الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

ولإيضاح هذا الجانب ، وهو الأساس في بناء الكتاب ، فإن علينا أن نعرض المقياس في الجمع بين الأدلة أو تقديم بعضها على بعض لنعرف السر في ذلك البناء فنقول :

إن الجمع بين الأدلة أو تقديم بعضها على بعض من وجهة دلالية قد يكون لأمور ، لعل أهمها أربعة هي : التخصيص ، التخصص ، الحكومة ، الورود.

وكلمتا (الحكومة) و (الورود) ، مصطلح متأخر جرى على ألسنة بعض أعلام النجف ، منذ ما يزيد على القرن (١) وتداول على ألسنة جميع الأعلام بعد ذلك وبحثوا كل ما يميزهما عن التخصيص والتخصص ، وهما المصطلحان اللذان شاع استعمالهما على ألسنة الأصوليين قديما وحديثا.

وكان الباعث لهم على هذا المصطلح الجديد أنهم وجدوا ان طريقتي التخصيص والتخصص لم تعودا وافيتين بحاجة الفقيه إلى معرفة الجمع بين الأدلة أو تقديم بعضها على بعض ، لأن بعض الأدلة تقتضي ألسنتها التقديم وهي ليست تخصيصا ولا تخصصا ، وليس لدى القدماء ما يوجبه من الأصول التي وضعوها لذلك.

وإذا اقتصر التخصيص والتخصص على الأدلة اللفظية ، فإن الحكومة والورود يعمان حتى الأصول المنتجة للوظائف على اختلافها.

ومن الحق ان نشير إلى هذه المصطلحات بشيء من الإيضاح.

التخصيص :

فالمراد بالتخصيص إخراج من الحكم مع دخول المخرج موضوعا ، ومثاله : كل

__________________

(١) المعروف أن الشيخ الأنصاري قدس سرّه المتوفى سنة ١٢٨١ ه‍ ، هو أول من وضع هذا الاصطلاح وتبنى مفاهيمه ، إلا أن أستاذنا الشيخ حسين الحلي رحمة الله تتبع هذا الاصطلاح ، فوجده في كتاب «الجواهر» في أكثر من موضع ، وصاحب الجواهر (الشيخ محمد حسن قدس سرّه) أقدم طبقة منه وان كانت بينهما معاصرة ، ولم يسعني تحقيق ذلك لمعرفة واضع هذا المصطلح ، والله أعلم بحاله (المؤلف).

٨١

مكلف يجب عليه الصوم في شهر رمضان إلا المسافر ، فالمسافر مكلف ولا يجب عليه الصوم.

التخصص :

أما التخصص فالمراد به الخروج الموضوعي الوجداني ، وهو الّذي يسميه النحويون ب (الاستثناء المنقطع) ومثاله : كل مكلف يجب عليه الصيام إلا الطفل ، فان الطفل خارج عن موضوع (المكلف) وجدانا.

الحكومة :

والمراد بالحكومة ان يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر ، موسعا أو مضيقا له ، فمن القسم الأول ما ورد من أن «الفقاع خمر استصغره الناس» (١) ، فالفقاع ، وإن لم يكن خمرا بمفهومه اللغوي ، إلا ان الشارع بدليله هذا وسّع مفهوم الخمر إلى ما يشمل الفقاع ، وأعطاه جميع أحكام الخمر بحكم عموم التنزيل. وأمثال هذا في الأدلة كثيرة.

ومن القسم الثاني ما ورد في أدلة نفي الضرر ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» (٢) وسمة هذه الأدلة إلى أدلة الأحكام الأولية ، سمة المضيق لها إلى ما لا يشمل الأحكام الضررية ، ولسان الكثير من أدلة هذا النوع من الحكومة لسان نفي للموضوع تعبدا ، ونفي الموضوع يستدعي نفي الحكم إذ لا حكم بلا موضوع.

