التفسير الكبير - ج ٢

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٢

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٤٧٩

سورة المائدة

سورة المائدة مدنيّة إلّا قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فإنّ هاتين الآيتين نزلتا بمكّة بعد الفتح ، وحكمهما حكم المدنيّة لنزولهما بعد الهجرة. وعدد حروفها أحد عشر ألفا وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا ، وعدد كلماتها ألفان وثمانمائة وأربع كلمات ، وعدد آياتها مائة وعشرون آية عند الكوفيّين ، واثنان وعشرون عند الحجازيّين ، وثلاث وعشرون عند البصريّين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ؛ أي أوفوا بالعقود التي كتبها الله عليكم مما أحلّه لكم وحرّمه عليكم ، وقيل : معناه : أتمّوا العهود التي بينكم وبين المشركين ولا تنقضوها حتى يكون النّقض من قبلهم ، هكذا روي عن ابن عبّاس والضّحاك وقتادة. وقال الحسن : (معناه أوفوا بعقود الدّين ؛ يعني أوامر الله ونواهيه) (١). وقيل : معناه : أوفوا بكلّ عقد تعقدونه على أنفسكم من نذر أو يمين. وقيل : أوفوا بالعقود التي يعقدها بعضكم لبعض ، نحو عقد البيع والإجارة والنّكاح والشّركة ، ولا تنافي بين هذه الأقوال ؛ إذ كلّ هذه العقود يجب الوفاء بها.

قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ؛ أي رخّصت لكم الأنعام نفسها ، وأضاف البهيمة إلى الأنعام ، كما يقال : مسجد الجامع ؛ ونفس الإنسان. والأنعام : هي الإبل والبقر والغنم ، ودخل في هذه الآية إباحة الظّباء وبقر الوحش وحمار الوحش ؛

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : عن ابن عباس قال : «ما أحلّ ، وما حرّم ، وما فرض ، وما حدّ في القرآن كلّه ، فلا تغدروا ولا تنكثوا» : النص (٨٥٦٩).

٣٤١

لأنّها أبهم في التّميّز من الأهليّة ، ولهذا استثنى الله الصيد في حالة الإحرام في قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). والبهيمة في اللغة يتناول كلّ حيّ لا يميّز ، استبهم عليه الجواب ؛ أي استغلق.

قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ؛ أي إلّا ما يقرأ عليكم في القرآن ممّا حرّم عليكم في هذه السورة من الميتة والدّم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردّية والنّطيحة الآية.

قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) ؛ نصب على الحال من الكاف والميم التي في قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ) كما يقال : جاء زيد راكبا ؛ وجاء غير راكب. والمعنى : أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير محلّي الصّيد ؛ أي من أن تستحلّوا قتل الصّيد وأنتم محرمون. وقيل : نصب على الحال من قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي أوفوا بالمعقود غير محلّي الصّيد ، هذا قول الأخفش ، والأوّل قول الكسائيّ.

ومعنى الآية : أحلّت لكم الأنعام إلّا ما كان وحشيا ، فإنّه صيد لا يحلّ لكم إذا كنتم محرمين ، فذلك قوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)) ؛ أي يقضي على عباده بما شاء من التحليل والتحريم على ما توجبه الحكمة.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ؛ أراد به المناسك ؛ أي لا تستحلّوا مخالفة شيء منها ، ولا تجاوزوا مواقيت الحرم غير مؤدّين حقوقها ، وذلك : أنّ الأنصار كانوا لا يسعون بين الصّفا والمروة ، وكان أهل مكّة لا يخرجون إلى عرفة فأمر الله تعالى أن لا يتركوا شيئا من المناسك. وقال الحسن : (شعائر الله دين الله) ؛ أي لا تحلّوا في دين الله شيئا ممّا لم يحلّه الله. ويقال : هي حدود الله في فرائض الشرع.

والشّعائر في اللغة : المعالم ، والإشعار : الإعلام ، والشّعيرة واحدة الشّعائر ؛ وهي كلّ ما جعل علما لطاعة الله تعالى.

٣٤٢

قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) ؛ أي ولا تستحلّوا القتل والغارة في الشّهر الحرام ، وأراد بذلك الأشهر الحرم كلّها ؛ وهي : رجب ؛ وذو القعدة ؛ وذو الحجّة ؛ والمحرّم ، إلّا أنه ذكر باسم الجنس كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(١) أراد به جنس الإنسان ، ولذلك استثنى المطيع بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا). وكان في ابتداء الإسلام لا تجوز المحاربة في الأشهر الحرم كما قال تعالى : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)(٢) ، ثم نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)(٣).

قوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) ؛ أي لا تحلّوا الهدي ؛ أي لا تذبحوه قبل محلّه ؛ ولا تنتفعوا به بعد أن جعلتموه لله ، ولا تمنعوه أن يبلغ البيت. قوله تعالى : (وَلَا الْقَلائِدَ) أي ولا تحلّوا القلائد التي تكون في أعناق الهدايا ؛ أي لا تقطعوها قبل الذبح وتصدّقوا بها بعد الذبح كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ رضي الله عنه : [تصدّقوا بجلالها وخطامها ، ولا تعطي الجزّار منها شيئا](٤).

قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ؛ معناه : ولا تستحلّوا القتل والغارة على القاصدين المتوجّهين نحو البيت الحرام ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنه : (أنّ الآية وردت في شريح بن ضبيعة بن هند اليماميّ (٥) ، دخل على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وقال : أنت محمّد النّبيّ؟ قال : [نعم] قال : إلام تدعو؟ قال : [أدعو إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ؛ وأنّي رسول الله]. فقال : إنّ لي أمراء أرجع إليهم وأشاورهم ، فإن قبلوا

__________________

(١) العصر / ٢.

(٢) البقرة / ٢١٧.

(٣) التوبة / ٥.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الحج : باب يتصدق بجلود الهدي : الحديث (١٧١٧) ، وهو الحديث (١٧١٦ و١٧١٨). ومسلم في الصحيح : الحج : باب الصدقة بلحوم الهدايا : الحديث (٣٤٨ / ١٣١٧) ولفظه عن علي رضي الله عنه قال : [أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدّق بلحمها وجلودها وأجلّتها وأن لا أعطي الجزّار منها ؛ قال : نحن نعطيه من عندنا].

