تذكرة الفقهاء - ج ١٧

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٧

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: ٤٨٥

١
٢

٣
٤

المقصد الرابع : في القراض‌

وفصوله خمسة :

الأوّل : الماهيّة‌

مسألة ١٩١ : القراض عقد شُرّع لتجارة الإنسان بمال غيره بحصّةٍ من الربح ، فإذا دفع الإنسان إلى غيره مالاً ليتّجر فيه ، فلا يخلو إمّا أن يشرطا قدر الربح بينهما أو لا ، فإن لم يشرطا شيئاً فالربح بأجمعه لصاحب المال ، وعليه أُجرة المثل للعامل.

وإن شرطا ، فإن جعلا جميعَ الربح للعامل كان المال قرضاً ودَيْناً عليه ، والربح له والخسارة عليه ، وإن جعلا الربحَ بأجمعه للمالك كان بضاعةً ، وإن جعلا الربحَ بينهما فهو القراض الذي عُقد الباب لأجله ، وسُمّي (١) المضاربة أيضاً.

والقراض لغة أهل الحجاز (٢) ، والمضاربة لغة أهل العراق (٣).

__________________

(١) في « ج » : « ويُسمّى ».

(٢) كما في طلبة الطلبة : ٢٦٧ ، والزاهر : ٣٠٥ ، والحاوي الكبير ٧ : ٣٠٥ ، والمهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٩٢ ، وبحر المذهب ٩ : ١٨٦ ، والتهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٧٧ ، والبيان ٧ : ١٥٧ ، والاستذكار ٢١ : ١١٩ / ٣٠٧٠٧ ، والمغني ٥ : ١٣٥ ، والشرح الكبير ٥ : ١٣٠.

(٣) كما في الزاهر : ٣٠٥ ، والحاوي الكبير ٧ : ٣٠٥ ، والمهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٩٢ ، وبحر المذهب ٩ : ١٨٦ ، والتهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٧٨ ، والاستذكار ٢١ : ١١٩ / ٣٠٧٠٧.

٥

أمّا القراض فإنّه لفظ مأخوذ من القرض ، وهو القطع ، كما يقال : قرض الفأر الثوبَ ، أي قطعه ، ومنه المقراض ؛ لأنّه يُقطع به ، فكأنّ صاحب المال اقتطع من ماله قطعةً وسلّمها إلى العامل ، أو اقتطع له قطعةً من الربح.

وقيل : اشتقاقه من المقارضة ، وهي المساواة والموازنة ، يقال : تقارض الشاعران إذا وازن كلٌّ منهما الآخَر بشعره (١).

وحكي عن أبي الدرداء أنّه قال : قارض الناس ما قارضوك ، فإن تركتهم لم يتركوك (٢) ، يريد ساوِهم فيما يقولون.

وهذا المعنى متحقّق هنا ؛ لأنّ المال من جهة ربّ المال ، ومن جهة العامل العمل ، فقد تساويا في قوام العقد بهما ، فمن هذا المالُ ، ومن هذا (٣) العملُ.

ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح.

وأمّا المضاربة فهي مأخوذة من الضرب ، قال الله تعالى : ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ) (٤) والعامل يضرب في الأرض للتجارة يبتغي الربح.

وقيل : إنّه مأخوذ من ضرب كلٍّ منهما في الربح بسهمه ، أو لما فيه‌

__________________

(١) كما في بحر المذهب ٩ : ١٨٦ ، والبيان ٧ : ١٥٧ ، والعزيز شرح الوجيز ٦ : ٣ ، والمغني ٥ : ١٣٥ ، والشرح الكبير ٥ : ١٣٠.

(٢) كما في البيان ٧ : ١٥٧ ، وحكاه عنه الأزهري في الزاهر : ٣٠٤ ، والروياني في بحر المذهب ٩ : ١٨٦ ، وابن منظور في لسان العرب ٧ : ٢١٧ « قرض ».

(٣) في الطبعة الحجريّة : « ومن الآخَر » بدل « ومن هذا ».

(٤) سورة المزّمّل : ٢٠.

٦

من الضرب بالمال والتقليب (١).

ويقال للمالك من اللفظة الأُولى : مقارِض ، بكسر الراء ، وللعامل : مقارَض ، بفتحها ، ومن اللفظة الثانية يقال للعامل : مضارِب ، بكسر الراء ؛ لأنّه الذي يضرب في الأرض بالمال ويقلبه ، ولم يشتق أهل اللغة لربّ المال من المضاربة اسماً ، بخلاف القراض.