ومن مزايا الأدلة الحاكمة ان النسبة لا تلحظ بينها وبين الأدلة المحكومة ، كما هو الشأن في الأدلة المخصصة ، فليس من الضروري ان يكون الدليل الحاكم أخص من الدليل المحكوم لنلتزم بتقديمه عليه ، بل يكفي ان يكون شارحا ومبينا له

__________________

(١) فروع الكافي : ٦ ـ ٤٢٣ ، الحديث : ٩ ، باختلاف يسير.

(٢) المصدر السابق : ٥ ـ ٢٨٠ ، الحديث : ٤.

٨٢

ليقدم عليه ، وان كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه.

وسر الفرق بينهما أن التقديم في التخصيص إنما كان لأجل أن ظهور الخاصّ في مصاديقه أقوى من ظهور العام في مصاديق الخاصّ ، أو أن الخاصّ نصّ فيها والعام ظاهر ، والنص والأظهر يقدمان على الظاهر عادة ، أو أن الخاصّ بمنزلة القرينة على المراد الجدي ، والظهور لا يتجاوز الكشف عن المراد الاستعمالي للآمر ، ومن عدم القرينة على تغاير المراد الاستعمالي للمراد الجدي نستفيد تطابقهما ، فإذا جاءت القرينة على المغايرة لم يبق مجال للاستدلال ـ بما يكشف عن المراد الاستعمالي ـ على المراد الجدي ، على اختلاف في فلسفة التقديم.

ولكن ذلك لا يتأتى في العامّين من وجه ، لأن نسبة كل منهما إلى موضع الالتقاء من حيث الظهور نسبة واحدة ، فلا يصلح ان يكون أحدهما قرينة على التخصيص بالنسبة إلى الآخر ، ومن هنا التزمنا بالتساقط في العامين من وجه عند تعارضهما في موضع الالتقاء.

ولكن لسان الحكومة لما كان لسان شرح وبيان للمراد من الأدلة الأولية ، كان قرينة على كل حال ، فلا بدّ ان ينزل ذو القرينة عليها عرفا ، ومن هنا لم يلحظ العلماء النسبة في أدلة العناوين الثانوية مع العناوين الأولية ، ولا أدلة الرخصة مع العزيمة ، فيعارضون بينها مع ان النسبة بينهما ـ في الغالب ـ هي نسبة العموم من وجه ، فأدلة نفي الإكراه أو الاضطرار عند ما تنسب إلى أي حكم تكون نسبته إليها نسبة العموم من وجه ، خذوا على ذلك مثلا نسبتها إلى حرمة أكل لحم الميتة ، فان أدلة حرمة الأكل تقول : يحرم أكل الميتة على المضطر وغيره ، وأدلة نفي الاضطرار ، تقول : ان الحكم المضطر إليه مرتفع كان أكل الميتة أو غيره ، وموضع الالتقاء الميتة المضطر إلى أكلها ، وهكذا ، والسر هو ما قلناه من تقديم العرف لهذا النوع من الأدلة بعد ان كان لسانه لسان بيان وشرح للمراد من الأدلة الأولية.

٨٣

الورود :

أما الورود ، فالمراد به الدليل النافي للموضوع وجدانا ، ولكن بتوسط تعبد شرعي ، ومثاله ما ورد عن الشارع من قوله : «رفع عن أمتي ما لا يعلمون» (١). ولسانه لسان المؤمّن للعبد فيما لو ترك التكليف المشكوك ولم يأت به مع عجزه عن الوصول إليه بالأدلة الاجتهادية المنجزة له ، فلو ترك استنادا إلى هذا الحديث فانه لا يحتمل الضرر ، فالقاعدة العقلية القائلة ب «وجوب دفع الضرر المحتمل» لا يبقى لها موضوع إذ لا احتمال للضرر مع وجود المؤمّن الشرعي.

فسمة حديث الرفع إلى هذه القاعدة سمة الوارد عليها ، المزيل لموضوعها وجدانا ، ولكن بواسطة التعبد الشرعي.

