تذكرة الفقهاء - ج ١٧

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٧

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: ٤٨٥

صاحبه ، فإن خرجت القرعة عليه أُلزم القيام بحضانته ، بناءً على أنّ المنفرد إذا شرع في الالتقاط لا يجوز له الترك (١).

المطلب الثاني : في أحكام الالتقاط.

وفيه بحثان :

الأوّل : في نقله.

يجب على الملتقِط حفظ اللقيط ورعايته ، ولا يجب عليه نفقته ، سواء كان موسراً أو معسراً ، فإن عجز عن حفظه سلّمه إلى القاضي.

ولو تبرّم به مع القدرة على حضانته وتربيته ، فالأقرب : إنّه يسلّمه إلى القاضي أيضاً.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الشروع في فروض الكفاية هل يوجب إتمامها؟ وهل يصير الشارع فيها متعيّناً لها ، أم لا؟ (٢).

والكلام فيه مضى في كتاب السير (٣).

وقطع بعض الشافعيّة ٤ بما ذهبنا إليه.

ولا شكّ في أنّ الملتقط يحرم عليه نبذه وردّه إلى المكان الذي التقطه فيه ؛ لما فيه من تعريضه للإتلاف.

إذا عرفت هذا ، فإنّ الواجب على الملتقط حفظه وتربيته ، دون نفقته وحضانته.

مسألة ٤١٦ : الملتقط للصبي إن كان بلديّاً وقد التقطه في بلدته ، أُقرّ‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٢ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٨.

(٣) راجع : ج ٩ ـ من هذا الكتاب ـ ص ٣٥.

٣٢١

في يده ، وليس له أن ينقله إلى البادية لو أراد الانتقال إلى البادية ، بل ينتزع منه ؛ لما في عيش أهل البوادي من الخشونة وقصورهم عن معرفة علوم الأديان والصناعات التي تُكتسب بها ، فلو انتقل باللقيط لزم تضرّره ، ولأنّ ظهور نسبه إنّما يكون في موضع التقاطه غالباً ، فلو سافر به لضاع نسبه ؛ لأنّ مَنْ ضيّعه يطلبه حيث ضيّعه.

ولو كان الموضع المنقول إليه من البادية قريباً من البلدة ويسهل تحصيل ما يراد منها ، فإن راعينا خشونة المعيشة لم يُمنع ، وإن راعينا حفظ النسب ، فإن كان أهل البلد يختلطون بأهل تلك البادية لم يُمنع أيضاً ، وإلاّ مُنع.

وكما أنّه ليس له نقله إلى البادية ، فكذا ليس له نقله إلى القرى ؛ لأنّ مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه وأرفق له ، ولأنّ بقاءه في البلد أقرب إلى كشف نسبه وظهور أهله واعترافهم به.

ولو أراد النقلة به إلى بلدٍ آخَر ، فإن نظرنا إلى اعتبار المعيشة فالبلاد متقاربة ، وإن راعينا أمر النسب منعناه ؛ لأنّ طلبه في موضع ضياعه أظهر ، فيكون كشف نسبه فيه أرجى ، فلا يُقرّ في يد المنتقل عنه ، كما لا يُقرّ في يد المنتقل به إلى البادية.

وللشافعيّة وجهان (١).

ولا فرق في ذلك بين سفر النقلة والتجارة والزيارة.

ولو غلب على ظنّ الملتقط قصد رمي أهله له وتضييعه ، فالأقوى عندي : جواز نقله إلى أين شاء.

ولو وجده القرويّ في قريته أو في قريةٍ أُخرى أو في بلدةٍ ، فالحكم كما قلنا في البلديّ والبدويّ إذا التقطه في بلدٍ أو قريةٍ لم يُقرّ يده عليه‌

__________________

(١) الوجيز ١ : ٢٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

٣٢٢

لو أراد الخروج به إلى البادية ؛ لما فيه من خشونة العيش وضياع النسب ، ولو أراد المقام بها أُقرّ في يده.

مسألة ٤١٧ : لو التقطه الحضري في البادية ، فإن كان في مهلكةٍ فلا بدّ من نقله ؛ حراسةً له عن التلف.

وللملتقط أن يتوجّه به إلى مقصده ويذهب إليه به.

ومَنْ أوجب من العامّة تعريف اللّقطة في أقرب الأماكن يقول : لا يذهب به إلى مقصده ؛ رعايةً لأمر النسب (١).

ولو التقطه في حِلّةٍ أو قبيلةٍ ، فله نقله إلى البلدة والقرية.

وللشافعيّة وجهان (٢).

ولو أقام هناك ، أُقرّ في يده قطعاً.

ولو التقطه البدويّ في حِلّةٍ أو قبيلةٍ في البادية ، فإن كان من أهل حِلّةٍ مقيمين في موضعٍ راتب أُقرّ في يده ؛ لأنّه كبلدةٍ أو قريةٍ.

