الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

منها حساب ، فليراجع في كل من حقائق الأصول (١) وأجود التقريرات (٢) وأصول الفقه (٣) ، وغيرها.

القسم الرابع : الكراهة

وهي ردع الشارع المكلف عن الإتيان بشيء مع ترخيصه بفعله ، فالمكروه على هذا هو الفعل المردود عن الإتيان به مع الترخيص ، ويسمى ب (النهي التنزيهي) ويدل عليه من الصيغ ما يدل على الحرمة مع قرينة الترخيص.

القسم الخامس : الإباحة

ويراد بها تخيير الشارع المكلفين بين إتيان فعل وتركه دون ترجيح من قبله لأحدهما على الآخر ، وليس لها صيغ محدودة بل تؤدى بكل ما يعبر عنها من الصيغ والمواد.

وقد اختلفوا في وجود المباح ، فالذي عليه جمهرة المسلمين انه موجود ، وخالف فيه الكعبي من المعتزلة وأتباعه ، حيث ادعى نفي المباح بل نفي الأحكام غير الإلزامية على الإطلاق ، بتقريب : «انه ما من فعل يوصف بكونه مباحا إلا ويتحقق بالتلبس به ترك حرام ما ، وترك الحرام واجب ، ولا يتم تركه دون التلبس بضد من أضداده ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لما سبق» (٤) وقد اعتبر الآمدي هذه المسألة في غاية الإشكال ، وترجى ان يكون عند غيره حلها (٥)

__________________

(١) للإمام الحكيم قدس سرّه : ١ ـ ٣٤٩ ـ ٤٠٢.

(٢) لآية الله الخوئي قدس سرّه في باب اجتماع الأمر والنهي.

(٣) للحجة المظفر رحمة الله : ٢ ـ ١٠٥ ـ ١٣٦.

(٤) الأحكام : ١ ـ ٦٤.

(٥) المصدر السابق.

٦١

والجواب :

ان تمامية رأيه موقوفة على تمامية مقدمات :

أولاها : ان النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضده العام.

ثانيها : ان الضد العام موقوف وجوده على الإتيان بأحد الأضداد الخاصة فهو مقدمة له.

ثالثها : الالتزام بالوجوب المقدمي تبعا لوجوب ذي المقدمة.

والجواب عن هذه المقدمات متوقف على إدراك مناشئ التكاليف ، فالذي عليه المسلمون ان الأوامر والنواهي وليدتا مصالح ومفاسد في المتعلقات ، فالأمر لا يكون إلا إذا كانت هناك مصلحة باعثة على الإتيان به ، والنهي لا يكون إلا مع وجود مفسدة فيه باعثة على الردع عنه ، وإن المصلحة والمفسدة من قبيل الضدين الذين لهما ثالث وهو ما لا يكون فيه مصلحة ولا مفسدة ، وعلى يتفرع الخطاب الشرعي الّذي يفيد الإباحة ، فإذا صح هذا ، فالقول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أو أن النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضده أمر لا ملزم له ، لجواز أن يكون في النهي عن الشيء مفسدة وليس في تركه مصلحة ملزمة ليؤمر به ، فالنهي اذن عن الشيء لا يستلزم الأمر بضده. ولنفس السبب نقول : ان الأمر بالشيء لا يستلزم الأمر بمقدمته ، وعلى هذا الأساس أنكرنا وجوب المقدمة إذ لا ضرورة للقول به ، والقول بأن المتلازمين تلازم العلة والمعلول أو غيره يجب ان يأخذا حكما متماثلا لا مستند له ، لأن طبيعة التلازم لا تستدعي أكثر من امتناع جعل الحكمين المتدافعين بأن يكون أحدهما واجبا والآخر محرما ، لامتناع امتثالهما معا لفرض التلازم ، أما ان يكون أحدهما واجبا والآخر مستحبا أو مباحا فلا محذور فيه ، ولزوم الإتيان به تبعا لملازمه لزوم عقلي محض لا يستدعي جعل أمر مولوي.

٦٢

والسر فيه ما قلناه من ان تكاليف الشارع انما هي وليدة مصالح ومفاسد ، ولا يلزم ان يكون المتلازمان متشابهين في مصالحهما ليتماثلا في الحكم ، على ان ترك الضد ليس مقدمة لوجود الضد الآخر لكونه في رتبته ، وتوقف أحدهما على الآخر يستدعي تقدم الموقوف عليه على الموقوف رتبة ، فلو قلنا بوجوب المقدمة تبعا لذيها ، فإنا لا نقول به هنا لعدم المقدمية بين فعل الشيء وترك ضده ، نعم هما ـ أعني الضدين ـ متمانعان في الوجود.

وخلاصة الجواب :

أولا : إنكار دعوى ان النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضده ، لجواز ان لا تكون في الضد مصلحة تستدعي مثل ذلك الأمر.

