لها مشاهد تذكر كأنها ترى ، وكأن الإنسان يعاين وقائعها ، وفى أسلوب قرآنى قصصى يؤخذ منه مغزى القصة فى غير التباس ، ولا ارتياب.

١٥٥

المشهد الأول : إيواء فتية آمنوا بربهم ، وزادهم الله تعالى هدى وقد فروا من الوثنية إلى الوحدانية ، ومن الوثنيين إلى جوار ربهم ، وقد ربط الله على قلوبهم. فاستمسكوا بإيمانهم ، واعتصموا بربهم ، وكان الإيمان قد سكن وعاء القلب ، فربط الله تعالى بالصبر حتى لا يخرج من وعائه الذى استقر فيه ، واطمأن ، فلا يتشعع أمام أى حادث ، وإن الإيمان إذ سكن واطمأنوا ، كانت رحمة الله تعالى أن ضرب على آذانهم بمعنى أنه خيم عليها ، فأصبحت لا تسمع لغو الحديث ، وأنهم إذ آووا إلى الكهف قطعهم الله تعالى عن لغو الوثنية وظلم أهلها ، فاجتمع لهم الانزواء عن الناس ، والبعد عنهم بالحس ، فلا يرون الناس ، ولا يسمعون عنهم ، وساروا فى غيبوبة كأنهم الموتى ، وليسوا أموتا ، وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ، وكل ذلك فى تصوير قصصى كأن التالى للقرآن يراهم ، وهم يهرعون إلى الكهف يأوون راجين الرحمة والرشاد ، مبتعدين عن الآثام ، وما فى الدنيا ، وقد زادهم الله تعالى ، فجعلهم رقودا ، وهنا نجد الصورة واضحة أن ناسا يظن أنهم أيقاظ ، وهم رقود ، وقد بقوا على ذلك سنين عددا تجاوزت ثلاثمائة.

والمشهد الثانى : بعثهم ، وقد اختلف الناس فى أمر المدة التى استمروها فى الكهف ، وقد مرت الأجيال ، وهم يحسبون أنهم أيقاظ ، فقد استمروا كما ذكر فى القرآن الكريم ثلاثمائة سنة وزادوا تسعا.

ويجيء بعد البعث الكلام فى المدة التى مكثوها ، والسبب فى اختيار مأواهم فقص الله خبرهم بالحق تفصيلا بعد أن ذكره إجمالا ، لقد قاموا من سباتهم ، وهم يرددون إيمانهم بالله تعالى ، واعتراضهم على أقوامهم ، ويحكون ما كان منهم مع أقوامهم (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) وأن قومهم اعتزلوهم ، وهم لا يعبدون إلا الله تعالى ، ونرى الصورة القصصية واضحة بينة ، هادية مرشدة تصور الملاحاة بينهم وبين أقوامهم ، حتى اعتزلوهم معتصمين بربهم ، مؤمنين به. وهذا المشهد كل أجزائه واضحة ، حتى إنه يصور الكهف ومن فيه ، وخرجوا منه فى مشهد واضح بين ، هو كالعيان بتصوير القرآن الكريم.

والمشهد الثالث : منظرهم وهم رقود ، وحال الكهف ، وصورته ، فهم فى فجوة منه يتجهون فيه إلى الشمال والشمس تخرج لهم من المشرق يمينا ، وتودع الكون فى غربهم ، فالشمس والهواء ، يحيطان بهم ، وذلك أصلح مكان ، إذ يستقبل الشمس فى غدوها طالعة ، وفى غروبها رائحة والهواء من البحر يجيء إليهم ، فينعشهم نسيمه العليل فأسباب الحياة الطيبة قائمة ومهيأة لهم ، وهم رقود ، وإن كان الرائى يحسبهم أيقاظا ، والوصف القصصى يصور المكان كأن القارئ للقرآن يراه ، وهو يتلو كتاب الله تعالى.