والفارق بينه وبين التخصص : ان التخصص خروج موضوعي وجداني ، ولكن لا بتوسط تعبد من الشارع ، والورود خروج موضوعي وجداني ، ولكن بواسطة تعبد الشارع ، فلو لم يأت حديث الرفع كان احتمال الضرر موجودا ، وكان حكمه العقلي بلزوم دفعه قائما أيضا ، ولكن التعبد الشرعي أزال الاحتمال وجدانا فأزيل معه حكمه تبعا لذلك ، كما أن الفارق بينه وبين الحكومة واضح ، فالحكومة وإن كان لسان بعضها لسان نفي الموضوع ، إلا أن نفيها له نفي تعبدي لا وجداني ، فقول الشارع : «لا ضرر ولا ضرار» (٢) وان كان فيه نفي للموضوع تعبدا ، إلا أن نفيه التعبدي لم يؤثر على بقائه الوجداني ، فالضرر الخارجي قائم وإن نفاه الشارع لنفي آثاره الشرعية بخلاف الورود ، فإن قيام المؤمّن الشرعي ينفي احتمال الضرر وجدانا ، ولعل لنا تفصيلا أوسع في كيفية الجمع بين الأدلة على اختلافها يأتي في مبحث الاستحسان. وفي حدود ما عرضناه هنا كفاية لإيضاح

__________________

(١) أصول الكافي : ٢ ـ ٤٦٣ ، الحديث : ٢ ، بلفظ «وضع عن أمتي ...».

(٢) فروع الكافي : ٥ ـ ٢٨٠ ، الحديث : ٤.

٨٤

وجهة نظرنا في منهجة البحث وبيان السر في تقديم هذه البحوث بعضها على بعض.

(٣)

وإذا تم هذا ، عدنا إلى أدلة اعتبار هذه المراحل التي لا بد وان يتوفر عليها المجتهد لنرى أن أدلة الطرق والأمارات بعد ما كان لسانها لسان كشف عن الواقع وإثبات له ، وان الشارع أمضى طريقيتها كما سبق ، فمع قيامها لا مجال للرجوع إلى أدلة الواقع التنزيلي كالاستصحاب ، فالاستصحاب مثلا ، لا يريد منك أكثر من اعتبار مشكوكك متيقنا ، ومع فرض كونك متيقنا ـ ولو بواسطة التعبد الشرعي ـ لا شك لديك ـ تعبدا ـ لتحكم باعتبارك متيقنا ، فأدلة الطرق والأمارات حاكمة على أدلة الاستصحاب ومزيلة لموضوعه.

وأدلة الاستصحاب هي الأخرى لا تبقى مجالا لالتماس الوظيفة الشرعية ، لأن الوظيفة الشرعية إنما يلجأ إليها إذا اختفى الواقع بجميع مراتبه ، حتى التنزيلية منها ، ومع قيام الواقع التنزيلي ـ بأدلة الاستصحاب ـ لا مجال لمثل حديث الرفع المأخوذ فيه عدم العلم «رفع عن أمتي ما لا يعلمون» لحكومتها عليه بإزالتها لعدم العلم تعبدا ، وهو الّذي أخذ في موضوعها ـ أي البراءة ـ بمقتضى هذا الدليل ، وهكذا بالنسبة إلى الاحتياط والتخيير.

ومع قيام أدلة الوظيفة الشرعية ، لا مجال للوظيفة العقلية ، لورودها عليها بإزالتها لموضوعها وجدانا.

فالوظيفة العقلية مأخوذ في موضوعها عدم البيان الشرعي ، كما هو مقتضى القاعدة القائلة بقبح العقاب بلا بيان ، أو احتمال الضرر كما هو مقتضى قاعدة لزوم

٨٥

دفع الضرر المحتمل.

ومع قيام المؤمّن الشرعي بأدلة الوظيفة يزول موضوع القاعدتين وجدانا ، لوجود البيان الشرعي بالنسبة إلى القاعدة الأولى ، وعدم احتمال الضرر مع وجود المؤمّن بالنسبة للقاعدة الثانية ، وإنما زال الموضوع فيهما بواسطة التعبد الشرعي (وهو معنى الورود) والقرعة لا مجال لها مع توفر الوظيفة العقلية لعدم الإشكال فيها ، وقد أخذ فيها انها لكل أمر مشكل ، وأين الإشكال مع قيام المؤمن العقلي؟ فهو وارد على أدلة القرعة ومزيل لها وجدانا ، وهو في إزالته لموضوعها أقرب إلى التخصص الواقعي منه إلى الورود ، لعدم توسط التعبد الشرعي في إزالة الموضوع وجدانا.