مسألة ١٩٢ : وهذه المعاملة جائزة بالنصّ والإجماع ؛ لما روى العامّة : إنّ الصحابة أجمعوا عليها (٢).

قال الشافعي : روى أبو حنيفة عن حميد بن عبد الله بن عبيد الله (٣) عن جدّه أنّ عمر بن الخطّاب أعطاه مالَ يتيمٍ مضاربةً ، فكان يعمل عليه في العراق (٤).

وروى الشافعي عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنّ عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطّاب خرجا في جيشٍ إلى البصرة ، وفي منصرفهما من غزوة نهاوند لقيا أبا موسى الأشعري وتسلّفا من أبي موسى الأشعري مالاً وابتاعا به متاعاً وقدما به إلى المدينة فباعاه وربحا ، فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كلّه ، فقالا : لو تلف كان ضمانه علينا فكيف لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل : يا عمر لو جعلتَه قراضاً؟ فقال : قد جعلتُه ،

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤.

(٢) بحر المذهب ٩ : ١٨٨ ، البيان ٧ : ١٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٧ ، المغني ٥ : ١٣٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣١.

(٣) كذا قوله : « عبيد الله » في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي الأُم والعزيز شرح الوجيز : « عبيد الأنصاري ». وفي بحر المذهب : « عبيد ».

(٤) الأُم ٧ : ١٠٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤ ، بحر المذهب ٩ : ١٨٧ ـ ١٨٨.

٧

وأخذ منهما نصف الربح (١).

وقال بعض الشافعيّة : إنّ ما جرى كان قرضاً صحيحاً ، وكان الربح ورأس المال لهما ، لكن عمر استنزلهما عن نصف (٢) الربح خيفة أن يكون قد قصد أبو موسى إرفاقهما ، لا رعاية مصلحة بيت المال ، ولذلك قال في بعض الروايات : أو أسلف كلّ الجيش كما أسلفكما (٣) (٤).

وعن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه (٥) أنّ عثمان أعطاه مالاً مقارضةً (٦).

وروى قتادة عن الحسن عن عليٍّ عليه‌السلام أنّه قال : « إذا خالف المضارب فلا ضمان ، وهُما على ما شرطا » (٧).

وعن ابن مسعود وحكيم بن حزام أنّهما قارضا (٨) ، ولا مخالف لهما ، فصار ذلك إجماعاً.

ومن طريق الخاصّة : ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يعطي الرجل مالاً مضاربةً وينهاه أن يخرج به إلى أرض أُخرى ، فعصاه ، فقال : « هو له ضامن ، والربح بينهما إذا خالف شرطه وعصاه » (٩).

__________________

(١) الأُم ٤ : ٣٣ ـ ٣٤ ، سنن البيهقي ٦ : ١١٠ ، بحر المذهب ٩ : ١٨٧ ، الموطّأ ٢ : ٦٨٧ ـ ٦٨٨ / ١ ، البيان ٧ : ١٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤ ـ ٥.

(٢) في المصدر و « خ » : « بعض » بدل « نصف ».

(٣) راجع : الهامش (١).

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٥.

(٥) فيما عدا الأُم وموضع من سنن البيهقي زيادة : « عن جدّه ».

(٦) الأُم ٧ : ١٠٨ ، الموطّأ ٢ : ٦٨٨ / ٢ ، سنن البيهقي ٦ : ١١١ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣٠٧ ، بحر المذهب ٩ : ١٨٨ ، المغني ٥ : ١٣٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٠ ـ ١٣١.

(٧ و ٨) بحر المذهب ٩ : ١٨٨ ، المغني ٥ : ١٣٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣١.

(٩) التهذيب ٧ : ١٨٧ / ٨٢٧.

٨

وفي الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : « المال [ الذي ] يعمل به مضاربة له من الربح ، وليس عليه من الوضيعة شي‌ء إلاّ أن يخالف أمر صاحب المال » (١).

وعن إسحاق بن عمّار عن الكاظم عليه‌السلام ، قال : سألته عن مال المضاربة ، قال : « الربح بينهما ، والوضيعة على ربّ (٢) المال » (٣).

والأخبار في ذلك كثيرة.