(٥) في رواية الطبري ، ذكره قال : «الحطم بن هند البكري» ، وفي رواية قال : «الحطم أخو بني ضبيعة بن ثعلبة البكري». وفي أسباب النزول قال الثعلبي : «نزل الحطيم واسمع شريح بن ضبيع الكندي ، أي أتى النبيّ من اليمامة».

٣٤٣

قبلت. ثمّ انصرف من عند النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا خرج قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر]. فمرّ بسرح لأهل المدينة فاستاقها ، وانطلق نحو اليمامة وهو يرتجز يقول :

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزّلم

خدلّج السّاقين خفّاق القدم

قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزّار على ظهر وضم

هذا أوان الحرب فاشتدّي زلم (١)

وقد كان عند دخوله على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلّف خيله خارج المدينة ودخل وحده. فلمّا كان في العام القابل ؛ خرج شريح نحو مكّة في تجارة عظيمة في حجّاج بكر بن وائل من أهل اليمامة وهم مشركون ، وكانت العرب في الجاهليّة يغير بعضهم على بعض ، فإذا كان أشهر الحجّ أمن النّاس بعضهم بعضا ، وإذا سافر أحدهم في غير الأشهر الحرم نحو مكّة قلّد هديه من الشّعر والوبر ، ومن لم يكن له هدي قلّد راحلته ، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة ، وكانوا يأمنون بذلك ، فإذا رجعوا من مكّة جعلوا شيئا من لحاء شجر الحرم في عنق الرّاحلة فيأمنوا ، فلمّا سمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخروج شريح وأصحابه استأذنوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية) (٢).

قوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) ؛ في موضع نصب على الحال ، معناه : قاصدين طالبين رزقا بالتّجارة ، (وَرِضْواناً) أي رضى من الله تعالى على عملهم ، ولا يرضى عنهم حتّى يسلموا. وقال الحسن وقتادة : (معنى رضوانا ؛ أي يرضى الله عنهم ؛ فيصلح معاشهم ويصرف عنهم العقوبات في الدّنيا إذا كانوا لا يقرّون بالبعث ، ثمّ نسخ قوله تعالى بعد ذلك تعرّض المشركين بقوله تعالى :

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٤٣ تقديم وتأخير في صدر البيت وعجزه.

(٢) أخرجه مختصرا الطبري في جامع البيان : النص (٨٦١٢) عن السدي. وفي أسباب النزول للواحدي : ص ١٢٥ ـ ١٢٦. وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ٦ ص ٤٣.

٣٤٤

(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١) كافّة ، وبقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)(٢)). وقرأ الأعمش (ولا آمّين) أي البيت الحرام بالإضافة.

قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) ؛ أي لا يحملنّكم ويكسبنّكم بغض قوم وعداوتهم بأن صرفوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام على أن تظلموهم ، وتتجاوزوا الحدّ للمكافأة. وموضع : (أَنْ تَعْتَدُوا) نصب لأنه مفعول ، و (أَنْ صَدُّوكُمْ) مفعول له ، كأنه قال : لا يكسبنّكم بغض قوم الإعتداء عليهم بصدّهم إيّاكم.

قرأ أهل المدينة إلّا قالون ابن عامر والأعمش : (شَنَآنُ) بجزم النّون الأولى. وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان ؛ إلّا أنّ الفتح أجود لأنه أفهم اللّغتين ، ولأنّ المصادر أكثر ما تجيء على (فعلان) مثل النّفيان (٣) والرّتقان (٤) والعسلان (٥) ونحو ذلك (٦).

قال ابن عبّاس : (معنى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي ولا يحملنّكم) (٧). وقال الفرّاء : (ولا يكسبنّكم) ، قال : (يقال : فلان جريمة أهله ؛ أي كاسبهم). قوله تعالى : (أَنْ صَدُّوكُمْ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الألف على الاستئناف والجزاء ، وقرأ الباقون بالفتح ؛ أي لئن صدّوكم ، والفتح أجود ؛ لأن الصدّ كان واقعا من الكفّار يوم الحديبية قبل نزول هذه السورة.

__________________

(١) التوبة / ٥.

(٢) التوبة / ٢٨.

(٣) النّفيان : نفيان السّيل : ما فاض من مجتمعه ، كأنه يجتمع في الأنهار الإخاذات ، ثم يفيض إذا ملأها ، فذلك نفيانه.

(٤) الرّثق : إلحام الفتق وإصلاحه ، والرّتقان : ثوبان يرتقان بحواشيهما.

(٥) العسلان : الناقة السريعة ، أو المشي الخبب ، ومشي الذئب واهتزاز الرمح.

(٦) في الحجة للقراءات السبعة : ج ٢ ص ١٠٥ ؛ قال أبو علي الفارسي : «أما الشّنآن ، فإن فعلانا يجيء على ضربين : أحدهما اسم ، والآخر : وصف. والاسم على ضربين : أحدهما أن يكون مصدرا كالنّقزان ، والنّفيان .. وعامة ذلك يكون معناه التحرك والتقلّب ، فالشّنآن على ما جاءت به هذه المصادر. والاسم الذي ليس بمصدر نحو : الورشان والعلجان. وأما مجيء فعلان وصفا فنحو : الزّفيان والقطوان».

(٧) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٤٨).

٣٤٥

قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) ؛ أي تحاثّوا على الطّاعة وترك المعصية ، قال أبو العالية : (البرّ : ما أمرت به ، والتّقوى : ترك ما نهيت عنه) (١). وظاهر الأمر يقتضي وجوب المعاونة على الطّاعة ، وظاهر الأمر على الوجوب.

قوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) ؛ أي لا يعن بعضكم بعضا على شيء من المعاصي والظّلم ، وقال بعضهم : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإثم والبرّ ؛ فقال : [البرّ : حسن الخلق ، والإثم : ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطّلع عليه النّاس](٢). قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) ؛ أي اخشوه وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) إذا عاقب ، فعقابه شديد.

