الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

هذه بحوث سبق ان ألقيت فصولها على طلبة السنتين الثالثة والرابعة في كلية الفقه في النجف الأشرف ، وعاودت النّظر في بعضها ، ولم أعاوده في البعض الآخر.

ولعل ما فيها من جدة النهج في حصر المسائل الأصولية وتبويبها ، وجهد المحاولة في تأسيس أصول للمقارنة الفقهية لم يسبق لي أن اطلعت على معالم محددة لها في تجارب السابقين ، ثم المحاولة في ضبط وتطوير أصول للفقه المقارن فيه سعة وشمول نسبيان لمختلف المدارس العلمية بما فيها مدرسة النجف الحديثة ، هذه الأمور كفيلة ـ فيما أعتقد ـ ان تشفع لي في الطلب إلى إخواني من ذوي الاختصاص في البحوث التشريعية ان يعمدوا ـ مشكورين ـ إلى نقد هذه البحوث وتصحيح أخطائها ، فعسى ان نبلغ بها جميعا إلى ما يرجى لها من أثمار في تحقيق أهدافها العلمية وعطائها في أبعاد النهج العاطفي في معالجة أهم مسائل الفكر وأكثرها تعلقا بصميم العقيدة.

والله أسأل ان يوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه وهو ولي التوفيق.

محمد تقي الحكيم

النجف الأشرف

٥
٦

بحوث تمهيديّة

أضواء

رأينا أن طبيعة البحث في أصول الفقه المقارن تدعونا إلى ان نمهد لها ببحوث تتصل اتصالا مباشرا أو غير مباشر بقسم من هذه الأصول وتلقي بعض الأضواء عليها.

وقد اعتاد كثير من الأصوليين ان يبحثوا قسما منها فيما لابسته من المباحث الأصولية وكأنها من صميمها ، مع أن أكثرها من المبادئ ، فناسب ذكرها ـ من وجهة منهجية ـ في بحوث التمهيد وإضافة بحوث تقتضيها ضرورة البحث المنهجي وإن لم تتصل مباشرة بهذه الأصول.

٧

بحوث تمهيديّة

(١)

الفقه المقارن

* تعريفه

* الفرق بينه وبين تعريف علم الخلاف

* فوائده* موضوعه

* الفرق بينه وبين علم الفقه

* أصول المقارنة

* الحاجة إلى مدخل لدراسة الفقه المقارن

٨

تعريف الفقه المقارن :

يطلق الفقه المقارن ـ أولا ـ ويراد به : جمع الآراء المختلفة في المسائل الفقهية على صعيد واحد دون إجراء موازنة بينها.

ويطلق ثانيا على : جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقييمها والموازنة بينها بالتماس أدلتها وترجيح بعضها على بعض.

وهو بهذا المعنى أقرب إلى ما كان يسميه الباحثون من القدامي بعلم الخلاف أو علم الخلافيات ، كما يتضح ذلك من تعريفهم له.

تعريف علم الخلاف :

فقد عرفه تسهيل الوصول إلى علم الأصول انه «علم يقتدر به على حفظ الأحكام الفرعية المختلف فيها بين الأئمة ، أو هدمها بتقرير الحجج الشرعية وقوادح الأدلة» (١).

والخلافي كما يقول في المصدر نفسه هو : «اما مجيب يحفظ وضعا شرعيا أو سائل يهدم ذلك» (٢).

وجهات الالتقاء بينهما انما هي في عرض آراء الفقهاء والموازنة بينها وان كانا يفترقان في قربهما من الموضوعية في البحث وبعدهما عنها. فالخلافي كما يوحي به قولهم : «اما مجيب يحفظ وضعا شرعيا أو سائل يهدم ذلك» يفترض آراء مسبقة يراد له تقريرها وتعزيزها وهدم ما عداها ، فوظيفته وظيفة جدلي لا يهمه الواقع بقدر ما يهمه انتصاره في مقام المجادلة والخصومة ، أو وظيفة محام يضع نفسه طرفا

__________________

(١) دراسات في الفلسفة الإسلامية للتفتازاني : ١٢٧ نقلا عن تسهيل الوصول : ١٠.

(٢) المصدر السابق.

٩

في الدعوى للدفاع عمن يتوكل عنه ولا يهمه بعد ذلك ان يكون موكله قريبا من الواقع أو بعيدا عنه.