١٥٦

وإنهم فى هذه المنامة يتقلبون كالأيقاظ الأحياء بإرادة الله تعالى وأمره الكونى (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) ولا يترك القرآن الكريم من الصورة المكانية شيئا إلا بينه ، وصوره ، فيذكرهم وكلبهم يحرسهم وهو بالوصيد ، وهو فجوة بالجبل الذى فيه الكهف ، فالتصوير القصصى كامل يرى فيه القارئ صورة للمكان ، وكأنها مصورة بصورة باهرة ، وليست كلاما متلوا ، ولكنه كلام الله تعالى العزيز الحكيم.

وإن المكان فيه رهبة وحالهم فيها هيبة ، لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ، ولملئت منهم رعبا.

المشهد الرابع : الذى تصوره القصة ، وقصص القرآن كله حق لا ريب فيه ، وهو تيقظهم بعد الرقدة ، وحالهم ، وقد رأوا الحياة اللاغبة التى كانوا عنها غافلين ، وكانوا فيها راقدين ، وأول سؤال توجهوا به ، سألوا به أنفسهم ، كم لبثوا فى منامهم ، وقد سألهم هذا السؤال واحد منهم ، فقالوا كأنهم مجمعون أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم ، ولكنهم كشأنهم لم يتخبطوا ولعلهم ظنوا أن المدة أطول من ذلك ، ولذلك قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم. وهنا نجدهم اتجهوا إلى الحياة يطلبون رزقهم ، ومعهم نقود فضية قد ضربت منذ تسع وثلاثمائة سنة تكشف للناس عن أمرهم ، وكانوا ككل أهل الإيمان أهل تسامح ، فقد طلبوا من مبعوثهم أن يتلطف ، وألا يشعر بهم أحدا ، حتى لا يكون منهم أذى ، ويظهر أنهم بهذه النقود عثر الناس على أمرهم ، وعرفوا حقيقتهم ، وكان إلهام الله بذلك ليعرف الناس حقيقتهم وتكون حياتهم فى الكهف ورقدتهم فيه دليلا محسوسا على أن وعد الله تعالى بالقيامة حق ، ولذا قال سبحانه : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١) وهذه كلها مشاهد فى القصة تعاين فيها أحداثها فى قصص محكم.

التصريف فى صور العبارات القرآنية

٩٢ ـ من أدل شىء على بلوغ القرآن أعلى درجات البلاغة ، تصريف المعانى والألفاظ فى كل باب من أبواب القول ، وقد أشرنا إلى ذلك فى أول كلامنا فى بيان تصريف الكلام القرآنى ، وتصريف القول يتناول الألفاظ ، وتصريف الألفاظ يتضمن لا محالة تصريف المعانى لأنه لا مرادف فى القرآن ، ولا يوجد أسلوب يؤدى معنى يؤديه الأسلوب الآخر ، وإن كان يبدو بادى الرأى أن المعنيين يتحدان فى جوهر المعنى ، ولكن عند التأمل فى الإشارات البيانية التى تشير إليها الألفاظ ، والتى تطيف حولها ، وتشع منها ، تجدها مختلفة ، وإن كل تغيير فى العبارات القرآنية عن أخواتها فى مثل موضوعها يحدث تغييرا فى المرامى ، ولمح القول ، حتى الوقوف والفواصل تؤدى

١٥٧

باختلاف نغمها ما لا تؤديه مثيلاتها مما هو فى موضوعها ، وإن النغمات القرآنية التى تتخالف أحيانا تكون كل نغمة فى مقامها تومئ بموسيقاها إلى إشارة لا تومئ إليها نغمة أخرى لآية فى هذا الموضوع نفسه.

ولنضرب فى ذلك بعض الأمثال فى الاختلاف فى الأسلوب ، والموضوع واحد ، وتغير المعانى قوة ورفقا ، وكل فيما يناسبه.