قوله عزوجل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ؛ الميتة : اسم لكلّ ذي روح فارقه روحه حتف أنفه ، والمراد بالدّم : الدّم المسفوح ، وحرّم عليكم لحم الخنزير لعينه لا لكونه ميتة حتى لا يحلّ تناوله مع وجود الذكاة فيه. وفائدة تخصيص لحم الخنزير بالذّكر دون لحم الكلب وسائر السّباع : أنّ كثيرا من الكفّار ألفوا لحم الخنزير ، واعتادوا أكله وأولعوا به ما لم يعتادوا به أكل غيره.

فائدته : أنّ مطلق لفظ التحريم يدلّ على نجاسة عينه مع حرمة أكله ، ولحم الخنزير مختص بهذا الحكم ؛ وذلك : أنّ سائر الحيوانات المحرّم أكلها إذا ذبحت كان لحمها طاهرا لا يفسد الماء إذا وقع فيه ، وإن لم يحلّ أكله بخلاف لحم الخنزير.

قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي وحرّم عليكم ما ذكر عليه عند الذبح اسم غير الله ، وذلك أنّهم كانوا يذبحون لأصنامهم يتقرّبون بذبحها إليهم ، فحرّم الله كلّ ذبيحة يتقرّب بذبحها إلى غير الله تعالى ، ولذلك قال الفقهاء : إنّ الذابح لو سمّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الله تعالى فقال : بسم الله ومحمّد ؛ حرمت الذبيحة (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٤٧).

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب البر : باب تفسير البر والإثم : الحديث (١٤ / ٢٥٥٣) عن النواس بن سمعان الأنصاري.

(٣) أدرج الناسخ قوله : «قال في تفسير عبد الصّمد ، وذكر الإمام أبو عاصم العامريّ محمد بن

٣٤٦

قوله تعالى : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ) ؛ أي حرّم عليكم أكل لحم المنخنقة ؛ وهي التي تنخنق بحبل أو شبكة فتموت من غير ذكاة ، وأمّا الموقوذة ؛ فهي المضروبة بالخشب حتّى تموت ، قوله تعالى : (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) هي التي تتردّى من جبل أو سطح أو في بئر فتموت قبل الذكاة. والتّردّي : هو السّقوط ، مأخوذ من الرّداء وهو الهلاك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعديّ بن حاتم : [إذا تردّت رميتك من جبل فوقعت في ماء فلا تأكل ؛ فإنّك لا تدري أسهمك قتلها أم الماء](١).

فصار هذا الكلام أصلا في كلّ موضع اجتمع فيه معنيان : أحدها حاظر ، والآخر مبيح فأنّه تغلب جهة الحظر ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبينهما أمور مشبّهة ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه](٢) وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : (كنّا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الرّبا) (٣).

__________________

ـ أحمد عن أصحابنا : (أنّ سلطانا لو دخل بلدا فذبح النّاس الذبائح تقرّبا إليه بذبحها وإراقة دمها ؛ لم يحلّ تناول شيء منها ؛ لأنّه قد أهلّ بها لغير الله وتقرّب بذبحها إلى غير الله). وكان يفرّق بين هذا وبين ما يذبحه الرجل لضيفه بمعنى : أنّ صاحب الضيف إنّما يتقرّب إلى ضيفه باللّحم دون إراقة الدم ، ألا ترى أنه لو ذبح الشاة باسمه ونسبه ولم يقرّبها إليه لم يكن تقريبا إليه.

فأمّا ما يذبح لأجل الأمراء عند دخولهم البلاد ، إنّما يتقرّبون إليهم بالذبح وإراقة الدّم دون اللّحم ، فإنّ اللحم لا يحمل إليهم ولا يرجع إليهم شيء من منافعه ، فلذلك افترقا. وكان يحكى عن بعض المشايخ : أن هذه المسألة وقعت ببعض بلاد ما وراء النّهر ؛ فاختلف فيها فقهاؤها ؛ فكتبوا إلى أئمّة بخارى ؛ فأفتوا بتحريمها».

ويلاحظ أن أسلوب المفسر في عبارته يختلف عن أسلوب المصنف رحمه‌الله ، فضلا عن وضوح الإدراج في السياق.

(١) أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الصيد : باب الصيد بالكلاب المعلمة : الحديث (٧ / ١٩٢٩).

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الإيمان : باب فضل من استبرأ لدينه : الحديث (٥٢ و٢٠٥١). ومسلم في الصحيح : المساقاة : باب أخذ الحلال وترك الشبهات : الحديث (١٠٧ / ١٥٩٩).

(٣) أخرجه عبد الرزاق في المصنف : البيوع : باب طعام الأمراء وأكل الربا : النص (١٤٦٨٣): «عن الشعبي قال : قال عمر : ... وذكره».

٣٤٧

قوله عزوجل : (وَالنَّطِيحَةُ) ؛ هي التي تنطح حتى تموت ، وإذا تناطحت الحيوانات فقتل بعضها بعضا في النّطاح فهي حرام بالآية ، قال ابن عبّاس : (كان أهل الجاهليّة يخنقون الشّاة حتّى إذا ماتت أكلوها وكذلك الموقوذة) (١) ، قال قتادة : (كان أهل الجاهليّة يضربون الشّاة بالبعض حتّى إذا ماتت أكلوها) (٢) ، يقال منه : وقده يقده إذا ضربه حتى أشفا على الهلاك. قال الفرزدق :

شغّارة تقذ الفصيل برجلها

فطّارة لقوادم الأبكار (٣)

قوله تعالى : (النَّطِيحَةُ) إنّما دخلت الهاء فيها وإن كان الفعل بمعنى المفعول يسوّى فيه المذكّر والمؤنّث كقولهم : لحية دهين وعين كحيل وكفّ خضيب ؛ لأنّ النطيحة لم يتقدّمها اسم ، فلو أسقطت الهاء منها لم يدر أهي مذكّر أم مؤنث ، فنظير ذلك لو قيل : شاة نطيح لم تذكّر الهاء المذكّر الشاة (٤).

قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) ، وقرأ ابن أبي زائدة : (وأكيلة السّبع). وقرأ الحسن وطلحة : (السّبع) بسكون الباء وهي لغة في السّبع ، ومعنى قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) هو فريسته.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٥٢).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٥٥).

(٣) الشغّارة : الناقة ترفع رجلها ضاربة الفصيل لتمنعه من الرضاع عند الحلب. يقال : شغر الكلب : إذا رفع رجله ليبول ، وهو منصوب على الذمّ. وتقذّ والوقذ : أشدّ الضرب. والموقوذة : التي أنهكت ضربا بالخشب حتى تموت.

والفطّارة : الحاذقة بحلب الفطر ، وهو الحلب بأطراف الأصابع ، والحلب بالسبّابة والوسطى ويستعين بطرف الإبهام. والفطر والفطر : خلاف الضبّ ؛ وضبّ الناقة يضبّها : جمع خلفيها في كفّه للحلب ، وهو الحلب بالكفّ كلها. وقيل : هذا هو الضّفّ. وقوادمها : أخلافها ، وهما القادمان ، وجمعه قوادم. والأبكار تحلب فطرا ؛ لأنه لا يستمكن أن يحلبها ضبّا لقصر الخلف لأنها صغار.

(٤) لكن ذكر الهاء ها هنا (النطيحة) ؛ لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به ، فيقال : شاة نطيح وامرأة قتيل. فإن لم تذكر الموصوف فتقول : رأيت قتيلة بني فلان ، وهذه نطيحة الغنم ، وإلا لم يتميز أذكر أم أنثى. ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٤٩.

٣٤٨

قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ؛ أي إلّا ما ذكرتم ذكاته مما أكل منه السّبع فذكّيتم ، فإنّ ذلك يحلّ لكم ، أو ما أبين من الصّيد قبل الذكاة فهو ميّت ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) راجعا إلى المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع ، فإنّها كلّها في الحكم بمعنى واحد. وعن الحسن أنه كان يقول في هذه الجملة : (إذا طرفت بعينها ؛ أو وكصت برجلها ؛ أو حرّكت بدنها فذكّها وكل) (١). وشرط أكثر العلماء في إباحة أكلها بالذكاة : أن تكون حياتها وقت الذكاة أكثر من حياة المذبوح ، فإن كانت بهذه الصّفة أثّرت الذكاة في إباحتها وإلّا فلا.

والتّذكية : تمام فري الأوداج وإنهار الدّم ، ومنه الذكاء في الفم إذا كان تامّ العقل ، وذكّيت النّار إذا أتممت إشعالها.

قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ؛ أي وحرّم عليكم ما ذبح على النّصب ، هي جمع النّصب ، والنّصاب : وهي الحجارة ، كانوا ينصبونها فيعبدونها من دون الله تعالى ويقرّبون لها الذبائح ، والفرق بين النّصب والأصنام : أنّ الصنم اسم لما كان على صورة الإنسان ، والنّصب ما لا نقش له ولا صورة ولكنه يعبد. والوثن ما كان منقوشا ، والحائط لا شخص له. وقيل : النّصب واحد وجمعه أنصاب ، مثل عنق وأعناق.

وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف : (على النّصب) بجزم الصاد ، وقرأ الجحدريّ : بفتح النون والصاد ؛ جعله اسما موحدا كالجبل والجمل ، والجمع الأنصاب كالأجبال والأجمال ، وكلّها لغات وهي الشيء المنصّب ، ومنه قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)(٢).

واختلفوا في معنى النّصب ها هنا ؛ قال ابن جريج ومجاهد وقتادة : (كان حول البيت ثلاثمائة وستّون حجرا ، وكان أهل الجاهليّة يذبحون عليها ، ويشرّحون اللّحم عليها ، وكانوا يعظّمونها ويعبدونها ويذبحون لها ، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا رأوا حجارة

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٧٣) عن ابن عباس ، والنص (٨٦٧٤) عن الحسن.

(٢) المعارج / ٤٣.

٣٤٩

هي أعجب إليهم منها). وقالوا : (ليست أصناما إنّما الصّنم ما ينقش). وقال آخرون : النّصب هي الأصنام المنصوبة. قال الأعشى :

وذا النّصب المنصوب لا تنسكنّه

ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا

قال قطرب : (معنى الآية : وما يذبح للنّصب ؛ أي لأجلها ، واللّام و (على) يتعاقبان في الكلام ، قال الله تعالى : (فَسَلامٌ لَكَ)(١) أي عليك ، وقال تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها)(٢) أي فعليها). وقال بعضهم : معناه : وما ذبح على اسم النّصب.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) ؛ وهي القداح ؛ أي حرّم عليكم الاستقسام ؛ وهو طلب القسم بالأزلام ؛ وهي القداح الّتي كانوا يجلبونها عند العزم على الميسر ويقتسمون بها لحم الجزور على ما تقدم ذكره في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)(٣).

وقال الحسن : (كانوا يتّخذون السّهام ؛ فإذا أراد الرّجل أن يخرج إلى سفر أو تجارة أو سروح ؛ أجال السّهام بيده ، وكان مكتوبا على بعضها : أمرني ربي ، وعلى بعضها : نهاني ربي ، فإن خرج الّذي عليه : أمرني ربي ؛ قال : قد أمرت بالخروج ولا بدّ لي من ذلك ؛ فيخرج ، وإن كره الخروج خرج غير بعيد ثمّ رجع ، ولا يدخل من باب بيته ، ولكن ينقب ظهر بيته منه يدخل

ومنه يخرج إلى أن يتّفق له الخروج. وإن خرج الّذي عليه : نهاني ربي ، قال : قد نهيت عن الخروج ، ولا يسعني. فنهى الله تعالى عن ذلك) (٤).

فعلى هذا لا يجوز أن يكون معنى الاستقسام طلبهم في الخروج والجلوس ، والخروج في قسم الرّزق والحوائج ، وظاهر هذه الآية يقتضي أنّ العمل على قول المنجّمين : لا تخرج من أجل نجم كذا ؛ واخرج من أجل نجم كذا ؛ فسق لأنّ ذلك دخول في علم الغيب ، ولا يعلم الغيب إلّا الله.

