التفسير الكبير - ج ٢

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٢

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٤٧٩

وقال الضحّاك : (معنى الآية : يا أيّها الّذين آمنوا اصبروا على أمر الله). وقال الكلبيّ : (اصبروا على البلاد) ، وقالت الحكماء : الصّبر ثلاثة أشياء : ترك الشّكوى ؛ وصدق الرّضا ؛ وقبول القضاء. وقيل : الصّبر : هو الثّبات على أحكام الكتاب والسّنة.

قوله تعالى : (وَصابِرُوا) الكفّار (وَرابِطُوا) بمعنى داوموا وأثبتوا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من رابط يوما في سبيل الله كان كصيام شهر وقيامه ، ومن توفّي في سبيل الله أجرى الله له أجره حتّى يقضي بينه وبين أهل الجنّة وأهل النّار ، ومن رابط يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النّار سبعة خنادق ؛ كلّ خندق منها كسبع سموات وسبع أرضين](١).

قال بعضهم في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) عند قيام النّفير على احتمال الكرب ، (وَصابِرُوا) على مقاساة العناء والتّعب ، (وَرابِطُوا) في دار أعدائي بلا هرب ، واتقوا عدوّكم من الألتفات الى السّبب لكي تفلحوا غدا بلقائي عند بساط القرب. وقال السري السقطي : (اصبروا على الدّنيا رجاء السّلامة ، وصابروا عند القتال بالثّبات والاستقامة ، ورابطوا هوى النّفس اللّوّامة ، واتّقوا ما يعقب لكم النّدامة ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)) ؛ غدا على بساط الكرامة.

وقيل : معناه : اصبروا على بلائي ، وصابروا بالشّكر على نعمائي ، ورابطوا في دار أعدائي ، واتّقوا محبّة من سواي لعلّكم تفلحون بلقائي. وقيل : اصبروا على البغضاء ؛ وصابروا على البأساء والضرّاء ؛ ورابطوا في دار الأعداء ؛ واتّقوا إله الأرض والسّماء ؛ لعلّكم تفلحون في دار البقاء. وعن جعفر الصّادق قال : (معنى هذه الآية : اصبروا على المعاصي ؛ وصابروا مع الطّاعات ؛ ورابطوا الأرواح بالمساجد ، واتّقوا الله لكي تبلغوا مواقف أهل الصّدق ؛ فإنّها محلّ الفلاح). والله أعلم.

آخر تفسير سورة (آل عمران) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٥ ص ٤١٦ : الحديث (٤٨٢٢) عن جابر رضي الله عنه. وفي الدر المنثور : ج ٢ ص ٤١٩ ؛ قال السيوطي : «أخرجه الطبراني في الأوسط بسند لا بأس به».

١٨١

سورة النّساء

سورة النّساء مدنيّة (١) ؛ وهي ستّة عشر ألفا وثلاثون حرفا ، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة ، ومائة وستّ وسبعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) ؛ قال ابن عبّاس : (قد يكون (يا أَيُّهَا النَّاسُ) عامّا ؛ وقد يكون خاصّا لأهل مكّة ؛ وهو ها هنا عامّ لجميع النّاس ، ومعناه : أجيبوا ربّكم وأطيعوه). وقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم ، وإنّما أتت النفس لاعتبار اللفظ دون المعنى. قال الشاعر :

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

فقال : ولدته أخرى ؛ لأن لفظ الخليفة مؤنّث.

وإنّما منّ الله علينا بأن خلقنا من نفس واحدة ؛ لأن ذلك أقرب إلى أن يعطف بعض على بعض ، ويرحم بعضنا بعضا لرجوعنا في القرابة إلى أصل واحد.

قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) أي وخلق من نفس آدم زوجها حوّاء ؛ خلقها من ضلع من أضلاعه اليسرى وهي القصرى بعد ما ألقي عليه النوم فلم يؤذه ، ولو آذاه لما عطف عليها أبدا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن أردت

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٥ ص ١ ؛ قال القرطبي : «وهي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة ، وهي قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)».

١٨٢

أن تقيمها كسرتها ، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها على عوج](١).

قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ؛ أي بشرا وفرقا ، وأظهر من آدم وحوّاء خلقا كثيرا من الرّجال والنساء. قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) ؛ أي اتّقوا معاصي الله ، (الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي يتساءل بعضكم بعضا من الجوارح والحقوق ؛ يقول الرجل للرجل : أسألك بالله افعل لي كذا.

قرأ أهل الكوفة : (تساءلون) (٢) مخفّفا ، وقرأ الباقون بالتشديد. قوله تعالى : (وَالْأَرْحامَ) قرأ عامّة القرّاء بنصب (الْأَرْحامَ) على معنى : واتّقوا الأرحام أن تقطعوها.

وقرأ النخعيّ وقتادة والأعمش وحمزة بالخفض على معنى : وبالأرحام على معنى : تساءلون بالله وبالأرحام ؛ فيقول الرجل : أسألك بالله وبالرّحم. والقراءة الأولى أفصح ؛ لأن العرب لا تعطف بظاهر على مضمر مخفوض إلّا بإعادة الخافض ، لا يقولون : مررت به وزيد ، ويقولون : به وبزيد ، وقد جاء ذلك في الشّعر ، قال الشاعر (٣) :

قد كنت من قبل تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)) ؛ أي حفيظا لأعمالكم ، والرّقيب هو الحافظ ، وقال بعضهم : عليما ؛ والعليم والحافظ متهاديان ؛ لأن العليم بالشيء حافظ له.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الكبير : ج ٧ ص ٢٤٤ : الحديث (٦٩٩٢) عن سمرة. وابن حبان في الصحيح : كتاب النكاح : باب معاشرة الزوجين : الحديث (٤١٧٨) ، وإسناده صحيح ، وله طرق أخرى عن أبي هريرة.

(٢) الحجة للقراءات السبعة : ج ٣ ص ١١٨ ـ ١١٩.

