المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

عاقبته أنه حرم مما طغى به وصار يوم القيامة أمام الجزاء الأليم ، بيد أن أولئك أصحاب الجنة وهى الحديقة المثمرة ، كانت لديهم فرصة الرجاء بعد الندم ، أما هؤلاء فقد فاتت فرصة الرجاء ولات حين مناص ، ولنذكر بعد ذلك ما نستطيع الإشارة إليه من النواحى البيانية.

٦١ ـ الصورة الأولى صورة الطمع المتغلغل فى النفس الذى ينسيها كل شىء ما عدا ما تطمع به النفس ، فقد قال تعالى : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ) (١٨).

اختبرهم الله تعالى بالطمع كما اختبر أصحاب البستان المثمر ، ونرى التشبيه هو ما يسمى التشبيه التمثيلى ، وهو تشبيه حال الطاغين المعتدين أن رأوهم استغنوا لأنهم ذوو مال وبنين ، فغلبهم الطمع ، حتى أوبأهم فى أسوأ الأحوال ، والعناد مع الله تعالى ـ بحال أهل الحديقة إذ غرهم الغرور فظنوا أنهم واصلون إلى ما يبتغون ، وأقسموا على ذلك غير مقدرين عاقبة ولا حسابا لما يأتى به الله تعالى ، والتشبيه بلا ريب للتقريب ، لا للمساواة ، لأن حال الكفار أشد عتوا وأبلغ غرورا ، وهكذا كل تشبيهات حال القيامة وما وراءها بحال ما يقع ، ليس للتساوى أو لأن المشبه به أبلغ فى وجه الشبه ، ولكن لتقريب الغائب بتصويره بالحاضر ، ومثل ذلك تصوير المعنويات بالمحسوسات ، وما يكون من جزاء وعقاب هو من المحسوسات ، ولكنه غائب.

وهنا فى النص نجد تصوير النفس الطامعة ؛ إذ إنها لشدة رغبتها تتصور محل الطمع واقعا لا محالة ، لذلك أقسموا جاهدين فى قسمهم ليصر منها ، أى ليقطعنها قطعا يستأصلونها من أدناها ، وهذا اللفظ فى هذا المقام أبلغ من القطع ، لأن الصرم قطع من الجذور ، أى هو قريب من القلع ، ولتصورهم استجابة لطمعهم أنهم واصلون أكدوا الصرم باللام ونون التوكيد الثقيلة ، ولشدة الطمع لم يتوقعوا تخلفا قط ، ولذلك لم يستثنوا فلم يقولوا إن شاء الله ، أولا ، لأن حرصهم ورغبتهم الجامحة أنستهم الله تعالى ، ولأن تطلعهم إلى ما تهوى أنفسهم لم يجعل لاحتمال التخلف موضعا فى عقولهم ، وكانت اللهفة والحرص على التنفيذ قد جعلاهم معجلين التنفيذ ، فهم يبكرون به مصبحين غير متلبثين ولا متأخرين ؛ لأن القطع أمر محبوب لا يرون معه إبطاء ولا تريثا ، بل يستعجلون ما يريدون ، بل ما يهوون.

وقد صور الله سبحانه وتعالى غفلتهم عما يقدره الله تعالى ، مع أنه متحقق ، فهم يقدرون ويرغبون ، ويستعجلون ، والله من ورائهم محيط ، وقد صورت الآية الكريمة قدر الله تعالى بقوله تعالت كلماته : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (٢٠) ، الطائف العارض الذى يعرض ليلا من ريح صرصر عاتية ، أو عواصف تقتلع الأشجار ، وتلقى بالثمار ، وهذا الطائف بأمر الله تعالى ، فكل شىء فى الوجود بإرادة الله تعالى القدير ، والصريم الأخشاب المتراكمة ، أو الأشجار القائمة

١٠١

المصروم ثمرها المقطوع منها ما أينعت ، وهذا بلا شك تصوير بين لما يجريه الله تعالى فى الأرزاق ، ومهما يقدر الإنسان فى كسب الرزق ويحاول التحكم فيه ، فإن الله تعالى فوق ما يقدر.

ونرى من هذا تصوير ما فى نفوسهم ، وبيان ما يحيط بهم فى بيان متماسك فى ألفاظه ، متآخ فى معانيه.

٦٢ ـ ولقد صور سبحانه وتعالى صورة الحرص ومنع الخير فى أعنف صوره النفسية ، فقال تعالت كلماته : (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) (٢٤).

أنزل الله بالحديقة ما أنزل وهم لا يعلمون ، فكان حرصهم على ما هو عليه ، وتعجلهم لجنى الثمار ، كما هو ، وقد صور الله تعالى ذلك بذكر حالهم أنهم تنادوا ، أى نادى بعضهم بعضا مجمعين على ما أرادوا ، أن أصبحوا فى الغد مبكرين على زرعكم وثماركم الذى حرثتم أرضه ، وأصلحتم ثمره ، إن كنتم تريدون قطعه ، وقطف ينعه. ويلاحظ أن التعبير بصارمين ، فيه معنى الإرادة الصارمة للقطع الذى لا ريب فيه.

وإن معنى التعجل والحرص قد أكد بقوله تعالى حكاية عنهم : (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) (٢٤) هذه النصوص تصور اجتماعا وافتراقا ، فقد اجتمعوا على نية القطع ، واجتمعوا على المسارعة فيه ، واجتمعوا على أمر خبيث لم يعلنوه ، ولكن اتفقوا عليه فى تخافت وإسرار ، واجتماع على تلك النية الخبيثة ، وإن كلمة يتخافتون تصوير لحالهم الحسى ولأمرهم النفسى ، ولمعنى المنع ، فإن الامتناع عن الخير لا يكون إلا بإصرار النفوس والتفاهم فى سر ، ولا يكون فى جهر ، فتخافتوا على ألا يعطوا مسكينا ، وعبر عن المنع عن إعطاء المسكين بمنعه من الدخول ، فهم لا يمنعون العطاء فقط ، بل يمنعونه من الدخول نهيا مؤكدا وبإصرار على المنع ، ولو بالدفع أو القهر ، فضلا عن الطرد والنهر ، وإغلاق الأبواب وإقامة الحراس المانعين ، وأكدوا تنفيذ فكرتهم بما حكى الله عنهم من تأكيد المنع بالنون الثقيلة ، هذه أحوال اجتماعهم ، أما افتراقهم فهو دخولهم على الحديقة ، متفرقين كل فى جانب منها ، ودل على ذلك قوله : (فَانْطَلَقُوا) فهم ذهبوا ليقطعوا ويجمعوا ، كل فى جانب ، تجمعهم فكرة التعجل والتصميم والإلحاف فى منع المساكين ، وقال تعالى فى تصوير تعجلهم مع سيطرة فكرة المنع عليهم (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) (٢٥) فغدوا معناها أقدموا فى باكورة الغداة ، والحرد معناه المنع والتشدد فيه ، والمعنى أنهم أصبحوا قاصدين القطع ، ومعتزمين المنع من حق الفقير بل منع دخوله ، وموضع قادرين هنا هو وصفهم بالقوة على العمل والتنفيذ والمنع بكل الوسائل.

١٠٢

هذا تصوير لا تعرف اللغات تصويرا للحرص والتعجل ، والاستيثاق بالأيمان وعدم التردد فيما يعملون ، ونية السوء ، والتخافت فيها ـ مثله. ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

٦٣ ـ ولكن الآيات الكريمات بعد تصوير حالهم هذه فى التعجل والحرص ، لتصوير المفاجأة ، وتنبيه المفاجأة للغافل وإيقاظها للضمير النائم ، وإثارتها للوجدان الساهى ، فيقول سبحانه فى رؤيتهم لتهدم ما بنوا عليه إشباع طمعهم ، وما حملهم على نية الشر ، فقال تعالت كلماته :

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٢٧).