ولأنّ الحاجة ماسّة وداعية إلى المضاربة ، فإنّ الدراهم والدنانير لا تنمى إلاّ بالتقليب ، ولا تُؤجر ، وليس كلّ مَنْ يملكها يمكنه التجارة ، ولا كلّ مَنْ يتمكّن من التجارة ويعرفها يتمكّن من المال ، فاقتضت الحكمة مراعاة طرفي العامل والمالك بتسويغ المضاربة.

ولأنّ السنّة الظاهرة وردت في المساقاة ، وإنّما جُوّزت المساقاة ؛ للحاجة من حيث إنّ مالك النخيل قد لا يُحسن تعهّدها أو لا يتفرّغ له ، ومَنْ يُحسن العمل قد لا يملك ما يعمل فيه ، وهذا المعنى موجود في القراض ، فوجب مشروعيّته.

__________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٧ ـ ١٨٨ / ٨٢٨ ، الاستبصار ٣ : ١٢٦ / ٤٥١ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٢) كلمة « ربّ » لم ترد في المصدر.

(٣) التهذيب ٧ : ١٨٨ / ٨٢٩ ، الاستبصار ٣ : ١٢٦ / ٤٥٢.

٩
١٠

الفصل الثاني : في أركانه‌

وهي خمسة تنظمها خمسة مباحث :

الأوّل : العقد.

مسألة ١٩٣ : لا بدّ في هذه المعاملة من لفظٍ دالٍّ على الرضا من المتعاقدين ؛ إذ الرضا من الأُمور الباطنة التي لا يطّلع عليها إلاّ الله تعالى ، وهذه المعاملة وغيرها من المعاملات يعتبر فيها الرضا ؛ للآية (١).

فاللفظ الدالّ على الإيجاب أن يقول ربّ المال : قارضتك ، أو : ضاربتك ، أو : عاملتك على أن يكون الربح بيننا نصفين أو أثلاثاً ، أو غير ذلك من الأجزاء ، بشرط تعيين الأكثر لمن هو منهما والأقلّ كذلك.

والقبول أن يقول العامل : قبلت ، أو : رضيت ، أو غيرهما من الألفاظ الدالّة على الرضا بالإيجاب.

وكذا الإيجاب لا يختصّ لفظاً ، فلو قال : خُذْه واتّجر به على أنّ ما سهّل الله تعالى في ذلك من ربحٍ وفائدةٍ يكون بيننا على السويّة أو متفاوتاً ، جاز.

مسألة ١٩٤ : ولا بدّ من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود.

وهل يعتبر اللّفظ؟ الأقرب : العدم ، فلو قال : خُذْ هذه الدراهم فاتّجر‌

__________________

(١) سورة النساء : ٢٩.

١١

بها على أنّ الربح بيننا على كذا ، فأخذها واتّجر ، فالأقرب : الاكتفاء به في صحّة العقد ، كالوكالة ، ويكون قراضاً ، وهذا قول بعض الشافعيّة (١).

قال الجويني : وقطع شيخي والطبقة العظمى من نَقَلة المذهب على أنّه لا بدّ من القبول ؛ بخلاف الجعالة والوكالة ، فإنّ القراض عقد معاوضةٍ يختصّ بمعيّنٍ ، فلا يشبه الوكالة التي هي إذن مجرّد ، والجعالة التي يبهم فيها العامل (٢).

والوجه : الأوّل.

تذنيب : يجب التنجيز في العقد ، فلا يجوز تعليقه على شرطٍ أو صفةٍ ، مثل : إذا دخلت الدار ، أو : إذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك بكذا [ كما ] لا يجوز تعليق البيع ونحوه ؛ لأنّ الأصل عصمة مال الغير.

مسألة ١٩٥ : وإنّما يصحّ العقد لو تعيّنت الحصّة في الربح لكلّ واحدٍ منهما ، فلو أبهما الحصّة لهما بأن يقول : على أنّ لي بعض الربح ولك البعض ، أو لأحدهما ، لم يصح قطعاً.

ولو عيّن حصّة العامل وسكت عن حصّته ، فقال : قارضتك بهذا المال على أنّ النصف لك ، صحّ ؛ لأنّ النماء والربح يتبع الأصل ، فهو بالأصالة للمالك ، وإنّما ينتقل إلى العامل بالشرط ، فإذا عيّن حصّة العامل بقي الباقي للمالك ؛ لأنّه تابع لماله.

