الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

المتناهيين ، والدين أيسر وأسمح من أن يكلف الأمة بمثل هذه التكاليف : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١).

٣ ـ منافاته لجميع الأدلة القادمة على جواز التقليد ، وهي أقوى منه وأصرح. وما أدري ما يصنع الناس ـ على رأي هؤلاء الأعلام قبل بلوغهم مراتب الاجتهاد ـ؟ أيلزمون بالتقليد وهو محظور عليهم كما هو الفرض ، أو يعملون بالاحتياط؟! وربما كانوا لا يعرفون موارده أو لا يرون جوازه أو لم يمكن ، كما في دوران الأمر بين المحذورين.

والّذي أتصوره ان هذه الدعوى لم يرد بها ظاهرها ، وربما أرادوا بها لزوم الاجتهاد عينا في أصل مسألة جواز التقليد حذرا من الدور أو التسلسل. وهذا حق لو صح إطلاق كلمة الاجتهاد على الأمور البديهية. وقد قلنا في تعريف الاجتهاد : انه لا يطلق إلا على ما كان فيه جهد وبذل وسع. والعامي هنا لا يحتاج إلى بذل أي جهد ليدرك لزوم رجوع الجاهل إلى العالم ، وهو يعيشه بواقعه العملي ويصدر عنه في كل يوم.

حجية جواز التقليد :

وحجية جواز التقليد تكاد تكون بديهية ، كما أشرنا إليها ، إما لكونها فطرية جبلية ، كما يعبر صاحب الكفاية رحمه‌الله (٢) ، أو لأن بناء العقلاء قائم عليها ، بل لا يمكن ان يستقيم نظام بدونها ككل ، لأن وجودها ضرورة لازمة لطبيعة المجتمعات ، وإلا فما أظن ان مجتمعا من المجتمعات ، مهما كانت قيمته الحضارية ، يستطيع ان ينهض أفراده بالاستدلال بالمعرفة التفصيلية لكل ما يتصل بحياتهم دون ان يكون فيهم علماء وجهال ليرجع جهالهم إلى علمائهم على نحو يكون كل منهم ـ مثلا ـ

__________________

(١) سورة الحج : الآية ٧٨.

(٢) كفاية الأصول ٥٣٩ ط. جامعة المدرسين ـ قم.

٦٢١

عالما بالطلب والهندسة وأصول الحرف والصناعات ، ومستوعبا لجميع أنواع الثقافات بحيث يستغني عن أخذ أي شيء منها. وحتى الأمم البدائية لا يمكن ان تتخلى عن هذه الظاهرة نسبيا.

والحقيقة ان تسميتها ظاهرة اجتماعية عامة أولى من تسميتها بالبناء العقلائي ، لأنها قائمة على كل حال ، وجد تبان من العقلاء أو لم يوجد.

والّذي نعلمه ونؤمن به ان مجتمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان بدعا من المجتمعات. لينفرد أفراده بالاستقلال بالمعرفة التفصيلية لمختلف ما يحتاجون التعرف إليه من شئون دينهم ودنياهم ، بحيث كانوا لا يتفاوتون من حيث العلم والجهل ليرجع جهالهم إلى علمائهم ، وفيهم من كان يشغله الصفق في الأسواق عن تتبع المعرفة من منابعها.

وإذا كانت هذه الظاهرة موجودة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي موجودة حتما ـ فهي ممضاة من قبله بإقرارهم عليها ، ولو كان هناك تشريع على خلافها لأثر من طريق التواتر ـ عادة ـ وهو ما لم ينقل حتى من طريق الآحاد.

وما يحتمل ان يكون ردعا من أمثال تلكم الآيات الناهية عن التقليد لا يصلح لإثباته ما دامت صريحة أو تكاد في الردع عن رجوع الجاهل إلى الجاهل ، وهو أجنبي عن هذه الظاهرة أو هذا البناء.

على ان أمثال آيتي (النفر) و (سؤال أهل الذّكر) بناء على ظهورها في التقليد والعشرات من الأحاديث التي أمرت بعض أصحاب الأئمة بالتصدي للإفتاء ، أو أرجعت إلى بعضهم للاستفتاء ، صريحة في إمضاء هذا البناء ولزوم الأخذ به في الجملة.