كانت المفاجأة بمقدار الحرص والطمع ، واسترسالهم فى المطامع المادية حتى استأثروا بها ولم يعطوا منها حق الفقير المسكين والسائل والمحروم ، وإذا كان حرصهم بلغ أقصاه ، فالمفاجأة بالحرمان كانت أشد وقعا ، أصابتهم بالحيرة الشديدة ، والضلال البعيد ، وأول الضلال أنهم توهموها غير أرضهم ، فلما استيقنوا أحسوا بضلال آخر معنوى أشد فتكا فى النفوس وتأثيرا فى القلوب ، وهو إحساسهم بالضلال المعنوى إذ قدروا ، ولم يدركوا تقدير الله ، وحسبوا أن الأمر إليهم وحدهم ، والله فوقهم ، فلما أدركوا ضلال تفكيرهم قرروا الحقيقة الثانية ، وهى أن الله تعالى قدر حرمانهم ، وما قدره نافذ لا محالة ، ولذا قالوا كما حكى الله عنهم مؤكدين : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) ، فالإضراب معناه هنا أنهم ترقوا من حال الضلال المؤكد إلى حال الإيمان بالحرمان المؤكد.

وإن قوله تعالى عنهم : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٢٧) بعد (إِنَّا لَضَالُّونَ) فيه إشارة واضحة إلى الأسف والألم المرير ، ألم الضال ، والحرمان من الهداية ، ثم الحرمان المطلق من الثمرات التى طمعوا فيها ، وتخافتوا على ألا يعطوا الفقير.

وإذا كانوا قد اجتمعوا على ما كان منهم أولا ، فقد اجتمعوا على المفاجأة والحرمان ثانيا ، ولكن يظهر أن الشر لا يمكن الإجماع عليه دائما ، بل لا بد من قائم لله تعالى بحجة ، وإذا لم يستمع له قول ابتداء فإن قوله سيكون له صدى فى النتيجة بعد أن تتبدى الأمور وتنجلى.

وكذلك كانت حال أصحاب الجنة ، فقد كان فيهم رشيد ينبههم إلى خطأ ما أزمعوا أن يفعلوه ، وقد حكاه الله سبحانه وتعالى بقوله : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (٢٨).

الأوسط هو الأمثل ، والوسط فى أوصاف الخير هو الأمثل دائما ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ، وهذا الأمثل عند ما رأى حالهم وتدبيرهم وطمعهم ، وما يسرون به وما يجهرون ، وما يتخافتون وما يعلنون ، لاحظ

١٠٣

أنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، فكان لا بد لكى يدركوا صالح أمورهم أن يؤمنوا بالله وأن يذكروه فى أعمالهم ظاهرة وباطنة ، فهم لا ينقصهم الجد فى العمل ، ولكن ينقصهم الإيمان ، فقال لهم : (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أى هل تسبحون وتنزهون الله تعالى ، وتقدسونه ، وتعلمون أنه القاهر فوق كل شىء ، وأنه العليم الحكيم ، وهنا كان فيما حكاه الله تعالى بالتعبير (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (٢٨) الاستفهام الداخل على النفى فى معنى الإثبات ؛ لأن نفى النفى إثبات ، وهو يدل على التوبيخ ، وتذكيرهم بأنهم لم يفعلوا ما فعلوا فاقدين للمنبه المرشد ، فقد أرشدهم إلى الطريقة المثلى والمنهاج الأسلم ، وهو الإيمان بالله تعالى وتقديسه وتنزيهه ، والإحساس بأنه الغالب على كل شىء ، القاهر فوق عباده.

٦٤ ـ إن المفاجأة مع التذكير ، ووجود الضمير والنفس اللوامة من شأنها أن تحيى موات القلوب ، وخصوصا أنه وجد من بينهم من ربط بين الحرمان الذى فوجئوا به ، والضلال الذى كان من نسيان ربهم ، وحرصهم وطمعهم ، وتفاهمهم على حرمان الضعيف مما أخرج الله تعالى من الأرض ، كان ذلك كله سبيل الهداية التى تجىء ، ومن القارعة التى تقرع الحس والنفس تنبهوا فعلموا ما ينقصهم ، وأنهم لهجوا فى الدنيا ، ولم يذكروا الله تعالى خالق السموات ، فقالوا فيما حكى الله تعالى عنهم : (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٩).

بعد أن تنبهوا من غفلتهم ، واستأنسوا بالحق من تذكير أمثلهم طريقة استجابت نفوسهم لداعيه ، وعلموا أمرين : علموا أنهم كانوا غافلين عن ربهم ، وعلموا أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس فيما تخافتوا به ، قالوا فى إعلان إيمانهم بالله : (سُبْحانَ رَبِّنا) نقدس وننزه ونسلم أمورنا لربنا الذى خلقنا وربانا وهو الحى القيوم القائم على كل شىء ، فرجعوا بذلك إلى الله تعالى خالق كل شىء ، ولكن لا يكون الرجوع كاملا ، إلا إذا تابوا توبة نصوحا ، وأحسنوا التوبة ، وأول طريق للتوبة هو الإقرار بالذنب ، إقرار من يحس بذل المعصية ، وذل الذنب قربة ، كما يقول ابن عطاء الله السكندرى : «إن معصية أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دلا» ولهذا الإحساس بالذنب ، قالوا مؤكدين القول : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لقد ظلموا أنفسهم بطمعهم وحرصهم ، ونسيان ربهم ، وظلموا الناس بمنع الفقراء من حقهم ، وإن الإحساس بألم المعصية من شأنه أن يجعل كل واحد يلقى تبعة التقصير أو التنبه على غيره ، فهم كانوا مجتمعين على طمعهم وحرصهم وتعجلهم ، ولكنهم بعد أن أحسوا بجرمهم أخذ كل واحد يتبرأ من أنه الذى ابتدأ بالدعوة بالمعصية ، وأن الآخر هو الذى دعا فأجاب ، ولذا قال الله تعالى حكاية عنهم بعد أن دخل الإيمان قلوبهم وأشربوا حبه : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) (٣٠) كل واحد منهم يلقى على الآخر لوما ، لا كل اللوم ، فإنهم جميعا

١٠٤

ملومون لأنهم جميعا نووا وهموا أن ينفذوا ما نووا ، والتلاوم هنا ليس هو الاختلاف الذميم ، ولكنه من الإحساس الكريم ، إذ إنهم أحسوا بأن عبء المعصية كاملا ينوء بكل واحد منهم ، فيريد أن يلقى جزءا منه على صاحب له ، وإن اتفاقهم لا يجيء من غير داع منهم ، فإذا كان أوسطهم دعاهم إلى الخير ولم يستجيبوا فقد وجد منهم من دعا إلى الشر واستجابوا له ، وكان شرهم متعدد الأطراف ، فكان كل منهم قد دعا إلى ناحية دون الأخرى ، وهنا نجد أن التعبير بالتلاوم لا يدل على الفرقة والانقسام ، بل إنه فى هذا لا ينافى الالتئام.