وإن كانوا ممّن ينتقلون من موضعٍ إلى موضعٍ ، فوجهان للشافعيّة :

أحدهما : المنع ؛ لما فيه من التعب.

والثاني : يُقرّ ؛ لأنّ أطراف البادية كمحالّ البلدة (٣).

مسألة ٤١٨ : لو ازدحم على لقيطٍ في البلدة أو القرية اثنان ، أحدهما مقيم في ذلك الموضع ، والآخَر ظاعن عنه ، فالأولى أنّه يُقرّ في يد المقيم ؛ لأنّه أرفق له وأرجى لظهور نسبه ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني : إن كان الظاعن يظعن إلى البادية فالمقيم أولى ، وإن كان إلى بلدٍ آخَر ، فإن منعنا المنفرد من الخروج باللقيط إلى بلدٍ آخَر ، فكذلك يكون المقيم أولى ، وإن جوّزنا له ذلك تساويا (٤).

ولو اجتمع على لقيطٍ في القرية قرويٌّ مقيم بها وبلديٌّ ، فالأولى‌

__________________

(١ ـ ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٩.

٣٢٣

تقديم القرويّ ؛ لأنّه يُطلب في موضع ضياعه ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني : إنّا إذا جوّزنا النقل من بلدٍ إلى بلدٍ تساويا ، وإن منعناه فالقرويّ أولى (١).

ولو اجتمع حضريٌّ وبدويٌّ على لقيطٍ في البادية ، فإن وُجد في حِلّةٍ أو قبيلةٍ والبدويّ في موضعٍ راتب تساويا.

وقال بعض الشافعيّة : البدويّ أولى إن كان مقيماً فيهم ؛ رعايةً لنسبه (٢).

وإن كان البدويّ من المنتجعين ، فإن قلنا : يُقرّ في يده لو كان منفرداً ، فهُما سواء ، وإلاّ فالحضريّ أولى.

وإن وُجد في مهلكةٍ ، للشافعيّة قولان ، أحدهما : تقديم الحضري ، والثاني : تقديم البدويّ (٣).

والأقرب : تقديم مَنْ مكانه أقرب إلى موضع الالتقاط.

البحث الثاني : في النفقة على اللقيط.

لا يجب على الملتقط النفقة على اللقيط إجماعاً ؛ لأصالة براءة الذمّة.

قال ابن المنذر : أجمع كلّ مَنْ يُحفظ عنه من أهل العلم على أنّ نفقة اللقيط غير واجبةٍ على الملتقط كوجوب نفقة الولد (٤).

وذلك لأنّ أسباب وجوب النفقة من القرابة والزوجيّة والملك منتفية عن الالتقاط ، لأنّه عبارة عن تخليص نفس اللقيط من الهلاك ، وتبرّع بحفظه ، فلا يوجب ذلك النفقةَ ، كما لو فَعَله بغير اللقيط.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٩.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٠.

(٤) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٣ ، المغني ٦ : ٤٠٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٤.

٣٢٤

ولأنّ محمّد بن علي الحلبي سأل الصادقَ عليه‌السلام ، قال : قلت له : مَن الذي أُجبر على نفقته؟ قال : « الوالدان والولد والزوجة والوارث الصغير » يعني الأخ وابن الأخ وغيره ، رواه الصدوق ابن بابويه (١) رحمه‌الله ، ولم يذكر اللقيط.

ولأنّ إيجاب الإنفاق عليه يؤدّي إلى ترك التقاطه وإهماله ، فيلزم الإفضاء إلى تلفه.

مسألة ٤١٩ : اللقيط إن كان له مال ، أُنفق عليه منه.

وماله ينقسم إلى ما يستحقّه بعموم كونه لقيطاً وإلى ما يستحقّه بخصوصه.

فالأوّل : مثل الحاصل من الوقوف على اللقطاء أو أُوصي لهم.

قال بعض الشافعيّة : أو وُهب لهم (٢).

واعترض عليه بأنّ الهبة لا تصحّ لغير معيّنٍ (٣).

قال آخَرون : ويجوز أن تُنزّل الجهة العامّة منزلة المسجد حتى يجوز تمليكها بالهبة كما يجوز الوقف عليها ، وحينئذٍ يقبله القاضي (٤).

وليس بشي‌ءٍ.

نعم ، تصحّ الوصيّة لهم.

والثاني : ما يوجد تحت يده واختصاصه ؛ لأنّ للطفل يداً واختصاصاً كالبالغ ، والأصل الحُريّة ما لم يعرف غيرها ، وذلك كثيابه التي عليه ملبوسة له والملفوفة عليه والمفروشة تحته والذي غطّى به من لحافٍ وشبهه وما شدّ عليه وعلى ثوبه ، أو جعل في جيبه من حُليٍّ أو دراهم وغيرها ،

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٩ / ٢٠٩.

(٢) الغزالي في الوجيز ١ : ٢٥٥ ، وعنه في العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٩.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٩.