(٣) للشاهد لفظ آخر في كتب اللغة والتفسير :

فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب

١٨٣

قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ؛ قال مقاتل والكلبيّ : (نزلت هذه الآية في رجل من غطفان ؛ كان في يده مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلمّا بلغ اليتيم طلب ماله ، فمنعه العمّ فترافعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً). فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الرّجل : أطعنا الله وأطعنا الرّسول ونعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع ماله إليه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من يوق شحّ نفسه ويطيع ربّه هكذا فإنّه يحلّ داره إلى جنّة] فلمّا قبض الصّبيّ ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ثبت الأجر وبقي الوزر] فقالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عرفنا أنّه ثبت الأجر ، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال : [ثبت الأجر للغلام ؛ وبقي الوزر على والده] لأنّ الوالد كان مشركا) (١).

وإنّما سمّى الله تعالى البالغ يتيما ، ولا يتم بعد البلوغ استصحابا بالاسم الأوّل ، كما قال تعالى : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ)(٢) ولا سحر مع السّجود ، ولأنه قريب عهد باليتم.

قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي لا تبذّروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموال اليتامى. قال سعيد بن المسيّب والنخعيّ والزهريّ والسدي والضحّاك : (كان أوصياء اليتامى وأولياؤهم يأخذون الجيّد من مال اليتيم ، ويجعلون مكانه الرّديء ، وربّما كان أحدهم يأخذ الشّاة السّمينة من مال اليتيم ، ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدّرهم الجيّد ويجعل مكانه الزّيف ويقول : درهم بدرهم ؛ فذلك تبديلهم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك) (٣).

وقال مجاهد : (معنى الآية : لا تجعل رزقك الحلال حراما ؛ تتعجّله بأن تستهلك مال اليتيم ، فتنفقه على نفسك ، وتحرّ فيه لنفسك وتعطيه غيره ، فيكون ما

__________________

(١) في أسباب النزول : ص ٩٤ ـ ٩٥ ؛ نقله الواحدي النيسابوري. والجامع لأحكام القرآن : ج ٥ ص ٨.

(٢) الاعراف / ١٢٠.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٧٣٠) عن السدي ، وفي النص (٦٧٢٧) عن النخعي ، وفي النص (٦٧٢٨) عن الزهري ، وفي النص (٦٧٢٩) عن الضحاك.

١٨٤

يأخذه من مال اليتيم حراما خبيثا ، وتعطيه مالك الحلال ، ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها) (١). وفي هذا دليل على أنه لا يجوز لوليّ اليتيم أن يستقرض مال اليتيم ولا أن يستبدله من نفسه ، وقيل : معنى (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي لا تجعل الزيف بدل الجيّد ؛ ولا المهزول بدل السّمين.

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ؛ كقوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)(٢) أي مع الله ، وقيل معناه : لا تأكلوا أموالهم مضيفين إلى أموالكم ؛ لأنّهم كانوا يخلطون أموال اليتامى بأموالهم حتى يصير دينا عليهم ، ثم كانوا يبيعونها مع أموالهم ويربحون عليها ويستبدّون بتلك الأرباح. قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)) ؛ أي إثما عظيما ، وفيه ثلاث لغات : قراءة العامّة : (حوبا) بالضمّ وهي قراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي لغة أهل الحجاز ، وقراءة الحسن (إنّه كان حوبا) بفتح الحاء وهي لغة تميم ، وقراءة أبيّ بن كعب : (حابا) على المصدر مثل القال ، ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد ، ويقال للذنب : حوب وحوب وحاب.

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ؛ قال ابن عبّاس : (لمّا نزل قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية ، خاف النّاس أن لا يعدلوا في أموال اليتامى ـ وكانوا يتزوّجون من النّساء ما شاءوا ـ فنزلت هذه الآية) (٣).

ومعناها : إن خفتم أن لا تعدلوا في أموال اليتامى ؛ فخافوا في النّساء إذا اجتمعن عندكم أن لا تعدلوا بينهنّ ، فتزوّجوا ما حلّ لكم من النّساء ، ولا تنكحوا إلّا ما يمكنكم إمساكهنّ : ثنتان ثنتان ؛ وثلاث ثلاث ؛ وأربع أربع ، ولا يزيدوا على أربع حرائر. وقيل : معنى الآية : إن خفتم أن لا تعدلوا يا معشر الأولياء في اليتامى إذا

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٧٣١).

(٢) آل عمران / ٥٢.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٧٤٨).

١٨٥

تزوجتم بهنّ ؛ فانكحوا ما حلّ لكم من النساء غيرهنّ. وقال مجاهد : (معناه : إن خفتم في ولاية اليتامى إيمانا وتصديقا ؛ فخافوا في الزّنا ، وانكحوا الطّيّب من النّساء) (١).

وقال بعضهم : كانوا يتحرّجون عن أموال اليتامى ، ويترخّصون في النساء ، ولا يعدلون فيهنّ ويتزوجون منهنّ ما شاءوا فربما عدلوا ، وربّما لم يعدلوا ، فلما سألوا عن أموال اليتامى ، أنزل الله تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ، وأنزل (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ، أي كما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى وهمّكم ذلك ؛ فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهنّ ؛ ولا تزوّجوا أكثر مما يمكنكم إمساكهنّ والقيام بحقّهنّ ؛ لأن النساء كاليتامى في الضّعف والعجز ، فما لكم تراقبون الله في شيء ، وتعصونه في مثله ، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحّاك والسديّ ، ورواية ابن عبّاس (٢).

والإقساط في اللغة : العدل ، يقال : أقسط ؛ إذا عدل ، وقسط ؛ إذا جار ، وإنّما قال : (ما طابَ) ولم يقل من طاب ؛ لأن (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر ، كأنه قال : فانكحوا الطيّب ، يعني الحلال من النساء. وقرأ ابن أبي عبلة : (من طاب) ؛ لأن (ما) لما لا يعقل و (من) لمن يعقل ، إلّا أنّ عامّة القرّاء والعلماء يقولون : إن العرب تجعل (ما) بمعنى (من) ؛ و (من) بمعنى (ما) ، وقد جاء القرآن بذلك : قال الله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها)(٣) ، وقال تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ)(٤) ، وقال تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)(٥).

قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) بدل من (طابَ لَكُمْ) وهو مما لا ينصرف ، لأن (مَثْنى) معدول عن اثنين وذلك نكرة ، و (ثُلاثَ) معدول عن ثلاثة.

وذهب بعض الرّوافض إلى استحلال تسع استدلالا بهذه الآية ، وليس ذلك بشيء ، فإنّ الواو هنا بمعنى (أو) ، وروي عن قيس بن الحارث : أنّه كان عنده ثماني نسوة ، فلمّا نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يمسك أربعا ويفارق أربعا ، وقال

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٧٥١) بإسنادين.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ص ٩٥.

(٣) الشمس / ٥.

(٤) النور / ٤٥.

(٥) الشعراء / ٢٣.

١٨٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة : [أمسك منهنّ أربعا ؛ وفارق سائرهنّ](١).

قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ؛ معناه : وإن خفتم أن لا تعدلوا في القسمة والنّفقة بين النساء الأربع التي أحلّ الله لكم ؛ فتزوّجوا امرأة واحدة لا تخافون الميل في أمرها ، واقتصروا على الإماء حتى لا تحتاجوا إلى القسم بينهنّ يعني السّراري. وقول الحسن وأبي جعفر : (فَواحِدَةً) بالرّفع ؛ أي فواحدة كافية ؛ أو فلتكن واحدة. وقرأ العامّة نصبا أي فانكحوا واحدة. قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ذكر الأيمان توكيدا ؛ تقديره : أو ما ملكتم.

قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣)) ؛ أي التّزوّج بالواحدة ، والإقتصار على ملك اليمين أقرب إلى أن لا تعولوا. قال : أن لا تجوروا وأن لا تميلوا : ألّا تجور. والعول : مجاوزة الحدّ ، ومنه العول في الفرائض : مجاوزة مخرج الفرائض. روت عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى (أَلَّا تَعُولُوا) قال : [ألّا تجوروا ، أو أن لا تميلوا](٢).

وأما من قال معنى : أن لا تعولوا : لا تكثر عيالك ، وهذا محكيّ عن الشّافعيّ رحمه‌الله ، فقد قيل : إنه خطأ في اللغة ؛ لأنه لا يقال في كثرة العيال : عال يعول ، وإنّما يقال : عال يعيل إذا صار ذا عيال (٣) ، وفي الآية ما يبطل هذا التأويل وهو قوله تعالى :

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٢ ص ٤٢٩ ؛ قال السيوطي : «أخرجه ابن أبي شيبة والنحاس في ناسخه».

(٢) في الدر المنثور : ج ٢ ص ٤٣٠ ؛ قال السيوطي : «أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه ، قال ابن أبي حاتم : قال أبي : هذا حديث خطأ : عن عائشة موقوف». وفي صحيح ابن حبان : كتاب النكاح : الحديث (٤٠٢٩).

(٣) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٥ ص ٢٢ ؛ قال القرطبي : «وقال أبو حاتم : كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ، ولعله لغة. قال الثعلبي المفسر : قال أستاذنا أبو القاسم حبيب بن القاسم : سألت أبا عمر الدّوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع مقال : هي لغة حمير وأنشد :

وإنّ الموت يأخذ كلّ حيّ

بلا شكّ وإن أمشى وعالا

يعني وإن كثرت ماشيته وعياله ... وقرأ طلحة بن مصرف : (ألّا تعيلوا) وهي حجة الشافعي رضي الله عنه».

١٨٧

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) لأن إباحة كلّ ما ملك اليمين أزيد في العيال من أربع نسوة. وقرأ طاووس : (أن لا يعيلوا) من العيلة ؛ يقال : عال الرّجل يعيل ؛ إذا افتقر ، والعيلة : الفقر. قال الشاعر (١) :

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغنيّ متى يعيل

قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ) ؛ قال الكلبيّ : (هذا خطاب للأولياء ، كان الوليّ إذا زوّج امرأة ، فإن كان زوجها معهم في العشيرة لم يعطها الوليّ من مهرها قليلا ولا كثيرا ، وإن كان زوجها غريبا حملوها على بعير إلى زوجها ، ولا يعطونها من مهرها غير ذلك البعير ، فنهاهم عن ذلك وأمرهم أن يعطوها الحقّ أهله) (٢). وقال مقاتل وأكثر أهل التّفسير : (هذا خطاب للأزواج ، كان الرّجل يتزوّج المرأة فلا يعطيها مهرها ، فأمروا أن يعطوا نساءهم مهورهنّ الّتي هي أثمان فروجهنّ) وهذا القول أصحّ وأوضح. والصّدقات : المهور ، واحده صدقة بضمّ الدال.

وقوله تعالى : (نِحْلَةً) قال قتادة : (فريضة واجبة) ، وقال ابن جريج : (فريضة مسمّاة) ، وقال الكلبيّ : (عطيّة وهبة) ، وقال أبو عبيدة : (عن طيب نفس) ، قال الزجّاج : (تديّنا). وقيل : معناه : عطيّة من الله تعالى للنّساء حيث جعل المهر لهنّ ، ولم يوجب عليهنّ شيئا من القوم مع كون الاستمتاع مشتركا بينهنّ وبين الأزواج. وقيل معنى (نِحْلَةً) : ديانة ، فانتصب (نِحْلَةً) على المصدر ، وقيل : على التفسير.