وإنهم ينتهون من هذا التلاوم الذى ابتدأ بالألم من عبء المعصية ، ينتهون بعد التلاوم لفرط إحساسهم بالندم إلى أن يقولوا : (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) (٣١) كان الإقرار بالذنب فى هذه المرة أقوى من الإقرار أولا ، لأنهم أحسوا بالهلاك الشديد ينزل بهم ، قالوا منادين الويل : (يا وَيْلَنا) ، أى أيها الويل النازل باستحقاق أقبل فإن ذلك وقتك ، ونحن موضعه ولا نتزايل عنه ولا نخرج ، وعللوا الويل الذى يستحقونه بأنهم كانوا طاغين ، والطغيان دائما يؤدى إلى الظلم ، فإذا كانوا فى الآية السابقة قد اعترفوا بالظلم ، ففي هذا النص السامى اعترفوا بسببه ، وهو الطغيان ، والطغيان يبتدئ من وقت أن يحس الشخص بأنه استغنى عن معونة غيره ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٧) [العلق : ٦ ، ٧] ، وقد ظنوا أنهم لا يحتاجون إلى معونة أحد ، وأن الله لا يمنعهم خيرا أوتوه ، وأن الأرض أرضهم والعمل عملهم ، والكسب كسبهم وحسبوا أن الثمرات آتية لا محالة.

بعد ذلك اتجهوا خاضعين إلى ربهم ، معتقدين أن الخير بيده ، وأن لا سلطان إلا سلطانه ، فاتجهوا بالرجاء بعد أن رأوا المنع جهارا نهارا وقالوا راجين : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) (٣٢) هنا كان التفويض كاملا ، وإن ذلك النص الكريم يفيد فى تفويضهم ثلاثة أمور فى أجمل تعبير من الله تعالى عن ضمائرهم الخائفة ، بعد أن خلعوا رداء الطغيان :

أولها : الرجاء ، والرجاء يتضمن معنى التفويض من ناحية أنهم لا يرجون إلا من الله ، ومن ناحية أن كل ما يكون من الله تعالى ـ خير ، فإذا كان نزل بهم ما يكرهون ، فعسى أن يكون الخير فى هذا الحرمان ، كما قال تعالى : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩) [النساء : ١٩] ، ومن الخير أن هذبت نفوسهم ، وإذا كان حالهم من قبل حال طغيان وغرور ، فعسى أن يعطيهم الله تعالى بديلا لما منعوه ، ويكون معه الاطمئنان.

ثانيها : الاتجاه إلى الله تعالى مالك أمورهم ، ومربيهم ، والكالئ لهم والحامى ، والشعور بالمساواة مع المساكين فى ربوبية الله الخالق لكل شىء.

١٠٥

ثالثها : قولهم : (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) ولا أحسب أنه يمكن أن تضع كلمة مكان راغبون ، مع إلى ، وتجد فى هذا التعبير إشارات بيانية رائعة ؛ أولاها فى تكرار كلمة ربنا للشعور بنعمه سبحانه الظاهرة والباطنة ، والثانية فى تقديم الجار والمجرور على خبر إن ، فإن ذلك التقديم للقصر ، وهو يفيد أنهم لا يرغبون فى مال ولا نشب ، ولا يحسبون شيئا يمكن أن يكون بغير إرادة ربنا ، إذ كانوا قد حسبوا أنهم بجهودهم يصلون ويمنعون الماعون ، ويقسمون ألا يدخلنها مسكين ، ولكنهم الآن لا يتجهون إلا إلى الله تعالى العلى القدير ، والتعبير براغبون يفيد أنهم يسيرون فى طريق الله تعالى وحده برغبة ومحبة ، فهم يطلبون طريق الله تعالى لا خوفا من عقابه ، ولا رجاء لثوابه فقط ، ولكن محبة لذاته العلية ، فانتقلوا من دركة العصيان إلى مرتبة المحبة وطلب الرضوان.

٦٥ ـ ونرى فى هذه الآيات الكريمة المصورة لتلك القصة التى تشتمل على العبرة الواضحة ، فيها تتلاقى المعانى وكل معنى ردف لما سبقه ، ومقدم لما يليه فى تآخ بين جزئياته ، وتعانق مع كلياته ، كل جزء من الكلام يوعز لما يليه ، وفيها الألفاظ مؤتلفة فى نغم يهز النفس ، وتآلف بين الألفاظ مفردة ، وجملا ، وفيها تصوير للنفس الإنسانية كيف يدخل إليها الطمع ، ومع الطمع الشح ، وإذا سكن الشح قلبا دخل منه الظلم وهضم الحقوق ، وإنه لكى ينجو المؤمن من أن يكون ظالما عليه أن يراقب مداخل الشح إلى نفسه ، فإن سد طرقها إليها ، فقد فاز ، وكان عادلا ، كما قال تعالى فى سورة أخرى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩] ، فإن وراء الشح الهلاك ، ووراء السماحة الفوز.

وإن الآيات تصور لنا حال من يغتر ، ومن يطغيه الاستغناء ، ومن يحرم نعمة الاعتماد على الله تعالى والتفويض إليه ، ثم حاله عند ما يفاجأ فيجد قدر الله تعالى أمامه يرد عليه طغيانه ، ثم تصور النفس التائبة ، وذلك كلام العزيز الحميد.

النفس الفرعونية

٦٦ ـ وإذا كانت هذه الآيات التى تلوناها تصور النفس التى تطغى أن رأتها استغنت ، وحسبت أنه لا قدر فوق ما تقدر ، وكيف تفاجأ بقدر الله فتتنبه ، فقد صور الله تعالى فى كتابه العظيم ، النفس التى تطغى ، فتتغطرس فتتحكم فى الرقاب ، وتفرق بين العباد ، فهذه يأخذها الله تعالى أخذ عزيز مقتدر ، ولا مكان لتوبتها ، إذ تفاجأ ، لأنه لا يكفر ذنوب العباد إلا ردها ، ولا سبيل لرد ما فعلوه ، ثم كان فسادهم ، وتضييعهم الناس ، ولذلك يؤخذون بذنوبهم ، واقرأ قوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)

١٠٦

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٥) [القصص : ٤ ، ٥].

ولا شك أن نسج الآيات متماسك ، بخيوط دقيقة غير قابلة لأن تنقطع وهى واضحة فى تصوير الحاكم الفاسد كيف يعلو فى الأرض ، وكيف يتحكم ، وقد قال الباقلانى فى صيغة العبارة بالنسبة للآية الأولى :

«هذه تشتمل على ست كلمات ، سناؤها وضياؤها على ما ترى ، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد ، ورونقها على ما تعاين ، وفصاحتها على ما تعرف».

وهى تشتمل على جملة وتفصيل ، وجامعة وتفسير ، ذكر العلو فى الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبى النساء ، وإذا تحكم فى هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما ، لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم ، والقلوب لا تقر على هذا الجور ، ثم ذكر الفاصلة التى أوغلت فى التأكيد ، وكفت فى التنظيم ، وردت آخر الكلام على أوله ، وعطفت عجزه على صدره.

ثم ذكر وعده بالتخليص بقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٥) ، وهذا من التأليف بين المؤتلف ، والجمع بين المستأنس» (١).

هذا ما ذكره الباقلانى من ناحية التآخى فى الألفاظ والالتحام فى نسجها ، وإنك لتجد ذلك التآخى فى سوق العلو الذى تعالى به وهو فى الأرض ، فقال تعالى : (عَلا فِي الْأَرْضِ) فهو علو من فى الأرض ، ولاصق بها ، فليس يعلو إلى السماء ، ولكنه مستمر فى الأرض ، فهو استعلاء وليس بعلو ، والاستعلاء طلب للعلو ، أو الإحساس به ، وليس قائما على أى اعتبار ، فكان ذلك التقابل فى اللفظ من حيث الانسجام ، ومن حيث المعنى ، فيه دليل على أنه استكبار وليس علوا فى ذاته.

ولكن كيف يستقيم له هذا العلو ، وهو لاصق فى الأرض متنقل فيها ، إنما هو الغلو فى الكبر ، وحمل الناس على الإقرار أو السكوت ، أو ظهور الرضا وما هم براضين ، لأن أساس الرضا التخيير ولا اختيار ، فإن لم يكن فلا رضا.

