المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

قصص القرآن من الناحية البيانية

٧٥ ـ ومن المواضع التى يحسن فيها الإطناب ، بل التكرار أحيانا قصص القرآن ، ولا نذكره هنا من ناحية أنه من وجوه الإعجاز فى ذاته فلذلك موضع خاص من القول ، إنما نذكره من ناحية التكرار فيه ، وموضع ذلك من سر الإعجاز ، وبلاغة القرآن التى لا تساميها بلاغة فى الوجود ، وإن ذلك التكرار من تصريف القول الذى هو وجه من وجوه البيان القرآنى الذى قصد إليه الكتاب العزيز.

لقد تكررت قصص الأنبياء ، فذكرت قصة نوح عدة مرات بالإطناب أحيانا ، والإيجاز أحيانا ، وذكرت عيسى عدة مرات ، وذكرت قصة إبراهيم عدة مرات ، وذكرت قصة موسى عدة مرات ، وإنه يبدو بادى الرأى أن ذلك من مكرور العقول. وفيه التكرار ، فما وجه البلاغة فى هذا التكرار؟

إننا إذا نظرنا نظرة فاحصة تليق بمقام القرآن ، ومكانته فى البيان العربى ، نجد أن التكرار فيه له مغزى ؛ ذلك أن القرآن ليس بكتاب قصص ، وليس كالروايات القصصية التى تذكر الحوادث المتخيلة أو الواقعة.

إنما قصص القرآن ، وهو قصص لأمور واقعة ، يساق للعبر وإعطاء المثلات ، وبيان مكان الضالين ومنزلة المهتدين ، وعاقبة الضلال وعاقبة الهداية ، وبيان ما يقاوم به النبيون ، ووراءهم كل الدعاة للحق ، فهو قصص للعبرة بين الواقعات ، لا لمجرد المتعة من الاستماع ، والقراءة ، ولذلك قال الله تعالى فى آخر قصة نبى الله يوسف عليه‌السلام : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١) [يوسف : ١١١].

ولكى يتبين للقارئ الكريم ، أن التكرار بتسبب تعدد العبر التى هى المقصد الأول من القصص ، نذكر قصة إبراهيم وقصة موسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ، فإنهما ذكرتا كثيرا فى القرآن الكريم.

قصة إبراهيم :

٧٦ ـ ذكرت قصة إبراهيم فى القرآن عدة مرات ، لتعدد العبر فيها. وإن إبراهيم كان أبا العرب ، فقصصه له مقامه عند العرب ، ونذكر من قصصه بعضه لا كله ، فإنه ليس هذا مقام ذكره فى القرآن.

(أ) أول ما نذكر من قصة إبراهيم ، هو ما يربطه بالعرب. وما كان شرف العرب به بناء الكعبة ، فقد ذكر هذا البناء الذى قام به ، وعاونه فيه ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وبإبراهيم وإسماعيل تشرف العرب ، بأنهم سلالتهما ، وبالبيت الحرام اعتزوا ، وعلوا فى العرب ، إذ كان مثابة للناس وأمنا ، وقد قال تعالى فى هذا البناء الذى قام بأمر ربانى :

١٢١

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٢٨).

[البقرة : ١٢٤ ـ ١٢٨]

ثم بين سبحانه وتعالى من بعد ذلك بعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه كان استجابة لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وبذلك تتبين الصلة بين الإسلام ودعوة إبراهيم ، فإذا كان العرب يفتخرون بإبراهيم عليه‌السلام ، فهذه دعوته قد استجيبت فى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ب) نجد بعد هذه القصة قصة النفس البشرية فى نبى الفطرة إبراهيم عليه‌السلام ، إذ النفوس ولو كانت مؤمنة تتمتع بكثرة الدليل ، لتزداد إيمانا ، وإن كان أصل الإيمان قائما ، فزيادة البينات تزيد المؤمن إيمانا ، وتزيد الجاحد كفرا وعنادا.

واقرأ قصة طلبه زيادة الإيمان : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠) [البقرة : ٢٦٠].

ومن قبل ذلك فى الذكر كانت قصته مع الملك عند ما ناقشه فى إثبات وجود الله وكيف استطاع إبراهيم عليه‌السلام أن يفحمه إذ هو لا يؤمن إلا بالمحسوس إذ قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) [البقرة : ٢٥٨].

وترى فى قصة إبراهيم والطير أنه صور النفس الإنسانية ، ولو كانت نفس نبى مؤمن يدعو إلى تكشف المجهول ، وتعرف المستور ، والمؤمنون يهديهم الله تعالى ، ومن لا يريدون الهداية يتركون فى غيهم يعمهون.

وفى قصة إبراهيم مع الملك نجد إبراهيم الأريب يأخذ بالطريق الذى يحسم الخلاف دون الطريق الذى يحدث لجاجة من غير إفحام ، إذ الملك فهم أن القتل إماتة

١٢٢

وتركه إحياء فلم يسترسل رسول الله الفطين الأريب فى تعريف للموت والحياة ، بل عمد إلى ما يفحمه حسيا ، فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين.

ومن هذا نرى أنه ليس ثمة تكرار فى المعانى والعبر والعظات وإن كان الموضوع فى الأحوال الثلاث يتعلق بإبراهيم عليه‌السلام.

(جـ) ولننتقل إلى قصة أخرى موضوعها يتعلق أيضا بإبراهيم عليه‌السلام ، وهو تدرج النفس الإنسانية فى الاتجاه إلى طلب الحقيقة الإلهية ، والإيمان بالوحدانية. كيف ابتدأ إبراهيم عليه‌السلام تأمله فى الكون ليتعرف من الوجود سر الوجود ، وعظمة الخالق ، فأول ما استرعاه نجم ساطع تألق ، فحسبه ربه ، ولكن الرب موجود دائما ، فلما غاب نفر مما زعم ، ثم رأى القمر ، فحسبه كذلك ، ثم رأى الشمس ، وهكذا حتى هدى إلى أن سر الوجود يجب أن يكون غير هذا كله ، فاتجه إلى الله ، وإليك القصة كما ذكرها القرآن ، وكما وقعت ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٨٠) [الأنعام : ٧٤ ـ ٨٠].