بينما يأخذ المقارن وظيفة الحاكم الّذي يعتبر نفسه مسئولا عن فحص جميع الوثائق وتقييمها ، والتماس أقربها للواقع تمهيدا لإصدار حكمه ، ولا يهمه ان يلتقي ما ينتهي إليه مع ما لديه من مسبقات فقهية ، وربما عمد إلى تصحيح آرائه السابقة على ضوء ما ينتهي إليه.

فوائد الفقه المقارن :

ومن هذه المقارنة بينهما تتضح فوائد الفقه المقارن وأهمها :

أ ـ محاولة البلوغ إلى واقع الفقه الإسلامي من أيسر طرقه وأسلمها ، وهي لا تتضح عادة إلا بعد عرض مختلف وجهات النّظر فيها وتقييمها على أساس موضوعي.

ب ـ العمل على تطوير الدراسات الفقهية والأصولية والاستفادة من نتائج التلاقح الفكري في أوسع نطاق لتحقيق هذا الهدف.

ج ـ ثماره في إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين ومحاولة القضاء على مختلف النزعات الفكري العاطفية وأبعادها عن مجالات البحث العلمي.

د ـ تقريب شقة الخلاف بين المسلمين والحد من تأثير العوامل المفرقة التي كان من أهمها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر ، مما ترك المجال مفتوحا أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقوّل عليهم بما لا يؤمنون به.

موضوعه :

ويراد بالموضوع هنا ما يبحث في العلم عن عوارضه على اختلافها من ذاتية وغريبة ، وانما وسعنا في تعريف الموضوع ولم نقصره على خصوص عوارضه

١٠

الذاتيّة كما صنع القدماء ، ولم نأخذ بوجهة نظر صاحب الكفاية من تعميمه الذاتي إلى ما لم تكن فيه واسطة عروضية (١) لعلمنا أن هذا التضييق على التقديرين معا لا يفي بواقع موضوعات المسائل لأي علم من العلوم ولا يسلم من إشكالات عدم الاطراد والانعكاس.

وموضوعنا في الفقه المقارن ـ وهو الّذي يجمع موضوعات مسائله ـ هو : آراء المجتهدين في المسائل الفقهية من حيث تقييمها والموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض.

وانما قيدنا الموضوع بآراء المجتهدين لنبعد من طريقنا آراء المقلدة الذين لا يعكسون سوى الصدى لمراجعهم في التقليد. ونقتصر في بحوثنا هذه على ذوي الأصالة في الرّأي من المراجع أنفسهم ، سواء كانوا أئمة مذاهب أم غيرهم من الأعلام.

ومن تحديدنا لموضوعه يتضح :

الفرق بينه وبين علم الفقه :

فموضوع علم الفقه ـ فيما نرى ـ هو نفس الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية من حيث التماسها من أدلتها ، وهذا موضوعه آراء المجتهدين فيها من حيث الموازنة والتقييم. ومن هذا الاختلاف في طبيعة الموضوع نشأ بينهما فارق منهجي ، فالفقيه غير ملزم بعرض الآراء الأخرى ومناقشتها ، وانما يكتفي بعرض أدلته الخاصة التي التمس منها الحكم ، بخلاف المقارن والخلافي فهما ملزمان باستعراض مختلف الآراء والأدلة وإعطاء الرّأي فيها. فالفارق بينهما اذن فارق

__________________

(١) كفاية الأصول : ١ ـ ٣ ويريد بالواسطة العروضية الواسطة التي يتقوم بها العرض حقيقة وينسب إلى ذي الواسطة تجوزا ، كنسبة البياض إلى مجموع الجسم مع تقومه بالواسطة حقيقة وهو السطح. وأكثر محمولات مسائل العلوم من هذا القبيل لتقومها بموضوعاتها الخاصة حقيقة ، ونسبتها إلى القدر الجامع بين الموضوعات نسبة تجوزية.

١١

جذري وإن تشابها في طبيعة البحوث.

أصول المقارنة :

ونريد بها هنا الركائز التي يجب ان يتوفر على إعدادها وتمثلها الباحث المقارن ليصح له اقتحام هذه المجالات والخوض في مختلف مباحثها ، وأهمها :

أ ـ الموضوعية :

ونقصد منها هنا ان يكون المقارن مهيئا من وجهة نفسية للتحلل من تأثير رواسبه ، والخضوع لما تدعو إليه الحجة عند المقارنة ، سواء وافق ما تدعو إليه ما يملكه من مسبقات أم خالفها.