__________________

(١) الواقعة / ٩١.

(٢) الاسراء / ٧.

(٣) البقرة / ٢١٩.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٦٩٣).

٣٥٠

ومعنى الفسق : الخروج من الطاعة ؛ وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) ؛ إشارة إلى ما تقدّم ذكره من المعاصي والحرام. قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا) في موضع رفع ؛ أي وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والأزلام : هي القداح الّتي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها زلم ، مثل عمر وزفر ، وقيل : زلم مثل قلم. وقال ابن جبير : (هي حصى بيضاء كانوا يضربون بها).

قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ؛ قال ابن عبّاس : (نزلت هذه الآية يوم دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة ومعه المسلمون وهو يوم الفتح ، يئس الكفّار يومئذ من رجوع المسلمين إلى دينهم بما ظهر من علوّ الإسلام والمسلمين على سائر الأديان). وقال بعضهم : أراد به يوم حجّة الوداع ، وقال الحسن : (أراد باليوم جميع زمان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره ، كما يقال : كانت حادثة كذا في يوم فلان ، يراد به عصره).

وقوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) ؛ أي ليكن خوفكم لله وحده ؛ فقد أمنتم ، وحوّل الله الخوف الذي كان يلحقكم إليهم بإظهار الإسلام. وقيل : معناه : لا تخشوهم بإظهار تحريم ما كانوا يبيحونه ، وأسرعوا في ترك إظهار المحرّمات.

قوله عزوجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ؛ قال ابن عبّاس : (نزلت هذه الآية على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو واقف بعرفة يوم عرفة ؛ والنّاس وقوف رافعون أيديهم بالدّعاء ، فبركت ناقة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثقل هذه الآية بعد أن كاد عضدها يندقّ ، ولم ينزل بعدها آية حلال ولا حرام ، وعاش النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها واحدا وثمانين يوما ، ثمّ قبضه الله تعالى إلى رحمته) (١).

قال طارق بن شهاب : (جاء يهوديّ إلى عمر رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين! آية تقرأونها لو أنزلت علينا لاتّخذنا يوم نزولها عيدا ، فقال : وأيّ آية؟ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية ، قال عمر : هل علمت في أيّ يوم نزلت وفي أيّ مكان نزلت؟ إنّها نزلت يوم الجمعة يوم عرفة ونحن مع رسول الله

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٨٧١٠) عن السدي عن أسماء بنت عميس.

٣٥١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو واقف ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد ، ولا يزال ذلك اليوم عيدا) (١). قال ابن عبّاس : (إنّها نزلت في يوم عيدين : يوم جمعة ويوم عرفة) (٢).

روي عن عمر رضي الله عنه أنّه بكى يوم نزلت هذه الآية ، فقال له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما يبكيك يا عمر؟!] قال : أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا ، فأمّا إذا أكمل ، فإنّه لا يكمل شيء إلّا نقص ، قال : [صدقت](٣).

واختلفوا في معنى الآية ؛ قال بعضهم : معناها : اليوم أكملت لكم شرائع دينكم من الفرائض والسّنن والأحكام والحدود والحلال والحرام ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض ، وثبت لكم جميع ما كنت أريد أن أبيّنه لكم في الأزل ، فأمّا دين الله فلم يزل كاملا لا ينقص فيه ، وهذا قول ابن عبّاس والسّدّيّ. وقال قتادة وسعيد : (معناه : أكملت لكم دينكم ؛ فلم يحجّ معكم مشرك). ويحتمل أن يكون المراد بالأكمل للدين أظهره على سائر الأديان بالنّصرة والغلبة ، و (اليوم) نصب على الظّرف ، كما يقال : الآن ، وفي هذا الزّمان.

قوله تعالى : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي أتممت عليكم منّتي بإظهار الدّين حتى لم يحجّ معكم مشرك ، وقيل : نعمة الله بيان فرائضه ، وقيل : هي إيجاب الجنّة ، وقيل : معناه : وأنجزت لكم وعدي في قولي : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)(٤) ، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكّة آمنين وعليها ظاهرين ، وحجّوا مطمئنّين ، ولم يخالطهم أحد من المشركين.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الإيمان : باب زيادة الإيمان ونقصانه : الحديث (٤٥) ، وكتاب المغازي : باب حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحديث (٤٤٠٧). ومسلم في الصحيح : كتاب التفسير : الحديث (٣ و٤ و٥ / ٣٠١٧).

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٢ ص ١٤٣ : الحديث (١٢٨٣٥). والترمذي في الجامع : كتاب التفسير : الحديث (٣٠٤٤) ، وقال : حديث حسن غريب.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٨٧١٢) مرسلا. وفي الدر المنثور : ج ٣ ص ١٨ ؛ قال السيوطي : «أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير».

(٤) البقرة / ١٥٠.

٣٥٢

قوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي اخترت لكم الإسلام من الأديان كلّها دينا ، فمن دان بالإسلام ، فقد استحقّ ثوابي ورضاي.

والدّين : اسم لجميع ما يعبد الله به خلقه ، وأمرهم بالإقامة عليه ، وهو الذي أمروا أن يكون ذلك عادتهم والذي به يجزون ، فإن الدّين في اللغة : العادة ، والدّين الجزاء.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣) ؛ أي من دعته الضرورة إلى أكل شيء ممّا حرّم الله عليه في مجاعة غير مائل إلى إثم ؛ أي زائد على ما يسدّ به رمقه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أباح ذلك رحمة منه وتسهيلا على خلقه. والمخمصة : مأخوذة من المخص وهو شدّة ضمور البطن ، والمتجانف من الجنف وهو الميل.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) ؛ قال ابن عبّاس : (لمّا نزل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) جاء عديّ بن حاتم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ لنا كلابا نتصيّد بها فتأخذ البقر والظّباء والحمر ، فمنها ما ندرك ذكاته ، ومنها ما لا ندرك ، وقد حرّم الله الميتة. فأنزل الله هذه الآية).