الاستفهام والنفى

٩٣ ـ لا شك أن النفى المجرد والنفى بطريق الاستفهام ، كلاهما يدل على أصل النفى ، ولكن النفى بطريق الاستفهام أقوى دلالة فى معنى النفى ؛ لأن النفى بالاستفهام فيه معنى أن المخاطب سبق إلى النفى ، فكان النفى من القائل ، والإقرار به من المخاطب ، اقرأ قوله تعالى فى ادعاء المشركين أن الله تعالى حرم بعض الأطعمة ، فنفى الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠)

[الأنعام : ١٤٨ ـ ١٥٠].

ألا ترى أن هذا الاستفهام للنفى ، إذ المعنى الجملى : ما عندكم من علم بأن الله تعالى حرم عليكم ، إن أنتم إلا تخرصون. تتوهمون ما ليس له حقيقة واقعة.

ولا شك أن المجيء بصورة استفهام فيه مزيتان إحداهما تنبيه إلى أنه كان يجب عليهم قبل أن يعتقدوا أن يتعرفوا الدليل الذى يسوغ لهم العلم حتى لا يقولوا على الله ما لا يعلمون. والثانية : أن فى الاستفهام حملا لهم على أن يقروا بالنفى ، وفوق ذلك كله فإن سياق الكلام فيه توبيخ لهم لأنهم بنوا عقائدهم على أمور باطلة ، لا أساس لها من حق ولا علم ، وأن هذا نوع من الاستفهام الذى يراد به النفى يعبر عنه علماء البلاغة بأنه استفهام إنكارى ؛ لإنكار وقوع موضع الإنكار ، وهناك إنكار يقال له إنكار الواقع ، وهو يكون فى معنى التوبيخ على ما وقع على أنه لا أصل له.

اقرأ قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، وهذا إنكار لما وقع منهم ، وإنكار الواقع توبيخ ؛ ذلك لأن المشركين كانوا يوجبون الطواف عراة ، وكانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، والله سبحانه وتعالى نفى ذلك التحريم الواقع منهم بهذه الصيغة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي

١٥٨

أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) والنفى بصيغة هذا الاستفهام فيه مبالغة ؛ لأن فيه إشارة إلى أنه لا يسوغ لعاقل أن يكون منه ذلك التحريم ، لأنه عمل غير معقول فى ذاته ، إذ المؤدى : لا أحد حرم زينة الله من لباس ساتر ، ولا أحد يحرم طيبات الرزق التى لا خبث فيها من حيث الحقيقة ، ولا من حيث المعنى ، ما دام طريق الكسب طيبا ، وأن الله لا يأمر إلا بالقسط الذى يتفق مع الفطرة ، ولذا قال تعالى من بعد ذلك : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣) [الأعراف : ٣٣].

وقال سبحانه من قبل هذه الآيات : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) [الأعراف : ٢٩ ـ ٣١].

٩٤ ـ وقد ذكر عبد القاهر فى كتابه دلائل الإعجاز الحكمة فى سبب تسمية الاستفهام بالإنكارى ، سواء أكان لإنكار الوقوع بمعنى النفى أم لإنكار الواقع ، بمعنى التوبيخ ، فقال رضى الله تعالى عنه :

«واعلم أننا وإن كنا نفسر الاستفهام فى مثل هذا الإنكار بالنفى ، فإن الذى هو محض المعنى أنه ليتبين السامع ، حتى يرجع إلى نفسه ، فيخجل ويرتدع ، ويبين الجواب ، إما لأنه قد ادعى القدرة على ما فعل ما لا يقدر عليه ، فإذا ثبت على دعواه قيل له فافعل فيفضحه ذلك ، وإما لأنه هم بأن يفعل ما لا يستصوب فعله ، فإذا روجع فيه تنبه ، وعرف الخطأ ، وإما لأنه جوز وجود أمر لا يجوز مثله ، فإذا ثبت على تجويزه وبخ على تعنته وقيل له : فأرناه فى موضع وفى حال ، وأقم شاهدا على أنه كان فى وقت. ولو كان يكون للإنكار ، وكان المعنى فيه من بدء الأمر لكان ينبغى ألا يجيء فيما يقوله عاقل : إنه يكون حتى ينكر عليه ، كقولهم أتصعد بى إلى السماء ، أتستطيع أن تنقل الجبال ، أإلى رد ما قضى من سبيل».