وهذا لا يتأتى عادة للباحثين إذا لم يمروا بدور معاناة طويلة للتجربة في أمثال هذه المجالات ، على ان يضع نفسه بعد هذه المعاناة موضع اختيار ليرى مدعى قدرته على الانسجام مع واقع هذه التجربة ، وذلك بتعريض بعض مسبقاته لنتائج تجربته كأن ينظر مدعى استطاعته وقدرته على الإيمان بحقيقة كان يؤمن بخلافها لمجرد أن طبيعة البحث العلمي ساقته إلى نتائجها ، وبخاصة إذا كانت تمس بعض الجوانب العقيدية أو العاطفية من نفسه ، ثم ينظر مدى قوته على مواجهة الرّأي العام المؤمن بخلافها بإعلان هذه الحقيقة أمامه.

فإذا كان بهذا المستوى من القدرة على التحكم بعواطفه وتغليب جانب العقل عليها كان أهلا لأن يخوض الحديث في أمثال هذه الميادين.

ب ـ معرفة أسباب الاختلاف بين الفقهاء :

وهي من أهم الأسس التي يجب ان يرتكز عليها المقارن ، وربما كانت أهمها على الإطلاق ان لم تكن المقارنة منحصرة في مجالاتها الخاصة ، كما سيتضح فيما بعد.

١٢

ولقد ألّفت كتب في تعدادها وشرحها أمثال كتاب «أسباب اختلاف الفقهاء» لعلي الخفيف ، و «الإنصاف» للبطلميوسي الأندلسي وغيرهما.

وقد أوجز ابن رشد في مقدمة كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» هذه الأسباب وحصرها في ستة :

«أحدها : تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع ، أعني بين ان يكون اللفظ عاما يراد به الخاصّ ، أو خاصا يراد به العام ، أو خاصا يراد به الخاصّ ، أو يكون له دليل خطاب أو لا يكون.

والثاني : الاشتراك الّذي في الألفاظ ، وذلك اما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الّذي يطلق على الأطهار وعلى الحيض ، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو على الندب ، ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو الكراهية. واما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(١) فانه يحتمل ان يعود على الفاسق فقط ، ويحتمل ان يعود على الفاسق والشاهد فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف.

والثالث : اختلاف الإعراب.

والرابع : تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز التي هي إما الحذف وإما الزيادة وإما التأخير وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة.

والخامس : إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة ، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة وتقييدها بالإيمان تارة.

والسادس : التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الشرع الأحكام بعضها مع بعض ، وكذلك التعارض الّذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات ، أو تعارض القياسات أنفسها ، أو التعارض الّذي يتركب من هذه

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٦٠ وسورة آل عمران : الآية ٨٩ وسورة النساء : الآية ١٤٦ وسورة المائدة : ٣٤.

١٣

الأصناف الثلاثة ، أعني معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الإقرار للقياس» (١).

ولكن هذه الأسباب التي اقتبسها غير واحد من الباحثين المتأخرين وركزوا عليها لم تستوف مناشئ الاختلاف من جهة ولم تعرض إلى جذورها الأساسية من جهة أخرى ، وكلما عرضته منها أسباب تتصل بالاختلاف في تنقيح الصغريات لحجية الظهور ـ أعني ظهور الكتاب والسنة ـ أو لحجية القياس ، وكأن الكبريات ليس فيها مجال لأخذ ورد ، مع أن الخلاف فيما يتصل بالكبريات مما لا يمكن تجاهله.

فالأنسب ان يستوعب الحديث في الأسباب إلى ما يتسع لهما معا ، وهذا ما يدعونا إلى ان نقسمها إلى قسمين :

١ ـ الخلاف في الأصول والمباني العامة التي يعتمدونها في استنباطهم ، كالخلاف في حجية أصالة الظهور الكتابي ، أو الإجماع ، أو القياس ، أو الاستصحاب ، أو غيرها من المباني مما يقع موقع الكبرى من قياس الاستنباط.

٢ ـ اختلافهم في مدى انطباق هذه الكبريات على صغرياتها بعد اتفاقهم على الكبرى ، سواء كان منشأ الاختلاف اختلاف في الضوابط التي تعطى لتشخيص الصغريات بوجهة عامة ، أم ادعاء وجود قرائن خاصة لها مدخلية في التشخيص لدى بعض وإنكارها لدى آخرين ، كأن يستفيد أحدهم من آية الوضوء مثلا ـ بعد اتفاقهم على حجية الكتاب ـ ان التحديد فيها انما هو تحديد لطبيعة الغسل وبيان لكيفيته ، فيفتي تبعا لذلك بالوضوء المنكوس. بينما يستفيد الآخرون انه تحديد للمغسول وليس فيه أية دلالة على بيان كيفية الغسل ، أي أنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة ، فلا بدّ من التماس بيان الكيفية من الرجوع إلى الأدلة

__________________

(١) بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ١ ـ ٥ ـ ٦.