٣٢٥

وكذا ما يكون الطفل مجعولاً فيه ، كالسرير والمهد والسفط ، وما فيه من فرش أو دراهم أو ثياب ـ وبهذا قال الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي (١) ـ لأنّ الطفل يملك وله يد صحيحة ، ولهذا يرث ويورّث ، ويصحّ أن يشتري له وليُّه ويبيع.

مسألة ٤٢٠ : الدابّة المشدودة في وسطه أو ثيابه أو التي عنانها بيده يُحكم له بملكيّتها.

وكذا الدنانير المنثورة فوقه والمصبوبة تحته وتحت فراشه.

وللشافعيّة فيما يوجد تحته قولان (٢).

ولو كان في خيمةٍ أو دارٍ ليس فيهما غيره ، فهُما له.

وفي البستان لو وُجد فيه للشافعيّة وجهان (٣).

ولو كان بالقرب منه ثياب أو أمتعة موضوعة أو دابّة ، فالأقرب : [ إنّها ليست ] (٤) له ، كما لو كانت بعيدةً عنه ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة ، والثاني : تجعل له ؛ لأنّ مثل هذا يُثبت اليد والاختصاص في حقّ البالغ ، فإنّ الأمتعة في السوق بقرب الشخص تجعل له (٥).

__________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٤١ ، الوجيز ١ : ٢٥٥ ، الوسيط ٤ : ٣٠٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥١ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٦٨ ، البيان ٨ : ٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٠ ، المغني ٦ : ٤٠٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٦ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٤٥.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٠.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥١ ـ ٥٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٠.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « إنّه ليس ». والمثبت يقتضيه السياق.

(٥) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٤١ ، الوجيز ١ : ٢٥٥ ، الوسيط ٤ : ٣٠٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥١ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٦٨ ، البيان ٨ : ٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٠.

٣٢٦

والأصحّ من الوجهين عند الحنابلة : الثاني ؛ لأنّ الظاهر أنّه ترك له ، فهو (١) بمنزلة ما هو تحته ، وكالحمّال إذا جلس للاستراحة وترك حمله قريباً منه (٢).

مسألة ٤٢١ : لو وُجد تحت الطفل مال مدفون ، لم يُحكم له به إذا كان في أرضٍ لا تختصّ به ، أمّا الذي يختصّ به ـ كالخيمة والدار ـ فإنّه يُحكم له به ؛ لأنّه لا يقصد بالدفن الضمّ إلى الطفل ، ولأنّ الظاهر أنّه لو كان للطفل ، لشدّه واضعه في ثيابه ليعلم به ، ولم يتركه في مكانٍ لا يطّلع عليه.

وللحنابلة وجهان :

أحدهما : إنّه إن كان الحفر طريّاً فهو له ، وإلاّ فلا ؛ لأنّ الظاهر أنّه إذا كان طريّاً فواضع اللقيط حفره ، وإذا لم يكن طريّاً كان مدفوناً قبل وضعه.

والثاني : كما قلناه ـ وهو قول الشافعيّة (٣) ـ لأنّه بموضعٍ لا يستحقّه إذا لم يكن الحفر طريّاً ، فلم يكن له إذا كان طريّاً كالبعيد منه (٤).

ولو وُجد معه أو في ثيابه رقعة مكتوب فيها : إنّ تحته دفيناً وإنّه له ، فللشافعيّة وجهان حكاهما الجويني.

أظهرهما : إنّه له بقرينة الرقعة ، وقد [ يتّفق ] (٥) في العرف مثله.

__________________

(١) الظاهر بحسب السياق : « أنّها تركت له فهي ».

(٢) المغني ٦ : ٤٠٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٧.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٤١ ، الوجيز ١ : ٢٥٥ ، الوسيط ٤ : ٣٠٧ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٦٨ ، البيان ٨ : ٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٠ ـ ٤٩١.

(٤) المغني ٦ : ٤٠٩ ـ ٤١٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٧.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « سبق ». والصحيح ما أثبتناه كما في العزيز شرح الوجيز.

٣٢٧

والثاني : الجري على القياس من غير مبالاةٍ بالرقعة (١).

والأقرب : الأوّل ؛ لأنّه في الأمارة والدلالة على تخصيص اللقيط به أقوى من الموضوع تحته.

ولو أرشدت الرقعة إلى دفينٍ بالبُعْد منه أو دابّة مربوطة بالبُعْد ، فالأقوى : عدم الالتفات إلى الاستدلال بها.

ولو كانت الدابّة مشدودةً باللقيط وعليها راكب ، قال بعض الشافعيّة : تكون بينهما (٢).

وعلى ما اخترناه من أنّ راكب الدابّة أولى من قابض لجامها يكون الراكب هنا أولى.

وكلّ ما لا يُحكم للّقيط به من هذه الأموال سوى الدفن يكون لقطةً ، والدفن قد يكون ركازاً وقد يكون لقطةً على ما تقدّم.