ونرى من القصة أنها مغايرة تمام المغايرة لما سبق ، وإن كانت غير معارضة لها ، بل هى متممة ، ولا تكرار فى القصص ، إنما الموضوع وهو إبراهيم عليه‌السلام هو المتكرر ، ونرى أنه ابتدأ بنفى عبادة الأصنام على أساس أن البديهة تدعو إلى ذلك ، وأن ضلال العقل هو الذى يؤدى إلى عبادتها ، ثم أخذ يبين أن طريق اليقين يبتدئ بالشك فى صدق ما تضل فيه الأفهام ، فأخذ يعرض على عقله ما يتصور أن يكون فيه نفع ، فاتجه إلى الكوكب السارى ثم إلى القمر المنير ، ثم إلى الشمس السراج ، فوجد أن كل ذلك يأفل ، ويجرى عليه تغير ، فاتجه إلى خالق ذلك كله ، ولذلك يقول بعض العلماء ، ومنهم ابن حزم الظاهرى أن إدراك الله ضرورى إذا استقامت الفطرة ، ولم تركس فى ضلال الأوهام.

(د) انتقل سيدنا الخليل من الاهتداء إلى الله تعالى إلى عمل إيجابى نحو الأصنام ، دفعه الشباب ونور الله إلى أن يحطمها ، وهذا يجيء فى قصص القرآن الكريم ، فيذكر سبحانه أنه عقب أن نال إبراهيم رشده ، وهو فى حياطة الله ، تقدم

١٢٣

ليثبت ضلال عبادتها ، وأنها لا تضر ، ولا تنفع ، فحطمها ، ويقول سبحانه وتعالى فى ذلك : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (٧٠) (صدق الله تعالى العظيم).

[الأنبياء : ٥١ ـ ٧٠]

هذه قصة من قصص إبراهيم عليه‌السلام. ذكرها القرآن الكريم فى موضع غير المواضع السابقة ، ولا نرى تكرارا فيها ، وإذا كان قد ذكر فى قصة تتبع الكواكب والقمر والشمس الحكم على أبيه وقومه بالضلال ، فقد ذكر ذلك مجملا فى الأول ، أما هنا فقد ذكر المناقشة التى جرت بينهم فى ذلك ، ثم ذكر تدبيره فى حطم الأصنام ، وإثبات عجز الأصنام بالدليل القاطع ، ثم نجاته من النار ، فكان بهذا مثبتا بالعمل أنهم لا ينفعون ولا يضرون ، ولما سألوه عما فعل بالأصنام قال متهكما : (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) ، فأنطقهم بضلالهم إذ نكسوا ثم قالوا لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ، وقد أثبت الواقع أيضا أن الله وحده هو الذى يضر وينفع إذ جعل سبحانه وتعالى النار (بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ).

وهنا لا نجد تكرارا مطلقا ، وإن الموضوع واحد ، فهذه قصة إبراهيم ولكن فرقت فى أبواب شتى لأن النسق القرآنى المعجز اقتضى ذلك ، إذ يكون كل جزء مكونا لقصة ذات عبرة مستقلة فى ذاتها ، فهى قصة واحدة الموضوع ، فى قصص متعددة العبر.

١٢٤

(ه) ولندخل إلى جزء آخر من قصة إبراهيم ، ونراه مستقلا غير مكرر ، وهو صلة إبراهيم بأبيه ، وكيف كان حريصا عليه مع رفق الدعوة وإحسان البنوة ، وطرق الهداية الرشيدة ، يقول الله تعالى حكاية عن إبراهيم بعد أن صار صديقا نبيا :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧) [مريم : ٤١ ـ ٤٧].

وهنا نجد رفق الدعوة التى تفيض بحنان البنوة فى عباراتها ، وفى نغماتها الهادئة ، وفى معانيها العاطفة ، ولا يمكن أن يوجد فى أى لغة فى أى كلام عبارات برفق الدعوة ، والعطف ، والرعاية بمثل هذه العبارات لأنها كلام العليم الحكيم العزيز الكريم.

وبمقدار ما فى عبارات الابن من رفق واسترضاء واستعطاف كانت عبارات الأب كما صورها القرآن جفوة ، وكأنها الجنادل تصك الآذان ، ولم يمنع ذلك الابن العطوف من أن يعد أباه بأن يستغفر له ربه ، لأن له مكانة عند الله تعالى : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا).

ولكن الله تعالى يخبره بأنه ليس له أن يستغفر لأبيه ، لأن كل امرئ بما كسب رهين ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وكل إنسان وما قدمت يداه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وقد نهى الله تعالى عن الاستغفار للمشركين ، وعفا عن إبراهيم إذ استغفر لأبيه ولكنه أمره بالبراءة منه فتبرأ ، وقال تعالى فى ذلك :

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) [التوبة : ١١٣ ، ١١٤].

هذه قصة إبراهيم عليه‌السلام قبضنا منها قبضة ، لكيلا يتوهم القارئ للقرآن ، أو المستمع لتلاوته أن فيها معانى مكررة وألفاظا مرددة ، ومنها يتبين أنه لا تكرار قط فيها ، ولكن حكمة العليم الخبير تعالت كلماته اقتضت ذكرها متفرقة الأجزاء فى مواضع ، لتكون كل عبرة بجوار خبرها فى القصة ، ولو اجتمعت فى مكان واحد لاختلطت العبرة بالقصة الخبرية ، وما تميزت كل عبرة تميزا يجعلها كونا مستقلا مقصودا بالذات ، وبقية الأجزاء التى لم نرطب قلمنا بذكرها لا تكرار فيها بل كل واحدة لها عبرتها.