وهذه الأدلة ـ فيما أعتقد ـ ليست واردة لجعل حكم تأسيسي ما دام هذا البناء قائما في ذلك العصر ، وإنما هي من أدلة الإقرار له ، فلا حاجة إلى الدخول في

٦٢٢

استعراضها ورد ما أثير حول دلالتها من مناقشات.

الغزالي واستدلاله :

نعم ، استدل الغزالي بدليلين لا يرجعان إلى ما ذكرناه من الأدلة ، لا بأس بعرضهما وهما :

١ ـ «إجماع الصحابة ، فإنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد ، وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم» (١).

ويرد عليه ان الإجماع بمفهومه الاصطلاحي ـ أي صدور الفتوى عن الجميع ـ لا دليل على إثباته ، ودعوى ثبوته بالتواتر والضرورة مصادرة.

نعم ، إذا أراد ان هذه الظاهرة كانت موجودة بينهم بالضرورة فهو صحيح ولا إشكال فيه ، ولكنها ليست إجماعا بالمعنى المصطلح.

٢ ـ «ان الإجماع منعقد على ان العامي مكلف بالأحكام ، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال لأنه يؤدي إلى ان ينقطع الحرث والنسل ، وتتعطل الحرف والصنائع ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم ، وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش ، ويؤدي إلى اندراس العلم ، بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم ، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء» (٢).

وهذا الدليل ـ على خطابيته ـ سليم في إثبات أصل جواز التقليد.

ثم أورد على نفسه ، ودفعه بقوله : «فإن قيل : فقد أبطلتم التقليد وهذا عين التقليد ، قلنا : التقليد قبول قول بلا حجة ، وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع» (٣).

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١٢٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٦٢٣

وبهذا ندرك ان الاختلاف بين الغزالي وغيره في مفهوم التقليد لا يتجاوز الشكلية ، وهو متحد المبنى مع القائلين بجواز التقليد ، أقصاه انه لم يسمه تقليدا وإنما عبر عنه بقوله : «العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء» (١).

والأخذ برأي الغير من دون حجة موضع حظر الجميع باستثناء ما مر من الحشوية ان صح نسبة مثل ذلك الرّأي إليهم.

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١٢٤.

٦٢٤

خاتمة المطاف

القسم الثاني

التقليد

(٢)

اعتبار الحياة في المقلد

* تمهيد

* اعتبار الحياة والخلاف فيه

* أدلة القائلين بعدم اعتبار الحياة

* التمسك بإطلاق الأدلة اللفظية

* الاستدلال بالقياس

* بناء العقلاء

* سيرة المتشرعة

* الاستدلال بالاستصحاب

* ما يقتضيه الأصل المعين للوظيفة

* تسجيل ملاحظة

٦٢٥
٦٢٦

تمهيد :

وشرائط المقلد التي ذكروها كثيرة ، والّذي يستحق أن يطال فيه الكلام منها ثلاثة وهي :

١ ـ الحياة.

٢ ـ الأعلمية.

٣ ـ العدالة.

أما غيرها من الشرائط كالعقل ، والذكورية ، والحرية ، والبلوغ ، فاعتبار بعضها يقتضي أن يكون من الضروريات ، كالعقل مثلا ، إذ لا معنى للحديث في جواز تقليد المجانين في حال جنونهم وعدمه ، والباقي ذكروا له أدلة وهي غير ناهضة بالدلالة ، إلا ما يحكى من الإجماع على بعضها.

ومقتضى بناء على العقلاء هو عدم التفرقة بين الذّكر والأنثى ، والحر والعبد ، والبالغ والمميز من غير البالغين ، مع توفر عنصر الاجتهاد فيهم ، وهو الحجة ما لم يثبت الردع عنه ، فالعمدة التحدث في خصوص هذه الشرائط الثلاثة.

اعتبار الحياة والخلاف فيه :

واعتبار الحياة في حجية قول المفتي من الشرائط التي وقع فيها الاختلاف كثيرا ، فالأصوليون من الشيعة اعتبروا هذا الشرط ومنعوا من تقليد الميت ابتداء ، بينما أجاز الأخباريون منهم ذلك.