مسألة ٤٢٢ : كلّ ما حُكم للّقيط به فإن كان فيه كفايته ، لم تجب على أحدٍ نفقته ؛ لأنّه ذو مال مستغنٍ عن غيره ، فأشبه سائر الناس.

ولو لم يُعرف له مال البتّة ، وجب أن يُنفق عليه الإمام من بيت المال من سهم المصالح ؛ لأنّ عمر استشار الصحابة في نفقة اللقيط ، فقالوا : من بيت المال (٣) ، وقال لأبي جميلة لمّا التقط الصبي : اذهب فهو حُرٌّ ، لك ولاؤه ، وعلينا نفقته (٤) ، ولأنّ بيت المال وارث له وماله مصروف إليه ،

__________________

(١) الوجيز ١ : ٢٥٥ ، الوسيط ٤ : ٣٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩١.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٤ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٠.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٣١٠ ، الهامش (١).

٣٢٨

فتكون نفقته عليه ، كقرابته ومولاه ، وهو أصحّ قولَي الشافعي ؛ لأنّ البالغ المعسر يُنفق عليه من بيت المال ، فاللقيط العاجز أولى ، ولأنّه للمصالح وهذا منها.

والثاني : إنّه لا تكون من بيت المال ؛ لأنّ بيت المال مُعدٌّ للصرف إلى ما لا وجه له سواه ، واللقيط يجوز أن يكون رقيقاً فنفقته على سيّده ، أو حُرّاً له مال أو قريب فنفقته في ماله أو على قريبه ، فعلى هذا يستقرض عليه الإمام لنفقته من بيت المال أو من آحاد الناس ، فإن لم يكن في بيت المال شي‌ء ولم يُقرضه أحد من الناس استعان الإمام بالمؤمنين في الإنفاق عليه إمّا على سبيل الصدقة أو القرض.

ثمّ إن ظهر أنّه مملوك رجع على سيّده بما اقترضه الإمام له ، وإن ظهر أنّه حُرٌّ وله مَنْ تجب عليه نفقته رجع عليه ، وإن بانَ حُرّاً لا مال له ولا قريب ولا كسب قضى الإمام من سهم الفقراء والمساكين أو الغارمين (١).

والأوّل أثبت.

مسألة ٤٢٣ : قد بيّنّا أنّ نفقة اللقيط إذا لم يكن له مالٌ على بيت المال ، فإن لم يكن في بيت المال شي‌ء أو كان لكن هناك ما هو أهمّ ، كسدّ ثغرٍ يعظم أمره ، وحاجة إلى رعاية عمارةٍ عامّة ، كسدّ بثقٍ يخشى الغرق منه ، أو غير ذلك من المصالح العظيمة ، وجب على المسلمين القيام بكفايته ، ولم يجز لهم تضييعه.

ثمّ طريقه طريق النفقة ؛ لأنّه محتاج عاجز ، فأشبه الفقير المزمن والمجنون والميّت إذا لم يكن له كفن ، فعلى هذا إذا قام به البعض سقط‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٤٢ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٠ ـ ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩١.

٣٢٩

عن الباقين ؛ لحصول الغرض به ، وإن امتنعوا بأسرهم استحقّوا العقاب ، وطالَبهم الإمام ، فإن امتنعوا قاتلهم ، فإن تعذّر استقرض الإمام على بيت المال وأنفق عليه ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : إنّ طريقه طريق القرض حتى يثبت الرجوع ؛ لأنّ هذا يجب دفعه لإحيائه ، فأشبه المضطرّ يدفع إليه بالعوض ، كما يبذل الطعام للمضطرّ بالعوض ؛ لما تقدّم من أنّه يجوز أن يكون رقيقاً أو يكون له مال أو قريب كما تقدّم ، فعلى هذا إن تيسّر الاقتراض استقرض ، وإلاّ قسّط الإمام نفقته على الموسرين من أهل البلد ، ثمّ إن ظهر عبداً فالرجوع على سيّده ، وإن ظهر له مالٌ أو اكتسبه فالرجوع عليه ، وإن لم يكن شي‌ء قضى من سهم الفقراء أو الغارمين ، وإن حصل في بيت المال مالٌ فنفقته منه (١).

ولو حصل في بيت المال مالٌ وحصل للّقيط مالٌ دفعةً ، قضى من مال اللقيط ، كما أنّه إذا كان له مال وفي بيت المال مال تكون نفقته في ماله ، ولا يؤخذ من بيت المال شي‌ء ؛ لاستغنائه عنه.

ولو احتاج الإمام إلى التقسيط على الأغنياء ، قسّط مع إمكان الاستيعاب ، ولو كثروا وتعذّر التوزيع يضربها السلطان على مَنْ يراه بحسب اجتهاده ، فإن استووا في نظره تخيّر.

والمراد أغنياء تلك البلدة أو القرية.

ولو احتاج إلى الاستعانة بغيرهم ، استعان ، ولو رأى المصلحة في التناوب عليه في الإنفاق منهم فَعَله.