(٤)

أما الجواب على التساؤل الثالث وهو :

منهج الدراسة :

فأظنه يتضح إذا تذكرنا الأسس التي ركزنا عليها في التمهيد الثاني في دراسة أصول الاحتجاج.

وبناء على هذا فإن مهمتنا تنصب في الدرجة الأولى ـ بعد استقراء الأصول ـ على تتبع أدلتها عند جميع الأطراف والتماس كيفية دلالتها عندهم ، ثم محاولة تقييم هذه الأدلة وإقرار ما نراه ملزما بالحجية ، ومناقشة ما لا نتفق عليه معهم ، ثم عرض وجهة نظرنا فيه.

وكل مناقشة لا تعود بالدليل إلى إحدى تلكم الأوليات أو القضايا المسلّمة

٨٦

لدى الطرفين لا تكون ملزمة لذلك الطرف المناقش ويبقى رأيه حجة عليه ، والمسألة تتحول إذ ذاك إلى مسألة مبنائية ، كما هو الشأن في عوالم الاستظهار ودعوى التبادر ، وهي غاية ما تلزم مدعيها ومن قامت لديه ، كما أن دعوى القطع ـ وهو أساس الحجج ـ لا يكون ملزما لغير من قام عنده ما لم يستند إلى إحدى تلكم الأوليات والمسلّمات ، فيكون حجة على الغير لاستحالة تخلفه عنها بعد تنبهه له ، وبهذا يصح الاحتجاج والتقييم.

وخلاصة ما انتهينا إليه من ذلك كله :

اننا بعد استقرائنا لمختلف الكتب الفقهية والأصولية لدى أئمة ومجتهدي المذاهب ـ فيما وقع منها بأيدينا ـ رأينا ان الّذي ينتظم منها في كتابنا هذا ـ بحكم تحديدنا لمفهوم أصول الفقه ـ هو هذه الأصول التي سبق عرضها لا غير ، لذلك ركزنا عليها الحديث دون غيرها ، وعند التماس هيكل الكتاب رأينا ان نخرج على الطريقة التقليدية ، فنبوبه على أساس ما لبعض هذه الأبواب من تقدم رتبي على بعضها الآخر ، وخلص لنا من ذلك ان أبواب الكتاب ستكون خمسة :

١ ـ ما يكون سمته سمة الكاشف عن الحكم الواقعي.

٢ ـ ما يكون سمته سمة المحرز للواقع تنزيلا.

٣ ـ ما يكون مثبتا للوظيفة الشرعية.

٤ ـ ما يكون مثبتا للوظيفة العقلية.

٥ ـ ما يكون رافعا للأمور المشكلة بعد تعقدها وفقد الدليل عليها.

هذا مضافا إلى ما سبق ان قرأتموه من بحوث التمهيد.

وقد آثرنا ان نلحقه بخاتمة وهي أقرب إلى البحوث الفقهية ، وان اعتادوا إلحاقها بالأصول وهي بحوث :

٨٧

الاجتهاد والتقليد :

وانما آثرنا إلحاقها بهذا الكتاب نظرا لأهميتها أولا ، ولأنها تصلح ان تكون نماذج تطبيقية لهذه الأصول وكيفية استنباط الأحكام الشرعية منها ثانيا.

وأبعدنا عن طريقنا كل ما لا ينتج الحكم الكلي من الكبريات وكلما يقع موقع الصغرى من قياس الاستنباط ، وأشرنا إلى بحوثها المهمة جدا في ملابساتها من هذه التمهيدات أو الأصول.

٨٨

أصول الفقه المقارن

ينحصر بحثنا حول هذه الأصول من حيث إنتاجها للحكم الكلي الشرعي فقط ، لا من الحيثيات الأخرى كصلوحها للدليلية على نفس الأصول أو إثباتها لما يتعلق بأصول الدين أو غيرها ، فإن لذلك مجالا آخر غير هذا الكتاب وإن كان ملاك الحجية فيها واحدا.