أما أهل السنة فقد اختلفت كلمتهم في ذلك ، فبعضهم أجازوا تقليد الميت ابتداء ، كما سوغوا الرجوع إلى الحيّ إذا كان متوفرا على شرائط التقليد ، ومنع

٦٢٧

البعض الآخر من تقليد الأحياء لقصرهم التقليد على الأئمة الأربعة.

والظاهر ان خلاف الأخباريين لرأي الأصوليين من الشيعة إنما هو لاختلافهم في وظيفة المجتهد عند الفتيا. فالأخباريون يرون ان وظيفة المجتهد لا تتجاوز نقل مضمون الرواية بفتياه ، وليس له ان يستند في الفتيا إلى مقدمات نظرية ، فهو مخبر عن المعصوم ، ولا يشترط الحياة في حجية خبر المخبر باتفاق الكلمة. بينما يرى الأصوليون وغيرهم ان المجتهد مستنبط للحكم من الأدلة ، وقد يكون بعضها نظريا ، وما دام كذلك فهو ليس بمخبر حين يفتي عن المعصوم ـ إلا بضرب من التسامح ـ وإن أخبر عن الحكم أو الوظيفة.

وعلى هذا ، فإن دليل الحجية بالنسبة إلى المفتي إنما يتقوم برأيه القابل للنظر والتبدل ، وهو يمكن ان يكون منوطا بالحياة. فاختلاف الأخباريين مع الأصوليين اذن اختلاف في أصل وظيفة المجتهد لا في شرائط الإفتاء. وخلافهم في هذه المسألة لا يصلح ان يكون خلافا في موضع الكلام ، لأنه بالنسبة إليهم أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

وخلاف ابن الصلاح مع إخوانه من أهل السنة ، وإصراره على حظر التقليد لغير الأئمة الأربعة منشؤه إجماع المحققين وبعض الأدلة ، وقد علمنا في مبحث سابق قيمة هذه الأدلة فلا نعيد فيها الكلام.

فعمدة الخلاف اذن هو ما بين الشيعة وأكثرية أهل السنة في اعتبار هذا القيد وعدمه.

والأقوال الأخر إما ليست ذات موضوع لاختلافها في أصل وظيفة المجتهد ، أو ليست بذات أهمية لعدم استنادها إلى أساس.

أدلة القائلين بعدم اعتبار الحياة :

وقد استدل القائلون بعدم اعتبار هذا الشرط ، أو استدل لهم بعدة أدلة نعرض

٦٢٨

ما عثرنا عليه منها وهي :

١ ـ التمسك بإطلاق الأدلة اللفظية :

أمثال آيتي (النفر وسؤال أهل الذّكر) من الكتاب العزيز ، وطوائف من الروايات كان بعضها يأمر بعض الرّواة بالتصدي للفتيا الدالة بالملازمة على جواز الأخذ منهم ، وكان بعضها الآخر يأمر بالرجوع إلى بعض أصحاب الأئمة واستفتائهم فيما يحتاجون إليه. ومقتضى إطلاق هذه الأدلة هو عدم الفرق بين الأحياء منهم وغيرهم.

وقد أجيب على هذا الاستدلال ـ بعد الغض عن أن أكثر هذه الأدلة لا إطلاق فيه لعدم كون الشارع في مقام البيان من هذه الجهة ـ :

أ ـ ان طبيعة السؤال أو الإنذار أو الرجوع إلى شخص معين تقتضي اعتبار الحياة ، إذ لا معنى لسؤال غير الأحياء أو صدور الإنذار منهم أو الرجوع إليهم.

ب ـ ولو سلّم فإن هذه الأدلة لا يعقل شمولها للمختلفين بالفتوى ، إذ لا معنى لأن يعبّدني الشارع بالمتناقضين ، ولو على سبيل البدل ، لأن معنى جعل الحجية لهما تبنيهما معا من قبله ، وكيف يعقل ذلك مع الجزم بمخالفة أحدهما للواقع ، وقد سبق الحديث منا في ذلك في مبحث (التخيير الشرعي).