__________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٨ ـ ٣٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٤٢ ، الوسيط ٤ : ٣٠٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٣ ـ ٥٥٤ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٦٩ ـ ٥٧٠ ، البيان ٨ : ١٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٢.

٣٣٠

مسألة ٤٢٤ : إذا كان للّقيط مال ، فالأقرب عندي : إنّ الملتقط لا يستقلّ بحفظه ، بل يحتاج إلى إذن الحاكم ؛ لأنّ إثبات اليد على المال إنّما يكون بولايةٍ إمّا عامّة أو خاصّة ، ولا ولاية للملتقط ، ولهذا أوجبنا الرجوع إلى الحاكم في الإنفاق عليه من ماله ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

وأرجحهما عندهم : إنّ الملتقط يستقلّ بحفظ ماله ، ولا يحتاج إلى إذن الحاكم ؛ لأنّه مستقلّ بحفظ المالك ، بل هو أولى به من القاضي ، فكان أولى بحفظ ماله (١).

ثمّ اختلفوا ـ بناءً على هذا القول ـ في أنّه هل له أن يخاصم عن اللقيط مَنْ يدّعي ما يختصّ اللقيط به من الأموال؟ والأصحّ عندهم : إنّه لا يخاصم (٢).

مسألة ٤٢٥ : إذا كان للّقيط مال ، أُنفق عليه منه إجماعا ، ولا يجب على غيره الإنفاق عليه ، كما أنّ الصغير الموسر تجب نفقته من ماله دون مال أبيه.

ولا يتولّى الملتقط الإنفاق عليه من ماله بالاستقلال ما لم يأذن الحاكم إذا أمكن مراجعته ـ وبه قال الشافعي (٣) ـ لأنّه لا ولاية له على ماله ، وإنّما له حقّ الحضانة ؛ لأنّ الولاية للأب والجدّ له والحاكم على مال الصغير دون بقيّة الأقارب وإن كان لأقارب الصغار ولاية الحضانة ، كذلك الملتقط يلي‌

__________________

(١) الوسيط ٤ : ٣٠٨ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٣.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٥٥٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٣.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٤٢ ، الوسيط ٤ : ٣٠٨ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٦٨ ، البيان ٨ : ١٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٣.

٣٣١

الحضانة ، ولا يلي المال.

وقال أحمد : إنّ الولاية للملتقط ينفق عليه بغير إذن الحاكم ؛ لأنّه وليٌّ له ، فلم يعتبر في الإنفاق عليه في حقّه إذن الحاكم ، كوصيّ اليتيم ، ولأنّ هذا من الأمر بالمعروف ، فاستوى فيه الإمام وغيره ، كإراقة الخمر (١).

وقد روي عنه في رجلٍ أودع رجلاً مالاً وغاب وطالت غيبته وله ولد ولا نفقة لهم هل ينفق عليهم هذا المستودع من مال الغائب؟ فقال : تقوم امرأته إلى الحاكم حتى يأمره بالإنفاق عليهم ، فلم يجعل له الإنفاق من غير إذن الحاكم ، فقال بعض أصحابه : هذا مثله ، ومَنَع الباقون ، وفرّقوا بوجهين :

أحدهما : إنّ الملتقط له ولاية على اللقيط وعلى ماله ، فإنّ له ولاية أخذه وحفظه.

والثاني : إنّه إنّما ينفق على الصبي من مال أبيه بشرط أن يكون الصبي محتاجاً إلى ذلك لعدم ماله وعدم نفقةٍ تركها أبوه برسمه ، وذلك لا يقبل [ فيه ] قول المستودع فاحتيج إلى إثبات ذلك عند الحاكم ، ولا كذلك في مسألتنا (٢).

ونمنع ثبوت الولاية على الملتقط في غير الحضانة.

مسألة ٤٢٦ : إذا ثبت ما قلناه من أنّه لا يتولّى الملتقط الإنفاق عليه إلاّ بإذن الحاكم ، فإنّه يرفع أمره إلى الحاكم ، فإن أذن له في الإنفاق عليه جاز له ، كما يجعل أميناً للصغير إذا مات أبوه بغير وصيّةٍ ، فإن أنفق عليه بغير‌

__________________

(١) المغني ٦ : ٤١٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٨.

(٢) المغني ٦ : ٤١٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

٣٣٢

إذن الحاكم مع إمكانه ضمن ما أنفقه ، ولم يكن له الرجوع على اللقيط ، كمَنْ في يده وديعة ليتيمٍ فأنفقها عليه.

ولبعض الشافعيّة وجه غريب : إنّه لا يصير ضامناً (١).

إذا تقرّر هذا ، فإذا رفع الأمر إلى الحاكم كان للحاكم أن يأخذ المال منه ويسلّمه إلى أمينٍ لينفق منه على اللقيط بالمعروف ، أو يصرفه إلى الملتقط يوماً بيومٍ ، أو يتركه بحاله في يد الملتقط إذا رأى الإمام الصلاح في ذلك.