وروي عن رسول الله أنه قال : [من ادّان دينا وهو ينوي أن لا يؤدّيه لقي الله سارقا ، ومن أصدق امرأة صداقا وهو ينوي أن لا يوفّيها لقي الله زانيا](٣) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) البيت لأحيحة بن الجلاح بن الحريش الأوسي (؟؟ ـ ١٢٩ ق. ه) ، شاعر جاهلي ، من دهاة العرب وشجعانهم.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ج ٥ ص ٢٣.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير : ج ٨ ص ٣٤ ـ ٣٥ : الحديث (٧٣٠١). والإمام أحمد في المسند : ج ٤ ص ٣٣٢. وابن ماجة في السنن : كتاب الصدقات : باب من ادّان دينا ولم ينو قضاءه : الحديث (٢٤١٠) بإسناد حسن. وفي مجمع الزوائد : ج ٤ ص ٢٨٤ : باب فيمن نوى أن لا يؤدي صداق

١٨٨

[إنّ أحقّ الشّروط أن توفّوا ما استحللتم به الفروج](١).

قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)) ؛ أي إن أحللن لكم عن شيء من المهر ، وإن وهبن لكم منه شيئا. ونصب (نَفْساً) على التّمييز إذا قيل (طِبْنَ لَكُمْ) لم يعلم في أيّ صنف وقع الطيب ، فكأنه قال : إن طابت أنفسهن بهبة شيء من المهر فكلوا الموهوب لكم هنيئا لا إثم فيه ، مريئا لا ملامة فيه. قال الحضرميّ (٢) : (إنّ ناسا كانوا يتأثّمون أن يرجع أحدهم في شيء ممّا ساق إلى امرأته). قال الله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) من غير إكراه ولا خديعة (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) أي شافيا طيّبا.

وقيل معناه : فكلوه دواء شافيا ، وقيل : الهنيء : الطّيّب المساع الّذي لا يغصّه شيء ، والمريء : المحمود العاقبة الّذي لا يضرّ ولا يؤذي ، تقول : لا تخافون في الدنيا منه مطالبة ، ولا في الآخرة بتبعة ، يقال : هنأني لي الطعام ومرّأني ، فإذا أفرد يقال : أمرأني ولا يقال إهنأني ، وهنيئا مصدر.

وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : (إذا كان أحدكم مريضا فليسأل امرأته درهمين من مهرها تهب له بطيبة نفسها ؛ فليشتر بذلك عسلا ، ويشربه مع ماء المطر ، فقد اجتمع الهنيء والمريء والشّفاء والماء المبارك) (٣). لأنّ الله تعالى سمّى المهر هنيئا مريئا إذا وهبته المرأة لزوجها ؛ وسمّى العسل شفاء ؛ وسمّى المطر ماء مباركا ، فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشّفاء.

__________________

ـ امرأته ؛ قال الهيثمي : «رواه أحمد والطبراني وفي إسناد أحمد رجل لم يسمّ ، وبقية رجاله ثقات.

وفي إسناد الطبراني من لم أعرفهم» وإسناده حسن.

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٧ ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠ : الحديث (٧٥٢ ـ ٧٥٧). وأخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الشروط : باب الشروط في المهر : الحديث (٢٧٢١) ، وكتاب النكاح : باب الشروط في النكاح : الحديث (٥١٥١). ومسلم في الصحيح : كتاب النكاح : باب الوفاء بالشروط : الحديث (٦٣ / ١٤١٨).

(٢) في جامع البيان : النص (٦٧٨٧) ؛ قال الطبري بإسناده أبي المعتمر : «قال : زعم الحضرمي ... وذكره».

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ج ٥ ص ٢٧.

١٨٩

قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) ؛ أي لا تعطوا الجهّال بمواضع الحقّ ـ وهم النساء والصّبيان ـ أموالكم التي جعل الله لكم قوام أمركم ومعيشتكم ؛ أي جعلكم تقومون به قياما إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة ، وأن ولده سفيه مفسد ، فلا ينبغي له أن يسلّط أحدا منهما على ماله الذي هو قوام أمره. ومن قرأ (قيما) فمعناه : التي جعلها الله لكم قيمة للأشياء فبها تقوم أموركم.

وقال مجاهد : (نهى الرّجال أن يؤتوا النّساء أموالهم وهنّ سفهاء ؛ كنّ أزواجا ، أو بنات أو أمّهات) (١). وعن الضحّاك : (النّساء من أسفه السّفهاء) (٢) يدلّ على هذا التأويل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ألا إنّما خلقت النّار للسّفهاء ـ قالها ثلاثا ـ ألا إنّ السّفهاء النّساء إلّا امرأة أطاعت قيّمها](٣).

وعن أنس رضي الله عنه قال : جاءت امرأة سوداء جريئة المنطق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : بأبي وأمّي أنت يا رسول الله ؛ بلغني أنّك تقول فينا كلّ شيء ، قال : [أيّ شيء قلت فيكنّ؟] قالت : سمّيتنا السّفهاء ، قال : [الله تعالى سمّاكنّ السّفهاء في كتابه] قالت : وسمّيتنا النّواقص ، قال : [فكفى نقصا أن تترك كلّ واحدة منكنّ الصّلاة في كلّ شهر خمسة أيّام لا تصلّي فيها] ـ يعني أيّام حيضها ـ ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أما يكفي إحداكنّ إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله ، وإذا وضعت كانت كالمتشحّط بدمه في سبيل الله ، فإذا أرضعت كان لها بكلّ جرعة عتق رقبة من ولد إسماعيل ، فإذا سهرت كان لها بكلّ سهرة عتق رقبة من ولد إسماعيل ، وذلك

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٠٨).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨١٠).

(٣) في الدر المنثور : ج ٢ ص ٥١٦ ؛ قال السيوطي : «أخرجه أحمد عن عبد الله بن شبل بلفظ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ الفسّاق أهل النّار]. قيل : يا رسول الله! من الفسّاق؟ قال : [النّساء]. قال رجل : يا رسول الله أولسن أمّهاتنا وأخواتنا وأزواجنا؟! قال : [بلى ، ولكنّهنّ إذا أعطين لم يشكرن ، وإذا ابتلين لم يصبرن]».

١٩٠

للمؤمنات الخاشعات الصّابرات اللّاتي لا يكفرن العشير](١) فقالت السّوداء : أيا له فضلا لو لا ما تبعه من الشّروط.