٨٩
٩٠

الباب الأول

القسم الأول

الكتاب العزيز

* تحديد مفهوم الكتاب

* حجيته من الضروريات

* حجية الظواهر ودليلها

* مصادر التشكيك في حجية ظواهر الكتاب

* العلم الإجمالي

* الأخبار المأثورة

* شبهة التحريف ومناقشاتها

٩١
٩٢

(١)

تحديد مفهوم الكتاب :

والمراد بالكتاب هنا هو كتاب الله عزوجل الّذي أنزله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألفاظا ومعاني وأسلوبا ، واعتبره قرآنا دون أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل في انتفاء ألفاظه أو صياغته.

فليس منه ما أنزله الله تعالى على نبيه من الأحكام وأدّاها بأسلوبه الخاصّ ، كما ليس منه ما ثبت من الحديث القدسي ، وهو ما أثر نزوله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يثبت نظمه من قبله في سلك القرآن ، وكذلك ما نزل من الكتب السماوية على الأنبياء السابقين كالتوراة والإنجيل والزبور ، لعدم اعتبارها قرآنا.

وتفسير القرآن وترجمته ليسا من القرآن في شيء ، فلا تجري عليهما أحكام القرآن الخاصة.

وثبوت الحجية للتفسير إذا كان صادرا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أهل بيته فإنما هو لاعتبار كونه ـ أي التفسير ـ من السنّة لا من الكتاب.

وهذه الأمور موضع اتفاق المسلمين على اختلاف مذاهبهم ، ولا أعرف مخالفا في ذلك إلاّ ما يبدو من أبي حنيفة حيث (جوّز القراءة بالفارسية في الصلاة لمن لا يعرف العربية ولا يقدر على القراءة بها) (١) ، ووافقه بعضهم على ذلك ، وقيل انه عدل عن ذلك وأفتى لمن لا يقدر على القراءة بها أن يصلي ساكتا (٢). وعلى هذا

__________________

(١) علم أصول الفقه لخلاّف : ٢٤.

(٢) المصدر السابق.

٩٣

فالقرآن هو خصوص ما بين الدفتين دون أن يزاد فيه حرف أو ينقص ، ولقد أحصيت آياته فبلغت «ستة آلاف وثلاثمائة واثنتين وأربعين آية ، منها خمسمائة آية فقط تتعلق بالأحكام» (١) ، وقد انتظمت هذه الآيات في سور بلغ مجموعها مائة وأربع عشرة سورة ، أولها (الحمد) وآخرها (الناس).

وآخر ما نزل من آياته قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(٢) ، وقد نزلت في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة في غدير خم عند عودته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع ، وبعد أن أعلن الولاية لعلي ، كما ورد ذلك في كثير من الروايات المأثورة لدى الطرفين (٣).

حجيته :

والحديث حول حجيته موقوف على تمام مقدمتين :

أولاهما : ثبوت تواتره الموجب للقطع بصدوره ، وهذا ما لا يشك فيه مسلم امتحن الله قلبه للإيمان.

والثانية : ثبوت نسبته لله عزوجل وعقيدة المسلمين قائمة على ذلك ، وحسبهم حجة ثبوت إعجازه بأسلوبه ومضامينه وتحدّيه لبلغاء عصره ونكولهم عن مجاراته ، وإخباره بالمغيبات التي ثبت بعد ذلك صدقها ومطابقتها لما أخبر به ، كما ورد في سورة الروم وغيرها ، وارتفاعه عن مستوى عصره بدقة تشريعاته ، إلى ما هنالك مما يوجب القطع بسموّه عن قابليات البشر مهما كان لهم من الشأن.

وقد استدل بعضهم (٤) ، فيما يبدو ، على كونه من الله بهذه الآيات المباركة :

__________________

(١) المدخل إلى علم أصول الفقه : ٢٠.

(٢) سورة المائدة : الآية ٣.