ولننتقل من ذلك النص المصور للاستعلاء الكاذب الظالم إلى ما سلكه لحمل الناس على السكوت عنه ، أو الخضوع له كارهين ، وإن مردت نفوسهم على الخضوع ، حتى صاروا كالطائعين ، وذلة الإحساس بالتحكم قارة فى نفوسهم حتى أخضعتها ، فجعلتها خانعة ، وأظهرتها راضية ، ولا رضا عندها لأنه لا اختيار لها فيما تختار.

__________________

(١) إعجاز القرآن ص ٢٩٥.

١٠٧

ذكر سبحانه ما سلكه فرعون كما يسلكه أى طاغية من طواغيت هذه الدنيا الذين يظهرون فى كل زمن ، وفى أرض كأرض مصر ، وناس كناسها ، كما أشار إلى أنه عمل على تفريق جمعهم ، وتشتيت أفكارهم ، وصاروا متفرقين فى ذات نفوسهم ولا تجمعهم جامعة حق ولا ثورة على ظلم ، بل كان يقول لهم فى استكبار : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ويقول فى استنكار : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨].

وقد قال تعالى فيما سلكه : (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) وهنا نجد كلمات ثلاثا ، كل واحدة منها تنبئ عن قصد الفرقة والانقسام بعد الوحدة والالتئام ، فكلمة جعل هى بمعنى صير ، وهى تدل على أنهم كانوا متحدين فى المشاعر والأحاسيس متفقين فى المنازع ، والمطامح والآمال ، فجعلهم متفرقين منتشرين فى غير اجتماع ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، والكلمة الثانية أهلها فهم كانوا قبلها أهلا ، أى أنهم كانوا مجتمعين غير منقسمين ، فلكى يعلو عليهم أجمعين فرق جمعهم وشتت شملهم ، فكيف يعلو إنسان مهما يكن طاغوته ومهما تكن قسوته وغلظته وحيلته ، على قوم متحدين مجتمعين ، ولكنه يخذل بينهم ، ثم يملك عليهم.

والكلمة الثالثة كلمة شيعا ، فإن الشياع يتضمن معنى الانتشار ، وأن يقوى جزء على الآخر يحسب كل جزء منهم أنه أقوى من الآخر ، وأنه لا تربطه به رابطة ، ولا يجمعهم به قومية أو رحم ، أو تشابك المصالح ، ودفع المضار ، فإذا كانوا كذلك استعلى واستكبر ، ولا يجد من يرده عن غيه ، ويقمعه فى شره ، فيكون الهلاك ، وتقطع الأسباب.

وإن النتيجة التى تكون أثرا لذلك ، أن يجعل من طائفة منهم بطانة له ، وجندا يستنصر بهم ويتخذهم أسواطا يضرب بها غيرهم ، ويتحكم فى جمعهم ، ولذلك قال تعالى فى ذكر هذه النتيجة الحتمية التى تتبع التفرق تبعية المسبب لسببه ، والنتيجة للمقدمة (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) أى يصور طائفة منهم ضعفاء ، أو يطلب ضعف طائفة منهم ، ويتتبعه ، وهنا إشارة بيانية رائعة لا تكون إلا فى القرآن الكريم ، وهذه الإشارة هى أنه ذكر الطائفة المستضعفة ، ولم يذكر الطائفة التى جعل فيها قوته يضرب بها رقاب الناس ، والسبب فى أنه تعالى لم يذكرها موصوفة بالقوة ؛ لأنها وإن لبست لبوس القوة ليست ـ فى حقيقة أمرها ـ قوية فى شىء ؛ لأنها ليس لها اختيار فيما اختارت ، ولأنها لا تملك من أمرها شيئا ، بل مسخرة لطغواه ، مرادة له ، وليست بمريدة فيما تفعل ، والقوى هو الذى يفعل ما يريد هو لا ما يريده غيره ، ويعمل ليرضى شهوة نفسه لا ما يرضى غيره ، وليس هو من تكون إرادته فانية فى إرادة غيره ، قد لبس جلد النمر ، وما هو إهابه ، وإذا كانت الطائفة المستضعفة إيذاؤها بدنى مادى. فهؤلاء الذين ظهروا بمظهر القوة إيذاؤهم معنوى ، وهو فناء إنسانيتهم وإرادتهم وتفكيرهم ، وكل مكونات

١٠٨

الإنسان الكامل ، فهم ضعفاء ، وإن ظهروا كأنهم الأقوياء ، فجنود السلطان الغاشم لا يعتبرون الأقوياء ، لأنهم أداة طائعة ، وإمعات طامعة.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ذكر الضعفاء تمهيدا لبيان مظاهر الطغيان الذى يفعله الملوك مع من يتحكمون فيهم بحكم الهون والفساد ، لا بحكم المصلحة والرشاد ، وأنهم يرتكبون أقصى ما تتصوره العقول من تذبيح وتقتيل ، ولذا قال تعالى (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) ، وإن ذلك شأن الطغيان دائما ، يقتل نخوة الأمة بقتل شبابها. أو زجهم فى غيابات السجون من غير أمد ، ومن غير حكم ، كما رأينا فى حكم الدكتاتورية فى ألمانيا ، وفى إيطاليا ، وهكذا ، وقد رأينا مثل ذلك فى العراق.

وقد ختم الله تعالت كلماته النص السامى بالباعث على الطغيان والتحكم والاستعلاء ، وتفريق الأمة ، فقال : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، أى أن الفساد مستحكم متغلغل فى أطواء نفسه ، وقد بعثه على جعل الأمة متفرقة ، وتحكيم طائفة فى طائفة ، فأغرى بينهم العداوة والبغضاء ، يحس كل فريق منهم بأنه مظلوم ، وظالمه هو الفريق الآخر ، يتظالمون فيما بينهم ، ويتعادون ، ليتمكن الظالم من ظلمهم والتحكم فى رقابهم ، وأن يقول لهم : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، ولا ينكر أحد ، ولو فى قلبه ؛ لأن كل فريق يتهم الآخر بأنه عين عليه ، ويريد النكاية به.

وقد أكد سبحانه وصف الإفساد فيهم بأن وبكان الدالة على أن الفساد كان فى الماضى ، ومستمر فى الحاضر ، وببيان أنه داخل فى ضمن المفسدين فى الأرض إخوان إبليس ، وينطبق عليه قوله تعالى فى شأن الظالمين الذين يمنون الناس الأمانى ويكذبون ويخلفون ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢٠٦). [البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٦]

وإن هذا الوصف الذى ساقه الله تعالى للوالى الفاسد ، هو وصف فرعون ، ومن استعلى واستكبر ، ووصف لكل طاغية من طغاة الدنيا يمنى الناس الأمانى ، حتى إنه ليصور لهم أنه سيجعل لهم الأرض نعيما ، وخيراتها لبنا وعسلا ، حتى إذا حكم تحكم ، وكانت شهوته نظاما ، وهواه حكما ، ولا بد أن يرضى الناس حكومته طوعا أو كرها ، ومن قال له اتق الله قطع عنقه ، أو سلط عليه كلابه الذين جعلوا أنفسهم ملكا له ، يملك رقابهم ، ويظنون أنفسهم الأحرار ، وهم العبيد حقا.

٦٧ ـ هذا ما تصوره الآيات فى وصف فرعون وأمثاله من الطواغيت الذين يظهرون فى العصور المختلفة ، وإذا لم يتسموا باسم فرعون ، ففيهم صفاته وفعاله ، وفى

١٠٩

أتباعهم أوصاف أتباعه ، والمستضعفون مأكولون فى عهودهم ، كما هم مأكولون فى عهده.