وثانيا : إنكار ان يكون فعل الضد الخاصّ مقدمة لترك ضده المحرم ، لعدم المقدمية بين المتحدين رتبة ، وما دام أحد الضدين في رتبة الآخر ، وكل ضد هو في رتبة عدمه ، فلا بدّ ان ينتج ان كل ضد هو في رتبة عدم ضده ، وطبيعة المقدمية تستدعي تقدما في الرتبة على ذيها تقدم العلة على المعلول ، فمع عدم المقدمية تنتفي شبهة وجوب المقدمة المباحة من أصلها.

وثالثا : إنكار وجوب المقدمية لو سلمت لنفس السبب الّذي ذكرناه من عدم وجود المصلحة الملزمة في المباح.

وإذا كان الغرض من الوجوب المقدمي هو جعل الداعي في نفس المكلف لامتثال ذي المقدمة ، فإن أمر ذي المقدمة كاف في جعل الداعي لامتثاله إن كان المكلف في مقام إطاعة أوامر مولاه ، وإن لم يكن في مقام الإطاعة فالأمر بالمقدمة لا يضيف إليه شيئا أصلا ، فالشبهة الكعبية اذن شبهة لا تستند على أساس متين.

رأي الأحناف في تقسيم الأحكام التكليفية :

ذكرنا رأي المسلمين ـ ما عدا الأحناف ـ في تقسيم الحكم التكليفي. أما

٦٣

الأحناف فقد قسموها إلى ثمانية أقسام هي : الفرض ، الواجب ، الحرمة ، السنة المؤكدة ، السنة غير المؤكدة ، كراهة التحريم ، الكراهة التنزيهية ، الإباحة. وأرادوا بالفرض الطلب الإلزاميّ الّذي قام عليه دليل قطعي ، وبالواجب الطلب الإلزاميّ الّذي قام عليه دليل ظني ، وبالسنة المؤكدة ما واظب على فعله الرسول من الطلب غير الإلزاميّ ، وبالسنة غير المؤكدة ما لم يواظب عليه منها ، ووافقوا غيرهم في مفهوم الحرمة.

أما كراهة التحريم ، فقد أرادوا منها ما كان طلب الترك شديدا ، فهو أقرب إلى الحرمة بخلاف النهي التنزيهي (١) ، وفي الإباحة وافقوا الجميع في مفهومها.

وهذا ـ فيما يبدو ـ تطويل في التقسيم لا طائل تحته ، وثمراته التي ذكروها لا تبرره ، ولعلنا سنتحدث عنها في مواضعها من بحوثنا الفقهية ، فالأنسب الاقتصار على تقسيم جمهور الأصوليين للأحكام التكليفية.

الحكم الوضعي :

وقد عرفت بتعاريف لعل أسدّها «الاعتبار الشرعي الّذي لا يتضمن الاقتضاء والتخيير» وقد اختلفوا في عد الأحكام الوضعيّة ، فقيل ثلاثة وهي : السببية ، والشرطية ، والمانعية ، وقيل خمسة ، بزيادة العلة والعلامة ، وقيل تسعة ، بزيادة الصحة ، والفساد ، والرخصة ، والعزيمة.

والحق انه لا موجب لتحديدها بعدد مخصوص ، بل يقتضي شمولها لكل ما انطبق عليه هذا التعريف ، على ان انطباق عنوان الحكم الوضعي على بعضها لا يخلو من تأمل ، لعدم إمكان تصور الجعل والاعتبار بنوعيه بالنسبة لبعضها وإمكان إلحاق بعض آخر منها بالأحكام التكليفية ، وسيتضح الأمر فيها بعد

__________________

(١) مباحث الحكم عند الأصوليين : ١ ـ ٦٣ وما بعدها.

٦٤

عرض خلافهم في نوع الجعل والاعتبار بالنسبة للأحكام الوضعيّة ، وهل هو بالأصالة أو التبع ، ولأهمية هذا البحث وما يترتب عليه من ثمرات فقهية نعرض له بشيء من الحديث.

الأحكام الوضعيّة مجعولة أو منتزعة :

اختلف الأصوليون في كون الأحكام الوضعيّة مجعولة ابتداء أو منتزعة من الأحكام التكليفية ، أي مجعولة تبعا لها.

والتحقيق ان حالها مختلف ، فبعضها مجعولة وبعضها منتزعة.

ولإيضاح كلمة (منتزع) ورفع ما وقع من الالتباس لدى بعض الأعلام في مجال التفرقة بين الأمور الانتزاعية والأمور الاعتبارية نقول : إن الشيء الثابت المتصف بالوجود على ثلاثة أنواع :

١ ـ ما يكون وجوده متأصلا في ظرفه المكاني ، كالجواهر والأعراض.

٢ ـ ما يكون وجوده متأصلا في عالم الاعتبار ، بحيث إذا تجرد عن اعتبار المعتبر لا يبقى له وجود ، كالقيمة النقدية للدنانير والدراهم المسكوكة ، فإنها لا وجود لها في غير عالم الاعتبار.