(٣) اقرأ أسانيدها في الجزء الأول من كتاب الغدير.

(٤) فلسفة التشريع في الإسلام : ١٤٤.

٩٤

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) و (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)(٢) و (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٣) مع وضوح أن دلالتها على ذلك دورية ، لبداهة ان دلالة هذه الآيات على كون القرآن من الله موقوفة على ان تكون هي من الله ، وكونها من الله تعالى موقوف على كون القرآن منه تعالى ، وهي بعضه ولا تميز لها عن بقية آياته من حيث النسبة إليه ليرتفع به الدور ، اللهم إلا ان يكون ذكرها لديه من باب الاستئناس بها لا الاستدلال.

وعلى أي حال فحجية القرآن أكبر من ان يتحدث عنها بين المسلمين بعد إيمانهم جميعا بثبوت تواتره وإعجازه ، ومثل هذا الحديث يقتضي ان يساق إلى غيرهم كوسيلة من وسائل الدعوة إلى الإسلام ، لا أن يثار بين صفوفهم ويتحدث فيه.

المحكم والمتشابه :

والقرآن فيه محكم ومتشابه ، لقوله سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(٤) وقد اختلف في تعريفهما على أقوال :

«قال الجبائي : المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا ، وقال جابر : المحكم ما يعلم تعيين تأويله ، والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله» (٥) وقيل : «المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل ،

__________________

(١) سورة الم السجدة : الآية ٢.

(٢) سورة النساء : الآية ١٠٤.

(٣) سورة النجم : الآيتان ٤ ـ ٥.

(٤) سورة آل عمران : الآية ٧.

(٥) متشابهات القرآن ، لابن شهرآشوب : ٢.

٩٥

والمتشابه ما استأثر الله بعلمه» (١) ولعل هذا التفسير يتلاءم مع ما يبدو من ظهور هذه الآية (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢) بناء على ظهورها في ان كلمة (يقولون) خبر إلى (الراسخون) فيكون المتشابه مما استأثر الله عزوجل بعلمه ، وما ورد تأويله من غوامض الآيات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام فهو من المحكم. وللشريف الرضي في تحقيق المراد من هذه الآية حديث يحسن الرجوع إليه في هذا المجال (٣).

ومهما أريد من لفظ المحكم والمتشابه فان الّذي يكون حجة من آيات الكتاب ـ من دون توسط التأويل ـ هو خصوص ما كان منها نصّا في مدلوله أو ظاهرا فيه.

أما حجية ما كان نصا منها فللقطع بمدلوله ، لأن النص هو ما لم يحتمل فيه الخلاف ، والقطع حجيته ذاتية ـ كما سبق ـ وأما الظاهر فحجيته من صغريات مسألة :

حجية الظواهر :

وهي أوضح من ان يطال فيها الحديث ما دام البشر في جميع لغاته قد جرى على الأخذ بظواهر الكلام وترتيب آثارها ولوازمها عليها ، بل لو أمكن ان يتخلّى عنها لما استقام له التفاهم بحال ، لأن ما كان نصا في مدلوله مما ينتظم في كلامه لا يشكل إلا أقل القليل.

وبالضرورة ان عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان بدعا من العصور ، لينفرد به الناس في

__________________

(١) إرشاد الفحول : ١ ـ ٣٢.

(٢) سورة آل عمران : الآية ٧.

(٣) راجع : حقائق التأويل : ٥ ـ ١ وما بعدها.

٩٦

أساليب تفاهمهم بنوع خاص من التفاهم لا يعتمد الظهور ركيزة من ركائزه ، وما كان للنبي طريقة خاصة في التفاهم انفرد بها عن معاصريه ، وإلاّ لكانت أحدوثة التأريخ ، فالقطع بإقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطريقتهم في التفاهم كاف في إثبات حجية الظواهر.

وقد نزل القرآن بلغة العرب وتبنّى طريقتهم في عرض أفكاره ، وكان لكلامه ظاهر يفهمونه ويسيرون على وفقه.