وفرض المسألة لا يتم إلا في صورة اختلاف الحي مع الميت في الفتوى إذ مع اتفاقهما لا ثمرة عملية لهذه المسألة ، ومع الاختلاف لا تكون الأدلة شاملة لهما معا ابتداء ، وهي إنما يمكن الاستدلال بها في صورة عدم العلم بالخلاف فقط ، ومسائلها نادرة جدا لو سلمت المناقشات السابقة فيها.

٢ ـ الاستدلال بالقياس :

بتقريب قياسها على عدم اعتبار الحياة في حجية قول المخبر ، لأن العلة التي

٦٢٩

أوجبت حجية قول المخبر هي حكايته عن الواقع ، فكذلك الأمر في المفتي ، وبما أن المقيس عليه لا يعتبر قيد الحياة في حجية خبره فالمقيس مثله من هذه الجهة.

والجواب على ذلك : أن هذا النوع من القياس ، لم تثبت حجيته لوجود الفارق الكبير بينهما. فالمخبر إنما يستند في إخباره إلى الحس أو الحدس القريب منه ، وبقاء الحياة لا يغير في واقع ما أحسه إذا كان صادقا في اخباره ، ولذا نرى ان الصادقين في اخبارهم قلما يختلفون إذا حدثوا عن واقعة واحدة ، بينما يستند المفتي أحيانا إلى مقدمات نظرية ، وهي تختلف باختلاف خبرة المفتين بأصول الاستنباط ومقدار ما يملكون من ذكاء وصبر على البحث ، بل تختلف باختلاف المراحل العلمية التي يجتازها المفتي الواحد ، وما أكثر ما عدل المفتون عن فتاوى سابقة لعثورهم على أدلة على خلافها ، أو لزيادة تجاربهم في معرفة كيفيات الاستنباط.

وما يدرينا لو قدر لذوي الاجتهاد من الأموات أن تستمر بهم الحياة ما يدخل الزمن على آرائهم وفتاواهم من التطور والتغيير؟

ومع هذا فكيف يسلم قياسها على الاخبار مع وجود هذا الفارق الكبير؟ ولا أقل من كونه من قبيل القياس غير المقطوع ، وقد عرفت في «مبحث القياس» (١) مدى حجيته.

٣ ـ بناء العقلاء :

حيث لا يفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين الحي والميت ، ويخير بينهما. وهذا البناء ـ لو تم ـ فهو في صورة التساوي بينهما من حيث العلم أو صورة ما إذا كان الميت أعلم مثلا. إلا انه مما يحتاج إلى إمضاء من الشارع المقدس أو عدم ردع على الأقل ـ لما قلناه : من ان البناء وحده لا يكفي في تكوين الحجية لما قام عليه ـ

__________________

(١) راجع : ص ٢٨٧ وما بعدها من هذا الكتاب.

٦٣٠

لعدم حصول القطع بمدلوله.

والإمضاء وعدم الردع إنما يتحققان إذا فرض وقوع مصداق من مصاديق هذه المسألة أمام الشارع فأمضاها أو سكت عنها ، كأن نتصور واقعة وقعت أمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلد فيها مكلف عالما ميتا ـ ابتداء ـ مع وجود عالم حي مساو له أو دونه بالفضيلة ، وهما مختلفان بالفتيا ، فأقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك.

ولكن من أين لنا تصور ذلك أو إثباته تاريخيا ومثله نادر الوقوع عادة إن لم يكن منعدما. إذ مع علم المكلف بالاختلاف ، لا تصل النوبة إلى تقليد أحد مع وجود المعصوم وإمكان سؤاله والأخذ منه.

فالقول بوجود البناء العقلائي غير المردوع عنه في خصوص صورة الاختلاف لا يخلو عن افتئات ومصادرة. مع ان هذا البناء مما يشك في وجوده مع الاختلاف حتى بين الأحياء.

على أنه لو صحت استفادة خصوصية الحياة في الأدلة اللفظية ، أو ثبت الإجماع (١) على عدم جواز تقليد الميت ابتداء كان ذلك كافيا في الردع عن هذا البناء لو وجد.

٤ ـ سيرة المتشرعة :

وهي التي يدعى بلوغها إلى عصر المعصومين.

والجواب عليها : ان حسابها حساب ذلك البناء ، بل هي أضعف منه بكثير لبداهة عدم قيامها على الرجوع الابتدائي إلى الأموات ، وبخاصة في صورة الاختلاف.