٣ ـ ما يكون وجوده بوجود منشأ انتزاعه وليس له وجود وراء ذلك ، وهذا على قسمين :

قسم يقع منشأ انتزاعه في عالم الواقع ، ومثاله : الفوقية والتحتية والبنوة والأبوة ، إذ لا وجود لهذه الأمور إلا بوجود الأب والابن ، والفوق والتحت. والثاني يقع منشأ انتزاعه في عالم الاعتبار ، كالسببية والشرطية المنتزعة من بعض القيود التي أخذها الشارع في تكاليفه وأحكامه ، وذلك مثل سببية الدلوك لصلاة الظهر ، والعقد بالنسبة إلى تحقق الملكية به.

وعلى هذا فالفارق بين الأمور الاعتبارية والأمور الانتزاعية فارق جذري ،

٦٥

لأن الأمور الاعتبارية لها تأصل في الوجود في عالمها بخلاف الأمور الانتزاعية ، إذ لا وجود لها إلا بوجود منشأ انتزاعها ، وهي مجعولة في الأمور الاعتبارية تبعا لها.

والخلاف بعد ذلك واقع في ان الأحكام الوضعيّة متأصلة في الجعل ، أو أنها تابعة للأحكام التكليفية ومنتزعة منها.

والظاهر أن بعضها متأصل بالجعل كالملكية والزوجية ، وليست هي منتزعة من الأحكام المترتبة عليها ، كحلّية التصرف وجواز التمتع بالزوجة ـ كما ذهب إلى ذلك بعض الأعلام ـ لوضوح انها متأخرة في الرتبة عنها تأخر الحكم عن موضوعه ، ومن المستحيل انتزاع المتقدم من المتأخر للزوم الخلف أو الدور.

وبعضها منتزع منها كالسببية ، والشرطية ، والعلية (١) ، والمانعية ، بالنسبة إلى التكاليف المقيدة بوجود شيء فيها أو في متعلقاتها ، فمن تعلقها بوجود الشيء ننتزع السببية أو العلية أو الشرطية على اختلاف في كيفية التعلق ، ومن تقييدها بعدمه ننتزع المانعية له.

وإذا صح كونها من الأمور المنتزعة ، فإن اعتبارها بالطبع يكون تبعا لاعتبار منشأ انتزاعها وليس له وجود مستقل.

ولقد أنكر صاحب الكفاية كون الشرطية أو المانعية أو السببية بالنسبة إلى التكليف قابلة للجعل التشريعي ، لكونها مجعولة بالجعل التكويني تبعا لجعل موضوعها.

وفيما ذكره «خلط بين الجعل والمجعول ، فإن ما ذكره صحيح بالنسبة إلى أسباب الجعل وشروطها من المصالح ، والمفاسد ، والإرادة ، والكراهة ، والميل ، والشوق ، فإنها أمور واقعية باعثة لجعل المولى التكليف ومبادئ له ، وليست قابلة للجعل

__________________

(١) سيأتي في باب القياس تحديد المراد من هذه المصطلحات تفصيلا ، فراجعه.

٦٦

التشريعي لكونها من الأمور الخارجية التي لا يعقل تعلق الجعل التشريعي بها ، بل ربما تكون غير اختيارية كالميل ، والشوق ، والمصلحة ، والمفسدة مثلا ، وهي خارجة عن محل الكلام ، فإن الكلام في الشرطية والسببية والمانعية بالنسبة إلى المجعول وهو التكليف ، وقد ذكرنا أنها مجعولة بتبع التكليف ، فكلما اعتبر وجوده في الموضع فننتزع منه السببية والشرطية ، وكلما اعتبر عدمه فيه فننتزع منه المانعية» (١).

ومن هذا الحديث يتضح أنّ اعتبار :

الصحة والفساد :

من الأحكام الوضعيّة غير صحيح على إطلاقه ، لأن الصحة على قسمين : صحة واقعية ، ويراد بها مطابقة المأتي به للمأمور به واقعا ، ويقابلها الفساد ، ومثل هذه الصحة تابعة لواقعها ، والجعل لا يتناول الأمور الواقعية ، وكذلك الفساد. أما القسم الثاني وهو الصحة الظاهرية ، كالحكم بصحة الصلاة بعد الفراغ منها عند الشك فيها استنادا إلى قاعدة الفراغ فهي التي تكون قابلة للجعل والاعتبار ، وكذلك الحكم بالفساد ظاهرا عند الشك في الصلاة الثنائية مثلا.

وما يقال عن الصحة والفساد الواقعيين من إنكار كونهما حكمين وضعيين يقال عن :

العزيمة والرخصة :

ولكن لا من حيثية واقعيتهما بل من حيث كونهما راجعين إلى الأحكام التكليفية كما يتضح ذلك من معناهما المحدد لهما عند الأصوليين.