١٢٥

قصة موسى عليه‌السلام

٧٧ ـ قصة سيدنا موسى ذكرت فى القرآن الكريم كثيرا ؛ لأنه هو الذى نزلت عليه التوراة ، وفيها المبادئ المقررة فى الشرائع السماوية ، وكثير من أحكام المعاملات فيها لم ينسخ ، بل جلها صدق عليه القرآن الكريم ، كما وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) [آل عمران : ٥٠] ، ولأنها تبين أحوال اليهود ، ولأن فيها أوصافهم الحقيقية من الشك والتردد فى الحق ، وخذلانه ، وما وسموا به من خنوع وخضوع إلى آخر ما ذكره القرآن عنهم ، وكل ذكر لهم يجيء معه ذكر لنبى من الأنبياء ، ففيهم تجارب الإنسانية الفاسدة ، وحالهم فى هذه الأيام هى امتداد لما ذكره القرآن من أوصافهم.

وإن المتتبع لقصة سيدنا موسى فى القرآن يجدها متعددة العبر ، فى جهاده وفى قومه ، وفيما لقيه ، وهو من أولى العزم من الرسل الذين جاهدوا فى الله حق جهاده ، ففي كل واقعة من وقائع حياته عبرة. ولا تكرار بالقدر الذى يتوهمه التالى للقرآن أو المستمع لتلاوته ، ولنقبس قبسات من ميلاده إلى جلاده مع فرعون الطاغية الذى كان من أغنى ملوك العالمين ، وأشدهم طغيانا ، ولسنا نحصى كل المواضع بل نذكر ما يتوهم فيه التكرار من قصد لجديد.

(أ) أول ما نتجه إليه هو ميلاده ؛ وما أحيط به من خوارق العادات فقد قال تعالى فى سورة القصص : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) [القصص : ٧ ـ ١٣].

وفى هذه القصة نجد عدة خوارق للعادات اقترنت بنبى الله موسى عليه‌السلام فى نشأته. فقد ولد ، فخافت عليه أمه ، إذ إن فرعون اللعين الذى يعد أستاذا لكل طاغية فى الأرض ، كان يرهق بنى إسرائيل ، يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم لكيلا تكون منهم فى القابل قوة تناوئ حكمه ، وترد طغيانه ، ولكن الله تعالى ألهم نفس أمه الصافية ، أن تصنع له تابوتا ، وتلقى فيه فلذة كبدها ، وتدفعه إلى البحر ، فكان الوحى

١٢٦

أو الإلهام صادقا كل الصدق ، مصدقا كل التصديق ، فالتقطه آل فرعون ليكون المصير والمآل أن ينجو ، وأن تكون رسالته عدوا للشرك ، وحزنا على آل فرعون ؛ إذ إنه سيقاوم فرعون ، ويقتلعه من أرض مصر ، وقد وهب امرأة فرعون الرحمة لهذا الملقى فى اليم ، وقد ألهم الله أم موسى أن تتقصاه ، حتى تعرف أنه آل أمره إلى بيت فرعون ، ويجيء الأمر الثالث الخارق للعادة ، فيمتنع الرضيع عن المراضع بأمر الله التكوينى ، وتعرف أخته التى تقصت أخباره فتدلهم ـ وهى المترقبة المترصدة ـ على من يكفله ، تدلهم على أمه ، وبذلك يرده الله تعالى إليها ، كما وعد ، وهو أصدق الواعدين ، وقد اقترنت هذه الخوارق بنشأة موسى ، كما تقترن الخوارق بنشأة كل رسول من رب العالمين ، وقد رأيناها من بعده مقترنة بولادة محمد خاتم الأنبياء ، وآخر لبنة فى صرح النبوة ، مما هو مذكور فى السيرة النبوية المعطرة ، وأن سورة القصص يرى التالى لها المتتبع للقصة أنها ذكرت بالإجمال ولادته ونشأته فى بيت فرعون إلى أن أرسله الله رسولا نبيا ، ولاقى فرعون فى عزمة المؤيد من الله تعالى ، وفيها ختام حياة فرعون ، وما انتهى إليه من غرق فى اليم.

ابتدأت بعد نشأته. ببيان أنه فهم طغيان فرعون ، وظلمه لبنى مصر عامة ، وتخصيصه بنى إسرائيل بظلم خاص ، فيقول الله سبحانه : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧) [القصص : ١٤ ـ ١٧].

أدرك موسى بنفاذ بصيرته القدرة على الحكم على الأمور والعلم بمداخلها ، فأعطاه الله تعالى حكمة وعلما ، وخرج من سجن القصر إلى حيث الشعب ، يتحسس الأمور ، ويتعرف مقتضياتها ، وغاياتها ومآلاتها ، فدخل المدينة فى وقت لا يعلم أهلها أنه من قصر فرعون ، ورأى الإسرائيلى الذى يدل ظاهر الحال على أنه من المظلومين ، يقتتل مع المصرى الذى يدل ظاهر الحال على أنه من الظالمين ، فاستنصر به الذى من شيعته على الذى من عدوه ، وقتله ولكنه ندم ، إذ قتل قبل أن يتبين ، وتاب إلى الله ، واعتزم على ألا يعود لمثلها.

ولكن تتكرر المأساة ، وتعاوده رغبته فى الانتصار لمن هو من شيعته فينبهه الآخر إلى أنه لا يصح أن يكون جبارا فى الأرض ، إذ جاء من شيعته من يستنصر به على مصرى آخر فيعرفه المصرى فينبهه.