ثمّ الأمين إن قتر عليه مُنع منه ، وإن أسرف ضمن الأمين والملتقط الزيادةَ ، ويستقرّ الضمان على الملتقط إذا كان الأمين قد سلّمه إليه ؛ لحصول الهلاك في يده ، وقد قلنا : إنّ للحاكم أن يأذن للملتقط في الإنفاق ويترك المال في يده إذا كان أميناً عنده.

وأمّا الشافعيّة فقدّموا على الحكم مقدّمةً ، وهي : إنّه إذا لم يكن للّقيط مال واحتيج إلى الاستقراض له ، هل يجوز للقاضي أن يأذن للملتقط في الإنفاق عليه من مال نفسه ليرجع؟ نصّ الشافعي على الجواز ، ونصّ في الضالّة أنّه لا يأذن لواجدها في الإنفاق عليها من مال نفسه ليرجع على صاحبها ، بل يأخذ المال منه ويدفعه إلى أمينٍ ، ثمّ الأمين يدفع إليه كلّ يومٍ بقدر الحاجة.

فاختلف أصحابه ، فقال أكثرهم : المسألة على قولين :

أحدهما : المنع في الصورتين ، وبه قال المزني ، وإلاّ كان قابضاً للغير من نفسه ومقبضاً.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٣.

٣٣٣

وأشبههما عندهم : الجواز ؛ لما في الأخذ والردّ شيئاً فشيئاً من العسر والمشقّة ، ولا يبعد أن يجوز للحاجة تولّي الطرفين ، ويلحق الأمين بالأب في ذلك.

ومثل هذا الخلاف آتٍ فيما إذا أنفق المالك عند هرب العامل في المساقاة ، والمكتري عند هرب الجمّال (١).

وقال آخَرون بظاهر النصّين ، وفرّقوا بأنّ اللقيط لا وليّ له ظاهراً ، فجاز أن يجعل القاضي الملتقط وليّاً ، وصاحب اللّقطة قد يكون رشيداً لا يولّى عليه (٢).

إذا تقرّر هذا ، فأكثر الشافعيّة طردوا الطريقين في جواز ترك المال في يد الملتقط والإذن في الإنفاق منه.

والأحسن عندهم ما ذهبنا نحن إليه ، وهو القطع بالجواز ؛ لأنّ ما ذكرنا من اتّحاد القابض والمقبض لا يتحقّق هنا ، بل هو كقيّم اليتيم يأذن له القاضي في الإنفاق عليه من ماله (٣).

وعلى ما قلناه من جواز الإذن له في الإنفاق فإذا أذن ثمّ بلغ اللقيط واختلفا فيما أنفق ، قُدّم قول الملتقط في قدره إذا لم يتجاوز المعروف وما يليق بحال الملتقط.

ويجي‌ء للشافعيّة وجهٌ آخَر : إنّ القول قول اللقيط (٤).

ولو ادّعى الملتقط الزائدَ على قدر المعروف ، فهو مُقرٌّ على نفسه بالتفريط ، فيضمن ، ولا معنى للتحليف إلاّ أن يدّعي الملتقط الحاجة‌

__________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٤.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٤.

٣٣٤

وينكرها اللقيط.

نعم ، لو وقع النزاع في عين مالٍ فزعم الملتقط أنّه أنفقها ، صُدّق مع اليمين ، لتنقطع المطالبة بالعين ، ثمّ يضمن ، كالغاصب إذا ادّعى التلف.

مسألة ٤٢٧ : ولو لم يتمكّن من مراجعة الحاكم أو لم يكن هناك حاكم ، فإنّه يُنفق الملتقط من مال الطفل عليه بنفسه ـ وهو أحد قولَي الشافعيّة (١) ـ لأنّه موضع ضرورةٍ ، فأُبيح له ذلك ، وإلاّ لزم تضرّر الصبي.

والثاني : إنّ الملتقط يدفع المال إلى أمينٍ لينفق عليه.

والأصحّ عندهم : الأوّل ؛ إذ لا فرق بين دفعه إلى الأمين وإلى اللقيط (٢).

إذا ثبت هذا ، فهل يجب الإشهاد؟ الأقرب : ذلك ؛ لأنّ الإشهاد مع عدم الحاكم قائم مقام إذن الحاكم مع وجوده ، كما في الضالّة.

وإذا أشهد على الإنفاق ، لم يضمن ـ وهو أحد قولَي الشافعيّة ـ لأنّه موضع ضرورة.

والثاني : إنّه يضمن (٣).

ولو لم يُشهد مع القدرة على الإشهاد ، ضمن ، ولا معها فلا ضمان.

وللشافعيّة فيهما وجهان :

أحدهما : إنّه يضمن مع القدرة على الإشهاد وعدمها.

والثاني : إنّه يضمن مع القدرة ، لا مع عدمها (٤).

__________________

(١ و ٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٤.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٤.