وبما أننا نعلم ان من الطرق التي سار عليها الشارع المقدس في تبليغ أحكامه ، الطريقة الشائعة لدى جميع البشر من الاعتماد على القرائن المنفصلة أحيانا ، وإن القرآن سار على الطريقة نفسها ، وبذلك خصصت بعض عموماته بقسم من الآيات ، كما خصص القسم الآخر منها بالسنّة ، بحكم كونها مبينة للمراد من الكتاب وشارحة له.

لذلك كان علينا قبل ان نعتمد على أصالة الظهور ، ان نفحص عن القرينة المنفصلة ، فإن عثرنا عليها خصصنا أو قيدنا بها الكتاب ، وإن يئسنا من العثور عليها في مظانها كان لنا العمل بعموماته أو مطلقاته.

وما يقال عن المخصص والمقيد يقال عن الناسخ ، بناء على إمكان النسخ ووقوعه ، كما هو رأي جمهرة المسلمين.

وما ورد من التشكيك في حجية ظهور القرآن أمر لا يستقيم بحال.

مصادر التشكيك في حجية ظهوره :

وغاية ما يمكن ان يذكر من مصادر التوقف عن العمل بظهوره أمور لا تخلو كلها من مناقشة :

١ ـ ما نسب إلى الأخباريين من دعوى التوقف عن العمل بها لأمرين :

أ ـ العلم الإجمالي بطرو مخصصات من السنّة ومقيدات على عموماته

٩٧

ومطلقاته ، والعلم الإجمالي منجز لمتعلقه ومانع من جريان الأصول في أطرافه حتى اللفظية منها ، كأصالتي العموم والإطلاق ، ومع فرض جريانها فهي ساقطة للمعارضة ، ونتيجة ذلك سريان الإجمال لكل ظواهره والتوقف عن العمل بها لاحتمال إرادة خلافها ، ولا مدفع لهذا الاحتمال من أصل وغيره.

والجواب : ان العلم الإجمالي انما ينجز متعلقه إذا لم يتحول إلى علم تفصيلي في أحد الأطراف ، وشبهة بدوية في الأطراف الاخر كما هو موضع اتفاقهم ، وسيأتي تحقيقه في مباحث الاحتياط.

وبما أن العلم هنا بطرو مخصصات ومقيدات منحل بما عثر عليه منها بعد الفحص في مختلف مظانه من الآيات والأحاديث وهو بمقدار المعلوم بالإجمال ، فان العلم الإجمالي ينحل بذلك ، ويرجع في بقية أطرافه المشكوكة إلى الأصول اللفظية ، على أن هذه الشبهة لا تختص بالكتاب ، بل تعم حتى ظواهر السنة بعد العلم بأن الشارع المقدس كان من طريقته التي اتبعها في البيان الاتكال ـ أحيانا ولمصلحة ما ـ على القرائن المنفصلة مع أنهم لا يلتزمون بالإجمال في السنة.

ب ـ ما ورد من الأحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، وهي متواترة بين الفريقين ، وما ورد في بعضها من النهي عن العمل بالكتاب دون الرجوع إلى أهل البيت عليهم‌السلام.

وليس في جميع هذه الأحاديث ما يوجب التوقف عن العمل بظواهره. أما القسم الأول منها فلخروج الظواهر عنها تخصصا ، لأن التفسير إنما يكون للأشياء الغامضة ولا معنى لتفسير الواضحات ، والمفروض أن الظواهر واضحة الدلالة فلا تحتاج إلى التفسير بالرأي. وأما القسم الثاني منها فلما قلناه في العلم الإجمالي من لزوم الفحص عن المخصص والمقيد ، والمفروض أننا لا نرجع إلى التمسك بالظواهر إلاّ بعد اليأس عن العثور عليهما «ولا يدعي أحد جواز الاستقلال في العمل

٩٨

بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عنهم ، هذا مضافا إلى ما ورد في جملة من الأخبار لا يبعد أن تكون متواترة معنى من جواز العمل بالكتاب والتمسك به والرجوع إليه ، وعرض الأخبار المتعارضة عليه ، والأخذ بما وافق الكتاب وطرح المخالف ، وغير ذلك مما يظهر منه المفروغية عن صحة التمسك بظاهر الكتاب» (١).