ومعناها : يسألونك يا محمّد : أيّ شيء أحلّ لهم من الصّيد وغيره؟ قل أحلّ لكم المباحات. يقال : هذا يطيب لفلان ؛ أي يحلّ ، قال الله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(١) أي ما حلّ لكم. وكلّ شيء لم يأت تحريمه في كتاب أو سنّة فهو من الطّيّبات. وقال بعضهم : أراد بالطيّبات المستلذات والمشتهيات ، وهو عامّ أريد به غير ما تضمّنته الآية المتقدّمة.

قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) أي وأحلّ صيد ما علّمتم ، فحذف ذكر الصّيد لأنّ في الكلام دليلا عليه ، والجوارح : هي الكواسب من الفهد ؛ والصّقر ؛ والباز ؛ والعقاب ؛ والنّسر ؛ والباشق ؛ والشّاهين وسائر ما يصطاد به الصيد.

__________________

(١) النساء / ٣.

٣٥٣

قال الله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)(١) أي كسبتم ، وقيل : معنى الجوارح : الجارحات بناب أو مخلب. قوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) حال للمعلّمين ؛ أي في حال إغرائهم الكلب على الصّيد ، والتّكليب : إغراء السّبع على الصّيد وإرساله.

ومن قرأ (مكلّبين) بفتح اللّام فهو حال من الكواسب المعلّمين. وقرأ ابن مسعود والحسن : (مكلبين) بإسكان الكاف وتخفيف اللام ، فعلى هذا المعنى يجوز أن يكون من قولهم : أكلب الرّجل إذا كثرت كلابه ، وأمشى إذا كثرت ماشيته ، ولذلك ذكر الكلاب ؛ لأنّها أعمّ وأكثر ، والمراد به جميع الجوارح.

قوله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) ؛ أي تؤدّبوهنّ أن يمسكن الصّيد عليكم كما أدّبكم الله تعالى ، (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) ؛ أي على الإرسال ، كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال لعديّ بن حاتم : [إذا أرسلت كلبك المعلّم ، وسمّيت الله تعالى فكل ، وإن أكل منه فلا تأكل ، فإنّه إنّما أمسك على نفسه](٢). وفي بعض الرّوايات : [وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل ، فإنّك إنّما سمّيت على كلبك ، ولم تسمّ على كلب غيرك](٣).

وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ معنى الإمساك في هذه الآية أن يحفظ الكلب الصّيد حتّى يجيء صاحبه ، فإن تركه حتى غاب عن صاحبه ثم وجده صاحبه بعد ذلك ميتا لم يحلّ أكله. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كل ما أصميت ، ودع ما أنميت](٤) ، قيل : الإصماء : ما رأيت ؛ والإنماء ما توارى عنك.

__________________

(١) الأنعام / ٦٠.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الذبائح والصيد : باب صيد المقراض : الحديث (٥٤٧٦). ومسلم في الصحيح : كتاب الصيد والذبائح : باب الصيد بالكلاب المعلمة : الحديث (١ ـ ٧ / ١٩٢٩).

(٣) ينظر الهامش السابق.

(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٢ ص ٢٢ : الحديث (١٢٣٧٠). وفي المعجم الأوسط : الحديث (٥٥٣٩). وفي مجمع الزوائد : ج ٤ ص ١٦٢ : كتاب البيوع : باب تصرف العبد ؛ قال الهيثمي : «رواه الطبراني في الأوسط وفيه عباد بن زياد ، وثقه أبو حاتم وغيره ، وضعفه موسى ابن هارون وغيره».

٣٥٤

واختلف أهل العلم في حدّ التعليم ؛ قال أبو حنيفة رحمه‌الله : (ليس فيه حدّ مؤقّت ، وإنّما يرجع فيه إلى أهل الصّنعة ، فإن حكموا بتعليمه حلّ صيده بعد ذلك وإلّا فلا ؛ لأنّ الاصطياد للكلاب بمنزلة الحرف والصّناعات للنّاس ، وليس في معرفة كون الإنسان عالما بصنعته متقدّما على حرفته حدّ يؤمن عليه ، ولكن يرجع في كلّ إلى أهلها).

وقال أبو يوسف ومحمّد وكثير من الفقهاء : (إذا دعي الكلب ثلاث مرّات على الولاء فأجاب ؛ وأرسل فاسترسل ، وأخذ الصّيد ولم يأكل ، حكمنا بكونه معلّما ؛ لأنّ التّعليم لا يحصل بالمرّة الواحدة ، ويحصل بالمرّات الكثيرة ، فجعل الحدّ الفاصل بين القليل والكثير بالثّلاث الّتي هي أقل الجمع الصّحيح).

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤) ؛ قد تقدّم تفسيره ، وروى أبو رافع قال : (جاء جبريل عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذن ؛ فأذن له فلم يدخل ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رداءه وخرج إليه فقال له : [قد أذنّا لك يا رسول الله!] قال : أجل ؛ ولكنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو) (١).

وعن عليّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب](٢) قال أبو رافع : (فأمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا أدع كلبا في

__________________

(١) في مجمع الزوائد : ج ٤ ص ٤٢ ـ ٤٣ : كتاب الصيد والذبائح : باب ما جاء في الكلاب ؛ قال الهيثمي : «رواه الطبراني في الكبير وفيه موسى بن عبيدة الربذي ، وهو ضعيف». وفي مصنف ابن أبي شيبة : كتاب اللباس والزينة : باب في الصور والبيت : الحديث (٢٥١٨٥) عن سلمى (أم رافع) مختصرا. وفي أسباب النزول : ص ١٢٧ ؛ قال الواحدي : «رواه الحاكم في صحيحه ، وذكر المفسرون شرح هذه القصة». وأسنده عن أم رافع وأبي رافع. وفي لباب النقول : ص ٨٧ ؛ قال السيوطي : «رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع».

(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٨٣ و١٠٤ و١٣٩ و١٥٠. وأبو داود في السنن : كتاب الطهارة : باب في الجنب يؤمر بالغسل : الحديث (٢٢٧) ، وكتاب اللباس : باب في الصور : الحديث (٤١٥٢). والنسائي في السنن الصغرى : كتاب الطهارة : باب في الجنب إذا لم يتوضأ : ج ١ ص ١٤١ ، وكتاب الصيد والذبائح : ج ٧ ص ١٨٥. عن عبد الله بن نجي عن أبيه ، من أصحاب علي رضي الله عنه.