٣٣٥

المطلب الثالث : في أحكام اللقيط.

وفيه مباحث :

البحث الأوّل : في إسلامه وكفره.

مسألة ٤٢٨ : إسلام الشخص قد يكون بالاستقلال من نفسه ، وقد يكون بالتبعيّة لغيره.

أمّا الأوّل فإنّما يتحقّق في طرف البالغ العاقل بأن يباشر الإسلام إمّا بالعبارة إن كان ذا نطقٍ ، أو بالإشارة المفهمة إن كان أخرس.

وأمّا الصبي فلا يصحّ إسلامه ؛ لأنّه غير مكلّفٍ ، ولا اعتبار بعبارته في العقود وغيرها ، سواء كان مميّزاً أو لا.

وللشافعيّة في المميّز قولان :

أظهرهما : ما قلناه.

والثاني : إنّه يعتبر إسلامه في الظاهر دون الباطن. فإذا بلغ ووصف الإسلام ، كان مسلماً من حين وصفه قبل بلوغه (١).

وعلى القول الأوّل إذا بلغ ووصف الإسلام ، كان مسلماً من [ حين ] وصفه بعد البلوغ.

قال الشيخ رحمه‌الله : المراهق إذا أسلم حُكم بإسلامه ، فإن ارتدّ بعد ذلك يُحكم بارتداده ، وإن لم يتب قُتل ، ولا يعتبر إسلامه بإسلام أبويه ، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد ، غير أنّه قال : لا يُقتل إن ارتدّ ؛ لأنّ هذا الوقت ليس وقت التعذيب حتى يبلغ.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٥.

٣٣٦

وقال الشافعي : لا يُحكم بإسلامه ولا بارتداده ، ويكون تبعاً لوالديه ، غير أنّه يُفرّق بينه وبينهما ؛ لئلاّ يفتناه ، وبه قال زفر.

ثمّ استدلّ رحمه‌الله بروايات أصحابنا : إنّ الصبي إذا بلغ عشر سنين أُقيمت عليه الحدود التامّة واقتُصّ منه ، ونفذت وصيّته وعتقه ، وذلك عامٌّ في جميع الحدود ، وبقوله عليه‌السلام : « كلّ مولودٍ يولد على الفطرة ، وأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه حتى يعرب عنه لسانه ف( إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) » وهذا عامٌّ إلاّ مَنْ أخرجه الدليل.

وقال أبو حنيفة : يصحّ إسلامه ، وهو مكلّف بالإسلام ، وإليه ذهب بعض أصحابنا ؛ لأنّه يمكنه معرفة التوحيد بالنظر والاستدلال ، فصحّ منه ، كالبالغ.

ونقل الشيخ عن أصحابه (١) بإسلام عليٍّ عليه‌السلام وهو غير بالغٍ ، وحكم بإسلامه بالإجماع.

وأجاب الشافعيّة عن الأوّل : بأنّه غير مكلّفٍ بالشرع ، فلم يصح إسلامه ، كالصغير ، ويفارق البالغ بأنّه يُقبل تزويجه ، ويصحّ طلاقه وإقراره ، بخلاف الصغير ، وعن الثاني : بأنّهم حكموا بإسلام عليٍّ عليه‌السلام ؛ لأنّه كان بالغاً ، لأنّ أقلّ البلوغ عند الشافعي تسع سنين ، وعند أبي حنيفة إحدى عشرة سنة ، واختلف الناس في وقت إسلام عليٍّ عليه‌السلام ، فمنهم مَنْ قال : أسلم وله عشر سنين ، ومنهم مَنْ قال : تسع سنين ، ومنهم مَنْ قال : إحدى عشرة سنة.

قال الواقدي : وأصحّ ما قيل : إنّه ابن إحدى عشرة سنة.

وروي عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قُتل عليٌّ عليه‌السلام السابع والعشرين من‌

__________________

(١) أي أصحاب أبي حنيفة.

٣٣٧

شهر رمضان وله ثلاث وستّون سنة.

ولا خلاف في أنّه قُتل سنة أربعين من الهجرة ، فيكون لعليٍّ عليه‌السلام ثلاث وعشرون سنة حين هاجر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، وأقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة دون ثلاث عشرة سنة ثمّ هاجر إلى المدينة ، فظهر بهذا أنّه كان لعليٍّ عليه‌السلام إحدى عشرة سنة.

قال أبو الطيّب الطبري : وجدتُ في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : إنّ قتادة روى عن الحسن أنّ عليّاً عليه‌السلام أسلم وله خمس عشرة سنة ، قال : وأمّا البيت الذي ينسب إليه :

......................................

غلاماً ما بلغت أوان حلمي

فيحتمل أن يكون قال : « غلاماً قد بلغت أوان حلمي » (١).

وقال ابن أبي هريرة من الشافعيّة : إذا أسلم المميّز يُتوقّف ، فإن بلغ واستمرّ على كلمة الإسلام تبيّنّا كونه مسلماً من يومئذٍ ، وإن وصف الكفر تبيّنّا أنّه كان لغواً (٢).

