سورة المائدة
سورة المائدة مدنيّة إلّا قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فإنّ هاتين الآيتين نزلتا بمكّة بعد الفتح ، وحكمهما حكم المدنيّة لنزولهما بعد الهجرة. وعدد حروفها أحد عشر ألفا وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا ، وعدد كلماتها ألفان وثمانمائة وأربع كلمات ، وعدد آياتها مائة وعشرون آية عند الكوفيّين ، واثنان وعشرون عند الحجازيّين ، وثلاث وعشرون عند البصريّين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ؛ أي أوفوا بالعقود التي كتبها الله عليكم مما أحلّه لكم وحرّمه عليكم ، وقيل : معناه : أتمّوا العهود التي بينكم وبين المشركين ولا تنقضوها حتى يكون النّقض من قبلهم ، هكذا روي عن ابن عبّاس والضّحاك وقتادة. وقال الحسن : (معناه أوفوا بعقود الدّين ؛ يعني أوامر الله ونواهيه) (١). وقيل : معناه : أوفوا بكلّ عقد تعقدونه على أنفسكم من نذر أو يمين. وقيل : أوفوا بالعقود التي يعقدها بعضكم لبعض ، نحو عقد البيع والإجارة والنّكاح والشّركة ، ولا تنافي بين هذه الأقوال ؛ إذ كلّ هذه العقود يجب الوفاء بها.
قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ؛ أي رخّصت لكم الأنعام نفسها ، وأضاف البهيمة إلى الأنعام ، كما يقال : مسجد الجامع ؛ ونفس الإنسان. والأنعام : هي الإبل والبقر والغنم ، ودخل في هذه الآية إباحة الظّباء وبقر الوحش وحمار الوحش ؛
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : عن ابن عباس قال : «ما أحلّ ، وما حرّم ، وما فرض ، وما حدّ في القرآن كلّه ، فلا تغدروا ولا تنكثوا» : النص (٨٥٦٩).
لأنّها أبهم في التّميّز من الأهليّة ، ولهذا استثنى الله الصيد في حالة الإحرام في قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). والبهيمة في اللغة يتناول كلّ حيّ لا يميّز ، استبهم عليه الجواب ؛ أي استغلق.
قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ؛ أي إلّا ما يقرأ عليكم في القرآن ممّا حرّم عليكم في هذه السورة من الميتة والدّم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردّية والنّطيحة الآية.
قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) ؛ نصب على الحال من الكاف والميم التي في قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ) كما يقال : جاء زيد راكبا ؛ وجاء غير راكب. والمعنى : أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير محلّي الصّيد ؛ أي من أن تستحلّوا قتل الصّيد وأنتم محرمون. وقيل : نصب على الحال من قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي أوفوا بالمعقود غير محلّي الصّيد ، هذا قول الأخفش ، والأوّل قول الكسائيّ.
ومعنى الآية : أحلّت لكم الأنعام إلّا ما كان وحشيا ، فإنّه صيد لا يحلّ لكم إذا كنتم محرمين ، فذلك قوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)) ؛ أي يقضي على عباده بما شاء من التحليل والتحريم على ما توجبه الحكمة.
قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ؛ أراد به المناسك ؛ أي لا تستحلّوا مخالفة شيء منها ، ولا تجاوزوا مواقيت الحرم غير مؤدّين حقوقها ، وذلك : أنّ الأنصار كانوا لا يسعون بين الصّفا والمروة ، وكان أهل مكّة لا يخرجون إلى عرفة فأمر الله تعالى أن لا يتركوا شيئا من المناسك. وقال الحسن : (شعائر الله دين الله) ؛ أي لا تحلّوا في دين الله شيئا ممّا لم يحلّه الله. ويقال : هي حدود الله في فرائض الشرع.
والشّعائر في اللغة : المعالم ، والإشعار : الإعلام ، والشّعيرة واحدة الشّعائر ؛ وهي كلّ ما جعل علما لطاعة الله تعالى.
قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) ؛ أي ولا تستحلّوا القتل والغارة في الشّهر الحرام ، وأراد بذلك الأشهر الحرم كلّها ؛ وهي : رجب ؛ وذو القعدة ؛ وذو الحجّة ؛ والمحرّم ، إلّا أنه ذكر باسم الجنس كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(١) أراد به جنس الإنسان ، ولذلك استثنى المطيع بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا). وكان في ابتداء الإسلام لا تجوز المحاربة في الأشهر الحرم كما قال تعالى : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)(٢) ، ثم نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)(٣).
قوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) ؛ أي لا تحلّوا الهدي ؛ أي لا تذبحوه قبل محلّه ؛ ولا تنتفعوا به بعد أن جعلتموه لله ، ولا تمنعوه أن يبلغ البيت. قوله تعالى : (وَلَا الْقَلائِدَ) أي ولا تحلّوا القلائد التي تكون في أعناق الهدايا ؛ أي لا تقطعوها قبل الذبح وتصدّقوا بها بعد الذبح كما قال صلىاللهعليهوسلم لعليّ رضي الله عنه : [تصدّقوا بجلالها وخطامها ، ولا تعطي الجزّار منها شيئا](٤).
قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ؛ معناه : ولا تستحلّوا القتل والغارة على القاصدين المتوجّهين نحو البيت الحرام ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنه : (أنّ الآية وردت في شريح بن ضبيعة بن هند اليماميّ (٥) ، دخل على النّبيّ صلىاللهعليهوسلم بالمدينة وقال : أنت محمّد النّبيّ؟ قال : [نعم] قال : إلام تدعو؟ قال : [أدعو إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ؛ وأنّي رسول الله]. فقال : إنّ لي أمراء أرجع إليهم وأشاورهم ، فإن قبلوا
__________________
(١) العصر / ٢.
(٢) البقرة / ٢١٧.
(٣) التوبة / ٥.
(٤) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الحج : باب يتصدق بجلود الهدي : الحديث (١٧١٧) ، وهو الحديث (١٧١٦ و١٧١٨). ومسلم في الصحيح : الحج : باب الصدقة بلحوم الهدايا : الحديث (٣٤٨ / ١٣١٧) ولفظه عن علي رضي الله عنه قال : [أمرني رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدّق بلحمها وجلودها وأجلّتها وأن لا أعطي الجزّار منها ؛ قال : نحن نعطيه من عندنا].