فلقد عرف غير واحد العزيمة بما يرجع إلى «ما شرعه الله أصالة من الأحكام

__________________

(١) مصباح الأصول : ٨١.

٦٧

العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف» (١).

وفي مقابلها الرخصة وهي «ما شرعه الله من الأحكام تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف» (٢). ورجوعهما بهذين التعريفين إلى الأحكام التكليفية من أوضح الأمور ، فليست العزيمة إلا الحكم المجعول للشيء بعنوانه الأولي ، وليست الرخصة الا جعل الإباحة للشيء بعنوانه الثانوي ، وهما لا يخرجان عن تعريف الأحكام التكليفية بحال.

وأمثلة العزيمة التي ذكروها هي : ما ألزم به الشارع من الصوم ، والصلاة ، والحج ، وترك شرب الخمر ، وأكل الميتة ، وهكذا. ومثلوا للرخصة بما أحل لأجل الاضطرار والإكراه ، كأكل لحم الميتة ، وشرب الخمر ، وغيرهما من العناوين الثانوية.

والّذي يبدو ان لفظتي : الرخصة والعزيمة ، وردتا على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ففي نهاية ابن الأثير «وحديث ابن مسعود أن الله يحب ان تؤتى رخصه كما يحب ان تؤتى عزائمه» (٣) ، فمن هذا الحديث وتفسيرات الأصوليين والفقهاء لهما بما سبق لا يتضح منشأ لتفسير العزيمة «بسقوط الأمر بجميع مراتبه أو سقوط التكليف رأسا» وتفسير الرخصة «بسقوطه ببعض مراتبه» (٤) كما ورد ذلك في بعض التحديدات ، لوضوح أنه لا معنى للتعبير بأنه «يحب ان تؤتى عزائمه» إذا كان معنى العزيمة سقوط الأمر بجميع مراتبه لكون «الإتيان به استنادا إلى المولى تشريعا محرما» (٥) كما يصرح بذلك المحدد نفسه ، اللهم إلاّ ان يتعدد فيها

__________________

(١) علم أصول الفقه لخلاّف : ١٣٨.

(٢) المصدر السابق ، وقريب منه ما ذكره الآمدي في الأحكام : ١ ـ ٦٨ وغيره.

(٣) مادة عزم» : ٣ ـ ٩٣.

(٤) مصباح الأصول : ٨٦ وما بعدها.

(٥) المصدر السابق : ٨٧.

٦٨

الاصطلاح باختلاف المصطلحين من الفقهاء ، وتحديد العزيمة والرخصة بهذا المعنى يشبه إلى حد بعيد تقسيمهم للحكم إلى واقع أولي وواقع ثانوي مع اختلاف في بعض الخصوصيات.

١ ـ الحكم الواقعي الأولي :

ويراد به الحكم المجعول للشيء أولا وبالذات ، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليه من العوارض الأخر ، كأكثر الأحكام الواقعية تكليفية ووضعية.

٢ ـ الحكم الواقعي الثانوي :

وقد أريد به ما يجعل للشيء من الأحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير حكمه الأولي ، فشرب الماء مثلا مباح بعنوانه الأولي ، ولكنه بعنوان إنقاذ الحياة يكون واجبا ، والصناعات التي يتوقف عليها نظام الحياة واجبة على نحو الكفاية ، ولكنها مع الانحصار بشخص أو فئة خاصة ، تكون واجبة عينا إن صح أن الوجوبين مختلفان بالسنخ وهكذا.

وما أكثر الأحكام الأولية التي يتبدل واقعا لطرو عناوين ثانوية عليها ، فالواجب ربما تحول إلى حرام ، والحرام إلى مباح ، والمباح إلى مستحب وهكذا ... ومن هنا تتضح مرونة الأحكام الإسلامية وتمشّيها مع الظروف والأحوال ، ولذلك حديث خاص سيأتي في موضعه من أدلة القياس ، إن شاء الله تعالى.

ومن هنا يعلم ان الحكم الواقعي الثانوي أعمّ من الرخصة بالمعنى السابق لاختصاصها بإباحة الواجب أو الحرام وشمول الواقعي الثانوي إلى تبدل الحكم إلى غيره حسبما تقتضيه البواعث الثانوية من إباحة ، أو حرمة ، أو وجوب ، أو رفع حكم وضعي وهكذا ، كما أن العزيمة مختصة بالأحكام الإلزامية الأولية حسبما توحي به لفظة (العزيمة) من الإلزام وان وسعوا في تعريفها «إلى كل ما شرعه الله

٦٩

أصالة».