ومؤدى هذا الكلام أن الإنكار إذا كان نفيا لوقوع أمر ، فمؤداه أن الأمر لا يقع ، ولا يعقل أن يقع ، فهو نفى مؤكد ، إذ هو ليس نفيا للفعل فقط ، بل هو نفى له مع بيان أنه لا ينبغى ولا يجوز أن يقع ، وإذا كان الفعل قد وقع فهو توبيخ على الوقوع ، واستنكار له ، كما رأيت فى قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، ويلاحظ أن الإنكار سواء أكان إنكارا للوقوع بمعنى النفى

١٥٩

أم إنكارا للواقع بمعنى التوبيخ ، فإن فيه حمل الفاعل على الإقرار بالنفى أو إثبات ما أوجب التوبيخ.

٩٥ ـ ومن الاستفهام فى القرآن ما يكون لبيان الاستحالة ، وهو يقارب فى معناه نفى وإنكار الوقوع إلى حد أنه يكون احتمالا غير معقول ، ومن ذلك قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) بمعنى أنك تخلق فيهم بصرا يبصرون به ، وأن هذا فيه استفهام إنكارى ، وفيه استعارة تمثيلية ، فقد مثلت حالهم بحال الأصم الذى لا يسمع ، أو فى آذانه وقر ، وبحال من فقد البصر ، وأن من يطلب هدايتهم كمن يطلب السمع من الأصم ، أو يطلب الإبصار ممن فقد البصر ، فالاستفهام لاستحالة موضوع السؤال وأنه لا يقع.

ومن ذلك أيضا الاستفهام الذى عبر به القرآن عن حال الجاحدين الذين يتوهمون أن الفقراء فى الدنيا لا يمكن أن يكونوا هم أول المهتدين متوهمين أن الفضل بسعة الرزق وكثرة المال ، لا بالتقوى والمسارعة إلى الخير ، فالله تعالى يصور حالهم بهذا الاستفهام ، فيقول تبارك وتعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) [الأنعام : ٥٣] ، فالاستفهام على مقتضى نظرهم يوجب ألا يكون الله تعالى منّ عليهم قبلهم ، وذلك من فساد القياس ، إذ قاسوا الفضل بمقياس المادة ولم يقيسوه بمقياس الفضيلة والتقوى والمسارعة إلى الخير.

ومن الاستفهام الذى ينبئ عن استحالة الجواب ، قوله تعالى آمرا نبيه :

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٧١) [الأنعام : ٧١] فالاستفهام هنا واضح أنه لبيان استحالة أن يدعو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدعون من دون الله تعالى ، وأن حالهم فى عقيدتهم الباطلة ، كحال من يسير فى بيداء ، وقد استهوته الشياطين الصارخة فاندفع إلى غير هدى حتى تاه فى المهمه القفر ، وله أصحاب ينادونه فلا يستجيب لهم لأن الباطل قد ضرب على قلبه ، ولأن استهواء الشياطين قد غلب عليه.

ومن قبيل الاستفهام الداخل على ما لا يجوز التغيير فيه ما جاء على لسان إبراهيم عليه‌السلام ، وقومه يحاجونه يريدون أن يردوه ، فقد قال تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) [الأنعام : ٨٠].

ومن الاستفهام الذى يدل على استحالة موضوعه ما ذكره سبحانه وتعالى من أنه يوجه إلى السيد المسيح عيسى عليه‌السلام يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه : (وَإِذْ قالَ اللهُ

١٦٠