وبعد تصوير الله تعالى طغيان فرعون ، كان من نسق البيان الرائع أن يذكر نهايته ، وأنه إذا وصل الطغيان إلى أقصى حده ، كانت النهاية ، لذا ذكر سبحانه وتعالى فى مقابل إرادته الإفساد ، وكونه متغلغلا فى كيانه ذكر فى مقابله إرادة الله تعالى ، وإرادته سبحانه فوق كل إرادة ، ولو كانت طغيان فرعون ، ولذا قال سبحانه فى بيان إرادته (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦). [القصص : ٥ ، ٦]

إرادة طاغية مغرورة مستكبرة ، وهى إرادة الطغيان ، وإرادة كريمة معطية مانحة مانعة من الشر والعبث ، وهى إرادة الله سبحانه وتعالى ، فهو سبحانه يمن على المستضعفين ، ونجد هنا تعميما فى المن ، فلم يذكر سبحانه وتعالى ما يمن به ، بل كان التعميم ، فهو سبحانه يمن عليهم بالحرية بعد الاستعباد ، ويمن عليهم بالقوة بعد الضعف ، ويمن عليهم بالعزة بعد الذلة ، ويمن عليهم بالثمرات بعد الجدب ، وهكذا تتعدد النعم التى يمن بها سبحانه (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤]. وكل هذه المعانى هى بعض ما تدل عليه كلمة نمن ، وخص سبحانه من بين هذه النعم التى يمن بها نعمة كبيرة هى الخلاص من حكم فرعون إلى أن يكونوا أئمة ، أى ولاة لأنفسهم لا يملك أحد التحكم فيهم ولا السيطرة ، فكل حر أمير فى نفسه ، ويجعل منهم أمراءهم وأولياء أمورهم ، لا يفرض عليهم أمير لا يرضونه ولا ولى من غيرهم ، وآراؤهم فى حكمهم هى الغالبة فلا يحكمهم متحكم ، ولا يسيّر أمورهم متغلب ، فانظر كيف جمعت الكلمة كل هذه المعانى ، وجاءت من بعد ذلك كلمة تدل على كمال إرادته سبحانه فى هذا الوجود فقال : (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ، ونجد أنه سبحانه لم يبين الموروث ، وفيه إشارة إلى عموم ما آل إليهم ، إذ إنهم سيخلفونه فى جنات وعيون ، وكنوز ومقام كريم ، ولكن يكون لهم هذا إذا استقاموا على طريقة الحق ، ولم يخرجوا عن جادته ومنهاجه ، وغير ذلك.

بعد هذا يبين سبحانه وتعالى أن طغيان فرعون انتهى بالفناء وأن يذوق عاقبة أمره ، كما اغتر أصحاب الحديقة بحديقتهم المذكورة ، فقال تعالت كلماته :

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).

١١٠

التمكين كان بإعطاء سلطان لهم فى الأرض ، إذا استطاعوا القيام بحق التمكين ، فإنه يحتاج إلى قوى نفسية عالية وإدراك لمعنى العزة والكرامة ، ولم يمردوا على الذلة والمهانة.

ثم يبين سبحانه عاقبة الظلم ، وأنه لم يدفع المحذور ، فقال تعالى :

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).

لقد كان فرعون وحده ، ووزيره وجنود معهما تابعين غير مستقلين فى فكرة أو إرادة فهم ما كانوا يحذرون أن يدبر الناس ما ينتقضون به على حكمهما ، أو يقتلوا فرعون فقد أراهم رب العالمين ، فكان موت فرعون على ما قدره الله تعالى لموسى عليه‌السلام ومن معه ، وهكذا كل طاغية ، يطغى ويستبد ، ويرتكب الفجور فى كل ناحية ، حذر أن تخرج خارجة ، وبعد أن يكون منه ما يكون من مثل ما فعل فرعون ، ثم تكون من بعد كلمة الله تعالى هى العليا ، ويقع المحذور فى وقت لا يملك الرجوع ، كما قال فرعون ، وقد أدركه الغرق ، قال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢).

[يونس : ٩٠ ـ ٩٢]

٦٨ ـ وبعد ذلك البيان الذى حاولنا به الوصول إلى بعض أسرار المعانى القرآنية التى تعلو ولا يعلى عليها ، واليانعة الثمار الدانية القطوف فى أعلاها ، والثروة الخصبة المملوءة حياة فى أدناها ، كما قال البليغ العربى القرشى ، نريد أن نشير إشارة إلى ما وصل إليه تفكيرنا فى إجمال ما سبق ، فنجد :

أولا : اتساق العبارة فى المقابلة بين العلو المصطنع والالتصاق بالأرض ، الذى يفيد مع هذه المقابلة اللفظية أنه سيطر على الأرض واستمكن فيها وتحكم حتى ساغ له أن يقول : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١].

ثانيا : أن التعبير باستضعاف طائفة منهم فيه إشارة إلى أن الضعف ليس طبيعيا فطريا ، ولكنه يكون بالاستضعاف ، وأن كل من يراد على الضعف لا يستسلم فيستضعف ، بل يقاوم ويناضل ، فيموت عزيزا ، أو يمنحه الله تعالى القوة ، وأن الرضا بالذل يؤدى إلى الموت ، وطلب العزة يؤدى إلى الحياة ، وكما قال خليفة رسول الله أبو بكر رضى الله تعالى عنه : «اطلب الموت توهب لك الحياة».

وثالثا : أن الاستضعاف يؤدى إلى الموت لا محالة ، ويكون الموت على نحو لا كرامة فيه ، وصوره سبحانه وتعالى بقوله تعالى : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) ،

١١١

فهو موت ذليل فيه خسة الذل ، وقتل النخوة ، أما الموت فى سبيل الكرامة فهو موت عزيز كريم ، ورحم الله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إذ يقول : «إن موتا فى سبيل الحق هو عين البقاء ، وحياة فى ذل هى عين الفناء».

رابعا : أن القوة تكون للقوى بتمكين الله تعالى وبمشيئته ، وذلك بأن يهيئ الأسباب ليستبدلوا بضعفهم قوة فيمنحهم الأمن ، وذلك بأن يجعلهم يشعرون بأنهم سادة ، وليسوا عبيدا ، وهذا يتضمنه التعبير بقوله تعالى : (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) ، أى يجعلهم مسيطرين على أنفسهم ، كما نوهنا فيما ذكرنا من قوله تعالى ، كما من الله تعالى على بنى إسرائيل إذ جعلهم مالكين لأنفسهم مسيطرين على أمورهم إذ قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٠) [المائدة : ٢٠] ، ومعني جعلهم ملوكا أنه سبحانه وتعالى جعلهم أحرارا يملكون شئون أنفسهم ، ويتولون أمورهم لا مسيطر يسيطر عليهم.

هذه نظرات إلى النص القرآنى الكريم فى بعض شأن فرعون ومآله ، ومن يجرى فى حكم شعبه على طريقته ، ويتحكم فى الرقاب تحكمه ، ونجد فيه جمال اللفظ ، وجمال القصص ، والألفاظ التى تشع منها المعانى كأنها الضياء المتلألئ والماء العذب النمير الذى ينساب فى النفس المؤمنة ، والله سبحانه هو العلى الحكيم ، وكلامه هو النور المبين الهادى إلى رب العالمين.

قوة البلاغة فى الأسلوب من كلمات متآلفة

٦٩ ـ يقول الخطابى فى رسالته فى إعجاز القرآن فى بيان البلاغة القرآنية : «اعلم أن عمود هذه البلاغة التى تجمع لها هذه الصفات هو بوضع كل نوع من الألفاظ التى تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذى إذا أبدل مكانه غيره جاء منه سقوط البلاغة ؛ ذلك أن فى الكلام ألفاظا متقاربة فى المعانى ، يحسب أكثر الناس أنها متساوية فى إفادة بيان مراد الخطاب كالعلم والمعرفة ، والحمد والشكر ، والبخل والشح ، وكالنعت والصفة ، وكقولك اقعد واجلس وبلى ونعم ، والأمر فى ترتيبها بخلاف ذلك لأن لكل لفظة خاصة تتميز بها عن صاحبتها».