تقسيم الحكم إلى واقعي وظاهري :

ولهم في كل من الكلمتين ـ الحكم الواقعي ، الحكم الظاهري ـ اصطلاحان ، يراد من الحكم الواقعي في الأول منهما : الحكم المجعول من قبل الشارع للشيء بعنوانه الأولي أو الثانوي ، والمدلول عليه بالأدلة القطعية أو الأدلة الاجتهادية كالأمارات والطرق الظنية التي قام على اعتبارها دليل قطعي ، ويقابله الحكم الظاهري ، أي الحكم المستفاد من الأدلة (الفقاهتية) المأخوذ في موضوعها الشك ، كالحكم المأخوذ من الاستصحاب أو البراءة أو غيرهما ، ويراد من الحكم الواقعي في الاصطلاح الثاني الحكم المجعول من قبل الشارع والّذي دلت عليه الأدلة القطعية ، ويقابله الحكم الظاهري ، وهو ما كان مدلولا للأدلة غير القطعية أمارة كانت أم أصلا.

وقد اختلفوا في وجود الحكم الظاهري بالمعنيين معا في مقابل الحكم الواقعي.

والّذي عليه أكثر الباحثين من الأصوليين وجود جعلين واقعيين متعلقين بأفعال المكلفين أحدهما في طول الآخر ، أطلق على الأول منهما كلمة الحكم الواقعي ، وعلى الآخر ـ وهو الّذي جعل في حال الشك أو أخذ في موضوعه الشك ـ كلمة الحكم الظاهري.

وقد أوردت عليهم عدة إشكالات ترجع في أسسها إلى امتناع الجمع بينهما للزوم التضاد أو اجتماع المثلين أو التصويب.

بتقريب ان ما يسمى بالحكم الظاهري ان فرض مع وجوده الحكم الواقعي وكان على وفقه لزم اجتماع المثلين ، أو كان على خلافه لزم اجتماع الضدين ، وان فرض ارتفاع الحكم الواقعي عند قيامه لزم القول بالتصويب وهو ممتنع على مبنى المخطئة ، وهم جمهور المسلمين اليوم ، وسيأتي تحقيقه.

٧٠

وقد كانت لهم محاولات في دفع هذا الإشكال لا يخلو أكثرها من مؤاخذة (١) ، ولعل أبعدها عن المؤاخذات ما ذكره بعض أساتذتنا من أن الأحكام لما كانت من سنخ الأمور الاعتبارية ـ والاعتبار خفيف المئونة ـ فلا مضادة بين اعتبارين ذاتا وإنما يقع التضاد بينهما عرضا ، إما لتضاد مبادئهما أو لتضاد فيما ينتهيان إليه ، أما من حيث المبادئ فلا تضاد بينهما هنا «لما أفاده في الكفاية من ان الأحكام الظاهرية ناشئة عن مصالح في جعلها ، والأحكام الواقعية ناشئة عن المصلحة في متعلقاتها ، سواء كانت راجعة إلى المكلّف ـ بالكسر ـ فيما أمكن ذلك أو إلى المكلّف ـ بالفتح ـ كما في الأحكام الشرعية ، فلا يلزم من اجتماعهما وجود المصلحة والمفسدة أو وجود المصلحة أو المفسدة وعدمه في شيء واحد ، وهكذا الشوق أو الكراهة ، ففي الأحكام الواقعية يكون الشوق أو الكراهة متعلقا بنفس المتعلق ، وفي الأحكام الظاهرية بنفس الجعل كما في إيجاب الاحتياط حفظا للواقع أو جعل البراءة تسهيلا على المكلفين.

وأما من ناحية المنتهى ، فلأنه لا يعقل وصولهما معا إلى المكلف ، إذ عند وصول الحكم الواقعي لا يبقى موضوع للحكم الظاهري ، وما لم يصل الحكم الواقعي يكون الواصل هو الحكم الظاهري فقط ، فأين وصولهما عرضا ليبقى المكلف متحيرا في مقام الامتثال» (٢) وغير قادر عليه؟

وهذا الجواب متين جدا لو التزمنا بوجود أحكام ظاهرية ، اما مع إنكار وجودها من الأصل فلا حاجة إلى محاولة للجمع بينها.

__________________

(١) لاحظ تفصيل ذلك في مبحث الظن في كل من :

ـ فرائد الأصول : للشيخ الأنصاري قدس سرّه.

ـ كفاية الأصول : للمحقق الآخوند الخراسانيّ قدس سرّه.

ـ حقائق الأصول : للسيد الحكيم قدس سرّه وغير ذلك.

(٢) دراسات : ٣ ـ ٧٥.