١٢٧

عندئذ يحس الطيب الأمين الذى أراد الله تعالى له أن يكون من المصطفين الأخيار ، بأنه صار فى خطر أن يبطش به فرعون وأعوانه ، وقد جاء النذير بذلك : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢١). [القصص : ٢٠ ، ٢١]

خرج من المدائن إلى حيث الأمن والاستقرار ، خرج إلى الصحراء ، حيث السماء الصافية ، والنور المشرق ، فتوجه تلقاء مدين ، وارتبطت حاله بشعيب كبير مدين ، وخاطبه الله تعالى من وراء الشجرة ، وقد آنس نارا ذهب ليصطلى هو وأهله بها ، فهداه الله تعالى ، وبعثه إلى فرعون وقومه ليلقى الطاغى الأول فى العالم. وأعطى المعجزة الأولى ، وكانت لأن الله تعالى يخاطبه ، وقد قال الله تعالى لما أتى إلى جذوة النار : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٤٠) [القصص : ٣٠ ـ ٤٠].

إلى هنا بيّن القرآن حياة الكليم عليه‌السلام من وقت أن نشأ رضيعا ، وكيف كلأته عناية الله تعالى ، وهو يتدرج ، حتى صار شابا سويا ، قادرا ، ورأى الظلم عيانا ، وصقلته الحاجة الشديدة حتى صاح ضارعا إلى ربه (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) فصار من تربى فى ترف فرعون فى حاجة إلى عيش الكفاف ، ووجده فى أن يكون أجيرا لشعيب بمهر إحدى ابنتيه ، فالتقى فيه ترف النعمة ابتداء حتى زهد فيه ، لما تأشب حياته فيه من إحساس مرير بالظلم فأقبل على الشعب يعيش فى وسطه عيشا مريرا ، ولكنه هنيء ، وحياة لاغبة ، ولكنها فى راحة الضمير والوجدان.

١٢٨

عندئذ بدت إرهاص النبوة ، ثم كانت الرسالة ، وشعر بشدة التكليف ، لأنه سيكون فى مواجهة فرعون الذى قتل من قومه نفسا ، والتقى فرعون بطغوائه ، وجهله فحسب أن الله فى السماء الدنيا ، وأراد أن يتخذ الأسباب للارتفاع إليه ، ومع جهله بالحقائق الإلهية استكبر هو وجنده ، فكأن الجند فى جانبه ، والشعب ليس فى جانبه ، أو هو مغلوب على أمره لا يحرك ساكنا حيث يجب أن يتحرك ، ولا يدفع ظلما يجب أن يدفع ، ثم نزل العقاب بفرعون وجنده ، فألقوا فى البحر. هذه قصة موسى رضيعا ، فشابا قويا ، فأجيرا فتيا ، فمبعوثا نبيا ، فمجاهدا مجالدا ، حتى أدال الله تعالى من الطاغى المتغطرس.

٧٨ ـ جاء بعد هذا الإجمال تفصيل لما ذكر بالإجمال من الوقائع ، وكان فى التفصيل ذكر للنعم التى أنعم الله بها على موسى.

وأول تفصيل كان فى ذكر التأهب للقاء فرعون ، فقد توقع أنه سيلقى عنتا ، وما ذكر من بعض التكرار فلأنه لا بد منه ليقوى موسى على اللقاء ، وليذكر بالنعم التى أنقذته سابقا ، ليعلم أن الله تعالى معه ومؤيده ومنقذه ، ذكره بنعمه عليه رضيعا ثم كيف ابتدأ التكليف ، ثم كيف استعان بأخيه ، ثم كيف استعد للقاء الرهيب ، إذ قال : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) (٣٧) [طه : ٢٥ ـ ٣٧] ، ثم ذكره بعظم مننه السابقة ليتأكد أن الله تعالى مؤيده بنصره ، وليعلم أنه مهما يكن أمر فرعون ، فإن الله تعالى لن يمكنه منهما.

ثم جاء التكليف بالرسالة ومخاطبة فرعون نتيجة للآيات التى ذكرها أولا ، ثم ذكرها ثانيا ليربط التكليف بها ، وهذا نص التكليف الخطير : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٤٧) [طه : ٤٣ ـ ٤٧].

وفى هذا النص دعاهم إلى التقدم برقيق القول إرشادا لسبيل الدعوة إذ هى تكون بالتى هى أحسن ليلين الطاغى وليسكن النافر ، وقد أبديا لله سبحانه الخوف من أن يطغى ، فوعدهما سبحانه بأنه سيكون معهما ، وقد سبق القول ، بسابغ نعمه ، وصادق وعده ، وكان لا بد من ذكر ذلك عند دعوتهما إلى ذلك الإقدام الخطير.

١٢٩

وقد كانت إجابة فرعون أن سألهما عن ربهما فأجابا قائلا أحدهما ومصدقا من الآخر : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (٥٤) [طه : ٥٠ ـ ٥٤].

وأخذا يذكران أسباب الهداية مبينين حقائق الوجود كله ، ولما تقدم موسى له بالعصا التى قلبت ثعبانا مبينا وقال سبحانه وتعالى : (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) (٥٨) [طه : ٥٧ ، ٥٨]. التقى السحرة وموسى ، ووقعت المعارك بين الحق يؤيده الله ، والسحر يؤيده الباطل ، والله يطمئن عبده الرسول وقد رأى السحرة فيقول له : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (٦٨) [طه : ٦٨].

وقد كانت نتيجة المعركة بين الحق والباطل أن خر السحرة ساجدين لله ، وهنا تتجلى الحقيقة ، ويتجلى الفداء فى سبيل الحق والطغيان الفرعونى الذى يستكثر أن من المصريين من يذعن للحق قبل أن يأذن الطاغوت الأثيم ، وينذر بالعذاب (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٧١).