وهكذا يسترسل فى بيان التفرقة بين الألفاظ ، ويضرب الأمثلة فى القرآن ، وفى اللغة ، فى التفرقة بين الألفاظ التى يزعم أنها تدل على معنى واحد يؤديه كل واحد منها من غير افتراق فى المؤدى مع أن المؤدى مختلف متباين.

١١٢

وإنه يذكر أن ألفاظ القرآن مختارة تدل على أدق معانيها ، فمثلا ذكر عن إخوة يوسف عليه‌السلام أنهم قالوا أكله الذئب ، ولم يقولوا افترسه ، لأنهم لو قالوا افترسه لطالبهم ببعض أثره ، والأكل إفناء الجسم فى جسم.

وإن الخطابى ليقول فى بحثه القيم : «اعلم أن القرآن إنما صار معجزا ؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعانى من توحيد له عزت قدرته ، وتنزيه له فى صفاته ، ودعاء إلى طاعته ، وبيان بمنهاج عبادته ، من تحليل وتحريم ، وحظر وإباحة ، ومن وعظ وتقويم ، وأمر بمعروف ونهى عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها ، واضعا كل شىء منها فى موضعه الذى لا يرى شىء أولى منه ، ولا يرى فى صورة العقل أمر أليق منه».

وإذا كانت ألفاظ القرآن ومعانيه لها ذلك المكان الأسمى الذى لا يمكن أن يناهد إلى سمائه إنسان أو جن ، شرقى أو غربى ، فإن فى القرآن مع جمال الألفاظ ورونق الأسلوب ، خاصة لا يصل إليها أحد فى الألفاظ والأسلوب والمعانى.

وقد قسم الخطابى الكلام البليغ إلى أجناس ثلاثة ، ومراتبها فى نسبة التبيان متفاوتة ، ودرجاتها فى البلاغة متباينة غير متساوية «فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز الطلق السلس ، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود ، دون النوع الهجين المذموم الذى لا يوجد فى القرآن شىء منه البتة».

وإن هذا الكلام لا يمكن أن يمر من غير أن نبدى عليه ملاحظة لاحظناها ، أنه يفرض أن الكلام البليغ يتفاوت بتفاوته فى الجزالة والسلاسة والسهولة ، وهذا يوهم أن القرآن الكريم تتفاوت بلاغته ، وهذا الزعم باطل ، فالقرآن كله رتبة واحدة فى البلاغة فى المنزلة التى لا يمكن أن يسمو إليها بليغ ، لأن البلاغة أن يكون الكلام موافقا لمقتضى الحال ، فالعبارات الجزلة القوية تكون فى موضع الإنذار ، والعبارات السهلة غير المسترسلة تكون فى التبشير ، والعبارات المسترسلة فى مواضع التنبيه إلى وجوب التفكير والتدبر ، وكل بليغ فى موضعه ، ولا يختار سواه ، فلا تكون عبارات الإنذار كعبارات التبشير ، ولا تكون عبارات الدعوة إلى التأمل كعبارات التهديد والتخويف ، هذه ملاحظة أبديناها على عبارة الخطابى وكان حقا علينا أن نبديها فلا نجعلها تمر بغير تعليق.

وإن الخطابى قد بين أن القرآن الكريم قد اشتمل على الأجناس الثلاثة فى عبارات قيمة حازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة ، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة ، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتى الفخامة والعذوبة وهما على الانفراد كالمتضادين ؛ لأن العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة فى الكلام تعالجان نوعا من الوعورة ، فكان اجتماع الأمرين فى نظمه

١١٣

مع نبوغ كل واحد منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن ، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره ، ليكون آية بينة ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمور دينه ، وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأسباب ؛ منها أن علمهم بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التى هى ظروف المعانى والحوامل لها غير كامل ، ولا تدرك أفهامهم جميع وجوه النظم التى بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتوصلون باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله .. وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حامل ، ومعنى قائم ، ورباط لهما ناظم.

وإنا نوافق الخطابى فى أن عدم قدرة البلغاء من الناس على الإتيان بمثل القرآن من أسبابه نقص علمهم باللغة ، جزلها وسهلها ، وعدم علمهم بالمعانى ، وأنى يكون علمهم بجوار علم الله تعالى الذى أحاط بكل شىء علما.

ونقول من ناحية ثانية : إن البلغاء من الناس يختلفون جزالة وسهولة واسترسالا ، تبعا لطبائعهم وبيئاتهم ، وما يتجهون إليه ، فالفرزدق كان يميل إلى اختيار الألفاظ القوية ، أو الحوشية ، ويقتحم بذلك الوعر من القول ، وقالوا : إنه كان يحاول أن ينهج نهج البدويين من الجاهليين. وجرير يتخير السهل العذب من الألفاظ ، وكذلك كان الأمر فى شعراء الجاهلية : فامرؤ القيس كان يتخير الوعر الجزل من الألفاظ ، وهو يقيم فى الصحراء العربية ، ولانت ألفاظه لما كرثته الكوارث ، ورحل إلى أنقرة ، وهكذا ... فكان من البلغاء من البشر من غلبت عليهم عذوبة الألفاظ ، ومنهم من غلبت عليهم جزالتها وقوتها ، بل وعورتها ، ويختلف الرجل الواحد باختلاف حاله ، وتغير البيئات عليه.

هذا فى بلاغة البشر ، أما القرآن فبلاغته من عند الله خالق كل شىء ، القادر على كل شىء ، والخالق للناس وبيئاتهم ، فكان فى كلامه المبين ، كل أجناس القول ومناهج البيان بلا تفاوت فى البلاغة القرآنية ، وإن اختلفت ألوان الألفاظ وأجناسها بين جزل قوى ، وعذب سهل ، وكلام مرسل ينساب فى النفس انسياب النمير ، وكل فى موضعه.

التلاؤم

٧٠ ـ يقصد بالتلاؤم فى الأسلوب أن تأتلف مخارج الحروف والكلمات كما ذكرنا ، والانسجام فى النغم بينها ، ويعد القاضى عبد الجبار أن تآخى النغم فى الألفاظ والحروف من حلاوة الكلام ومحسناته ، ولكنا نقول أنها بالنسبة للقرآن الكريم من تأثيره فى النفوس ، فهو فى القرآن طريق الوصول إلى القلوب ، وإن نظمه على ما سنبين يسير

١١٤

هو وأسلوبه بألفاظه ومعانيه إلى القلوب ليأخذها من طبعها الأرضى ليعلو بها إلى الأفق السماوى.

ويذكر أبو عيسى الرمانى فائدة التلاؤم فيقول : «والفائدة فى التلاؤم حسن الكلام فى السمع ، وسهولته فى اللفظ ، وتقبل النفس لمعناه ، لما يرد عليها من حسن الصورة ، وطريق الدلالة ، ومثل ذلك مثل قراءة الكتاب فى أحسن ما يكون الخط والحرف ، وقراءته فى أقبح ما يكون من الحرف والخط ، فذلك متفاوت فى الصورة ، وإن كانت المعانى واحدة».

وإن الكلام يذاق كما يذاق الطعام ، فكلما كان التنسيق والتلاؤم حسن فى الذوق.