وكيف تثبت السيرة المستمرة إلى زمن المعصوم؟ اما على مبنى أهل السنة

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى : ١ ـ ١٦.

٦٣١

فواضح ، لرجوعهم جميعا إلى أئمة المذاهب الأربعة وهم متأخرون في حياتهم عن زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميعا ، فكيف يمكن إثبات استمرار السيرة في الرجوع إليهم أمواتا إلى زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وأما على مبنى الشيعة فلأن أكثرهم لا يقولون بجواز تقليد الميت ابتداء ، فضلا عن ادعاء قيام سيرتهم على الرجوع إلى الأموات.

٥ ـ الاستدلال بالاستصحاب :

بتقريب ان هذه الحجية كانت ثابتة لقول المجتهد حال حياته ، ويشك في ارتفاعها بالموت فتستصحب.

والجواب على ذلك : ان هذه الحجية لا يمكن استصحابها للشك في سعة المجعول وضيقه. فالحجية المجعولة لا يعلم بحدود جعلها ابتداء ، وهل يتسع إلى ما بعد موت صاحبها أو هي مختصة بحال الحياة؟ فإن كانت مجعولة على النحو الأول فهي مقطوعة البقاء ، وإن كانت على النحو الثاني فهي مقطوعة الارتفاع ، وكلما دار الأمر بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع لا يمكن جريان الاستصحاب فيه لفقده ركنا من أركانه ، إذ لا يقين سابق بأحدهما على الخصوص ، ومع فرض وجوده فلا يوجد شك في أن المتيقن باق ـ إن كان واسعا ـ أو انه مرتفع ـ إن كان ضيقا ـ لفرض دورانه بين مقطوع البقاء أو الارتفاع.

فالركن المفقود اما اليقين أو الشك ، ومع فقد أحدهما لا يجري الاستصحاب. وفي رأي بعض أساتذتنا ان المورد يقتضي استصحاب عدم الحجية لاحتمال «ان تكون حجية فتوى المجتهد مختصة بمن عاصره ، وكان من وظيفته الرجوع إليه ، وأما المكلف الموجود بعد موته فلا علم بحجية فتواه في حقه من الأول ، فيجري استصحاب عدم جعل الحجية في حقه بلا معارض» (١).

__________________

(١) مصباح الأصول : ص ٤٦٠.

٦٣٢

ما يقتضيه الأصل المعين للوظيفة :

والرجوع إلى هذا الأصل إنما يكون مع فقد الدليل الاجتهادي أو الأصل الإحرازي وهما مفقودان هنا ، كما يدل عليه ما استعرضناه من أدلتهم وما ذكرناه في مناقشتهما.

والأصل يقتضي في هذا الموضع اعتبار الحياة لبداهة دوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير في مقام الحجية ، وذلك لعدم احتمالنا أية خصوصية للموت ـ بما هو موت ـ توجب تعيين الرجوع إلى الأموات ابتداء ، ونحتمل أن تكون للحياة خصوصية مهما كانت بواعث الاحتمال ، ومتى دار الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية ، تعين الأخذ بما هو محتمل التعيين للقطع بحجيته والشك في حجية الطرف الآخر ، والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها ، كما قلنا ذلك مرارا.

وعليه فإن تم ما عرضوه من أدلة اجتهادية على اعتبار الحياة ـ وهو ما لم نر أية ضرورة لتفصيل الحديث فيه ـ كان هو المتعين في مقام الاستناد ، وإلا فالأصل العملي كاف في إثبات هذه الجهة.

تسجيل ملاحظة :

والشيء الّذي أحببت أن أسجله ـ وان لم تكن له مدخلية في عوالم الاستدلال على اعتبار الحياة ـ ما لاحظته من ان في تشريع جواز الرجوع إلى الأموات ـ في التقليد ابتداء ـ إماتة للحركة الفكرية التشريعية وتجميدا للعقول المبدعة عن الانطلاق في آفاقها الرحبة.