وهنا تتجلى قوة الإيمان لأنه إذا سكن القلب ، واطمأنت به النفس هان تهديد العباد ولو كان من فرعون ذى الأوتاد ، (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (٧٥) [طه : ٧٢ ـ ٧٥].

وينتهى هذا الجزء من قصة موسى وفرعون بأنه مقصد قائم بذاته ، وهو تفصيل اللقاء بين الحق يؤيده الدليل. وبين الباطل يؤيده الطاغوت ، وفيه قوة الإيمان عند المؤمن ، وما جاء من ذكر لآلاء سبق بيان فيها ، فلكى يتخذ من التأييد الأول والوعد به وصدق الوعد دليلا على صدق الوعد الجديد ، وقد اشتدت الشديدة.

١٣٠

الدعوة فى أوساط الشعب

٧٩ ـ سرت الدعوة بين المصريين سريان النور فى الظلمة ، ومع قوة فرعون الطاغية سرت الدعوة بين الشعب ، بل كان من ملأ فرعون نفسه من آمن ، ودعا إلى الإيمان ، وتجرى المجاوبة فى ربوع مصر حاضرها وريفها ، وفرعون يرعد ويبرق ، ولا مستمع يستمع ، لأن الحق أبلج ، فالله تعالى يقول عنه : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٣٤) [غافر : ٢٥ ـ ٣٤].

استمرت المجاوبة بين الذين آمنوا وبين فرعون ، وكان فرعون ومن معه يصدون عن سبيل الله تعالى ، والذين آمنوا يدعون إلى سبيل الرشاد (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٣٩) إلى قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (٤٥). [غافر : ٣٨ ـ ٤٥]

١٣١

استمرت المجاوبة بين الحق والباطل ، فى داخل الشعب المصرى وبين آل فرعون والمؤمن ، ولعله ـ والعلم لله وحده ـ أن الذين آمنوا من آل فرعون وأهل مصر عدد قليل كالذين آمنوا بمحمد من بعد قد كانوا عددا قليلا ، ومن الضعفاء ، فكان لا بد من هجرة موسى من مصر ، كما هاجر محمد من مكة إلى المدينة ، وكان معه الذين اتبعوه بإحسان ، ونالهم ما نالهم من الأذى.

خروج بنى إسرائيل وموسى من مصر :

٨٠ ـ كان أتباع موسى عليه‌السلام من بنى إسرائيل الذى جاء لاستنقاذهم وبعث للدعوة إلى الوحدانية أولا ، واستنقاذ المظلومين من الظالمين ثانيا ، فكان لا بد من الهجرة ، ومن أراد أن يلحق بهم من المصريين.

لقد جاء الأمر بالهجرة وأن تكون ليلا ، كما كانت هجرة محمد عليه‌السلام خفية ، وقد ساق سبحانه وتعالى قبل الخروج قصة الدعوة الموسوية ، وما لاقته من فرعون وشيعته ؛ ليتبين أنه لا أمل فى إيمان غير الذين آمنوا من قبل ، لذلك جاء الأمر بالهجرة كما جاء بعد ذلك الأمر بالهجرة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تعالى فى ذلك : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) (٦٤) [الشعراء : ٥٢ ـ ٦٤].

انتهى أمر فرعون بهذا الإغراق ، ولكنه لما أوشك على الغرق جاء إليه الإيمان متأخرا ، فكانت المعجزة أن الله أبقاه مثلا للآخرين ، وإن الله سبحانه يقول مفصلا مهلكه من غير تكرار ، وإن ذكر المقدمات مفصلا ، قال سبحانه : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢) [يونس : ٩٠ ـ ٩٢].

انتهى فرعون ، ونلاحظ هنا ثلاث ملاحظات :

أولاها : أن فرعون كان دائما يذكر جنوده على أنهم الذين يوالونه فى طغيانه ، ويمالئونه فى عدوانه ، وينصرونه ، والشعب لا يذكر فى مقام المناصرة لفرعون.

١٣٢

وثانيتها : أن الذين آمنوا من الشعب عدد لا يكوّن كثرة تهز ملك فرعون ، وإذا كانوا كثرة لم يذكروا مع فرعون لأنهم فريسته ، فلم ينصروا بكثرتهم دعوة موسى ، وكانوا كشأنهم فيما يتعلق بملوكهم إن خالفوا الحق نافق منهم من ينافق ، وتملق من يتملق ، والشعب وقف موقف النظارة ، ولذلك كانت الهجرة إذ قل النصير المؤيد ، وكثر العدو المناهض.

وثالثتها : أن الله تعالى أجرى على يد موسى معجزات تتصل بمصر الزراعية كما ذكر فى سورة الأعراف ، ولقد ذكر فى السورة موسى وفرعون ، وذكرت هنا كما ذكرت فى غيره العصا والسحرة ، وكررت لأنها المعجزة الكبرى التى تحدى بها ، كما كان القرآن الكريم يذكر كثيرا فى القرآن لأنه المعجزة الكبرى التى جاء بها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقد اختبر الله تعالى آل فرعون بمعجزات زراعية تتعلق بالزرع والضرع ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٣٦) [الأعراف : ١٣٠ ـ ١٣٦].

وهكذا توالت المعجزات حتى بلغت تسعا ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) (١٠٥) [الإسراء : ١٠١ ـ ١٠٥].