وإن لغتنا العربية لغة نطق ابتداء ، وصارت من بعد لغة كتابة ، ولم تنفصل عنها خاصتها ، فهى نطق وكتابة ، ولذلك كان لمخارج الحروف أثر فى فصاحة الكلام ، ولا شك أن مخارج الحروف مختلفة منها ما يكون فى أقصى الحلق ، ومنها ما هو من أدنى الفم ، ومنها ما هو فى الوسط بينهما ، فالتلاؤم فيها بأن تكون الكلمة حروفها متقاربة المخارج ، والكلمات متقاربة المخارج ليسهل النطق على اللسان ، وتتقبله الأسماع.

فإذا أضيف إلى ذلك التآخى فى المعانى كان التلاؤم الكامل ، والأسلوب الرائع ، وذلك ما جاء فى القرآن.

٣ ـ تصريف البيان

٧١ ـ تختلف مناهج البلغاء كتابا وشعراء ، كل يجيد منهاجا معينا ويمتاز فيه ، ويكون من الأوساط فى غيره أثر دون الأوساط ، فمنهم من يجيد الوصف ، ويحكى الأشياء لقارئه كأنه يراها ، ومنهم من يجيد القول الوعر العنيف ، ولا يكون منه السهل الميسر ، ومنهم من يجيد شعر الغزل ، ولا يجيد غيره ، ومنهم من يجيد القول الساخر ، ولا يجيد القول الجاد ، كما نرى فى بعض كتاب العصر ، ومنهم من يجيد الكتابة فى السياسة ، فإذا كتب فى غيرها هان وابتذل ، ومنهم من يجيد الكتابة فى التحليل وإثارة التأمل ، وهكذا ، وقل من يجيد الدخول إلى الكلام البليغ فى أكثر من باب أو بابين ويكونان متآخيين ، غير متناقضين.

أما القرآن المعجز الذى هو فوق قدرة البشر ، فإن البلاغة فين فى كل أبواب القول ، وهى فى كل باب تعلو علوا كبيرا عن المجيدين فى هذا الباب وحده ، ولذلك كان تصريف القول فيه من تهديد وإنذار وتبشير ، وإثارة للتأمل ، ودعوة للتفكير فى آيات

١١٥

الله تعالى الكونية والقرآنية ، والتفكير فى النفس وفى الحس ، كل ذلك من دلائل الإعجاز وسره.

ولقد قال سبحانه فى ذلك : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (٤١) [الإسراء : ٤١] ، أى أن التصرف لزيادة التنبيه ، وكلما زاد تنبيههم بالحق وإرشادهم ازدادوا نفورا ، فزادوا كفرا ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٨٩) [الإسراء : ٨٩] ، أى أن الله تعالى صرّف فى القرآن بضرب الأمثال وبيان الأحوال ، رجاء أن يؤمنوا ، ولكن سبق الكفر إليهم جعلهم يأبون الإيمان بالله والخضوع له ، فزادوا نفورا عن الحقائق ، كما ينفر المريض السقيم عن الدواء الناجع ، والغذاء الصالح ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥٤) [الكهف : ٥٤] ، ذكر الله تعالى أنه يصرف القرآن بذكر الأمثال والأحوال ، ولكن الذين سبق الضلال إليهم يجادلون ، والجدل فى الحق الواضح المبين يطمس الحقائق ، ويطفئ النور ، ويختفى نور الحق وسط الأقوال المتضاربة والأهواء المتنازعة.

وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣) [طه : ١١٣].

وقال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) [الأنعام : ٤٦].

وقال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام : ٦٥].

وقال تعالى : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠٥) [الأنعام : ١٠٥] ، أى نصرف الآيات ليفقهوه ويدركوا الحق إن كانوا غير ضالين ، ولم يطمس على قلوبهم ، وليقولوا درست وتعلمت ويكذبوا أن طمس على قلوبهم ولم يؤمنوا بالحق ، كما قالوا يعلمه غيره ، ورد تعالى عليهم بقوله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣] ، وقال تعالى : (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) [الأعراف : ٥٨].

٧٢ ـ وبهذه النصوص الكريمة تبين أن القرآن كان يصرف الآيات ، بمعنى أنه يتضمن الأمر بالتوحيد والتكليفات الشرعية التى بها صلاح المجتمع وتكوين مدينة فاضلة تحترم فيها حقوق الإنسان احتراما كاملا ، بأوجه مختلفة من البيان ، من تهديد وإنذار ، إلى تبشير وتوبيخ واستنكار ، ودعوة إلى التأمل فى خلق الله تعالى ، وفى الأنفس ، ومن قصص يدركها أولو الألباب لسياق العبر والمثلات ، وهكذا تتنوع أساليب القول ومناهج التأثير ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

١١٦

وإن التصريف فى القرآن الكريم على ضربين : أحدهما فى المعانى ، وثانيهما فى الألفاظ والأساليب ، فأما التصريف فى المعانى ، فإن المؤدى فى جملته يكون واحدا ، ولكن يختلف فى دلالته بالنسبة للسياق ، فالقصة الواحدة كقصة نوح تذكر فى القرآن فى عدة مواضع ، ولكن لها فى كل مرة عبرة ، وهذا تصريف فى المعانى وإن كانت الألفاظ تختلف أو تتقارب أو تتحد العبارات فى بعض الأحيان ، ولقد قال فى تصريف المعانى الرمانى فى رسالته إعجاز القرآن : «وهذا الضرب من التصرف فيه بيان عجيب يظهر فيه المعنى بما يكتنفه من المعانى التى تظهره وتدل عليه ، وتصريف المعنى فى الدلالات المختلفة قد جاء فى القرآن فى غير قصة. منها قصة موسى عليه‌السلام فى سورة الأعراف وفى طه والشعراء لوجوه من الحكمة ، منها التصرف فى البلاغة من غير نقصان ، ومنها تمكين العبرة والموعظة» (١).

٧٣ ـ وأول تصريف فى مناحى القول فى القرآن يكون فى السور ، فمنها الطوال التى يجد فيها القارئ أبواب العلم الإسلامى المختلفة من بيان الوحدانية ، وبطلان الوثنية ، وتوجيه الأنظار إلى الكون ، وما فيه من دلالة على قدرة الله ، والأرض وما حوت من كنوز وزروع وثمار ، ومن اتصال الأرض بالسماء بالمطر الذى يكون غيثا يحيى الأرض ، وينبت الزرع ، ويسقى كل حى ، ومن شرائع فيها المصلحة الإنسانية وكرامة الإنسان ، وتكريمه بالعقل.

وفيها القصار التى يسهل على القارئ حفظها ، وأن يعيها صدره لما فيها من جمل قصار يسهل وعيها والاعتبار بها ، وذكرها فى صلواته ، وفيها بيان الوحدانية وذكر اليوم الآخر ، وفى بعضها تجد أحكاما شرعية مثل قوله تعالى فى سورة الكوثر : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣) ، ففيها ذكر لليوم الآخر ومقام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومقام الشانئين الذين عادوه ، وعادوا الحق معه ، وحكم الأضحية.

واقرأ قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣) ، ففي هذه السورة القصيرة جماع الخصال الإنسانية التى تصلح الآحاد والجماعات ، وهى الإيمان الذى يعمر القلوب ويوجه الجوارح ، فلا صلاح لإنسان أو جماعة إلا إذا صلحت القلوب ، وأثمر الإيمان العمل الصالح فى الآحاد ، وكانت الجماعة كلها للحق تتواصى عليه وتتعاون ، فما صلح قوم ضاع الحق بينهم ، وتخاذلوا فى نصرته ، وإن السبيل إلى احتمال أعباء الحق ، هو الصبر ، فإن الصبر فيه ضبط النفس ، والابتعاد عن الشهوات وجعلها خاضعة

__________________

(١) رسالة الرمانى من مجموع الرسائل فى إعجاز القرآن ص ١٠١.