٧١

وإيضاح الأمر ان المجعول في باب الطرق والأمارات ليس هو مدلول ما قامت عليه الأمارة ، وإنما المجعول فيها هو نفس الطريقية والوسطية في الإثبات ، وهي من الأحكام الوضعيّة القابلة للجعل بنفسها ، والشارع انما جرى في اعتبارها على وفق ما جرى عليه العقلاء ، وأكثر الأمارات والطرق مما اعتمدوها وألغوا احتمال المخالفة للواقع بسيرهم على وفقها ، وأعطوها وظيفة العلم من حيث الكاشفية عن الواقع ، فهم في الحقيقة انما تمموا كشفها باعتبارهم لها ، وجاء الشارع فأقرّهم عليها وألزمنا بها من طريق الإمضاء. وإذا كان العلم ـ وهو أتم كشفا للواقع منها ـ لا يغير في الواقع ولا يبدل فيه بل لا يضيف إليه حكما جديدا فيما قام عليه إذا وافقه أو أخطأه ، فحساب الأمارة فيها أوضح ، فما قامت عليه الأمارة لا يخلق حكما ظاهريا ليفكر في كيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ، وكل ما هنالك تبني الشارع لكشفها بتتميمه من قبله ، وهو لا يستدعي أكثر من ثبوت المنجزية والمعذرية كما سبق بيان ذلك.

وما يقال عن الأمارة يقال عن الأصل الإحرازي ، إذ المجعول فيه أيضا هو الطريقية والوسطية في الإثبات ، لكن لا من تمام الجهات كما كان في الأمارات ، بل من حيث الجري العملي على وفق ما قام عليه الأصل واعتباره واقعا ، ولهذا الفارق بينهما حكمت الأمارة عليه كما يأتي إيضاح ذلك.

وأما الأصول غير الإحرازية ، فهي غير ناظرة إلى جعل حكم أصلا أو إثباته ، وإنما هي ناظرة إلى رفع الحيرة فقط عند الشك وألسنتها صريحة بذلك «احتط لدينك» (١) «الناس في سعة ما لا يعلمون» (٢) ولذلك آثرنا تسميتها بالوظيفة تبعا لبعض أعلامنا الأجلاء ، ونفي الحكم الظاهري في الأصول العقلية أوضح ، إذ

__________________

(١) الاستبصار : ١ ـ ٢٦٤ ، الباب : ١٤٩ الحديث : ١٣. باختلاف يسير.

(٢) عوالي اللئالي : ١ ـ ٤٢٤ ، الحديث ١٠٩ ، باختلاف يسير.

٧٢

لا جعل شرعي ليفكر في كيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي.

وعلى هذا فالحكم الواقعي باق على واقعه ، أقصاه أن باعثيته موقوفة على وصوله بإحدى الطرق السابقة ذاتية أو مجعولة ، ومع عدم الوصول والشك فيه يلجأ إلى إحدى تلكم الوظائف لرفع الحيرة والتماس المؤمّن.

ومن هنا يتضح الفارق بين الحكم والوظيفة ، كما يتضح سر تقسيمهم للحكم بمعناه العام إليهما.

الفرق بين الحكم والوظيفة الشرعية :

فالوظيفة ليس فيها نظر إلى الواقع أصلا ، وجعلها لا يستند إلى مصلحة أو مفسدة في المؤدّى ، وانما يستند إلى مصلحة في نفس الجعل ، وهي مصلحة التيسير أو المحافظة على الحكم الواقعي ، بخلاف الحكم فانه تابع للمؤدّى ، فإن كان فيه مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك ، كان الحكم تبعا لذلك إلزاميا ، وان كانت المصلحة أو المفسدة غير ملزمة جعلت الكراهة أو الاستحباب ، ومع خلوّها عنهما أو تساويهما جعلت الإباحة.

والوظيفة وإن التقت أحيانا بالوجوب أو الحرمة كما في قاعدة الاحتياط ، أو بالحكم الترخيصي كما في البراءة ، إلا أن الفارق بينهما فارق جذري لتوفر الحكم على متابعة الواقع بخلاف الوظيفة ، فما ورد عن بعض الأساتذة من اعتبار البراءة إباحة شرعية لا يعرف له وجه ما دامت الإباحة وليدة خلو الواقع عن المصلحة والمفسدة معا ، أو وجودهما وتساويهما من حيث الأهمية ، والبراءة الشرعية ليست ناظرة إلى الواقع أصلا ، وربما كان فيه مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك ، فكيف يقال برجوعها إليها؟

وعلى هذا فالوظيفة ليست من سنخ الأحكام التكليفية ، وإنما هي من سنخ الأحكام الوضعيّة المجعولة بنفسها من قبل الشارع لغرض التيسير على العباد ورفع الحيرة عنهم.

٧٣

هذا كله في الفرق بين الحكم والوظيفة الشرعية.

أما الفرق بينه وبين الوظيفة العقلية :

فأمره أوضح لأن الوظيفة العقلية لا تستند على جعل شرعي أصلا ليلتمس الفارق بينها وبين الحكم ، وهما مختلفان بالسنخ وبالرتبة.

وهذا التعريف للحكم وتقسيماته المختلفة إنما يتم على مبنى من يؤمن بوجود جعل شرعي واعتبار يتعلق بأفعال العباد ، أما على مبنى من يدعي ان الحكم ليس هو في واقعة «إلا عبارة عن العلم باشتمال الأفعال على المصالح والمفاسد من دون أن يكون في البين جعل يقتضي الإرادة والكراهة» (١) فلا يتجه الحديث في أكثر هذه البحوث ، وقد حكي عن بعض احتمال هذا القول بل الالتزام به.