١٤

الأخرى كالوضوءات البيانية وغيرها.

وفي هذا القسم تنتظم جميع تلكم المناشئ التي ذكرها ابن رشد ونظائرها مما لم يتعرض له ، كمباحث المفاهيم والمشتقات ومعاني الحروف ، وما يشخص صغريات حجية العقل كباب الملازمات العقلية بما فيه من بحوث مقدمة الواجب واجتماع الأمر والنهي والأجزاء واقتضاء الأمر بالشيء على النهي عن ضده ، وغيرها من المباحث المهمة.

ج ـ ان يكون على درجة من الخبرة بأصول الاحتجاج ، ومعرفة مفاهيم الحجج ، وأدلتها ، ومواقع تقديم بعضها على بعض ، ليصح له الخوض في مجالات الموازنة بين الآراء وتقديم أقربها إلى الحجية وأقواها دليلا.

يقول ابن خلدون وهو يتحدث عن (الخلافي) ـ ووظيفته بالطبع وظيفة المقارن من حيث الأساس ـ : «ولا بد لصاحبه ـ يعني علم الخلاف ـ من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد ، لأن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من ان يهدمها المخالف بأدلته» (١).

وإذا كان الخلافي يحتاج إلى الاجتهاد لحفظ مسائله والدفاع عنها فان المقارن أكثر احتياجا إليها بعد ان وفرنا له صفة القضاء والحكومة بين الآراء ، ومن شأن القاضي ان يحيط بحيثيات الحكم والأسس التي يرتكز عليها لدى الموازنة تمهيدا لإصدار حكمه النهائيّ في الموضوع.

الحاجة إلى مدخل لدراسة الفقه المقارن

ومن هنا يتضح مدى احتياجنا ـ متى أردنا لأنفسنا الموضوعية كمقارنين ـ إلى

__________________

(١) المقدمة : ٤٥٧.

١٥

مدخل لدراسة الفقه المقارن يتكفل لنا بعرض الأسس التي سوف نرتكز عليها في مقام الموازنة والتقييم ، أي ان نبحث الأصول والمباني العامة التي كان يرتكز عليها المجتهدون في استنباطهم للأحكام على أساس من المقارنة.

والا فان من الظلم ان نفترض لأنفسنا آراء مسبقة فيها ثم نحاول ان نجعلها منطلقا للمقارنة وإصدار الحكم على أساسها ، من دون ان نعمد إلى التعرف على وجهات نظر الآخرين فيها ، وربما كان الحق في جانبهم في الكثير منها.

وفي اعتقادي ان الحديث عن هذه الأسس والمباني ـ كمدخل لدراسة الفقه المقارن ـ ضرورة تقتضيها طبيعة المقارنة ، بل لا تكون المقارنة الا من خلال ما ينتهي إليه المقارن منها.

أما الحديث عن القسم الثاني فلست أرى ضرورة التوسع فيه هنا ـ وان كنا سنشير إلى المهم من مباحثه ـ لعدم وجود وحدة قياسية يمكن الرجوع إليها في مختلف المسائل ، وان جعلت لها ضوابط في كثير من كتب الأصول التقليدية ، والسر في ذلك ان أكثرها مما يعود إلى تشخيص الظهور للأدلة اللفظية ، وفي أكثرها تتحكم القرائن الخاصة التي لا يمكن ضبطها بقاعدة ، على ان الخلاف فيما جعل لها من الضوابط نادر جدا وهو مما لا يستحق ان يطال فيه الحديث.

وعلى هذا فان مدخل هذه الدراسة سوف يتمحض لدراسة الأصول والمباني العامة ، أو قل ما يصلح ان يقع كبرى لقياس الاستنباط ، مع الإشارة إلى قسم من تلك الضوابط التي تصلح ان تكون مرجعا للمجتهد عند الشك في تشخيص إحدى الصغريات وإطالة الكلام في بعضها تبعا لحدود ما وقع فيها من اختلاف.

١٦

بحوث تمهيديّة

(٢)

أصول الاحتجاج

* أسس الاحتجاج ومصادره

* تعداد القضايا الأولية والمسلمة

* شكلية الخلاف فيها

* الحجة عند اللغويين

* الحجة عند المناطقة

* الحجة عند الأصوليين

* الحجة الذاتيّة* الحجة المجعولة

* العلم مقوم للحجية

* منهجنا في أصول الاحتجاج.