وروي : أنّ امرأة مرّت بعبد الله بن عمر لها شارة وهيئة ، فقال لها ابن عمر : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)(٢). وقال معاوية بن مرّة : (عوّدوا نساءكم (لا) (٣) ، فإنّهنّ سفيهات ، إن أطعت المرأة أهلكتك).

وعن أبي موسى الأشعريّ قال : (ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت تحته امرأة سيّئة الخلق فلم يطلّقها ، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه ، ورجل أعطى سفيها ماله ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) أي الجهّال بمواضع الحقّ) (٤).

قوله تعالى : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً). قرأ ابن عمر (قواما) بفتح القاف والواو ، وقرأ عيسى بن عمر (قواما) بكسر القاف وهما لغات. وقرأ الأعرج ونافع وابن عامر (قيما) بكسر القاف من غير ألف. وقرأ الباقون (قياما) بالألف.

قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) ؛ أي أطعموا النساء والأولاد واكسوهم من أموالكم. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)) ؛ أي عدّوهم عدّة

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاري بلفظ آخر عن أبي سعيد الخدري ، ومسلم في الصحيح أيضا. في فتح الباري شرح صحيح البخاري : شرح الحديث (٩٧٩) : ج ٢ ص ٥٩٤ ؛ قال ابن حجر : «ولم أقف على تسمية هذه المرأة ، إلا أنه يختلج في خاطري أنّها أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء ، فإنها روت أصل القصة في حديث أخرجه البيهقي والطبراني وغيرهما ... قالت : فناديت رسول الله وكنت عليه جريئة»

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨١١).

(٣) أي عودوا نساءكم أن تقولوا لهن (لا) في غالب ما يطلبن ، واجعلوا الاستثناء (نعم).

(٤) أخرجه الحاكم في المستدرك : تفسير سورة النساء : الحديث (٣٢٣٥) ؛ وقال : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى ، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد : [ثلاثة يؤتون أجورهم مرّتين] وقد اتفقنا جميعا على إخراجه». والحديث الموقوف سنده جيد.

١٩١

حسنة ، نحو أن يقول الرجل : سأفعل كذا إن شاء الله ، وقيل : ردّوا عليهم ردّا جميلا ، وقولوا لهم قولا ليّنا تطيب به أنفسهم. والرّزق من الله تعالى : العطيّة غير المحدودة ، ومن العباد الشيء الموظّف لوقت محدود. وإنّما قال (فيها) ولم يقل : منها ؛ لأنه أراد : اجعلوا لهم حظّا فيها أي رزقا فيها.

قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) ؛ أي اختبروهم في عقولهم وتدبيرهم وديانتهم حتى إذا بلغوا مبلغ النّكاح وهو الحلم ، وهذا دليل جواز الإذن للصبيّ في التجارة. قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) ؛ أي علمتم منهم ووجدتم إصلاحا في عقولهم وحفظا في أموالهم. (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ؛ الّتي عندكم. نزلت هذه الآية في ابن رفاعة وعمّه ، وكان رفاعة قد توفّي ، وترك ابنه صغيرا ، فأتى عمّه ثابت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : إنّ ابن أخي يتيم في حجري ، فمتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله هذه الآية (١).

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) ؛ أي لا تأكلوا أموال اليتامى بغير حقّ. والإسراف : مجاوزة الحدّ. قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) ؛ أي ليتورّع بغناه عن مال اليتيم ، ولا ينقص شيئا من ماله ، والعفّة : الامتناع عمّا لا يحلّ فعله. قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ؛ اختلفوا في معنى ذلك ، قال عمر بن الخطاب وسعيد بن جبير وعبيدة السّلمانيّ : (معناه : فليأخذ من مال اليتيم على جهة القرض مقدار حاجته ، فإذا أيسر ردّ عليه مثله) (٢). وهكذا روى الطحّاويّ عن أبي حنيفة ، فمعنى قوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ) بالقرض ، نظيره قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ)(٣) أي أو قرض.

__________________

(١) ابن رفاعة هو ثابت بن رفاعة. الجامع لأحكام القرآن : ج ٥ ص ٣٤٠. وفي الدر المنثور : ج ٢ ص ٤٣٧ ؛ قال السيوطي : «وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية : ... وذكره». وأخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٧٦).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٥٤ ـ ٦٨٥٦) عن عبيدة السلماني ، والنص (٦٨٥٩) بأسانيد عن سعيد بن جبير. وفي النص (٦٨٥٨) عن ابن عباس ، وفي النص (٦٨٦١) عن مجاهد بأسانيد.

(٣) النساء / ١١٤.

١٩٢

وقال مكحول وعطاء وقتادة : (إنّ لوليّ اليتيم أن يأخذ من مال اليتيم قدر ما يستر عورته ويسدّ جوعته لا على جهة القرض) (١). قال الشّعبيّ : (لا يأكل إلّا أن يضطرّ إليه كأن يضطرّ إلى الميتة) (٢). وقال بعضهم : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أي يأكل من غير إسراف ، ولا قضاء عليه فيما أكل (٣).

واختلفوا في كيفيّة هذا بالمعروف ، فقال عكرمة والسّدّيّ : (يأكل ولا يسرف في الأكل ولا يكتسي منه) (٤). وقال النخعيّ : (لا يلبس الكتّان ولا الحلل ، ولكن ما يسدّ الجوعة ويواري العورة) (٥). وقال بعضهم : معنى : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) هو أن يأكل من تمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه ، فأمّا الذهب والفضّة إذا أخذ منه شيئا ردّ بدله. قال الضحّاك : (المعروف ركوب الدّابّة وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا (٦).