وللشافعيّة وجهٌ ضعيف : إنّه لا يصحّ ، إلاّ أن تجري الإضافة إلى المتعاملين في الجزءين من الجانبين ، فيقول : على أنّ الربح نصفه لك‌

__________________

(١) الوسيط ٤ : ١١٤ ، التهذيب ٤ : ٣٧٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٤.

١٢

ونصفه لي (١).

والمعتمد ما تقدّم.

ولو عيّن حصّة المالك خاصّةً ، فقال : قارضتك بهذا على أنّ نصف الربح لي ، وسكت عن حصّة العامل ، بطل ؛ لأنّه لم يعيّن للعامل شيئاً ؛ إذ النماء المسكوت عنه يتبع المال ، فيكون للمالك ، إلاّ إذا نُسب شي‌ء منه إلى العامل ، والتقدير أنّه لم يُنسب إليه شي‌ء.

وقال بعض الشافعيّة : يصحّ أيضاً ، ويكون النصف الآخَر للعامل ؛ لأنّه الذي يسبق إلى الفهم منه (٢).

ولو قال : على أنّ لك النصف ولي السدس ، وسكت عن الباقي ، صحّ على ما اخترناه ، وكان الربح بينهما بالسويّة ، كما لو سكت عن جميع النصف الذي للمالك ؛ لأنّ الباقي مسكوت عنه ، فيتبع رأس المال.

البحث الثاني : المتعاقدان.

وشرط كلّ واحدٍ منهما البلوغُ والعقلُ وجوازُ التصرّف ، فلا يصحّ القراض بين الصبي وغيره ، وكذا المجنون والسفيه والمحجور عليه للفلس.

والأصل فيه : إنّ القراض توكيل وتوكّل في شي‌ءٍ خاصّ ، وهو التجارة ، فيعتبر في العامل والمالك ما يعتبر في الوكيل والموكّل.

__________________

(١) التنبيه : ١١٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٩٢ ، بحر المذهب ٩ : ٢١٨ ، الوسيط ٤ : ١١٢ ، الوجيز ١ : ٢٢٢ ، البيان ٧ : ١٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٤.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٣٤٦ ، التنبيه : ١١٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٩٢ ، بحر المذهب ٩ : ٢١٨ ، الوسيط ٤ : ١١١ ، الوجيز ١ : ٢٢٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٨٠ ، البيان ٧ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٤.

١٣

ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ١٩٦ : لو قارض المريض في مرض موته ، صح ، وكان للعامل ما شُرط له ، سواء زاد عن أُجرة مثل عمله أو ساواه أو قصر عنه ، ولا يحسب من الثلث ؛ لأنّ المحسوب من الثلث إنّما هو ما يفوّته المريض من ماله ، والربح ليس بحاصلٍ حتى يفوّته ، وإنّما هو شي‌ء يتوقّع حصوله ، وإذا حصل حصل بتصرّفات العامل وكسبه.

ولو ساقى المريض في مرض الموت وزاد الحاصل عن أُجرة المثل ، فالأولى أنّ الزيادة عن أُجرة المثل تُحسب من الثلث ؛ لأنّ للنماء وقتاً معلوماً يُنتظر ، وهي حاصلة من عين النخل من غير عملٍ ، فكانت كالشي‌ء الحاصل ، بخلاف أرباح التجارات التي تحصل من عمل العامل ، وهذا أظهر وجهي الشافعيّة. والثاني : إنّه لا تُحتسب من الثلث أيضاً ؛ لأنّه وقت العقد لم تكن ثمرة ، وحصولها منسوب إلى عمل العامل وتعهّده (١).

مسألة ١٩٧ : يجوز تعدّد كلٍّ من المالك والعامل ، فيضارب الواحد اثنين وبالعكس ، فإذا تعدّد العامل بأن قارض الواحد اثنين ، اشترط تعيين الحصّة لهما ، ولا يجب تفصيلهما ، بل يجوز أن يجعل النصف لهما ، فيحكم بالنصف لهما معاً بالسويّة ؛ لاقتضاء الإطلاق ذلك ، وأصالة عدم التفضيل.

ولو شرط التفاوت بينهما بأن جعل لأحدهما ثلث الربح وللآخَر ربعه وأبهم فلم يعيّن المستحقّ للثلث ، بطل.

وإن عيّن الثلث لواحدٍ بعينه والربع للآخَر ، جاز ؛ لأنّ عقد الواحد مع‌

__________________

(١) الوسيط ٤ : ١١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٥.