١٧
١٨

(١)

ذكرنا في التمهيد الأول أن من أصول المقارنة وركائزها الأساسية ان يحيط المقارن بأصول الاحتجاج.

ومن أصول الاحتجاج وأولياته ان يتعرف المقارن أو غيره ـ ممن يريد الموازنة والحكم في أية قضية كانت ـ على القضايا الأولية والقضايا المسلمة لدى كل من يريد الاحتجاج عليهم ، ليكون في الانتهاء إلى هذه الأوليات أو المسلمات فصلا في القول وإلزاما في الحجة ، ومع عدم التعرف عليها لا يمكن الفصل في أية مسألة ، لإصرار كل من الفريقين على وجهة نظره الخاصة ، وكل قضية لا تنتهي إلى هذه الأوليات أو المسلمات تبقى معلقة ويتحول الحديث فيها من عالم الموازنة والتقييم إلى عالم تاريخ المباني والتعرف على وجهات النّظر فحسب ، كما هو الشأن في عالم الاستظهارات ودعاوى الانصراف والتبادر المختلف فيها.

وقد يكون من نافلة القول ان نؤكد على أن فقهاء المسلمين وفلاسفتهم على الإطلاق يعتبرون هذه القضايا الأساسية لكل احتجاج من البديهيات أو المسلمات ، وهي القضايا التي يتمثل بها :

١ ـ مبدأ العلية والمعلولية ، بما فيها من امتناع تقدم المعلول على العلة وتأخرها عنه أو مساواتها له في الرتبة ثم امتناع تخلفه عنها ، فحيثما توجد العلة التامة يوجد المعلول حتما.

٢ ـ مبدأ استحالة التناقض اجتماعا وارتفاعا مع توفر شرائط الاتحاد

١٩

والاختلاف فيه (١).

٣ ـ مبدأ استحالة اجتماع الملكة وعدمها وارتفاعهما مع توفر قابلية المحل.

٤ ـ مبدأ امتناع اجتماع الضدين.

٥ ـ مبدأ استحالة الدور.

٦ ـ مبدأ استحالة الخلف.

٧ ـ مبدأ استحالة التسلسل في العلل والمعلولات.

لذلك لا نرى أية ضرورة للدخول في تفصيل القول في هذه القضايا وما يشبهها ، ما دمنا نعتقد أن الجميع يؤمنون بها وربما شاركهم فيها فلاسفة العالم على الإطلاق ، وان ظهر من بعضهم خلاف ذلك نتيجة عدم تحديد المصطلحات وتوحيد نقطة النزاع فيها ، وإلا فلست أظن أن عاقلا من العقلاء يؤمن بإمكان اجتماع النقيضين مع توفر شرائط التناقض في الاتحاد والاختلاف ، وهؤلاء الذين يدعون الإيمان بإمكان اجتماعهما لا يصورون الاجتماع إلا مع فقد بعض هذه الوحدات ، كالقائلين بنسبية الأشياء حيث يفقدون في أمثلتهم اما شرط الزمان أو المكان أو الإضافة ، وفي بعض أمثلتهم خلط بين جمع النقيض إلى النقيض واجتماع النقيضين ، حيث لم يحسنوا التفرقة بينهما (٢) كما لم يحسنوا التفرقة بين الضد والنقيض.

واذن يكون النزاع بينهم وبين غيرهم حول هذه النقطة بالذات نزاعا شكليا لا

__________________

(١) يشترط الفلاسفة في امتناع اجتماع أو ارتفاع النقيضين اجتماع وحدات عشر هي : الموضوع ، المحمول ، الزمان ، المكان ، الرتبة ، الشرط ، الإضافة ، الجزء والكل ، القوة والفعل ، الحمل. كما اشترطوا ضرورة الاختلاف في ثلاثة هي : الكم ، والكيف ، والجهة ، ومع تخلف إحدى هذه الوحدات أو عدم توفر الاختلاف في واحدة من هذه الثلاث لا يمنع العقل من إمكان الاجتماع أو الارتفاع.

(٢) اقرأ ما كتبه الماركسيون حول صراع المتناقضات وما كتبه النسبيون حول إمكان اجتماع النقيضين على أساس من نظريتهم النسبية ، مع ان صدق النظرية النسبية لا يبطل استحالة اجتماع النقيضين لفقد شرط الإضافة فيها كما هو واضح.

٢٠