هذه قصة موسى مع فرعون ومع أهل مصر قد ذكرنا جزءا منها ، وهى فى فصول متعددة من أجزاء القرآن الكريم ، ونلاحظ مع بلاغة القصص وقوة تأثيره الذى قد نتكلم عليه من بعد ، أنه لا تكرار فى جزء من القصة فلا يكرر جزء بمعناه فى آيات واحدة ، بل يذكر أيضا بمعناه فى آيات أخرى ، وأن كل جزء من القصة فى معناه وجزئياته وغاياته ومراميه إلى مقصد ، بل لكل جزء معنى سيق له لم يسق له غيره ، وإذا كانت

١٣٣

بعض العبارات أو المعانى تكررت ، فإن ذلك لبيان المقصد الأصلى من الجزء ، فمثلا رأينا فى لقاء موسى لفرعون أنه ذكرت عبارات النعم وهو رضيع ، وكيف سهل الله سبيل العيش الرغيد ، ليبين له سبحانه أنه معه فى لقاء فرعون ، كما كان مع أمه فى إلقائه فى اليم ، ليلقى فرعون وهو رابط الجأش ، وهكذا نجد تكرار بعض المعانى ، لأنها ذكرت فى موضعها الأول مقصودة ، وذكرت فى موضعها الثانى تمهيدا لقصده ، وتثبيتا لمغزاه ، فالتكرار لم يكن لمجرد التكرار ، بل هو تجديد للمعانى ، ليس ترديدا ، والفرق بين التجديد ومجرد الترديد أن الترديد يكون تكرارا لا غاية لها ، أو يكون لمجرد التوكيد ، أما التجديد فى تكرار اللفظ فإنه يكون لغاية بعده لا تتم إلا به.

موسى مع بنى إسرائيل

٨١ ـ لقد قسمت قصة موسى فى القرآن إلى قسمين : أحدهما ما كان وهو فى مصر يجاهد فرعون ويجالده ، وقد أشرنا فيه إلى أنه لم يكن تكرارا إلا لتجديد الأمر ، إذ يكون تمهيدا للمقصد من الجزء لا يتم البيان إلا به ، أو هو مقدمة يتلوها الجزء الذى سيق له القول ، وكان لقصد غير الأول.

أما القسم الثانى فهو ما كان بعد الهجرة إلى الطور ، وصار موسى مع بنى إسرائيل ، وقد خلصوا من فرعون وجنده ، وفى هذا القسم تلقى الألواح وعلم التوراة ، ولاقى المرارة فيها من بنى إسرائيل وضعفهم وتقليدهم كما لاقى من قبل الجهاد مع فرعون.

وفى قصة بنى إسرائيل مع موسى عليه‌السلام يتبين ما يكون عليه قوم قد مردوا على الخنوع ، وضعفت فيهم النفوس ، واستمرءوا الهون من الحياة ، ورضوا بالمكان الدون واستقروا فيه (١).

انتقل بهم موسى عليه‌السلام إلى الطور ، فأرسل الله لهم السلوى والمن طعاما ، وأظل الله تعالى عليهم بالغمام حتى لا تلفحهم شمس الصحراء ، ثم توالت عليهم النعم ، وتوالت خوارق العادات ، ولقد ذكرت الآيات القرآنية فى أول سورة البقرة بعض أخبارهم ، فقال تعالى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ

__________________

(١) هو تفضيل نسبى. وليس تفضيلا ذاتيا ؛ وذلك لأن الله اختارهم بقيادة موسى لمقاومة فرعون ، ولأنه فضلهم واختار بعض الأنبياء منهم ، وقد عصوا فأنكروا نعمة الله فاستحقوا سخطه.

١٣٤

وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا

١٣٥

الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤) صدق الله العظيم. [البقرة : ٤٧ ـ ٧٤]

وفى هذه النصوص السامية المعجزة المحكمة نجد القرآن الكريم يذكر بنى إسرائيل بأن الله تعالى خصهم بنعم لم يعطها غيرهم ، وأنه فضلهم فى عصرهم بأن جعل منهم الذين يقاومون طاغوتا من أعظم طواغيت الأرض ، وخصهم بكثرة المعجزات التى تجرى على أيدى نبيهم الذى هو من أولى العزم من الرسل ، وأنه سبحانه جعل من ذرية يعقوب أبيهم أنبياء كثيرين ومرسلين ، ومع هذه النعم المتضافرة ، والآيات المتكاثرة يكفرون بالنعمة ويبطرون معيشتهم ، ويتخذون تفضيل الله لهم تفضيلا نسبيا فى عصرهم ذريعة للكفر بالنعمة ، لا لشكرها ، وأن الله قد أخذ عليهم الميثاق ألا يعبدوا غيره ولا يؤمنوا إلا به ، ولكن نفوسهم التى مردت على التقليد والخنوع للقوى ، سولت لهم أن يعبدوا العجل ، كما كان يعبده المصريون ، وفعلوا ذلك تقليدا ، وخضوعا للأهواء ، وتركوا وراءهم ظهريا أوامر الله تعالى الذى أنقذهم من ظلم فرعون الذى كان يذبح أبناءهم ، ويستحيى نساءهم. ويأمرهم الله تعالى بأن يدخلوا متطامنين خاضعين فيحرفون كلام الله تعالى عن مواضعه ، ويمن الله تعالى عليهم بخير الطعام وأطيبه فيأخذهم الإلف إلى ما دونه ، ويستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير ، لأنهم خاضعون لأهوائهم غير مستطيبين لرزق ربهم ، ويرون المعجزة نهارا ، وينعمون بها إذ يطلبون الماء فلا يجدونه فيأمر الله نبيه موسى الكليم بأن يضرب الحجر بالعصا ، فينبعث اثنتى عشرة عينا ، ويكون لفرقهم الاثنتى عشرة مشاربهم (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٦٠) [البقرة : ٦٠].