٣٥٥

المدينة إلّا قتلته ، فقتلت حتّى بلغت العوالي ، فانتهيت إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس غنمها فرحمته ؛ ثمّ أتيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بأمره فأمرني بقتله ، فرجعت إلى الكلب فقتلته) (١). وقال ابن عمر رضي الله عنهما : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رافعا صوته يقول : [اقتلوا الكلب](٢).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا يحلّ ثمن الكلب ، ولا حلوان الكاهن ، ولا مهر البغيّ] ونهى عن اقتنائها وإمساكها ، وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرّات إحداهنّ بالتّراب (٣). قال : (أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الكلب ، فجاء أناس فقالوا : يا رسول الله! ما يحلّ لنا من هذه الأمّة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية) (٤) فلمّا نزلت أذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها ، ونهى عن اقتناء ما لا ينتفع بها ، وأمر بقتل الكلب العقور ، وما يضرّ ويؤذي ، ورفع القتل عمّا سواها ممّا لا ضرر فيه.

وعن عبد الله بن المغفل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لو لا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها الأسود البهيم ، وأيّما قوم اتّخذوا كلبا ليس بكلب صيد أو حرث أو ماشية ، فإنّه ينقص من أجورهم كلّ يوم قيراط](٥). وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض ،

__________________

(١) في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : ج ٤ ص ٤٢ ؛ قال الهيثمي : «رواه البزار وأحمد بأسانيد ، رجال بعضها رجال الصحيح. ورواه الطبراني في الكبير أيضا».

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٧ ص ١٧٤ : الحديث (٦٣٢٢).

(٣) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب البيوع : باب في أثمان الكلاب : الحديث (٣٤٨٤). والنسائي في السنن : كتاب الصيد : باب النهي عن ثمن الكلب : ج ٧ ص ١٩٠.

(٤) في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : ج ٤ ص ٤٣ ؛ قال الهيثمي : «رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح ، خلا سعيد بن بحر شيخ البزار ، لم أجد من ترجمه».

(٥) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب الصيد : باب في اتخاذ الكلب للصيد : الحديث (٢٨٤٥). والنسائي في السنن الصغرى : كتاب الصيد : باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها : ج ٧ ص ١٨٥. وابن حبان في الإحسان : كتاب الحظر والإباحة : الحديث (٥٦٥٧) وإسناده صحيح.

٣٥٦

فإنّه ينقص من أجره كلّ يوم قيراطان](١). والحكمة في ذلك : أنه ينبح على الضّيف ويروّع السائل.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ؛ أي الآن تمّم الله لكم بيان الحلالات ؛ وهو كلّ ما لم يجر ذكره في المحرّمات. قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ؛ أي ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم.

والدليل على أنّ المراد بالطعام ها هنا الذبائح : أنّ ما سوى الذبائح من الأطعمة والأشربة حلال للمسلمين ؛ سواء كانت لأهل الكتاب أو لغيرهم ، فبان المراد به الذبائح ؛ لأنّ ذبائح غير أهل الكتاب من الكفّار حرام على المسلمين. قوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) ؛ أي ذبائحكم حلال لهم ؛ أي رخّص لكم في أن تطعموهم ذلك.

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ؛ قال الحسن : (أراد بالمحصنات ها هنا الحرائر من المؤمنات والكتابيّات). وقال ابن عبّاس : (أراد به الحرائر العفائف منهنّ).

وتقدير الآية : وأحلّ لكم نكاح المحصنات من المؤمنات والكتابيّات ، وقد استدلّ بعض الفقهاء بظاهر هذه الآية : على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابيّة ، والصحيح : أنه يجوز بظاهر قوله تعالى : (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ)(٢) بدليل حلّ ذبائحهن.

وإنّما خصّ المحصنات بإباحة نكاحهنّ مع جواز نكاح غيرهن ؛ لأنّ الآية خرجت مخرج الامتنان والمنّة في نكاح الحرائر العفائف أعظم وأتمّ ، يدلّ على ذلك : أنه لا خلاف في جواز النكاح بين المسلم والأمة المؤمنة ، وإن كان في الآية تخصيص المحصنات من المؤمنات ، والأفضل لمن أراد النكاح أن لا يعدل عن نكاح الحرائر

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الحرث والمزارعة : باب اقتناء الكلب للحرث : الحديث (٢٣٢٢) بلفظ : [من أمسك]. وأخرجه أحمد في المسند : ج ٢ ص ٣٤٥. والنسائي في السنن الصغرى : كتاب الصيد : باب الرخصة في إمساك الكلب : ج ٧ ص ١٨٩ بلفظ : [من اقتنى].

(٢) النساء / ٢٥.

٣٥٧

الكتابيّات مع القدرة عليهنّ ؛ وذلك لأنّ نكاح الأمة يؤدّي إلى إرقاق الولد ؛ لأنّ الولد يتبع الأمة في الرّقّ والحريّة ، ولا ينبغي لأحد أن يختار رقّ ولده ، كما لا ينبغي أن يختار رقّ نفسه.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) ؛ أي ناكحين غير زانين معلنين بالزّنا ، ولا متّخذي صديقات للزّنا سرّا. قال الحسن : (كان بعض الجاهليّة تسافح وتزني بكلّ من وجد من النّساء ، وبعضهم يتّخذ خليلة يزني بها سرّا ويتجنّب الزّنا علانية ، فبيّن الله تعالى بهذه الآية حرمة الزّنا سرّا وعلانية).

قوله عزوجل : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥) ؛ قال ابن عبّاس : (لمّا رخّص الله للمسلمين في نكاح الكتابيّات ؛ قال أهل الكتاب : لو لا أنّ الله رضي أعمالنا لم يحلّ للمسلمين تزويج نسائنا. وقال المسلمون : كيف يتزوّج الرّجل الكتابيّة وهي كافرة؟ فأنزل (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) من المغبونين ، غبن نفسه وفسق وصار إلى النّار ، لا يغني عن المرأة الكتابيّة إسلام زوجها ولا ينفعها ذلك ، ولا يضرّ المسلم كفر زوجته الكتابيّة).