١٤

اثنين كعقدين ، ويكون كأنّه قد قارض أحدهما في نصف المال بنصف الربح والآخَر في نصفه بثلث الربح ، وبه قال الشافعي (١).

وقال مالك : لا يجوز ؛ لأنّهما شريكان في العمل بأبدانهما ، فلا يجوز تفاضلهما في الربح ، كالمفردين (٢).

والمعتمد : الأوّل ؛ لأنّ ذلك بمنزلة العقدين ، ولا شكّ أنّه لو ضارب اثنين في عقدين جاز أن يفاضل بينهما ، فكذا إذا جمعهما عقدٌ واحد ؛ لأنّه بمنزلتهما.

ولأنّه مع تعدّد العامل ووحدة العقد إمّا أن يُنظر إلى تعدّد العامل فيجوز التفاضل قطعاً ، وإمّا أن يُنظر إلى وحدة العقد فكذلك ؛ لأنّه في الحقيقة قد شرط للعاملَيْن ـ اللّذين هُما بمنزلة عاملٍ واحد ـ نصفاً وثلثاً ، ولا شكّ في أنّه يجوز ذلك في العامل الواحد ، فكذا ما هو بمنزلته.

وقياس مالك باطل عندنا ؛ فإنّه لا تصحّ شركة الأبدان.

تذنيب : يجوز أن يقارض الاثنين وإن لم يثبت لكلٍّ منهما الاستقلال ، بل شرط على كلّ واحدٍ منهما مراجعة الآخَر ؛ عملاً بمقتضى الشرط ، وهو قول أكثر الشافعيّة (٣).

وقال الجويني : إنّما يجوز أن يقارض اثنين إذا ثبت لكلّ واحدٍ منهما‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٥ ، المغني ٥ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٤ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٣ / ١١١٨ ، الذخيرة ٦ : ٤٠.

(٢) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٣ ـ ٦٤٤ / ١١١٨ ، الذخيرة ٦ : ٤٠ ، النوادر والزيادات ٧ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٩ ، المغني ٥ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٥.

١٥

الاستقلال ، فإن شرط على كلّ واحدٍ منهما مراجعة الآخَر ، لم يجز (١).

ولا وجه له.

مسألة ١٩٨ : يجوز أن يقارض الاثنان واحدا ، ويجب أن يُبيّنا نصيب العامل من الربح ، ويكون الباقي بينهما على ما يشترطانه ، سواء كان على نسبة المالين أو لا ، فلو شرطا له النصف من نصيب أحدهما والثلث من نصيب الآخَر من الربح ، فإن أبهما لم يجز قطعاً ؛ للغرر بالجهالة ، وإن عيّنا فإن كان عالماً بقدر كلّ واحدٍ منهما جاز ، وإلاّ بطل.

ولو شرط أحدهما للعامل النصفَ من حصّته من الربح وشرط الآخَر الثلثَ على أن يكون الباقي بينهما نصفين ، جاز عندنا ـ وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور (٢) ـ عملاً بالشرط ، وقد بيّنّا أنّه يجوز اشتراط أحد الشريكين لنفسه أكثر ممّا يحصل له بالنسبة من ماله.

وقال الشافعي : لا يجوز ؛ لأنّ أحدهما يستحقّ ممّا بقي بعد شرطه النصفَ ، والآخَر الثلثين ، فلا يجوز أن يشترطا التساوي فيكون قد شرط أحدهما على الآخَر من ربح ماله بغير عملٍ عمله ولا مالٍ يملكه ، فلم يجز (٣).

وهو غلط ؛ لأنّ الفاضل من حصّة العامل ، لا من حصّة شريكه.

مسألة ١٩٩ : يجوز لوليّ الطفل والمجنون أن يقارض على مالهما مع المصلحة ؛ لأنّه يجوز له أن يوكّل عنهما في أُمورهما ، فكذا يجوز أن يعامل على أموالهما قراضاً.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٥.

(٢) بحر المذهب ٩ : ٢٢٦ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٩ ، المغني ٥ : ١٤٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٤ ـ ١٣٥.

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ٣٥٥ ، بحر المذهب ٩ : ٢٢٦ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٥ ، المغني ٥ : ١٤٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٥.

١٦

ولا فرق بين الأب والجدّ له ووصيّهما والحاكم وأمينه.

ولو لم يكن الدافع وليّاً ، كان ضامناً ، والربح لليتيم ؛ لأنّه متعدٍّ بدفعه مالَ الغير.