وقد لاحظت هذا الواقع في كثير من علماء الإسلام من أهل السنّة يوم سدوا على أنفسهم أبواب الاجتهاد وحصروا التقليد بخصوص أئمتهم ، حيث ظلت الحركة الفكرية واقفة عند حدودها لديهم قبل قرون ، وما الف بعد ذلك كان يفقد في غالبه عنصر الأصالة والإبداع.

٦٣٣

كما لاحظت ذلك عند الأخباريين ، حين أجازوا لأنفسهم تقليد العلماء من الأموات ابتداء.

بينما نرى نمو الحركة العلمية وتطورها عند العلماء والأصوليين من الشيعة بما يتناسب ومستوى عصورهم.

ولعل السر في ذلك الجمود يعود إلى ما يضيفه القدم عادة من الغلو في تقديس البشر لكل ما هو عريق فيه ، وإعطاء أصحابه قيمة لا يحلم بها الأحياء من الناس ، مما يزهد الاحياء في إعمال أفكارهم في أشياء لا تعطي أية ثمرة عملية لمجتمعهم ، ولا قيمة اجتماعية كبيرة لهم ، وما قيمة علم لا ينتفع بثمره أحد من الناس حتى يتشجع أصحابه على الفناء فيه؟

٦٣٤

خاتمة المطاف

القسم الثاني

التقليد

(٣)

اعتبار الأعلمية في المقلد

* المراد بالأعلمية

* الخلاف في هذا الشرط

* أدلة المانعين : إطلاق الأدلة اللفظية

* استقرار السيرة في عهد المعصومين ، بناء العقلاء

* تطابق الصحابة وإجماعهم

* أدلة العسر والحرج

* أدلة اعتبار الأعلمية : بناء العقلاء ، الإجماع

* الأدلة اللفظية

* الأصل المنتج للوظيفة

٦٣٥
٦٣٦

المراد بالأعلمية :

والمراد بالأعلمية هنا ان يكون صاحبها أقوى ملكة من غيره في مجالات الاستنباط ، لا الأوصلية إلى الواقع لعدم إمكان إحرازها في الغالب ، وكون الفتاوى التي منشؤها الأخذ بالاحتياط تقتضي ان يكون صاحبها أوصل لا تكشف عن علم صاحبها الّذي هو المناط في المرجعية والتقليد.

الخلاف في هذا الشرط :

وقد اختلفت كلمتهم في هذا الشرط «فمنهم من لا يتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم ، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأعلم والأدين ، وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الأصوليين» (١) وهو مختار الغزالي أيضا ، يقول : «والأولى عندي اتباع الأفضل ، فمن اعتقد ان الشافعي رحمه‌الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب ، فليس له ان يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي» (٢).

وهذا المبنى هو المشهور بين علماء الشيعة ، بل «عن المحقق الثاني الإجماع عليه ، وعن ظاهر السيد في الذريعة كونه من المسلمات عند الشيعة» (٣).

«وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء سواء تساووا أو تفاضلوا» (٤).

__________________

(١) أحكام الأحكام للآمدي : ٣ ـ ١٧٣.

(٢) المستصفى : ٢ ـ ١٢٥.

(٣) مستمسك العروة الوثقى : ١ ـ ١٩.

(٤) الآمدي في أحكام الأحكام : ٣ ـ ١٧٣.

٦٣٧

وذهب إلى ذلك بعض علماء الشيعة ممن تأخروا عن الشهيد الثاني (١).

أدلة المانعين :

وأهم ما استدل به المانعون عن اعتبار هذا الشرط بعد ضم أدلتهم بعضها إلى بعض هو :

١ ـ إطلاق الأدلة اللفظية :

وهي التي سبق عرض بعضها في هذا القسم حيث لم تفرق بين الأعلم وغيره ، مع اختلاف العلماء عادة في العلم والمعرفة وندرة الاتفاق في الفتوى. وحملها على صورة الاتفاق حمل على الأفراد النادرة.

والجواب على هذا الاستدلال يتضح مما مر في مناقشة هذه الأدلة قبل صفحات ، وبخاصة ما يتصل منها بامتناع ان يصدر التعبد من الشارع بالأمور المتناقضة.