(٥) في رواية الطبري ، ذكره قال : «الحطم بن هند البكري» ، وفي رواية قال : «الحطم أخو بني ضبيعة بن ثعلبة البكري». وفي أسباب النزول قال الثعلبي : «نزل الحطيم واسمع شريح بن ضبيع الكندي ، أي أتى النبيّ من اليمامة».
قبلت. ثمّ انصرف من عند النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فلمّا خرج قال النّبيّ صلىاللهعليهوسلم : [لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر]. فمرّ بسرح لأهل المدينة فاستاقها ، وانطلق نحو اليمامة وهو يرتجز يقول :
باتوا نياما وابن هند لم ينم |
|
بات يقاسيها غلام كالزّلم |
خدلّج السّاقين خفّاق القدم |
|
قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم |
ليس براعي إبل ولا غنم |
|
ولا بجزّار على ظهر وضم |
هذا أوان الحرب فاشتدّي زلم (١) |
وقد كان عند دخوله على النّبيّ صلىاللهعليهوسلم خلّف خيله خارج المدينة ودخل وحده. فلمّا كان في العام القابل ؛ خرج شريح نحو مكّة في تجارة عظيمة في حجّاج بكر بن وائل من أهل اليمامة وهم مشركون ، وكانت العرب في الجاهليّة يغير بعضهم على بعض ، فإذا كان أشهر الحجّ أمن النّاس بعضهم بعضا ، وإذا سافر أحدهم في غير الأشهر الحرم نحو مكّة قلّد هديه من الشّعر والوبر ، ومن لم يكن له هدي قلّد راحلته ، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة ، وكانوا يأمنون بذلك ، فإذا رجعوا من مكّة جعلوا شيئا من لحاء شجر الحرم في عنق الرّاحلة فيأمنوا ، فلمّا سمع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخروج شريح وأصحابه استأذنوا النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله هذه الآية) (٢).
قوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) ؛ في موضع نصب على الحال ، معناه : قاصدين طالبين رزقا بالتّجارة ، (وَرِضْواناً) أي رضى من الله تعالى على عملهم ، ولا يرضى عنهم حتّى يسلموا. وقال الحسن وقتادة : (معنى رضوانا ؛ أي يرضى الله عنهم ؛ فيصلح معاشهم ويصرف عنهم العقوبات في الدّنيا إذا كانوا لا يقرّون بالبعث ، ثمّ نسخ قوله تعالى بعد ذلك تعرّض المشركين بقوله تعالى :
__________________
(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٤٣ تقديم وتأخير في صدر البيت وعجزه.
(٢) أخرجه مختصرا الطبري في جامع البيان : النص (٨٦١٢) عن السدي. وفي أسباب النزول للواحدي : ص ١٢٥ ـ ١٢٦. وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ٦ ص ٤٣.
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١) كافّة ، وبقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)(٢)). وقرأ الأعمش (ولا آمّين) أي البيت الحرام بالإضافة.
قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) ؛ أي لا يحملنّكم ويكسبنّكم بغض قوم وعداوتهم بأن صرفوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام على أن تظلموهم ، وتتجاوزوا الحدّ للمكافأة. وموضع : (أَنْ تَعْتَدُوا) نصب لأنه مفعول ، و (أَنْ صَدُّوكُمْ) مفعول له ، كأنه قال : لا يكسبنّكم بغض قوم الإعتداء عليهم بصدّهم إيّاكم.
قرأ أهل المدينة إلّا قالون ابن عامر والأعمش : (شَنَآنُ) بجزم النّون الأولى. وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان ؛ إلّا أنّ الفتح أجود لأنه أفهم اللّغتين ، ولأنّ المصادر أكثر ما تجيء على (فعلان) مثل النّفيان (٣) والرّتقان (٤) والعسلان (٥) ونحو ذلك (٦).
قال ابن عبّاس : (معنى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي ولا يحملنّكم) (٧). وقال الفرّاء : (ولا يكسبنّكم) ، قال : (يقال : فلان جريمة أهله ؛ أي كاسبهم). قوله تعالى : (أَنْ صَدُّوكُمْ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الألف على الاستئناف والجزاء ، وقرأ الباقون بالفتح ؛ أي لئن صدّوكم ، والفتح أجود ؛ لأن الصدّ كان واقعا من الكفّار يوم الحديبية قبل نزول هذه السورة.
__________________
(١) التوبة / ٥.
(٢) التوبة / ٢٨.
(٣) النّفيان : نفيان السّيل : ما فاض من مجتمعه ، كأنه يجتمع في الأنهار الإخاذات ، ثم يفيض إذا ملأها ، فذلك نفيانه.
(٤) الرّثق : إلحام الفتق وإصلاحه ، والرّتقان : ثوبان يرتقان بحواشيهما.
(٥) العسلان : الناقة السريعة ، أو المشي الخبب ، ومشي الذئب واهتزاز الرمح.
(٦) في الحجة للقراءات السبعة : ج ٢ ص ١٠٥ ؛ قال أبو علي الفارسي : «أما الشّنآن ، فإن فعلانا يجيء على ضربين : أحدهما اسم ، والآخر : وصف. والاسم على ضربين : أحدهما أن يكون مصدرا كالنّقزان ، والنّفيان .. وعامة ذلك يكون معناه التحرك والتقلّب ، فالشّنآن على ما جاءت به هذه المصادر. والاسم الذي ليس بمصدر نحو : الورشان والعلجان. وأما مجيء فعلان وصفا فنحو : الزّفيان والقطوان».
(٧) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٤٨).
قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) ؛ أي تحاثّوا على الطّاعة وترك المعصية ، قال أبو العالية : (البرّ : ما أمرت به ، والتّقوى : ترك ما نهيت عنه) (١). وظاهر الأمر يقتضي وجوب المعاونة على الطّاعة ، وظاهر الأمر على الوجوب.
قوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) ؛ أي لا يعن بعضكم بعضا على شيء من المعاصي والظّلم ، وقال بعضهم : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الإثم والبرّ ؛ فقال : [البرّ : حسن الخلق ، والإثم : ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطّلع عليه النّاس](٢). قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) ؛ أي اخشوه وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) إذا عاقب ، فعقابه شديد.