وقد سأل بكرُ بن حبيب الباقرَ عليه‌السلام عن رجلٍ دفع مال يتيمٍ مضاربةً ، فقال : « إن كان ربح فلليتيم ، وإن كانت وضيعة فالذي أعطاه (١) ضامن » (٢).

إذا عرفت هذا ، فإن كان العامل جاهلاً كان الربح لليتيم ، وعلى الدافع إليه أُجرة المثل ، وإن كان عالماً فلا أُجرة له ، وعلى التقديرين فالعامل ضامن ، لكن في الصورة الأُولى يرجع على الدافع إليه ، وفي الصورة الثانية لا يرجع.

مسألة ٢٠٠ : يشترط أن يكون الدافع مالك المال أو مَنْ أذن له المالك فيه ؛ لأنّ غيرهما ممنوع منه ؛ لما فيه من التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، وهذا العقد قابل للاستنابة ، فجاز أن يوقعه المالك بنفسه أو وكيله ؛ لأنّه نائبه في الحقيقة.

ويشترط في الوكيل الكماليّة المشترطة في باقي الوكلاء.

مسألة ٢٠١ : ليس للعامل في القراض أن يضارب غيره إلاّ بإذن المالك ، فإن فَعَل كان فاسداً ؛ لأنّ المالك لم يأذن فيه ولا ائتمن على المال غيره ، ولا يجوز للعامل أن يتصرّف في مال ربّ المال بما لا يتناوله إذنه ، ولا يجوز له أن يسلّمه إلى مَنْ لم يأتمنه.

فإن قارض العامل غيرَه بغير إذن المالك ، كان ضامناً ؛ لأنّه متعدٍّ فيه.

__________________

(١) في المصدر : « أعطى ».

(٢) التهذيب ٧ : ١٩٠ / ٨٤٢.

١٧

وإن قارض بإذن المالك ، صحّ ، وكان المالك قد أذن له أن يقارض إن اختار أو عجز عن العمل ، فإذا قارض بإذنه كان العامل الأوّل وكيلاً لربّ المال في ذلك.

البحث الثالث : في رأس المال.

وله شروط ثلاثة :

الأوّل : أن يكون من النقدين : دراهم ودنانير مضروبة منقوشة ، عند علمائنا ـ وبه قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة (١) ـ لأنّ القراض معاملة تشتمل على غررٍ عظيم ؛ إذ العمل مجهول غير منضبطٍ ، والربح غير متيقّن الحصول.

وإنّما سوّغنا هذه المعاملة مع الغرر الكثير ؛ للحاجة والضرورة ، فتختصّ بما تسهل التجارة عليه وتروج في كلّ حالٍ وكلّ وقتٍ ؛ لأنّ النقدين أثمان البياعات ، والناس يتداولون بالمعاملة عليها من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) مختصر المزني : ١٢٢ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٣٨ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣٠٧ ، التنبيه : ١١٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٩٢ ، بحر المذهب ٩ : ١٨٨ ، الوجيز ١ : ٢٢١ ، الوسيط ٤ : ١٠٦ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢٩ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٧٨ ، البيان ٧ : ١٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٧ ، منهاج الطالبين : ١٥٤ ، الموطّأ ٢ : ٦٨٩ ، ذيل الرقم ٤ ، الاستذكار ٢١ : ١٣٦ / ٣٠٧٩١ و ٣٠٧٩٣ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٨٦ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٠ / ١١١١ ، التلقين : ٤٠٧ ، التفريع ٢ : ١٩٤ ، الذخيرة ٦ : ٣٠ ، المعونة ٢ : ١١٢٠ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٣٨٤ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ٨٢ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٨٧ / ١٠٤٠ ، فتاوى قاضيخان ـ بهامش الفتاوى الهنديّة ـ ٣ : ١٦١ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٢ : ٢١ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٣٧ / ١٧٠٢ ، النتف ١ : ٥٣٨ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٠٢ ، المغني ٥ : ١٢٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٢.

١٨

وقبله وبعده إلى زماننا هذا ، ويرجعون إليهما في قِيَم المُتلفات.

ولأنّ النقدين ثمنان لا يختلفان بالأزمنة والأصقاع إلاّ قليلاً نادراً ، ولا يقوَّمان بغيرهما ، وأمّا غيرهما من العروض فإنّ قيمتها تختلف دائماً ، فلو جُعل شي‌ء منها رأس المال لزم إمّا أخذ المالك جميعَ الربح ، أو أخذ العامل بعضَ رأس المال ، والتالي بقسميه باطل ، فالمقدَّم مثله.