وعقيدتي أن إخواننا المحدثين لا يريدون أكثر من هذا ، فالخلاف بينهم وبين إخوانهم من الأصوليين وغيرهم من علماء الإسلام خلاف شكلي ، فهم لا يمنعون من العمل بظواهر الكتاب مطلقا ، وإنما يمنعون عنه إذا لم يقترن بالفحص عن مخصصه أو ناسخه أو مقيّده.

٢ ـ ما نسب إلى بعض المحدثين أيضا من ان فهم القرآن مختص بمن خوطب به ، واستدلوا على ذلك بروايات منها :

مرسلة شعيب بن أنس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه قال لأبي حنيفة : «أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم. قال عليه‌السلام : فبأي شيء تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيه. قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة ، أتعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : نعم ، قال له : يا أبا حنيفة ، لقد ادعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ويلك ما هو إلا عند الخاصّ من ذرية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ورثك الله تعالى من كتابه حرفا» (٢)

وفي رواية زيد الشحام ، قال : «دخل قتادة على أبي جعفر : فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون. فقال عليه‌السلام : بلغني انك تفسّر القرآن ، قال : نعم ـ إلى ان قال ـ : يا قتادة ، ان كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ٤٨ ، وللاطلاع على تفصيل هذه الأخبار تراجع رسائل الشيخ الأنصاري (فرائد الأصول : ٥٦ وما بعدها ط. جامعة المدرسين).

(٢) بحار الأنوار : ٢ ـ ٢٩٣ ، الباب ٣٤ ، الحديث : ١٣ ، وراجع : البيان في تفسير القرآن : ١٨٤.

٩٩

هلكت وأهلكت ، وان كنت قد فسرته من الرّجال فقد هلكت وأهلكت ، يا قتادة ويحك انما يعرف القرآن من خوطب به» (١).

وربما أيد بما نسب إلى المحقق القمي من دعوى اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه من المخاطبين بها ، لاحتمال أن تكون في البين قرينة اعتمدها المتكلم ، وهي معهودة بينه وبين المخاطب ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الوثوق بأن ظاهر الكلام هو المراد (٢).

وكلامه وان ركز فيه على السنّة بالخصوص ، إلاّ انه يصلح أن يكون مؤيدا لدعوى أولئك المحدثين لتوفر ملاك دعواه فيها أحيانا.

والجواب عن هذه الدعوى واضح جدا ، أما المرسلة فهي بالإضافة إلى ضعفها بالإرسال ، وكونها أضيق من المدعى ـ لو تمت دلالتها ـ لاختصاصها بالخاصة من ذرية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدعوى اختصاص حجية ظواهر الكتاب بمن خوطب به ، ومن الواضح أن الخاصة من أهل البيت عليهم‌السلام لم يختصوا وحدهم بالخطاب ، بل لم يكونوا كلهم حاضرين وقت الخطاب ، فبينهم وبين المخاطبين عموم مطلق أو من وجه أحيانا ـ ان المراد منها ان فهم القرآن حق فهمه ككل ـ أي ما احتاج منه إلى تأويل ، وما لم يحتج ـ مختص بهم بالخصوص ، فهي اذن أجنبية عن المدعى من جواز الأخذ بظواهره فقط ، وإلا فمن البعيد جدا ان ينفي الإمام عن أبي حنيفة حتى معرفة مثل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) مما يكون نصا أو ظاهرا في مدلوله.

وأما الرواية الثانية فهي أجنبية عن المدعى أيضا ، لأنها واردة فيما يحتاج إلى تفسير ، وقد سبق ان قلنا أن الظاهر لا يحتاج إلى تفسير ، فخروجها عما دل على حجية الظواهر بالتخصص كما هو واضح.

__________________

(١) فروع الكافي : ٨ ـ ٣١١ الباب : ٨ ، الحديث ٤٨٥ ، وراجع : البيان في تفسير القرآن : ١٨٤.

(٢) فوائد الأصول : ٣ ـ ٤٨.

١٠٠