وهو الذي تقدّم ، فإنّه يُعبَّر عنه بصحّة إسلامه ظاهراً لا باطناً ، ومعناه إنّا نخرجه من أيدى الكفّار ونلحقه بزمرة المسلمين في الظاهر ، ولا ندري استمرار هذا الإلحاق وتحقّقه.

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه يصحّ إسلامه حتى يُفرّق بينه وبين زوجته الكافرة ، ويورث من قريبه المسلم (٣) ؛ لأنّ عليّاً عليه‌السلام دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الخلاف ٣ : ٥٩١ ـ ٥٩٤ ، المسألة ٢١.

(٢) البيان ١٢ : ١٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٥.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٤٦ ، البيان ١٢ : ١٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٥.

٣٣٨

إلى الإسلام قبل بلوغه ، فأجابه (١) ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد (٢).

واختلفت الرواية عن مالك (٣).

وعلى قول الشافعي بصحّة إسلامه وقول أبي حنيفة وأحمد لو ارتدّ صحّت ردّته أيضاً ، لكن لا يُقتل حتى يبلغ ، فإن تاب وإلاّ قُتل (٤).

وعلى ما اخترناه نحن يجب أن يُفرّق بينه وبين أبويه وأهله الكفّار لئلاّ يستدرجوه ، فإن وصف الكفر بعد البلوغ هُدّد وطُولب بالإسلام ، فإن أصرّ رُدّ إليهم.

إذا عرفت هذا ، فالأقرب : وجوب الحيلولة بينه وبين أبويه احتياطاً لأمر الإسلام ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : إنّها مستحبّة ، فيستعطف بأبويه ليؤخذ منهما ، فإن أبيا فلا حيلولة (٥).

هذا ما يتعلّق بأُمور الدنيا ، وأمّا ما يتعلّق بأمر الآخرة فالوجه : إنّه ناجٍ ، وإن أُدخل الجنّة فعلى جهة التفضّل.

قال بعض الشافعيّة : إذا أضمر الإسلام كما أظهره ، كان من الفائزين بالجنّة وإن لم يتعلّق بإسلامه أحكام الدنيا ، ويعبّر عن هذا بأنّ إسلامه‌

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ : ٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٥.

(٢) الاختيار لتعليل المختار ٤ : ٢٣٤ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٣٤ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ١٠ : ١٢٠ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٢ : ١٦٩ ، الحاوي الكبير ٨ : ٤٦ ، و ١٣ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٥ ، المغني ١٠ : ٨٥ ، الشرح الكبير ١٠ : ٨١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٥ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٣٥ ، المغني ١٠ : ٨٩ ، الشرح الكبير ١٠ : ٨١ و ٨٥.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٥.

٣٣٩

صحيح باطناً لا ظاهراً (١).

واستشكله الجويني ؛ لأنّ مَنْ يُحكم له بالفوز [ لإسلامه كيف لا يُحكم بإسلامه!؟ (٢).

وقد يجاب عنه : بأنّه قد يُحكم بالفوز ] في الآخرة وإن لم يُحكم بأحكام الإسلام في الدنيا ، كمن لم تبلغه الدعوة (٣).

وغير المميّز ، والمجنون لا يصحّ إسلامهما مباشرةً إجماعاً ، ولا يُحكم بإسلامهما إلاّ بالتبعيّة لغيرهما.

مسألة ٤٢٩ : جهة التبعيّة في الإسلام عندنا أُمور ثلاثة ، فالنظر هنا في أُمور ثلاثة :

الأوّل : إسلام الأبوين أو أحدهما وذلك يقع على وجهين :

أحدهما : أن يكون الأبوان أو أحدهما مسلماً حال علوق الولد ، فيُحكم بإسلام الولد ؛ لأنّه جزء من مسلمٍ ، فإن بلغ ووصف الإسلام فلا بحث ، وإن أعرب عن نفسه بالكفر واعتقده ، حُكم بارتداده عن فطرةٍ يُقتل من غير توبةٍ ، ولو تاب لم تُقبل توبته.

والثاني : أن يكون أبواه كافرين حالة العلوق ثمّ يُسلما أو أحدهما قبل الولادة أو بعدها إلى قبل البلوغ بلحظة ، فيُحكم بإسلام الولد من حين إسلام أحد الأبوين ، ويجري عليه أحكام المسلمين ، فيقتصّ له من المسلم لو قتله ، ويُحكم له بدية المسلم بقتله ، ويرث قريبه المسلم ، ويجزئ عتقه عن الظهار لو كان مملوكاً.

هذا إذا قلنا : إنّ إسلام الصبي غير صحيحٍ ، أمّا إذا قلنا بصحّة إسلام‌

__________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٩٦.

(٣) كما في المصدر السابق ، وما بين المعقوفين أثبتناه منه.

٣٤٠