بيان الشرطيّة : إنّهما إذا جعلا رأس المال ثوباً مثلاً ، فإمّا أن يشترط (١) ردّ ثوبٍ بتلك الصفات ، أو ردّ قيمته.

فإن شرطا الأوّل ، فربما كان قيمة الثوب في حال المعاملة يساوي ديناراً ويبيعه به ويتصرّف فيه حتى يبلغ المال عشرة دنانير ثمّ ترتفع قيمة الثياب حتى لا يوجد مثل ذلك الثوب إلاّ بعشرة ، فيحتاج العامل إلى أن يصرف جميع ما معه إلى تحصيل رأس المال ، فيذهب الربح في رأس المال ، فيتضرّر العامل.

وبالعكس قد تكون قيمة الثوب عشرةً وقت المعاملة ، فيبيعه ولا يربح شيئاً ثمّ تتنازل قيمة الثياب حتى يوجد مثله بنصف دينارٍ فيدفعه إليه ويبقى نصف دينارٍ (٢) ويأخذ العامل منه حصّته ، فيحصل بعض رأس المال.

وإن شرطا ردّ القيمة ، فإمّا أن يشترطا قيمته حال المفاصلة أو قيمته حال الدفع ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّها مجهولة ، ولأنّ القيمة قد تزيد بحيث تستوعب الأصل والنماء ، فيلزم المحذور السابق.

والثاني باطل ؛ لأنّه قد تكون قيمته في الحال عشرةً وتعود عند‌

__________________

(١) الظاهر : « يشترطا ».

(٢) الظاهر : « تسعة ونصف دينار ».

١٩

المفاصلة إلى واحدٍ ، فيلزم المحذور الثاني.

وأمّا بطلان التالي (١) : فلأنّه منافٍ للمضاربة ؛ لأنّ مقتضاها أن يرجع إلى ربّ المال رأس ماله ثمّ يشتركان في الربح.

واعتُرض (٢) بأنّ لزوم أحد الأمرين مبنيٌّ على أنّ رأس المال قيمة (٣) يوم العقد ، وبتقدير جواز القراض على العرض يجوز أن يكون رأس المال ذلك العرض بصفاته من غير نظرٍ إلى القيمة ، كما أنّه المستحقّ في السَّلَم ، وحينئذٍ فإن ارتفعت القيمة فهو كخسرانٍ حصل في أموال القراض ، وإن انخفضت فهو كزيادة قيمةٍ فيها.

وادّعى بعض الشافعيّة الإجماعَ على اختصاص القراض بالنقدين (٤).

والشيخ رحمه‌الله استدلّ على الاختصاص : بأنّ ذلك مُجمع على جوازه ، بخلاف المتنازع (٥).

وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى : يجوز القراض بكلّ مالٍ ، فإن كان له مِثْلٌ أُعيد مثله عند المفاصلة ، وإن لم يكن له مِثْلٌ أُعيد قيمته ـ وبه قال طاوُس وحمّاد بن أبي [ سليمان ] (٦) مسلم ، وعن أحمد روايتان ـ لأنّ ذلك يجوز أن يكون ثمناً ، فجاز أن يكون رأس مال المضاربة كالنقود (٧).

__________________

(١) في « ث ، خ ، ر » : « الثاني » بدل « التالي ».

(٢) المعترض هو الرافعي في العزيز شرح الوجيز ٦ : ٧.

(٣) في « ث ، ج ، ر » : « قيمته ».

(٤) البيان ٧ : ١٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٧.

(٥) الخلاف ٣ : ٤٥٩ ، المسألة ١ من كتاب القراض.

(٦) ما بين المعقوفين أثبتناه من الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٣٩ ، والمغني ٥ : ١٢٥ ، والشرح الكبير ٥ : ١١٣ ، وتهذيب التهذيب ٣ : ١٤ / ١٥.

(٧) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٣٩ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣٠٧ ، بحر المذهب ٩ : ١٨٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٠ ، البيان ٧ : ١٥٩ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٠ / ١١١١ ، الاستذكار ٢١ : ١٣٦ / ٣٠٧٩٤ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٣٦ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٨١ / ٣٤٢٢ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٢ : ٣٣ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٣٧ / ١٧٠٢.

٢٠