وعن ابن عبّاس : (أنّ رجلا جاء إليه فقال له : إنّ في حجري أموال أيتام ؛ أفتأذن لي أن أصيب منها؟ فقال : إن كنت تبغي ضالّتها ، وتهنا جرباها ، وتلوط حوضها فاشرب غير مضرّ بالنّسل ولا ناهك في الحلب) (٧). عن ابن عبّاس رواية أخرى أنّ معنى الآية : (فليأكل من مال نفسه بالمعروف حتّى لا يصيب من مال اليتيم شيئا).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٧٠) عن مكحول ، وفي النص (٦٨٨٠) عن عطاء ، وفي النص (٦٨٨٣) عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٦٠).

(٣) هو من قول عائشة رضي الله عنها ؛ أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٨٦) ، وفي النص (٦٨٨٧) عن ابن زيد ، وفي النصوص (٦٨٨٢) عن إبراهيم النخعي.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٧٠) عن مكحول ، وفي النص (٦٨٦٧) عن عكرمة ، وفي النص (٦٨٦٦) عن السدي.

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٦٩).

(٦) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٧٧).

(٧) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٧٢ و٦٨٧١). ومعنى تبغي ضالتها : أي تنشدها وتطلبها ، وهنأ البعير : طلاه بالهناء ، وهو القطران ، يعالج من الجرب. وتلوط حوضها : تصلحه وتملسه بالطين.

١٩٣

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : (لا يأكل من مال اليتيم قرضا وغيره) وهذا قول أبي حنيفة. وروى بشر عن أبي يوسف أنه قال : (لا يأكل من مال اليتيم إذا كان مقيما ، فإن خرج في تقاض دين لليتيم أو إلى ضياع له ، فله أن ينفق ويكتسي ويركب ، فإذا رجع ردّ الثّياب والدّابّة إلى اليتيم). وعنه لأبي يوسف رواية أخرى : (أنّ قوله (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(١)).

فحاصل هذه الروايات ؛ أنّ الأصحّ على مذهب أبي حنيفة وأصحابه : أنه ليس للوصيّ أن يأكل من مال اليتيم قرضا ولا غيره ؛ إلّا أن يضطرّ إلى شيء منه فيأخذه بالضرورة ، ثم يردّ إذا وجد. وعن ابن عبّاس قال : جاء رجل إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ؛ إنّ في حجري يتيما فأضربه ، قال : [ما كنت ضاربا منه ولدك](٢).

قوله تعالى : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ؛ إذا دفعتم إليهم أموالهم بعد بلوغهم وإيناس الرّشد ، (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) ؛ وثيقة لكم ، (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦)) ؛ أي شهيدا ومجازيا لها إلّا أن الإشهاد فيما بين الناس من أحكام الدّنيا لضروب من المصلحة ، وانتصب (حَسِيباً) على القطع ، وكفى بالله الحسيب حسيبا.

قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)) ؛ وذلك أنّ العرب كانت لا تورث إلّا من طاعن بالرّماح وذاد عن المال وحاز الغنيمة ، فأعلم الله تعالى أنّ حقّ الميراث للرّجال والنّساء. قال ابن عبّاس : (توفّي أوس بن

__________________

(١) النساء / ٢٩.

(٢) أخرجه الطبري عن الحسن مرسلا في جامع البيان : النص (٦٨٨٤). والطبراني في المعجم الصغير : الحديث (٢٤٤) عن جابر بن عبد الله. وابن حبان في الصحيح : كتاب الرضاع : باب النفقة : الحديث (٤٢٤٤) ، وإسناده حسن إن شاء الله.

١٩٤

ثابت الأنصاريّ وترك ثلاث بنات له (١) ، وترك امرأة يقال لها أمّ كجّة (٢) وهي أمّهنّ ، فقام رجلان من بني عمّه قتادة وعرفطة وكانا وصيّين له فأخذا ماله ، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا من المال ، فجاءت أمّ كجّة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ؛ إنّ أوس بن ثابت توفّي وترك ثلاث بنات ، وليس عندي ما أنفق عليهنّ ، وقد ترك أبوهنّ مالا حسنا وهو عند قتادة وعرفطة ولم يعطياني ولا لبناتي شيئا ، هنّ في حجري لا يطعمن ولا يسقين ولا يرفع لهنّ رأس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ارجعي إلى بيتك حتّى أنظر ما يحدث الله فيهنّ] فرجعت إلى بيتها ، فأنزل الله هذه لآية) (٣).

ومعناه : للرجال حظّ ممّا ترك الوالدان والأقربون ، وللنساء كذلك أيضا ، مما قلّ من المال أو كثر ، (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي معلوما مقدّرا ، فأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قتادة وعرفطة (٤) : [أن لا تقربا من مال أوس شيئا ، فإنّ الله قد أنزل لبناته نصيبا ، ولم يبيّن كم هو ، أنظركم يبيّن الله تعالى لهنّ] فأنزل الله بعد ذلك (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) إلى قوله (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قتادة وعرفطة : [أن ادفعا إلى أمّ كجّة ثمن جميع المال إدفعا إليها لبناتها الثّلثين ولكم باقي المال].

وانتصب قوله تعالى (نَصِيباً) لخروجه مخرج المصدر كقول القائل : عندي حقّا ؛ ولك معي درهم هبة.

__________________

(١) في الدر المنثور : نقل السيوطي : «وترك ابنتين وابنا صغيرا».

(٢) في الإصابة في تمييز الصحابة : ج ٨ ص ٢٨٤ ـ ٢٨٦ ؛ قال ابن حجر : «ذكر الواقدي عن الكلبي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس ... وذكره» وذكر الاختلاف في الأسماء. ونقل قال : «قال أبو داود : هذا خطأ ، وإنما هما ابنا سعد بن الربيع ...» ثم قال : «وأما المرأة فلم يختلف في أنّها أم كجّة بضم الكاف وتشديد الجيم ، إلا ما حكى أبو موسى عن المستغفري أنه قال فيها : أم كحلة ، بسكون المهملة بعدها لام».

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٨٩٠). وفي الدر المنثور : ج ٢ ص ٤٣٨ و٤٣٩ ؛ قال السيوطي : «أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس ...» وقال : «وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة».