قوله عزوجل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ؛ الميتة : اسم لكلّ ذي روح فارقه روحه حتف أنفه ، والمراد بالدّم : الدّم المسفوح ، وحرّم عليكم لحم الخنزير لعينه لا لكونه ميتة حتى لا يحلّ تناوله مع وجود الذكاة فيه. وفائدة تخصيص لحم الخنزير بالذّكر دون لحم الكلب وسائر السّباع : أنّ كثيرا من الكفّار ألفوا لحم الخنزير ، واعتادوا أكله وأولعوا به ما لم يعتادوا به أكل غيره.
فائدته : أنّ مطلق لفظ التحريم يدلّ على نجاسة عينه مع حرمة أكله ، ولحم الخنزير مختص بهذا الحكم ؛ وذلك : أنّ سائر الحيوانات المحرّم أكلها إذا ذبحت كان لحمها طاهرا لا يفسد الماء إذا وقع فيه ، وإن لم يحلّ أكله بخلاف لحم الخنزير.
قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي وحرّم عليكم ما ذكر عليه عند الذبح اسم غير الله ، وذلك أنّهم كانوا يذبحون لأصنامهم يتقرّبون بذبحها إليهم ، فحرّم الله كلّ ذبيحة يتقرّب بذبحها إلى غير الله تعالى ، ولذلك قال الفقهاء : إنّ الذابح لو سمّى النبيّ صلىاللهعليهوسلم مع الله تعالى فقال : بسم الله ومحمّد ؛ حرمت الذبيحة (٣).
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٤٧).
(٢) أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب البر : باب تفسير البر والإثم : الحديث (١٤ / ٢٥٥٣) عن النواس بن سمعان الأنصاري.
(٣) أدرج الناسخ قوله : «قال في تفسير عبد الصّمد ، وذكر الإمام أبو عاصم العامريّ محمد بن
قوله تعالى : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ) ؛ أي حرّم عليكم أكل لحم المنخنقة ؛ وهي التي تنخنق بحبل أو شبكة فتموت من غير ذكاة ، وأمّا الموقوذة ؛ فهي المضروبة بالخشب حتّى تموت ، قوله تعالى : (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) هي التي تتردّى من جبل أو سطح أو في بئر فتموت قبل الذكاة. والتّردّي : هو السّقوط ، مأخوذ من الرّداء وهو الهلاك ، قال صلىاللهعليهوسلم لعديّ بن حاتم : [إذا تردّت رميتك من جبل فوقعت في ماء فلا تأكل ؛ فإنّك لا تدري أسهمك قتلها أم الماء](١).
فصار هذا الكلام أصلا في كلّ موضع اجتمع فيه معنيان : أحدها حاظر ، والآخر مبيح فأنّه تغلب جهة الحظر ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : [الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبينهما أمور مشبّهة ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه](٢) وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : (كنّا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الرّبا) (٣).
__________________
ـ أحمد عن أصحابنا : (أنّ سلطانا لو دخل بلدا فذبح النّاس الذبائح تقرّبا إليه بذبحها وإراقة دمها ؛ لم يحلّ تناول شيء منها ؛ لأنّه قد أهلّ بها لغير الله وتقرّب بذبحها إلى غير الله). وكان يفرّق بين هذا وبين ما يذبحه الرجل لضيفه بمعنى : أنّ صاحب الضيف إنّما يتقرّب إلى ضيفه باللّحم دون إراقة الدم ، ألا ترى أنه لو ذبح الشاة باسمه ونسبه ولم يقرّبها إليه لم يكن تقريبا إليه.
فأمّا ما يذبح لأجل الأمراء عند دخولهم البلاد ، إنّما يتقرّبون إليهم بالذبح وإراقة الدّم دون اللّحم ، فإنّ اللحم لا يحمل إليهم ولا يرجع إليهم شيء من منافعه ، فلذلك افترقا. وكان يحكى عن بعض المشايخ : أن هذه المسألة وقعت ببعض بلاد ما وراء النّهر ؛ فاختلف فيها فقهاؤها ؛ فكتبوا إلى أئمّة بخارى ؛ فأفتوا بتحريمها».
ويلاحظ أن أسلوب المفسر في عبارته يختلف عن أسلوب المصنف رحمهالله ، فضلا عن وضوح الإدراج في السياق.
(١) أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الصيد : باب الصيد بالكلاب المعلمة : الحديث (٧ / ١٩٢٩).
(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الإيمان : باب فضل من استبرأ لدينه : الحديث (٥٢ و٢٠٥١). ومسلم في الصحيح : المساقاة : باب أخذ الحلال وترك الشبهات : الحديث (١٠٧ / ١٥٩٩).
(٣) أخرجه عبد الرزاق في المصنف : البيوع : باب طعام الأمراء وأكل الربا : النص (١٤٦٨٣): «عن الشعبي قال : قال عمر : ... وذكره».
قوله عزوجل : (وَالنَّطِيحَةُ) ؛ هي التي تنطح حتى تموت ، وإذا تناطحت الحيوانات فقتل بعضها بعضا في النّطاح فهي حرام بالآية ، قال ابن عبّاس : (كان أهل الجاهليّة يخنقون الشّاة حتّى إذا ماتت أكلوها وكذلك الموقوذة) (١) ، قال قتادة : (كان أهل الجاهليّة يضربون الشّاة بالبعض حتّى إذا ماتت أكلوها) (٢) ، يقال منه : وقده يقده إذا ضربه حتى أشفا على الهلاك. قال الفرزدق :
شغّارة تقذ الفصيل برجلها |
|
فطّارة لقوادم الأبكار (٣) |
قوله تعالى : (النَّطِيحَةُ) إنّما دخلت الهاء فيها وإن كان الفعل بمعنى المفعول يسوّى فيه المذكّر والمؤنّث كقولهم : لحية دهين وعين كحيل وكفّ خضيب ؛ لأنّ النطيحة لم يتقدّمها اسم ، فلو أسقطت الهاء منها لم يدر أهي مذكّر أم مؤنث ، فنظير ذلك لو قيل : شاة نطيح لم تذكّر الهاء المذكّر الشاة (٤).
قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) ، وقرأ ابن أبي زائدة : (وأكيلة السّبع). وقرأ الحسن وطلحة : (السّبع) بسكون الباء وهي لغة في السّبع ، ومعنى قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) هو فريسته.
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٥٢).
(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٥٥).
(٣) الشغّارة : الناقة ترفع رجلها ضاربة الفصيل لتمنعه من الرضاع عند الحلب. يقال : شغر الكلب : إذا رفع رجله ليبول ، وهو منصوب على الذمّ. وتقذّ والوقذ : أشدّ الضرب. والموقوذة : التي أنهكت ضربا بالخشب حتى تموت.
والفطّارة : الحاذقة بحلب الفطر ، وهو الحلب بأطراف الأصابع ، والحلب بالسبّابة والوسطى ويستعين بطرف الإبهام. والفطر والفطر : خلاف الضبّ ؛ وضبّ الناقة يضبّها : جمع خلفيها في كفّه للحلب ، وهو الحلب بالكفّ كلها. وقيل : هذا هو الضّفّ. وقوادمها : أخلافها ، وهما القادمان ، وجمعه قوادم. والأبكار تحلب فطرا ؛ لأنه لا يستمكن أن يحلبها ضبّا لقصر الخلف لأنها صغار.
(٤) لكن ذكر الهاء ها هنا (النطيحة) ؛ لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به ، فيقال : شاة نطيح وامرأة قتيل. فإن لم تذكر الموصوف فتقول : رأيت قتيلة بني فلان ، وهذه نطيحة الغنم ، وإلا لم يتميز أذكر أم أنثى. ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٤٩.
قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ؛ أي إلّا ما ذكرتم ذكاته مما أكل منه السّبع فذكّيتم ، فإنّ ذلك يحلّ لكم ، أو ما أبين من الصّيد قبل الذكاة فهو ميّت ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) راجعا إلى المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع ، فإنّها كلّها في الحكم بمعنى واحد. وعن الحسن أنه كان يقول في هذه الجملة : (إذا طرفت بعينها ؛ أو وكصت برجلها ؛ أو حرّكت بدنها فذكّها وكل) (١). وشرط أكثر العلماء في إباحة أكلها بالذكاة : أن تكون حياتها وقت الذكاة أكثر من حياة المذبوح ، فإن كانت بهذه الصّفة أثّرت الذكاة في إباحتها وإلّا فلا.
والتّذكية : تمام فري الأوداج وإنهار الدّم ، ومنه الذكاء في الفم إذا كان تامّ العقل ، وذكّيت النّار إذا أتممت إشعالها.
قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ؛ أي وحرّم عليكم ما ذبح على النّصب ، هي جمع النّصب ، والنّصاب : وهي الحجارة ، كانوا ينصبونها فيعبدونها من دون الله تعالى ويقرّبون لها الذبائح ، والفرق بين النّصب والأصنام : أنّ الصنم اسم لما كان على صورة الإنسان ، والنّصب ما لا نقش له ولا صورة ولكنه يعبد. والوثن ما كان منقوشا ، والحائط لا شخص له. وقيل : النّصب واحد وجمعه أنصاب ، مثل عنق وأعناق.
وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف : (على النّصب) بجزم الصاد ، وقرأ الجحدريّ : بفتح النون والصاد ؛ جعله اسما موحدا كالجبل والجمل ، والجمع الأنصاب كالأجبال والأجمال ، وكلّها لغات وهي الشيء المنصّب ، ومنه قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)(٢).
واختلفوا في معنى النّصب ها هنا ؛ قال ابن جريج ومجاهد وقتادة : (كان حول البيت ثلاثمائة وستّون حجرا ، وكان أهل الجاهليّة يذبحون عليها ، ويشرّحون اللّحم عليها ، وكانوا يعظّمونها ويعبدونها ويذبحون لها ، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا رأوا حجارة
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٧٣) عن ابن عباس ، والنص (٨٦٧٤) عن الحسن.
(٢) المعارج / ٤٣.
هي أعجب إليهم منها). وقالوا : (ليست أصناما إنّما الصّنم ما ينقش). وقال آخرون : النّصب هي الأصنام المنصوبة. قال الأعشى :
وذا النّصب المنصوب لا تنسكنّه |
|
ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا |
قال قطرب : (معنى الآية : وما يذبح للنّصب ؛ أي لأجلها ، واللّام و (على) يتعاقبان في الكلام ، قال الله تعالى : (فَسَلامٌ لَكَ)(١) أي عليك ، وقال تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها)(٢) أي فعليها). وقال بعضهم : معناه : وما ذبح على اسم النّصب.
قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) ؛ وهي القداح ؛ أي حرّم عليكم الاستقسام ؛ وهو طلب القسم بالأزلام ؛ وهي القداح الّتي كانوا يجلبونها عند العزم على الميسر ويقتسمون بها لحم الجزور على ما تقدم ذكره في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)(٣).
وقال الحسن : (كانوا يتّخذون السّهام ؛ فإذا أراد الرّجل أن يخرج إلى سفر أو تجارة أو سروح ؛ أجال السّهام بيده ، وكان مكتوبا على بعضها : أمرني ربي ، وعلى بعضها : نهاني ربي ، فإن خرج الّذي عليه : أمرني ربي ؛ قال : قد أمرت بالخروج ولا بدّ لي من ذلك ؛ فيخرج ، وإن كره الخروج خرج غير بعيد ثمّ رجع ، ولا يدخل من باب بيته ، ولكن ينقب ظهر بيته منه يدخل
ومنه يخرج إلى أن يتّفق له الخروج. وإن خرج الّذي عليه : نهاني ربي ، قال : قد نهيت عن الخروج ، ولا يسعني. فنهى الله تعالى عن ذلك) (٤).
فعلى هذا لا يجوز أن يكون معنى الاستقسام طلبهم في الخروج والجلوس ، والخروج في قسم الرّزق والحوائج ، وظاهر هذه الآية يقتضي أنّ العمل على قول المنجّمين : لا تخرج من أجل نجم كذا ؛ واخرج من أجل نجم كذا ؛ فسق لأنّ ذلك دخول في علم الغيب ، ولا يعلم الغيب إلّا الله.