وهذا البعض لا نعرفه على التحقيق ، وهو في رأيه هذا خارج على إجماع المسلمين ـ فيما نعلم ـ فلا يستحق ان يناقش رأيه ويطال فيه الحديث ، على أن أستاذنا النائيني أطال في ردّه بعد أن أعطى رأيه فيه بقوله : «ولكن احتمال ان لا يكون في البين إلا العلم بالصلاح والفساد من دون أن يستتبع العلم بذلك الجعل والتشريع في غاية الوهن والسقوط» (٢) وربما استظهر من كلام الأستاذ خلاف نسبة نظيره إلى القائلين بالتقبيح والتحسين العقليين (٣) ، وسيأتي تحقيقه في مبحث (العقل) وبيان ان هذا الاستظهار لا مستند له لتصريحهم بوجود الحكم ، وان الحاكم هو الله تعالى لا غير.

بقيت أمور تتصل بمباحث الحكم وتلابسها ، إلا أن أكثرها مما يرجع إلى مباحث الفقه ، لذلك آثرنا عدم عرضها في هذا التمهيد لعدم اتصالها المباشر بطبيعته.

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ١٣٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) مصادر التشريع الإسلامي : ٧٦.

٧٤

بحوث تمهيديّة

(٥)

منهج البحث

* منهج الأحناف في تشخيص الأصول

* منهج المتكلمين

* منهجنا كمقارنين

* الهيكل العام للكتاب

* ترتيب الأصول حسب رتبتها

* الفرق بين التخصيص والتخصص والحكومة والورود

* منهج الدراسة بوجه عام

* أبواب الكتاب

٧٥
٧٦

تحديد المنهج :

وقبل ان ننهي الحديث في هذه البحوث التمهيدية التي امتدت بنا كثيرا ، نود ان نشير إلى المنهج الّذي نريد ان نسلكه في دراسة هذه الأصول والقواعد العامة التي عقدت هذه البحوث لدراستها ليكون القارئ الكريم على هدى في مسايرة فصولها القادمة.

وتحديد ذلك المنهج يدعونا إلى :

١ ـ تشخيص تلكم الأصول واستنباطها من مصادرها.

٢ ـ وضع هيكلها العام في الكتاب من حيث التبويب وتقديم بعضها على بعض.

٣ ـ طريقة دراستها وتقييمها والأسس التي ترتكز عليها في مجال التقييم.

(١)

منهجنا في تشخيص الأصول :

هناك منهجان لتشخيص الأصول واستنباطها : منهج الأحناف ، ومنهج المتكلمين ، ولكل منهما وجهة نظر ألّفت على أساسها جملة من كتب الأصول.

أما منهج الأحناف فقد ركز على أساس اعتبار الفروع الفقهية لإمام المذهب هي المنطق إلى التماس الضوابط الأصولية العامة ، ووظيفتهم أقرب إلى الوظيفة التأريخية منها إلى الوظيفة العقلية التقييمية ، وهذا بالنسبة إليهم طبيعي جدا بعد

٧٧

سد أبواب الاجتهاد على أنفسهم ، إذ النّظر في طبيعة الأصول وتقييمها والتماس أمثلها أو التماس أصول جديدة لم يعد ذي جدوى بالنسبة إليهم ما داموا لا يملكون لأنفسهم حق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها.

وكلما يهمهم بعد ذلك ان يعرفوا ما اعتمده إمام المذهب من الأصول ، وخير الوسائل إلى ذلك ان يجعلوا «أحكام الفروع التي نقلت عن أئمتهم مصدرا لهم لاستنباط الأصول التي اتبعوها عند الحكم فيها» (١).

وقد ألف على طريقتهم هذه جملة من أعلام الأصوليين ـ فيما تحدث بعضهم ـ كالكرخي ، والرازي المعروف بالجصاص ، والسرخسي ، والنسفي ، وغيرهم.

منهج المتكلمين :

ولكن منهج المتكلمين يختلف عن ذلك المنهج اختلافا كبيرا ، حيث يقوم «على تجريد قواعد الأصول عن الفقه والميل إلى الاستدلال العقلي ما أمكن ، فما أيدته العقول والحجج أثبتوه وإلا فلا ، دون اعتبار لموافقة ذلك للفروع الفقهية ، فهدفهم ضبط القواعد لتكون دعامة للفقه ضابطة للفروع من غير اعتبار مذهبي» (٢).

وقد ألف على هذه الطريقة ـ فيما يقال ـ كل من ، الآمدي ، والغزالي ، والجويني ، ومحمد بن علي البصري ، وغيرهم ، كتبهم في الأصول ، وجل كتب الشيعة الأصولية قائمة على هذا الأساس.

أما نحن ـ كمقارنين ـ فإن وظيفتنا هي أخذ واعتماد الطريقتين معا.