١١٧

للعقل ، بحيث تكون أمة ذلولا لا سيدا مطاعا ، وما تخاذل قوم عن نصرة الحق إلا لأن الشهوات قد استولت على نفوسهم ، وصار السائد على الجماعة الهوى المطاع ، والشح المتبع ، ولذلك نص الله سبحانه وتعالى على أن الجماعة الفاضلة هى التى تتواصى على الحق ، فلا يذل صاحب حق ولا يعلو أهل الباطل ، وتتواصى على الصبر ، وضبط النفس ، وقدعها عن أهوائها وشهواتها.

وفى القرآن السور المتوسطة التى ليست بالطوال ولا القصار ، ومنها ما يقرب من الطوال ومنها ما هو قريب من القصار ، وهى مشتملة على جل مقاصد الشريعة الإسلامية فى عبارة موجزة ، مثيرة ، ولكن بوضوح ، ومبينة ولكن بإيجاز.

وكأن الله سبحانه وتعالى بذلك التصريف فى السور بين الطويل ، والمتوسط والقصير ، وكلها فى أعلى درجات البلاغة يقدم مائدته الكبرى وهى القرآن للناس أجمعين : ذوى العلم الذين يتسع علمهم للإحاطة بالسور الطوال وما فيها من علم بالشريعة وما فيها من علم الكون الذى لا يحيط به من دونهم ، وهم أوتوا مدارك تسمو إليها ، وتستخرج من كنوزها جواهر.

وأعطى الذين يشغلهم أسباب الرزق عن الإحاطة قصار السور ، وفيها غناء لا قصور فيه ، بل إنه كمال فى كمال.

وبين هؤلاء وأولئك الذين يطلبون السور المتوسطة طولا ، وهم الشادون فى العلم الذين لهم من وقتهم ما يمكنهم أكثر ممن كانت لهم قصار السور.

وقد يقول قائل : هل تقسيم القرآن إلى سور قصار وما بينهما تنزيل من الله تعالى؟

ونقول فى الجواب عن ذلك : إن ترتيب السور بوحى من الله تعالى وقد بينا ذلك فيما أسلفنا من قول فى جمع القرآن.

التكرار فى القرآن

٧٤ ـ كانت السور منها القصار ومنها الطوال ، وإن الجميع بترتيب من الوحى الإلهى ولم يكن من عمل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير وحى بل هو من توقيف الله تعالى ووحيه ، وإن وضع الآيات بعضها بجوار بعض من وحى الله تعالى ، إذ كانت الآية إذا نزلت على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بوضعها فى مكانها من السورة التى يعينها بالوحى النازل عليه ، والذى كان لا ينى عن الاتصال به فيما يتعلق بالقرآن الكريم. وإن ذلك من الإعجاز إذ إن الآيتين المتلاصقتين مع أنهما قد تكونان نزلتا فى زمنين متباعدين ، نجد أن كل واحدة لقف للأخرى ، هما صنوان متلازمتان متآخيتان ، وذلك من سر الإعجاز ودلائله ، إذ إن التناسق البيانى بينهما متصل ، والمعانى متلاقية ، وكل واحدة منهما تتم الأخرى

١١٨

فى الموضوع فى أحيان كثيرة ، وفى التوجيه النفسى ، والتوالد المعنوى بينهما بحيث لا يتصور القارئ للقرآن الكريم ، أو المستمع لترتيله والمدرك لنغمه ؛ لا يحسب أن بينهما فارقا زمنيا فى النزول.

وبجوار طول السور وقصرها ، مع الإعجاز فى كلها قد نجد فى القرآن تكرارا ، وهو من تصريف البيان ، لا من الإطناب المجرد ، إنما هو لمقاصد ولتوجيه النظر ، ومناسبة المقام ، ولقد لاحظ ذلك الأقدمون الذين تكلموا فى سر الإعجاز ، وقد قال فى ذلك الجاحظ فى كتابه الحيوان :

«ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحى والحذف ، وإذا خاطب بنى إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطا وزاد فى الكلام».

وإنا نقدر كلام الجاحظ حق قدره ، وإن ذلك واضح فى كثير من آى القرآن ، وإن الأعراب الذين يعتمدون على ذاكرتهم لأنهم أميون يناسبهم الكلام الموجز ، وأحيانا يغنى فيهم لمح القول ولحنه وإشاراته ، ولكن نلاحظ ثلاثة أمور :

أولها ـ أنه قال : وزاد فى الكلام ، وإنا لا نحسب أن هذه الكلمة تتفق مع بلاغة القرآن ولا مقامه ، فليس فى القرآن زائد ، وإن أطنب فى القول ؛ لأن الزيادة تتسم بالحشو ، ومحال ذلك فى أبلغ القول الذى نزل من عند الله تعالى ، ولعله أراد معنى البسط والإطناب ، لا أصل الزيادة ، ولا يمكن أن يكون قد أراد الحشو ، ولكن مع كل نقول : هذه العبارة ليست سائغة.

الثانى ـ أن الآيات المكية ، وقد كان الخطاب لعبدة الأوثان ، فإنا نجد فيها بسطا فى القول ، وخصوصا فى الاستدلال من الكون على أن الله سبحانه وتعالى خالقه ، وفى الاستدلال بعجزهم ، والالتجاء إليه سبحانه :

اقرأ قوله تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٤). [النمل : ٦٠ ـ ٦٤]

١١٩

وإن هذا الكلام الكريم لا يمكن أن يكون خطابا لليهود وحدهم ، وإنما هو خطاب للعرب ، ولم يكن باللمح والإشارة. بل كان بالتصريح والعبارة ، فلم يكن بالإيجاز ، وإن كان الإيجاز القرآنى من نوع الإعجاز ، بل كان بالإطناب المتسق المبين ، وكان فيه بعض التكرار فى موضعه ، لأن التوجيه إلى النظر فيما تحت أيديهم هو فى ذاته مقدمة لنتيجة هى الوحدانية للمعبود ما دامت وحدانية الخالق قد ثبتت بهذا الكلام ، فكان لا بد أن تذكر النتيجة أمام كل مقدمة ، لأنها وحدها دليل ، ولو لم تذكر النتيجة أمام كل مقدمة ، لكانت النتيجة ثمرة لمجموعها ، مع أن كل واحدة منها صالحة لأن تكون الوحدانية نتيجة لها ، دون أن تنضم معها غيرها.

الملاحظة الثالثة ـ وهى مبنية على الملاحظة السابقة ، أن الإيجاز والإطناب يكون لكل موضعه ، ومقامه ، فلكل مقام مقتضاه الذى توجه أحوال البيان المعجز.

وقد لاحظنا أن مقام الاستدلال على الوحدانية من المواضع التى يحسن فيها الإطناب ، وكلام الله تعالى اتجه إلى ذلك ، كما رأينا فى الآية السابقة ، وكما نرى فى سورة الرحمن فإنها تذكير بنعم الله تعالى ، وكل نعمة كفروا إذ استعملوها فى غير موضعها ، وفى أمر الله تعالى ونهيه. وإذا كان جزاء النعم كفرا بالمنعم ، وإشراك غيره معه فى العبادة ، فقد قال تعالى فى سورة الرحمن : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٨) إلى آخر السورة الكريمة.

وهكذا نجد بعد كل نص سام تتبين فيه نعمة الخالق بديع السموات والأرض يكون تذكير بنعم الله ، ووجوب شكرها بالطاعة وتجنب المعصية والإقرار بوحدانية المعبود ، وألا يعبدوا غيره سبحانه وتعالى ، وفى ذلك إشارة إلى أن كل نعمة من هذه النعم ، وبينة من هذه البينات توجب وحدها الشكر ، وتوجب الإقرار بوحدانية الله سبحانه وتعالى.

١٢٠