ومع هذه النعم المتوالية والآيات البينات الباهرة يأمرهم الله تعالى بالطاعات ويأخذ عليهم الميثاق بأن يرفع عليهم الطور حتى يصير كأنه فوقهم تأكيدا للميثاق بالآية التى اقترنت به ، ومع ذلك لا يطيعون عامدين ، إذ يتولون معرضين عن ذلك البيان الموثق ، لأنهم قد طبعوا على الجحود ، وكانوا مضرب المثل فيه ، وإذا كانت الآيات قد تضافرت بالبيان عليهم ، فإن الله تعالى جعل فيهم ومنهم آية بينة تدل على أن الجحود لا ينشأ عن نقص الدليل ، بل يكون مع تضافر البينات ، فتزيدهم الآيات كفرا وعنادا.

١٣٦

وإن الله تعالى يأمرهم بيوم السبت لكى يكون لهم راحة واستجماما ، وأن يبتعدوا فيه عن المادة ويعكفوا على أنفسهم يهذبونها ويفطمونها عن دواعى المادة ، فيذهب شرههم المادى ، ورغبتهم فى طلب المادة إلى أن يعملوا فيه شرها وطمعا فيمسخ الله تعالى نفوسهم قردة تنزو مثلها ، وخنازير تطلب الخسائس طلبها.

«إن الله تعالى يختبرهم فى إيمانهم بأن يذبحوا بقرة ، ولكنهم تأثرا بالمصريين وما كانوا عليه من عبادة العجل ، يترددون فى ذبح البقرة فيجادلون فى ذبحها متجاهلين أمرها ، ولو أتوا إلى أى بقرة فذبحوها لكان فى ذلك الاستجابة الكاملة ، ولكنهم يثيرون الريب حول الطلب ، سألوا عن حقيقتها ، وعن كونها صغيرة أو كبيرة ، فأجيبوا ، ثم سألوا عن لونها ، فأجيبوا ، ثم سألوا عن كونها متخذة معلوفة للنماء والتوالد ، أم هى ذلول عاملة ، فذبحوها وما كادوا يفعلون تقليدا للمصريين وتأثرا بأفكارهم ، وأوهامهم فى دينهم».

هذه قصة بنى إسرائيل فى تلقيهم لأوامر الله تعالى ، وما جاء القرآن خاصا بهم فى عهد موسى عليه الصلاة والسلام فهو لمقاصد أخرى من أجزاء القصة كما ذكرنا فى قصة موسى ذاته.

بنو إسرائيل والأرض المقدسة

٨٢ ـ لم يكن بنو إسرائيل فى عهد موسى إلا قوما أذلهم الخضوع وضربت عليهم الذلة ، وأرمضتهم الطاعة الذليلة التى كانت رقا أو ما يشبهه ، وقد بدا ضعف نفوسهم فى عهد موسى ، فقد أراد أن يدخل بهم الأرض المقدسة ، فضعفوا ووهنوا ، وتلمسوا لأنفسهم المعاذير ، وما هى إلا معاذير المستكين المؤثر للاستكانة ، والرضا من الحياة بأدناها.

طلب منهم موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لهم أن يدخلوها ، ولنسمع إلى كتاب الله تعالى يحكى حالهم من الجبن والخنوع والذل.

قال الله تعالى وهو أصدق القائلين : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي

١٣٧

وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦) [المائدة : ٢٠ ـ ٢٦].

هذا نص القرآن الكريم فى قصة جبن اليهود وتخاذلهم عن أن يدخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله سبحانه وتعالى عليهم أن يدخلوها ، ويجب أن ننبه هنا أن المراد أن الله تعالى كتب عليهم أن يدخلوها ، لا أنه كتبها لهم ملكا دائما مستمرا باقيا ، يطالبون بحقه ، وأن ذلك هو مفهوم الكتابة ، ويستفاد من النص الكريم ذلك ، أن النص الكريم ليس فيه أنه كتبها لهم ، بل كتب فقط عليهم أن يدخلوها ، إذ يقول سبحانه عن طلب موسى منهم الدخول : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، فالكتابة التى فرضها الله تعالى هى الدخول وهو واجب وليس بحق ، فلم يكتب لهم أرضا ، بل فرض عليهم أمرا بدليل عودة الضمير على الدخول المكتوب لا على الأرض.

وإن منطق الحوادث يوجب عليهم أن يدخلوها ، ليقيموا فيها شعائر الموسوية ، إذ إنهم خرجوا من مصر لعدم صلاحيتها لأن تقوم فيها شرائع موسى ، كما لم تصلح مكة لأن تكون موطن الشرع الإسلامى إلا بعد تحطيم الأوثان ، وأن يمنع المشركون من دخولها ، لأنهم نجس لا يدخلون المسجد الحرام بعد عامهم.

وإن دخولهم فيها كان لأجل إقامة التوراة فيها ، وجعلها الحكم الذى لا ترد حكومته ، وما كانت لذواتهم ، فلم تكن لأنهم بنو إسرائيل ، بحيث يكون الاستحقاق ذاتيا ، أو ميراثا يرثه الأخلاف عن الأسلاف ، وقد انتهى عهد موسى ، وانتهى شرعه ، وحالت أحوالهم وتغيرت أمورهم وليست الأرض ميراثا يؤخذ. إنما الأمر هو الدخول لإقامة الشريعة الموسوية ، وقد نسخت بشريعة محمد ، فصارت الخلافة النبوية إلى محمد خاتم النبيين ، فقومه الذين يقيمون شرع الله هم أهلها ، والذين يجب عليهم أن يدخلوها آمنين مطمئنين ، فليست أرض الله ميراثا يورث للذوات ، إنما هى مقام الشرع الناسخ لا المنسوخ.