__________________
(١) الواقعة / ٩١.
(٢) الاسراء / ٧.
(٣) البقرة / ٢١٩.
(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٩٣).
ومعنى الفسق : الخروج من الطاعة ؛ وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) ؛ إشارة إلى ما تقدّم ذكره من المعاصي والحرام. قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا) في موضع رفع ؛ أي وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والأزلام : هي القداح الّتي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها زلم ، مثل عمر وزفر ، وقيل : زلم مثل قلم. وقال ابن جبير : (هي حصى بيضاء كانوا يضربون بها).
قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ؛ قال ابن عبّاس : (نزلت هذه الآية يوم دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكّة ومعه المسلمون وهو يوم الفتح ، يئس الكفّار يومئذ من رجوع المسلمين إلى دينهم بما ظهر من علوّ الإسلام والمسلمين على سائر الأديان). وقال بعضهم : أراد به يوم حجّة الوداع ، وقال الحسن : (أراد باليوم جميع زمان النّبيّ صلىاللهعليهوسلم وعصره ، كما يقال : كانت حادثة كذا في يوم فلان ، يراد به عصره).
وقوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) ؛ أي ليكن خوفكم لله وحده ؛ فقد أمنتم ، وحوّل الله الخوف الذي كان يلحقكم إليهم بإظهار الإسلام. وقيل : معناه : لا تخشوهم بإظهار تحريم ما كانوا يبيحونه ، وأسرعوا في ترك إظهار المحرّمات.
قوله عزوجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ؛ قال ابن عبّاس : (نزلت هذه الآية على النّبيّ صلىاللهعليهوسلم وهو واقف بعرفة يوم عرفة ؛ والنّاس وقوف رافعون أيديهم بالدّعاء ، فبركت ناقة النّبيّ صلىاللهعليهوسلم من ثقل هذه الآية بعد أن كاد عضدها يندقّ ، ولم ينزل بعدها آية حلال ولا حرام ، وعاش النّبيّ صلىاللهعليهوسلم بعدها واحدا وثمانين يوما ، ثمّ قبضه الله تعالى إلى رحمته) (١).
قال طارق بن شهاب : (جاء يهوديّ إلى عمر رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين! آية تقرأونها لو أنزلت علينا لاتّخذنا يوم نزولها عيدا ، فقال : وأيّ آية؟ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية ، قال عمر : هل علمت في أيّ يوم نزلت وفي أيّ مكان نزلت؟ إنّها نزلت يوم الجمعة يوم عرفة ونحن مع رسول الله
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٨٧١٠) عن السدي عن أسماء بنت عميس.
صلىاللهعليهوسلم وهو واقف ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد ، ولا يزال ذلك اليوم عيدا) (١). قال ابن عبّاس : (إنّها نزلت في يوم عيدين : يوم جمعة ويوم عرفة) (٢).
روي عن عمر رضي الله عنه أنّه بكى يوم نزلت هذه الآية ، فقال له النّبيّ صلىاللهعليهوسلم : [ما يبكيك يا عمر؟!] قال : أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا ، فأمّا إذا أكمل ، فإنّه لا يكمل شيء إلّا نقص ، قال : [صدقت](٣).
واختلفوا في معنى الآية ؛ قال بعضهم : معناها : اليوم أكملت لكم شرائع دينكم من الفرائض والسّنن والأحكام والحدود والحلال والحرام ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض ، وثبت لكم جميع ما كنت أريد أن أبيّنه لكم في الأزل ، فأمّا دين الله فلم يزل كاملا لا ينقص فيه ، وهذا قول ابن عبّاس والسّدّيّ. وقال قتادة وسعيد : (معناه : أكملت لكم دينكم ؛ فلم يحجّ معكم مشرك). ويحتمل أن يكون المراد بالأكمل للدين أظهره على سائر الأديان بالنّصرة والغلبة ، و (اليوم) نصب على الظّرف ، كما يقال : الآن ، وفي هذا الزّمان.
قوله تعالى : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي أتممت عليكم منّتي بإظهار الدّين حتى لم يحجّ معكم مشرك ، وقيل : نعمة الله بيان فرائضه ، وقيل : هي إيجاب الجنّة ، وقيل : معناه : وأنجزت لكم وعدي في قولي : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)(٤) ، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكّة آمنين وعليها ظاهرين ، وحجّوا مطمئنّين ، ولم يخالطهم أحد من المشركين.
__________________
(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الإيمان : باب زيادة الإيمان ونقصانه : الحديث (٤٥) ، وكتاب المغازي : باب حجة النبي صلىاللهعليهوسلم : الحديث (٤٤٠٧). ومسلم في الصحيح : كتاب التفسير : الحديث (٣ و٤ و٥ / ٣٠١٧).
(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٢ ص ١٤٣ : الحديث (١٢٨٣٥). والترمذي في الجامع : كتاب التفسير : الحديث (٣٠٤٤) ، وقال : حديث حسن غريب.
(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٧١٢) مرسلا. وفي الدر المنثور : ج ٣ ص ١٨ ؛ قال السيوطي : «أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير».
(٤) البقرة / ١٥٠.
قوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي اخترت لكم الإسلام من الأديان كلّها دينا ، فمن دان بالإسلام ، فقد استحقّ ثوابي ورضاي.
والدّين : اسم لجميع ما يعبد الله به خلقه ، وأمرهم بالإقامة عليه ، وهو الذي أمروا أن يكون ذلك عادتهم والذي به يجزون ، فإن الدّين في اللغة : العادة ، والدّين الجزاء.
قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣) ؛ أي من دعته الضرورة إلى أكل شيء ممّا حرّم الله عليه في مجاعة غير مائل إلى إثم ؛ أي زائد على ما يسدّ به رمقه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أباح ذلك رحمة منه وتسهيلا على خلقه. والمخمصة : مأخوذة من المخص وهو شدّة ضمور البطن ، والمتجانف من الجنف وهو الميل.
قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) ؛ قال ابن عبّاس : (لمّا نزل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) جاء عديّ بن حاتم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إنّ لنا كلابا نتصيّد بها فتأخذ البقر والظّباء والحمر ، فمنها ما ندرك ذكاته ، ومنها ما لا ندرك ، وقد حرّم الله الميتة. فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها : يسألونك يا محمّد : أيّ شيء أحلّ لهم من الصّيد وغيره؟ قل أحلّ لكم المباحات. يقال : هذا يطيب لفلان ؛ أي يحلّ ، قال الله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(١) أي ما حلّ لكم. وكلّ شيء لم يأت تحريمه في كتاب أو سنّة فهو من الطّيّبات. وقال بعضهم : أراد بالطيّبات المستلذات والمشتهيات ، وهو عامّ أريد به غير ما تضمّنته الآية المتقدّمة.
قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) أي وأحلّ صيد ما علّمتم ، فحذف ذكر الصّيد لأنّ في الكلام دليلا عليه ، والجوارح : هي الكواسب من الفهد ؛ والصّقر ؛ والباز ؛ والعقاب ؛ والنّسر ؛ والباشق ؛ والشّاهين وسائر ما يصطاد به الصيد.
__________________
(١) النساء / ٣.
قال الله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)(١) أي كسبتم ، وقيل : معنى الجوارح : الجارحات بناب أو مخلب. قوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) حال للمعلّمين ؛ أي في حال إغرائهم الكلب على الصّيد ، والتّكليب : إغراء السّبع على الصّيد وإرساله.
ومن قرأ (مكلّبين) بفتح اللّام فهو حال من الكواسب المعلّمين. وقرأ ابن مسعود والحسن : (مكلبين) بإسكان الكاف وتخفيف اللام ، فعلى هذا المعنى يجوز أن يكون من قولهم : أكلب الرّجل إذا كثرت كلابه ، وأمشى إذا كثرت ماشيته ، ولذلك ذكر الكلاب ؛ لأنّها أعمّ وأكثر ، والمراد به جميع الجوارح.
قوله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) ؛ أي تؤدّبوهنّ أن يمسكن الصّيد عليكم كما أدّبكم الله تعالى ، (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) ؛ أي على الإرسال ، كما روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّه قال لعديّ بن حاتم : [إذا أرسلت كلبك المعلّم ، وسمّيت الله تعالى فكل ، وإن أكل منه فلا تأكل ، فإنّه إنّما أمسك على نفسه](٢). وفي بعض الرّوايات : [وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل ، فإنّك إنّما سمّيت على كلبك ، ولم تسمّ على كلب غيرك](٣).
وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ معنى الإمساك في هذه الآية أن يحفظ الكلب الصّيد حتّى يجيء صاحبه ، فإن تركه حتى غاب عن صاحبه ثم وجده صاحبه بعد ذلك ميتا لم يحلّ أكله. قال صلىاللهعليهوسلم : [كل ما أصميت ، ودع ما أنميت](٤) ، قيل : الإصماء : ما رأيت ؛ والإنماء ما توارى عنك.
__________________
(١) الأنعام / ٦٠.
(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الذبائح والصيد : باب صيد المقراض : الحديث (٥٤٧٦). ومسلم في الصحيح : كتاب الصيد والذبائح : باب الصيد بالكلاب المعلمة : الحديث (١ ـ ٧ / ١٩٢٩).
(٣) ينظر الهامش السابق.
(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٢ ص ٢٢ : الحديث (١٢٣٧٠). وفي المعجم الأوسط : الحديث (٥٥٣٩). وفي مجمع الزوائد : ج ٤ ص ١٦٢ : كتاب البيوع : باب تصرف العبد ؛ قال الهيثمي : «رواه الطبراني في الأوسط وفيه عباد بن زياد ، وثقه أبو حاتم وغيره ، وضعفه موسى ابن هارون وغيره».
واختلف أهل العلم في حدّ التعليم ؛ قال أبو حنيفة رحمهالله : (ليس فيه حدّ مؤقّت ، وإنّما يرجع فيه إلى أهل الصّنعة ، فإن حكموا بتعليمه حلّ صيده بعد ذلك وإلّا فلا ؛ لأنّ الاصطياد للكلاب بمنزلة الحرف والصّناعات للنّاس ، وليس في معرفة كون الإنسان عالما بصنعته متقدّما على حرفته حدّ يؤمن عليه ، ولكن يرجع في كلّ إلى أهلها).
وقال أبو يوسف ومحمّد وكثير من الفقهاء : (إذا دعي الكلب ثلاث مرّات على الولاء فأجاب ؛ وأرسل فاسترسل ، وأخذ الصّيد ولم يأكل ، حكمنا بكونه معلّما ؛ لأنّ التّعليم لا يحصل بالمرّة الواحدة ، ويحصل بالمرّات الكثيرة ، فجعل الحدّ الفاصل بين القليل والكثير بالثّلاث الّتي هي أقل الجمع الصّحيح).
قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤) ؛ قد تقدّم تفسيره ، وروى أبو رافع قال : (جاء جبريل عليهالسلام إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاستأذن ؛ فأذن له فلم يدخل ، فأخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم رداءه وخرج إليه فقال له : [قد أذنّا لك يا رسول الله!] قال : أجل ؛ ولكنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو) (١).
وعن عليّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب](٢) قال أبو رافع : (فأمرني رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن لا أدع كلبا في
__________________
(١) في مجمع الزوائد : ج ٤ ص ٤٢ ـ ٤٣ : كتاب الصيد والذبائح : باب ما جاء في الكلاب ؛ قال الهيثمي : «رواه الطبراني في الكبير وفيه موسى بن عبيدة الربذي ، وهو ضعيف». وفي مصنف ابن أبي شيبة : كتاب اللباس والزينة : باب في الصور والبيت : الحديث (٢٥١٨٥) عن سلمى (أم رافع) مختصرا. وفي أسباب النزول : ص ١٢٧ ؛ قال الواحدي : «رواه الحاكم في صحيحه ، وذكر المفسرون شرح هذه القصة». وأسنده عن أم رافع وأبي رافع. وفي لباب النقول : ص ٨٧ ؛ قال السيوطي : «رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع».