ومع هذا الامتناع لا بد من حملها على صورة الاتفاق بالفتوى ، وهو ليس بنادر كما يدعى ، وبخاصة في مورد الآيتين ونظائرهما من الأحاديث ، حيث يقل الاختلاف عادة في النافرين وأهل الذّكر لقرب عهدهم بالمصادر الأساسية للتشريع ، وهم أشبه بالمخبرين منهم بالمجتهدين ، فالقول بندرة اتفاقهم لا نعرف له وجها.

٢ ـ استقرار السيرة في عهد المعصومين :

على الأخذ بفتاوى العلماء المعاصرين لهم مع العلم باختلاف مراتبهم بالعلم والفضيلة وعدم ردعهم عن ذلك.

والجواب على ذلك هو عدم وجود مثل هذه السيرة مع العلم بالاختلاف ، ولا

__________________

(١) المستمسك : ١ ـ ١٩.

٦٣٨

أقل من الشك المانع من التمسك بها.

٣ ـ بناء العقلاء :

على التخيير بينهما غير المردوع عنه من قبل المعصوم قطعا.

وهذا الاستدلال كسابقه لا يتم لبداهة ان بناء العقلاء قائم على خلافه ، فالناس عادة لا يرجعون إلى المفضول من أهل الخبرة مع وجود الأفضل وبخاصة في صورة اختلافهم بالرأي ، ويرون ان العامل على وفق رأي المفضول مقصر إذا أخطأ الواقع ، وقد قرب الغزالي هذا المعنى بقوله : «من مرض له طفل وهو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا ، ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا.

فان كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء ، فخالف الأفضل ، عد مقصرا» (١).

بينما لا يراه العقلاء مقصرا لو قدّر له استعمال دواء الأفضل ، ولو أنهى بمريضه إلى الموت.

وعلام يبذل الناس أموالهم الطائلة في اختيار المهندس الأفضل ، والمعلم الأفضل ، والطبيب الأفضل مثلا ، لو لم يكن هذا البناء قائما على خلاف الاعتبار ، وعلى الأخص في صور الاختلاف؟

وسيأتي أن أهم أدلة اعتبار هذا الشرط ، هو هذا البناء الّذي لم يثبت الردع عنه بشيء من هذه الأدلة.

٤ ـ تطابق الصحابة وإجماعهم :

وقد استدل به الآمدي على ذلك بتقريب «ان الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين ، فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١٢٦.

٦٣٩

غيرهم ، ولهذا قال عليه‌السلام : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ) (١) وقال عليه‌السلام : (أقضاكم عليّ وأفرضكم زيد ، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) (٢).

وكان فيهم العوام ، ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير ، ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين ، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل ، ولو كان ذلك غير جائز لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه ، ويتأيد ذلك بقوله عليه‌السلام : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (٣) ولو لا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى» (٤).

وهذا الاستدلال لا يتم صغرى وكبرى. أما من حيث الصغرى ، فلأن إثبات الإجماع والتطابق لا يتم بمجرد عدم النقل لما هو معروف بالبداهة من ان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، بل يحتاج إلى نصّ على عدم الخلاف من معاصريهم ، أو الاطلاع على واقعهم التأريخي تفصيلا ليصح نسبة الاتفاق إليهم ، وهو ما لم يدون أكثره ولا يمكن بلوغه بحال.

وأما من حيث الكبرى فلأن هذا الإجماع ـ لو تم وتمت حجيته ـ فهو لا يعدو كونه من الأدلة اللبية التي لا إطلاق فيها ليشمل صورة المختلفين في الحكم ، والقدر المتيقن هو صورة الاتفاق فيه أو عدم العلم بالاختلاف على الأقل.

على أنا نشك ان العوام في صدر الإسلام كانوا لا يفرقون بين علي من جهة ، وبين أبي سفيان وبسر بن أرطاة ومروان بن الحكم من جهة أخرى ، فإذا اختلف

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ ـ ١٠٩ ، ح ١٦٦٩٢ و ١٦٦٩٢ و ١٦٦٩٤ و ١٦٦٩٥.

(٢) فتح الباري : ١٠ ـ ٥٩٠ وفيه «أقضاكم علي».

(٣) جامع الأصول : ٩ ـ ٤١٠ ، كتاب الفضائل ، ح ٦٣٥٩.

(٤) أحكام الأحكام : ٣ ـ ١٧٤.

٦٤٠