ويلاحظ من بعد ذلك أمور ثلاثة قد أشارت إليها الآيات الكريمات :

أولها ـ أن الاسترخاء والضعف النفسى قد أصابهم بسبب ترفهم أولا ، واستضعافهم ثانيا ، وطغيان فرعون فى حكمهم ثالثا ، وبأنهم حرموا حب الفداء ، وإذا حرم قوم حب الفداء هانت عليهم أنفسهم ورزقوا الوهن ؛ وكذلك بنو إسرائيل ، فقد خافوا من غير مخوف ، وماتت فيهم النخوة ، كما تدل الآيات الكريمات.

١٣٨

وثانيها ـ أن ضعفهم أفقدهم قوة الإيمان ، والشك فى حكم الديان حتى أنهم ليقولون لموسى عليه‌السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. وذلك تهكم يدل على وهن إيمانهم ، كما وهنت نفوسهم.

وثالثها ـ أن الأمم لا تتربى إلا بتعود خشونة العيش ، كما تعودت نعومته ، وأن تذوق جشبه كما ذاقت حلاوته ، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أنه لا يمكن أن يدخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله تعالى عليهم أن يدخلوها فقال سبحانه : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ).

وهذا كما يبدو من الآية تحريم كونى ، أى أنه لا يمكن أن يستطيعوا الدخول إلى الأرض المقدسة مقاتلين مجاهدين إلا بعد أن يذهب عنهم ذل الوهن ، ويأتى جيل جديد قد ذاق طعم الشدة ، وعلم الحياة نضالا ، ولم يعلمها استكانة وضعفا ، والتقدير بالأربعين ، لا أحسب أنه يقصد به العدد ولكن يقصد به الكثرة التى تنشئ جيلا تربى فى شظف العيش وصلابة الحياة وقسوتها.

ولقد أخذ هذه الحقيقة القرآنية ابن خلدون ، وجعل أساس قوة الأمم شدة الحياة وصلابتها ، فإنها إذا استرخت أدال الله منها بقوم أولى بأس شديد تربوا فى البداوة ، وذاقوا بأساءها.

٢ ـ قصص القرآن لون من تصريف بيانه

٨٣ ـ ذكرنا أن البيان القرآنى فيه تصريف القول على ألوان متعددة متباينة فى حقيقتها متلاقية فى غايتها ، ولا يمكن أن يكون لكلام بشر مع سمو البلاغة ، وبلوغها المقام الذى لا يناصى فى كل أصنافها ، بل لا يمكن أن يبلغ الغاية فى صنف واحد من أصنافها ، وقد ذكرنا ما فى القرآن من إطناب من غير تكرار ، وذكرنا ما يتوهم فيه التكرار فى القصص وبينا أنه لا تكرار يعد ترديدا ولو على سبيل التوكيد ، وما يتوهم فيه التكرار إنما هو تجديد المعنى لغاية أخرى ومقصد آخر ، وكان الذكر لما يتوهم تكراره فيه كمال المعنى ، ولا يمكن أن يستغنى القول عنه ، إنما التكرار المردود يكون فيما لو حذف المتوهم تكراره ما نقصت الغاية ، وما اختل بيان المقصد ، وتكرار القرآن ليس على هذا بل هو تكميل لا بد منه ، وتتميم لا يستغنى عنه ، وذلك يكون فى القصص ، وفى الاستدلال بآيات الله تعالى الكونية ، على وحدة من خلق وكون وأبدع ، وقد ضربنا على ذلك الأمثال.

والآن نذكر القصص القرآنى على أنه لون من تصريف البيان القرآنى ، وتغير أشكاله كما ذكر الله تعالى فى القرآن : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).

١٣٩

إن القصص القرآنى فيه العبرة ، وما ذكرت قصة إلا كان معها عبرة أو عبر ، وفيها المثلات لمن عصوا وتركوا أمر ربهم ، وفيها بيان ما نزل بالأقوياء الذين غرهم الغرور ، والجبابرة الذين طغوا فى البلاد وأكثروا فيها الفساد ، والله من ورائهم محيط.

وإن القصص فيه إيناس صاحب الرسالة المحمدية بأخبار إخوانه من المصطفين الأخيار ، وإثبات قوله ، فقد كانت تلك الأخبار الصادقة ما كانت لتعليم إلا لمن شاهد ، وما شاهد أحداثها وهو لا يزال فى بطن الغيب ، كما قال سبحانه وتعالى عقب قصة مريم : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤) [آل عمران : ٤٤]. وكما قال تعالى فى قصة موسى عليه‌السلام ووقائعها ، فقد قال تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦) [القصص : ٤٤ ـ ٤٦].

لم يكن محمد مشاهدا الأحداث التى جاء القرآن الكريم بقصصها ، وهى صادقة ، وثابتة فى الصادق من أخبار النبيين فى كتبهم التى يتداولها أهل الكتاب ، ولم يتناولها التحريف.

ولم يكن بمكة مدرسة لاهوت ، بل لم يكن بمكة يهود ، ولا نصارى إلا خمار ألحدوا بأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ منه كذبا وبهتانا ، فقال الله تعالى ردا عليهم : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣].

وكانت مكة بلدا أميا ، ليس به علم ، ولا رياسات ، إلا مباريات رئاسية فى البيان ، وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٨) [العنكبوت : ٤٨]

لذلك نقول : إن القصص القرآنى ذاته فيه إعجاز ذكره الكتاب جاء على لسان أمى لا يقرأ ولا يكتب ، إذ هو النبى الأمى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل.

ويتساءل أى تال للقرآن : من أين جاء محمد بهذا القصص الحق ، وهو لم يشاهد وقائعه ، ولم يقرأها ، لأنه لم يكن قارئا؟ إنه من عند الله العزيز الحكيم علام الغيوب ، وبذلك كان القصص الصادق من التحدى.

١٤٠