إذ احتياجنا إلى الأولى انما يكون في التماس وتشخيص هذه الأصول والتعرف عليها من مصادرها لدى الأئمة ، لأن طبيعة المقارنة تستدعي جمع الآراء من مظانها ـ في الفقه والأصول ـ والتأكد من نسبتها لأصحابها ثم التماس أدلتها لديهم

__________________

(١) مباحث الحكم عند الأصوليين : ١ ـ ٥٠.

(٢) المصدر السابق : ١ ـ ٤٨.

٧٨

تمهيدا لفحصها وإعطاء الرّأي فيها.

واحتياجنا بعد ذلك لطريقة الكلاميين انما كان لتقييم هذه الآراء بتقييم أدلتها والتماس أمثلها إلى الحجية والدليليّة.

وليس للمقارن ان يستغني بإحدى الطريقتين عن الأخرى من الوجهة المنهجية ، وإلاّ لأخل بطبيعة ما يقتضيه بحثه من نهج.

(٣)

الهيكل العام للكتاب :

وفي حدود ما ندّعيه لأنفسنا من استقراء آراء العلماء في مصادر التشريع وتتبع هذه المصادر عند أئمة المذاهب وكبار مجتهديهم ، سواء ما يتصل منها في إنتاج الحكم الشرعي أم الوظيفة عقلية أو شرعية ، فقد رأينا ان ما ينتظم في بحثنا منها لا يتجاوز العشرين أصلا بعد غربلة وإقصاء ما يتمحض لإنتاج الحكم الجزئي أو يغلب عليه إنتاجه ، وان انتج أحيانا الحكم الكلي مما آثرنا بحثه في كتابنا اللاحق عن القواعد الفقهية العامة ، إن شاء الله.

على ان هذه الأصول يمكن إرجاع بعضها إلى بعض واختصار عددها إلى النصف تقريبا ، إلاّ اننا رأينا ان مجاراة علماء الأصول في بحثها مستقلة والإشارة إلى ما ترجع إليه أيسر على الباحث وأكثر جدوى له.

وعلى كثرة ما كتب الأصوليون في هذه القواعد والأصول ، إلا أنهم لم يلاحظوا وضع بعضها في موضعها الطبيعي من بابها الخاصّ ، بل خلطوا بينها فأدخلوا بعض ما ينتج الحكم الكلي ضمن ما ينتج الوظيفة وبالعكس.

والنهج الّذي نراه هو ان يبنى الكتاب على أساس ما لهذه الأصول من ترتب في مقام إعمال المجتهد وظيفته في مجال الاستنباط.

٧٩

فالمجتهد ـ بالطبع ـ مسئول في الدرجة الأولى عن التماس الحكم الواقعي من أدلته الكاشفة له ، فإن أعياه العثور عليه لجأ إلى الواقع التنزيلي لالتماسه من أصوله وقواعده ، فإن أعياه ذلك لجأ إلى التماس الوظيفة الشرعية من أدلتها ، فإن لم يعثر عليها التجأ إلى ما يقرره العقل من وظائفه ، فإذا غمّ عليه مع ذلك كله كان عليه الرجوع إلى القرعة على قول.

فمراحل البحث لدى المجتهد إذن خمسة :

١ ـ مرحلة البحث عن الحكم الواقعي والأصول التي يرجع إليها أو إلى بعضها الفقهاء حسب استقرائنا لها من كتب الفقه والأصول هي : الكتاب ، السنة ، الإجماع ، دليل العقل ، القياس ، الاستحسان ، المصالح المرسلة ، سد الذرائع ، العرف ، مذهب من قبلنا ، مذهب الصحابي.

٢ ـ مرحلة البحث عن الحكم الواقعي التنزيلي وأهم أصوله : الاستصحاب. أما الأصول التنزيلية الأخرى كأصالة الصحة ، وقاعدتي التجاوز والفراغ ، فالذي يغلب على إنتاجها الحكم الجزئي ، لذلك آثرنا تأجيل الحديث فيها إلى الكتاب اللاحق.

٣ ـ مرحلة البحث عن الوظيفة الشرعية ، وأصولها هي : البراءة الشرعية ، الاحتياط الشرعي ، التخيير الشرعي.

٤ ـ مرحلة البحث عن الوظيفة العقلية ، وأصولها : البراءة العقلية ، الاحتياط العقلي ، التخيير العقلي.

٥ ـ مرحلة تعقد المشكلة وعدم التمكن من العثور على أدلة الحكم أو الوظيفة بأقسامها ، والأصول التي يرجع إليها عادة هي القرعة بعد تمامية دليلها ودلالتها.

وهذا الترتيب في وظائف المجتهد ـ عند إعمال ملكته ـ هو الترتيب الطبيعي عادة ، وقد اقتضته طبيعة أدلة هذه الأصول وتقديم بعضها على بعض.

٨٠