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ؛ قال ابن عبّاس وجماعة من المفسّرين : (معناه : إذا أردتم القيام إلى الصّلاة ، وإنّما أضمروا إرادة القيام ؛ لأنّ صحّة قيام الصّلاة بالطّهارة فلا يصحّ جزء من القيام قبل تقدّم الطّهارة).

وظاهر الآية يقتضي أنّ القيام إلى الصلاة يكون سببا لوجوب الطّهارة ، ولا خلاف بين السّلف والخلف أنّ الطهارة لا تجب سبب القيام إلى الصّلاة ، إلّا أنه روي عن ابن عمر وعليّ رضي الله عنهما : (أنّهما كانا يتوضّأن عند كلّ صلاة ، ويقرآن هذه الآية). فيحتمل أنّهما كانا يفعلان ذلك ندبا واستحبابا ، فإن تجديد الطّهارة لكلّ صلاة مستحبّ. وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من توضّأ فهو على وضوء ما لم

٣٥٨

يحدث](١). وقال : [لا وضوء إلّا من حدث](٢). فثبت أن في الآية إضمار آخر تقديره : إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم ، وهذا نظير قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٣) معناه : فأفطر فعليه عدّة من أيّام أخر ، وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ)(٤) معناه فحلق فعليه فدية. وقال بعضهم : معنى الآية : إذا قمتم من نومكم إلى الصّلاة ، وقال : هذا على أنّ النوم في حالة الاضطجاع حدث.

قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الغسل : إجراء الماء على المحلّ وتسييله ، سواء وجد معه الدّلك أم لا ، والوجه : ما يواجهك من الإنسان ، وحدّه من قصاص الشّعر إلى أسفل الذقن ، ومن شحمتي الأذن إلى شحمتي الأذن. وظاهر الآية يقتضي أنّ المضمضة والاستنشاق غير واجبتين في الوضوء ؛ لأن اسم الوجه يتناول الظاهر دون الباطن.

قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) أي مع المرافق ، هكذا قال علماؤنا رحمهم‌الله تعالى ، إلّا زفر رحمه‌الله ؛ فإنه ذهب إلى ظاهر الآية وقال : (إنّ حرف (إلى) للغاية ، والغاية لا تدخل في الحكم كما في قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٥)). وأمّا عامّة العلماء فقالوا : إنّ (إلى) تذكر بمعنى (مع) كما قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ)(٦) ، فإذا احتمل اللفظ الغاية واحتمل معنى المقارنة حلّ

__________________

(١) الحديث بمعناه : عن أنس بن مالك قال : [كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضّأ لكلّ صلاة ، وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث]. رواه البخاري في الصحيح : كتاب الوضوء : باب الوضوء من غير حدث : الحديث (٢١٤). وأبو داود في السنن : كتاب الطهارة : باب الرجل يصلي بوضوء واحد : الحديث (١٧١) ، وغيرهم. واللفظ للدارمي كما في السنن : كتاب الطهارة : باب لا وضوء إلا من حدث : الحديث (٧٢٠).

(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٤١٠ و٤٢٥. وأخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (٦٩٢٥) عن أبي هريرة بلفظ : [إلّا من صوت أو ريح].

(٣) البقرة / ١٨٤.

(٤) البقرة / ١٩٦.

(٥) البقرة / ١٨٧.

(٦) النساء / ٢.

٣٥٩

محلّ المجمل ، فكان موقوفا على بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد روي : [أنّه كان إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه](١) ، فصار فعله بيانا للمجمل ، فحمل على الوجوب.

قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) اختلف العلماء في مقدار وجوب المسح منه ، فذهب مالك إلى أنّ مسح جميع الرأس واجب ، وقال : (ظاهر الآية يقتضي الجميع دون البعض ، لأنّك إذا قلت : مررت بزيد ؛ أردت جملته لا بعضه ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٢) والمراد كلّ البيت ، وكقوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)(٣)). وذهب الشافعيّ : إلى أنّ الواجب مقدار ما يتناوله الاسم ، ومن أصحابه من قدّره بثلاث شعرات. وهذا بعيد ؛ لأن فاعله لا يسمّى ماسحا رأسه ولا برأسه ، ولأنّ ذلك القدر يحصل بغسل الوجه ، وفعل ذلك أيضا متعسّر.

وقال أصحابنا في الاحتجاج على مالك بأنّ (الباء) تذكر ويراد بها التّبعيض ، كما تقول : أخذت برأس فلان ، ومسحت برأس اليتيم ، فاذا احتمل اللفظ التبعيض كان مجملا فوجب الرّجوع فيه إلى فعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد روي : [أنّه توضّأ ومسح على ناصيته](٤). والناصية : هي الرّبع المقدّم من الرّأس ، ومعلوم أنه كان لا يترك بعض الواجب ، فثبت أنّ الفرض مقدور على هذا المقدار ، إلّا أنّ الأفضل أن يمسح جميع الرأس ليخرج عن الفرض بيقين. وقد روي : [أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضّأ ومسح] [ومسح جميع رأسه](٥).

__________________

(١) عن جابر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى : كتاب الطهارة : باب إدخال المرفقين في الوضوء : الحديث (٢٥٦ و٢٥٧).

(٢) الحج / ٢٩.

(٣) النساء / ٤٣.

(٤) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى : كتاب الطهارة : باب إيجاب المسح بالرأس وإن كان مغنما : الحديث (٢٨٢) مرسلا ، والحديث (٢٨٩) عن بلال رضي الله عنه ؛ وقال : إسناده حسن. وأصله عند مسلم في الصحيح : كتاب الطهارة : باب المسح على الرأس والخفين : الحديث (٧٥ ـ ٨٠ / ٢٧٤) من حديث المغيرة بن شعبة ، وفيه : [مسح بناصيته].

(٥) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى : باب الاختيار في استيعاب الرأس بالمسح : الحديث (٢٧٠). وأصله عند مسلم في الصحيح.

٣٦٠