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٨٣ و١٠٤ و١٣٩ و١٥٠. وأبو داود في السنن : كتاب الطهارة : باب في الجنب يؤمر بالغسل : الحديث (٢٢٧) ، وكتاب اللباس : باب في الصور : الحديث (٤١٥٢). والنسائي في السنن الصغرى : كتاب الطهارة : باب في الجنب إذا لم يتوضأ : ج ١ ص ١٤١ ، وكتاب الصيد والذبائح : ج ٧ ص ١٨٥. عن عبد الله بن نجي عن أبيه ، من أصحاب علي رضي الله عنه.
المدينة إلّا قتلته ، فقتلت حتّى بلغت العوالي ، فانتهيت إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس غنمها فرحمته ؛ ثمّ أتيت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبرته بأمره فأمرني بقتله ، فرجعت إلى الكلب فقتلته) (١). وقال ابن عمر رضي الله عنهما : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم رافعا صوته يقول : [اقتلوا الكلب](٢).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [لا يحلّ ثمن الكلب ، ولا حلوان الكاهن ، ولا مهر البغيّ] ونهى عن اقتنائها وإمساكها ، وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرّات إحداهنّ بالتّراب (٣). قال : (أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقتل الكلب ، فجاء أناس فقالوا : يا رسول الله! ما يحلّ لنا من هذه الأمّة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله هذه الآية) (٤) فلمّا نزلت أذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها ، ونهى عن اقتناء ما لا ينتفع بها ، وأمر بقتل الكلب العقور ، وما يضرّ ويؤذي ، ورفع القتل عمّا سواها ممّا لا ضرر فيه.
وعن عبد الله بن المغفل قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [لو لا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها الأسود البهيم ، وأيّما قوم اتّخذوا كلبا ليس بكلب صيد أو حرث أو ماشية ، فإنّه ينقص من أجورهم كلّ يوم قيراط](٥). وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض ،
__________________
(١) في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : ج ٤ ص ٤٢ ؛ قال الهيثمي : «رواه البزار وأحمد بأسانيد ، رجال بعضها رجال الصحيح. ورواه الطبراني في الكبير أيضا».
(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٧ ص ١٧٤ : الحديث (٦٣٢٢).
(٣) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب البيوع : باب في أثمان الكلاب : الحديث (٣٤٨٤). والنسائي في السنن : كتاب الصيد : باب النهي عن ثمن الكلب : ج ٧ ص ١٩٠.
(٤) في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : ج ٤ ص ٤٣ ؛ قال الهيثمي : «رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح ، خلا سعيد بن بحر شيخ البزار ، لم أجد من ترجمه».
(٥) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب الصيد : باب في اتخاذ الكلب للصيد : الحديث (٢٨٤٥). والنسائي في السنن الصغرى : كتاب الصيد : باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها : ج ٧ ص ١٨٥. وابن حبان في الإحسان : كتاب الحظر والإباحة : الحديث (٥٦٥٧) وإسناده صحيح.
فإنّه ينقص من أجره كلّ يوم قيراطان](١). والحكمة في ذلك : أنه ينبح على الضّيف ويروّع السائل.
قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ؛ أي الآن تمّم الله لكم بيان الحلالات ؛ وهو كلّ ما لم يجر ذكره في المحرّمات. قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ؛ أي ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم.
والدليل على أنّ المراد بالطعام ها هنا الذبائح : أنّ ما سوى الذبائح من الأطعمة والأشربة حلال للمسلمين ؛ سواء كانت لأهل الكتاب أو لغيرهم ، فبان المراد به الذبائح ؛ لأنّ ذبائح غير أهل الكتاب من الكفّار حرام على المسلمين. قوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) ؛ أي ذبائحكم حلال لهم ؛ أي رخّص لكم في أن تطعموهم ذلك.
قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ؛ قال الحسن : (أراد بالمحصنات ها هنا الحرائر من المؤمنات والكتابيّات). وقال ابن عبّاس : (أراد به الحرائر العفائف منهنّ).
وتقدير الآية : وأحلّ لكم نكاح المحصنات من المؤمنات والكتابيّات ، وقد استدلّ بعض الفقهاء بظاهر هذه الآية : على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابيّة ، والصحيح : أنه يجوز بظاهر قوله تعالى : (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ)(٢) بدليل حلّ ذبائحهن.
وإنّما خصّ المحصنات بإباحة نكاحهنّ مع جواز نكاح غيرهن ؛ لأنّ الآية خرجت مخرج الامتنان والمنّة في نكاح الحرائر العفائف أعظم وأتمّ ، يدلّ على ذلك : أنه لا خلاف في جواز النكاح بين المسلم والأمة المؤمنة ، وإن كان في الآية تخصيص المحصنات من المؤمنات ، والأفضل لمن أراد النكاح أن لا يعدل عن نكاح الحرائر
__________________
(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الحرث والمزارعة : باب اقتناء الكلب للحرث : الحديث (٢٣٢٢) بلفظ : [من أمسك]. وأخرجه أحمد في المسند : ج ٢ ص ٣٤٥. والنسائي في السنن الصغرى : كتاب الصيد : باب الرخصة في إمساك الكلب : ج ٧ ص ١٨٩ بلفظ : [من اقتنى].
(٢) النساء / ٢٥.
الكتابيّات مع القدرة عليهنّ ؛ وذلك لأنّ نكاح الأمة يؤدّي إلى إرقاق الولد ؛ لأنّ الولد يتبع الأمة في الرّقّ والحريّة ، ولا ينبغي لأحد أن يختار رقّ ولده ، كما لا ينبغي أن يختار رقّ نفسه.
قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) ؛ أي ناكحين غير زانين معلنين بالزّنا ، ولا متّخذي صديقات للزّنا سرّا. قال الحسن : (كان بعض الجاهليّة تسافح وتزني بكلّ من وجد من النّساء ، وبعضهم يتّخذ خليلة يزني بها سرّا ويتجنّب الزّنا علانية ، فبيّن الله تعالى بهذه الآية حرمة الزّنا سرّا وعلانية).
قوله عزوجل : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥) ؛ قال ابن عبّاس : (لمّا رخّص الله للمسلمين في نكاح الكتابيّات ؛ قال أهل الكتاب : لو لا أنّ الله رضي أعمالنا لم يحلّ للمسلمين تزويج نسائنا. وقال المسلمون : كيف يتزوّج الرّجل الكتابيّة وهي كافرة؟ فأنزل (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) من المغبونين ، غبن نفسه وفسق وصار إلى النّار ، لا يغني عن المرأة الكتابيّة إسلام زوجها ولا ينفعها ذلك ، ولا يضرّ المسلم كفر زوجته الكتابيّة).
قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ؛ قال ابن عبّاس وجماعة من المفسّرين : (معناه : إذا أردتم القيام إلى الصّلاة ، وإنّما أضمروا إرادة القيام ؛ لأنّ صحّة قيام الصّلاة بالطّهارة فلا يصحّ جزء من القيام قبل تقدّم الطّهارة).
وظاهر الآية يقتضي أنّ القيام إلى الصلاة يكون سببا لوجوب الطّهارة ، ولا خلاف بين السّلف والخلف أنّ الطهارة لا تجب سبب القيام إلى الصّلاة ، إلّا أنه روي عن ابن عمر وعليّ رضي الله عنهما : (أنّهما كانا يتوضّأن عند كلّ صلاة ، ويقرآن هذه الآية). فيحتمل أنّهما كانا يفعلان ذلك ندبا واستحبابا ، فإن تجديد الطّهارة لكلّ صلاة مستحبّ. وقد روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : [من توضّأ فهو على وضوء ما لم
يحدث](١). وقال : [لا وضوء إلّا من حدث](٢). فثبت أن في الآية إضمار آخر تقديره : إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم ، وهذا نظير قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٣) معناه : فأفطر فعليه عدّة من أيّام أخر ، وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ)(٤) معناه فحلق فعليه فدية. وقال بعضهم : معنى الآية : إذا قمتم من نومكم إلى الصّلاة ، وقال : هذا على أنّ النوم في حالة الاضطجاع حدث.
قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الغسل : إجراء الماء على المحلّ وتسييله ، سواء وجد معه الدّلك أم لا ، والوجه : ما يواجهك من الإنسان ، وحدّه من قصاص الشّعر إلى أسفل الذقن ، ومن شحمتي الأذن إلى شحمتي الأذن. وظاهر الآية يقتضي أنّ المضمضة والاستنشاق غير واجبتين في الوضوء ؛ لأن اسم الوجه يتناول الظاهر دون الباطن.
قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) أي مع المرافق ، هكذا قال علماؤنا رحمهمالله تعالى ، إلّا زفر رحمهالله ؛ فإنه ذهب إلى ظاهر الآية وقال : (إنّ حرف (إلى) للغاية ، والغاية لا تدخل في الحكم كما في قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٥)). وأمّا عامّة العلماء فقالوا : إنّ (إلى) تذكر بمعنى (مع) كما قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ)(٦) ، فإذا احتمل اللفظ الغاية واحتمل معنى المقارنة حلّ
__________________
(١) الحديث بمعناه : عن أنس بن مالك قال : [كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتوضّأ لكلّ صلاة ، وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث]. رواه البخاري في الصحيح : كتاب الوضوء : باب الوضوء من غير حدث : الحديث (٢١٤). وأبو داود في السنن : كتاب الطهارة : باب الرجل يصلي بوضوء واحد : الحديث (١٧١) ، وغيرهم. واللفظ للدارمي كما في السنن : كتاب الطهارة : باب لا وضوء إلا من حدث : الحديث (٧٢٠).
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٤١٠ و٤٢٥. وأخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (٦٩٢٥) عن أبي هريرة بلفظ : [إلّا من صوت أو ريح].
(٣) البقرة / ١٨٤.
(٤) البقرة / ١٩٦.
(٥) البقرة / ١٨٧.
(٦) النساء / ٢.
محلّ المجمل ، فكان موقوفا على بيان رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقد روي : [أنّه كان إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه](١) ، فصار فعله بيانا للمجمل ، فحمل على الوجوب.
قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) اختلف العلماء في مقدار وجوب المسح منه ، فذهب مالك إلى أنّ مسح جميع الرأس واجب ، وقال : (ظاهر الآية يقتضي الجميع دون البعض ، لأنّك إذا قلت : مررت بزيد ؛ أردت جملته لا بعضه ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٢) والمراد كلّ البيت ، وكقوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)(٣)). وذهب الشافعيّ : إلى أنّ الواجب مقدار ما يتناوله الاسم ، ومن أصحابه من قدّره بثلاث شعرات. وهذا بعيد ؛ لأن فاعله لا يسمّى ماسحا رأسه ولا برأسه ، ولأنّ ذلك القدر يحصل بغسل الوجه ، وفعل ذلك أيضا متعسّر.
وقال أصحابنا في الاحتجاج على مالك بأنّ (الباء) تذكر ويراد بها التّبعيض ، كما تقول : أخذت برأس فلان ، ومسحت برأس اليتيم ، فاذا احتمل اللفظ التبعيض كان مجملا فوجب الرّجوع فيه إلى فعل الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وقد روي : [أنّه توضّأ ومسح على ناصيته](٤). والناصية : هي الرّبع المقدّم من الرّأس ، ومعلوم أنه كان لا يترك بعض الواجب ، فثبت أنّ الفرض مقدور على هذا المقدار ، إلّا أنّ الأفضل أن يمسح جميع الرأس ليخرج عن الفرض بيقين. وقد روي : [أنّ النّبيّ صلىاللهعليهوسلم توضّأ ومسح] [ومسح جميع رأسه](٥).
__________________
(١) عن جابر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى : كتاب الطهارة : باب إدخال المرفقين في الوضوء : الحديث (٢٥٦ و٢٥٧).
(٢) الحج / ٢٩.
(٣) النساء / ٤٣.
(٤) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى : كتاب الطهارة : باب إيجاب المسح بالرأس وإن كان مغنما : الحديث (٢٨٢) مرسلا ، والحديث (٢٨٩) عن بلال رضي الله عنه ؛ وقال : إسناده حسن. وأصله عند مسلم في الصحيح : كتاب الطهارة : باب المسح على الرأس والخفين : الحديث (٧٥ ـ ٨٠ / ٢٧٤) من حديث المغيرة بن شعبة ، وفيه : [مسح بناصيته].
(٥) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى : باب الاختيار في استيعاب الرأس بالمسح : الحديث (٢٧٠). وأصله عند مسلم في الصحيح.