(٤) اختلف في أسمائهم (سويد وعرفجة) وفي أسمائهم اضطرب الرواة.

١٩٥

قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) ؛ أي حضر قسمة المواريث ذو قرابة الميّت في الرّحم الذين لا يورثون واليتامى المحتاجون والمساكين فأعطوهم شيئا من المال قبل القسمة ، (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)) ؛ أي عدوهم عدة حسنة ، وقيل : اعتذروا عند قلّة المال وقولوا لهم : كنّا نحبّ أن يكون أكثر من ذلك.

وعن ابن عبّاس روايتان ؛ إحداهما : (أنّ هذه الآية محكمة غير منسوخة) (١) وهو قول عطاء ومجاهد والزهريّ وجماعة ، حتى روي عن عبيدة السّلمانيّ : (أنّه ذبح للأقرباء شاة من أموال اليتامى وأعطاهم ؛ وقال : إنّي أحبّ أن يكون ذلك من مالي لو لا هذه الآية) (٢). وعن ابن سيرين أنّه فعل مثل ذلك. وقال قتادة عن الحسن : (ليست منسوخة ، ولكنّ النّاس شحّوا وبخلوا ، وكان التّابعون يعطون الأواني والشّيء الّذي يستحيا من قسمته) (٣).

والرواية الثّانية : (أنّ هذه الآية منسوخة بآية المواريث) (٤) وهو قول سعيد بن المسيّب والسديّ وأبي مالك (٥) وأبي صالح والضحّاك ؛ لأنّها لو كانت واجبة مع كثرة قسمة المواريث في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصّحابة ومن بعدهم لنقل وجوب ذلك واستحقاقه لهؤلاء كما نقلت المواريث للزوم الحاجة إلى ذلك ، لكن يستحبّ ذلك في حقّ الورثة لحضور البالغين. وحديث عبيدة السّلمانيّ محمول على أنّ الورثة كانوا بالغين ؛ فذبح الشاة من جملة المال بإذنهم.

قوله عزوجل : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)) ؛ قال عامّة المفسّرين : (كان

__________________

(١) نقل الروايات الطبري في جامع البيان : النصوص (٦٨٩٣).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٩٢٣ و٦٩٢٤) عن محمد بن سيرين.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٩٢٢).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٩٠٥) قال : «عن ابن عباس ؛ قال : وذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فأنزل الله الفرائض ، وأعطى كل ذي حق حقه».

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٩٠٤) ، وعن الضحاك النص (٦٩٠٦).

١٩٦

الرّجل إذا حضره الموت يقول له من حضره عند وصيّته : أنظر لنفسك ؛ فإنّ أولادك وذرّيّتك لا يغنون عنك شيئا ، قدّم لنفسك ، أعتق وتصدّق ، أوص لفلان بكذا ولفلان بكذا ، فلا يزالون كذلك حتّى يذهب عامّة ماله ، ويبقى عياله بغير شيء ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم أن يتركوا أموالهم لورثتهم) (١).

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنّه دخل على سعد بن أبي وقّاص يزوره ، فقال سعد : يا رسول الله ؛ إنّي ذو مال وليس لي إلّا بنت واحدة ، أفأوصي بالثّلثين؟ قال : [لا] قال : فبالشّطر؟ قال : [لا] فبالثّلث؟ قال : [والثّلث كثير ، إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خيرا من أن تدعهم فقراء يتكفّفون النّاس](٢).

قال بعض المفسّرين : هذه الآية خطاب لمن يتصرّف بأموال اليتامى ؛ معناه : وليخش الذين يخافون الضّياع على ورثتهم الضعاف بعد موتهم ، فلا يفعلون في أموال اليتامى إلّا بما يحبّون أن يفعل في أولادهم من بعد موتهم. والقول السّديد : هو الذي لا خلاف فيه من جهة الفساد ، مأخوذ من سدّ الثّلمة ، وهو العدل والصّواب من القول.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) ؛ نزلت في حنظلة بن الشّمردل ؛ كان يأكل من مال اليتيم في حجره ظلما. ومعناها : إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى بغير حقّ ، إنّما يأكلون في بطونهم حراما. ويسمّى الحرام نارا ؛ لأن الحرام يوجب النّار فسمّاه باسمها على معنى أنّ أجوافهم تمثّل نارا في الآخرة. قال السديّ : (من أكل من مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ، ولهب النّار يخرج من فيه وأذنيه وعينيه وأنفه ، كلّ من رآه عرف أنّه أكل مال اليتيم ظلما) (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٩٢٧ و٦٩٢٦) عن ابن عباس ، وفي النصوص (٦٩٢٨ ـ ٦٩٣٤).

(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ١٧٩. والبخاري في الصحيح : كتاب الفرائض : باب ميراث البنات : الحديث (٦٧٣٣).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٩٣٩).

١٩٧

قوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)) ؛ أي سيصلون النار في الآخرة ويلزمونها ، والصّلاء : ملازمة النّار للاحتراق والإنضاج. قرأ العامّة : (وسيصلون) بفتح الياء أي يدخلونها كقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ)(١) وقوله تعالى : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى)(٢).

وقرأ أبو رجاء والحسن وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضمّ الياء على معنى : وسيدخلون النّار على ما لم يسمّ فاعله ، ونظيره (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)(٣) و (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً)(٤). وقرأ حمزة بن قيس : (وسيصلّون) بتشديد اللّام من التّصلية لكثرة الفعل ؛ أي مرّة بعد مرة ، نظيره (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)(٥) والكلّ صواب ، يقال : صلت شياء إذا شويته. وفي الحديث : [أتي بشاة مصليّة](٦) وأصليته : ألقيته في النّار ، وصلّيته مرّة بعد مرّة.

السّعير : النّار المسعورة أي الموقودة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل ؛ إحداهما قالصة على منخره ، والأخرى على بطنه ، وخزنة النّار يلقّمونهم جمر جهنّم وصخرها ثمّ يخرج من أسافلهم ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما](٧).

قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ؛ قال ابن عبّاس : (كان المال للبنتين ؛ وكانت الوصيّة للوالدين والأقربين إلى أن نزلت هذه الآية ثمّ صار ذلك منسوخا بها). ومعناها : يعهد الله إليكم ويفرض عليكم في أولادكم إذا متّم : للذكر الواحد من الأولاد مثل نصيب الأنثيين في الميراث ، واسم

__________________

(١) الصافات / ١٦٣.

(٢) الليل / ١٥.

(٣) المدثر / ٢٦.

(٤) النساء / ٣٠.

(٥) الحاقة / ٣١.

(٦) ذكره أهل اللغة في شواهدهم ، وينظر : الطبري في جامع البيان : تفسير الآية.

(٧) في الدر المنثور : ج ٢ ص ٤٤٣ ؛ قال السيوطي : «أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري : ... وذكره». وأخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٦٩٤٠) وإسناده حسن إن شاء الله.

١٩٨

الولد يتناول ولده من صلبه حقيقة ولد ولده في النّسبة والتعصيب ، ولكنّهم من ذوي الأرحام مجازا ، فإذا كان للميّت ولد من صلبه وجب حمل اللفظ على الحقيقة ، وإن لم يكن له ولد من صلبه حمل على من كان من صلب بنيه مجازا ، وأمّا ولد البنات فلا يعدّ من ولده في النّسبة والتعصب ، ولكنّهم من ذوي الأرحام. قال الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد

وعن هذا قال أصحابنا : فمن أوصى لولد فلان أنّ ذلك لولده لصلب ، فإن لم يكن له ولد من صلبه فهو ولد ابنه ، ولا يدخل أولاد البنات في هذه الوصيّة على أظهر الرّوايتين.

قوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ؛ أي إن كان الأولاد نساء أكثر من اثنتين ليس معهنّ ذكر ؛ (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) ؛ من المال ، والباقي للعصبة. قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ؛ قرأ العامّة بالنصب على خبر كان ، وقرأ نافع وحده بالرفع على أنّ معناه : وإن وقعت واحدة ؛ فحينئذ لا خبر له ، وقراءة النصب أجود ، وتقديره : فإن كانت المولودة واحدة.

فإن قيل : لم أعطيتم البنتين الثّلثين وفي الآية إجاب الثّلثين لأكثر من الابنتين؟ قيل : في فحوى الآية دليل على أن فرض الابنتين الثّلثان ؛ لأنّ في أوّلها (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، فيقتضي أنّ للابنة الواحدة مع الابن الثّلث ، فإن كان لها معه الثّلث كانت تأخذ الثّلث مع عدمه أولى ، فاحتجنا إلى بيان حكم ما فوق الأنثيين ؛ فذلك نصّ على حكم ما فوقهما ، ويدلّ عليه أنه اذا كان للابن الثّلثان ، وللابنة الثّلث دلّ أن نصيب الأنثيين الثّلثان بحال ؛ لأنّ الله تعالى جعل للذكر مثل حظّ الأنثيين.

وجواب آخر : أنّ الله تعالى جعل للأخت من الأب والأمّ النصف في آخر هذه السورة ، كما جعل للابنة النصف في هذه الآية ، وجعل للأختين هناك الثّلثين ، فأعطينا الاثنين الثّلثين قياسا على الأختين في تلك الآية ، وأعطينا جملة الأخوات الثّلثين قياسا على البنات في هذه الآية.

١٩٩

قوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) ؛ أي لأبوي الميّت كناية عن غير المذكور لكلّ واحد منهما السّدس ؛ (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ؛ أو ولد ابن. قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ؛ أي إن لم يكن للميّت ولد ذكر ولا أنثى ، ولا ولد ولد فلأمّه الثّلث ، والباقي للأب.

وروي عن ابن مسعود : (أنّ الولد يحجبون الأمّ من الثّلث إلى السّدس ، وإن لم يرثوا نحو أن يكونوا كفّارا أو مملوكين أو قاتلين ؛ لأنّ الله لم يفرّق في الآية بين الولد الكافر والمسلم ، فقال : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ).

وقال عمر وعليّ وزيد بن ثابت : (للأمّ الثّلث) ، وجعلوا الكافر والرقيق بمنزلة الميّت ، وحملوا الآية على ولد يحوز الميراث. قرأ أهل الكوفة إلّا عاصما وخلفا : (فلإمّه) بكسر الهمزة استثقالا لضمّة بعد كسر. وقرأ الباقون بالضمّ على الأصل.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ؛ ذكره بلفظ الجمع ، وأقلّه ثلاثة ولا خلاف ، وإن الحجب يقع بثلاثة من الإخوة والأخوات وإن ذلك لا يقع بالواحد ، ثم قال عامّة الصحابة : (إنّ حكم الاثنين في هذا حكم الثّلاثة كما في أنثيين والأختين). وعن ابن عبّاس : (أنّه كان لا يحجب الأمّ عن الثّلث إلى السّدس بأقلّ من ثلاثة إخوة) ، وهذا القول غير مأخوذ به. وروي عنه أيضا : (أنّه جعل للابنتين النّصف كنصيب الواحدة بظاهر قوله تعالى (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ولم يقل بهذا آخر غيره فلا يعتدّ به.

وروي أنّ جدّة جاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه ، وطلبت ميراثها ؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه : (لا أجد لك في كتاب الله شيئا) فقام المغيرة بن شعبة وشهد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى جدّة أمّ الأمّ السّدس ، فقال : (إئت معك بشاهد آخر) فجاء محمّد بن مسلمة وشهد بمثل شهادته ، فأعطى أبو بكر رضي الله عنه السّدس (١).

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب الفرائض : باب ميراث الجدة : الحديث (٢٨٩٤). والترمذي في الجامع : الفرائض : باب ما جاء في ميراث الجدة : الحديث (٢١٠١). وفي الإحسان صحيح ابن حبان : كتاب الفرائض : الحديث (٦٠٣١) ، وإسناده صحيح.

٢٠٠