الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

قبله لا وظيفة لها إلا تنجيز متعلقها ، أو التماس المعذرية لمن قامت عنده ـ كان قيام الأمارة وغيرها كعدمه لا يبدل في الواقع ولا يغير ، والواقع يبقى على حاله ، فإن أصابه المجتهد كان مصيبا وإلا فهو مخطئ معذور.

وتسمية ما قامت عليه الأمارة أو الأصل بالحكم الظاهري إنما هي «لمكان احتمال مخالفة الطريق والأصل للواقع وعدم إيصاله إليه ، وإلا فليس الحكم الظاهري إلا هو الحكم الواقعي الّذي قامت عليه الأمارات والأصول مطلقا ، محرزة كانت الأصول أو غير محرزة ، وهذا هو الّذي قام عليه المذهب ، ويقتضيه أصول المخطئة» (١).

والظاهر ان أدلة الأمارات والأصول التي سبق عرضها هي التي تقتضي ما ذهب إليه المخطئة ، إذ لا تدل على أكثر من المنجزية أو المعذرية.

القول بالمصلحة السلوكية ومناقشته :

وهو الّذي أخذ من التخطئة والتصويب معا ، وقد ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سرّه حيث التزم بالطريقية بالنسبة إلى مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات من دون ان يكون هناك أي تصرف في المتعلق يزاحم به الواقع المجعول بحق الجاهلين والعالمين على السواء ، كما التزم بسببية الأمارة لخلق مصلحة في نفس السلوك لا في المتعلق «وتلك المصلحة مما يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع» (٢).

فهو آخذ من المخطئة التزامهم بجعل الطريقية للطرق والأمارات ، ومن المصوبة كونها سببا في خلق المصلحة.

__________________

(١) فوائد الأصول : ١ ـ ١٤٢.

(٢) المصدر السابق : ص ٣٧.

٦٠١

وأهم ما يورد به على هذه الفكرة عدم نهوض الأدلة بها ، لأن هذه الأدلة التي تقدم الحديث عنها في أكثر الأبواب السابقة ليس فيها ما يشير إلى أكثر من جعل الطريقية أو الحجية لما قامت عليه ، أما خلق مصلحة في السلوك فلم تتعرض له بقليل أو كثير ، وقد قرب بعض الأساتذة رجوعها إلى التصويب المعتزلي وحملها بعض مفارقاته ، وليس المهم تحقيق ذلك بعد ان كانت الأدلة ليست ناهضة بأكثر من جعل الطريقية لها.

٦٠٢

خاتمة المطاف

القسم الأول

الاجتهاد

(٨)

نقض الاجتهاد وعدمه

* تحديده

* النقض والقاعدة

* الخلاف في المسألة

* أدلة القائلين بالاجزاء في مقام العمل

* أدلة نفي الحرج

* دعوى ان الاجتهاد الأول كالثاني

* القول بأن القضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين

* دعوى الإجماع على الاجزاء

* القول بالاجزاء في مقام الحكم

* عدم النقض والتسلسل

* الاستدلال بقول عمر بن الخطاب

* نتيجة البحث.

٦٠٣
٦٠٤

تحديده :

ويراد بنقض الاجتهاد تحول المجتهد عن رأي سابق انتهى إليه باجتهاد إلى رأي آخر مضاد له اقتضاه اجتهاد لا حق بعد تبين الخطأ له في اجتهاده الأول ، ويتصور هذا النقض وتبدل الرّأي في مقامين :

١ ـ مقام العمل والإفتاء.

٢ ـ مقام القضاء وفض الخصومات.

وقد حررت هذه المسألة في كتب الأصوليين من الشيعة في مباحث الألفاظ وعرض لها مفصلا في (مبحث إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي).

وقد وقع الخلاف بين الأعلام فيها ، وقبل ان نعرض التفصيل والتماس أدلتها ، نود ان نتحدث عما تقتضيه القواعد الأولية في هاتين المسألتين.

النقض والقاعدة :

والّذي يقتضي ان يقال ان القاعدة مرتبة على المباني السابقة في مسألة التخطئة والتصويب ، ومقتضاها الاختلاف باختلافها.

فالقائلون بالتصويب بمفهومه الأول ـ أعني تصويب الغزالي والقاضي ـ لا بد ان يلتزموا بالإجزاء وعدم جواز النقض مطلقا ، بل لا معنى للقول بجواز النقض لعدم وجود موضوع له على مبناهم.

لأن مثل هؤلاء لا يعقل انكشاف الخطأ بالنسبة إليهم لعدم التزامهم بوجود واقع يمكن للمجتهد ان يخطئه أو يصيبه فيما لا نصّ فيه ، وتبديل الاجتهاد لديهم وان استلزم تبدل الحكم ، إلا ان ذلك من قبيل تبدل الحكم لتبدل موضوعه لا

٦٠٥

لانكشاف الخطأ فيه.

والقائلون بالتصويب الثاني لا بد وان يلتزموا بالإجزاء أيضا لتصريحهم بأن كل مجتهد مصيب وان أخطأ الواقع ، وفي حدود ما وجهنا به كلامهم السابق لا يبقى ـ بعد حصول الاجتهاد وخلق حكم على وفقه ـ مجال للحكم الواقعي لمزاحمته دائما بالحكم الجديد وتغلبه عليه. وتبدل الاجتهاد لديهم يكون كسابقه من قبيل تبدل الموضوع ، لا من قبيل انكشاف الخطأ فيه.

أما على رأي الشيخ الأنصاري قدس سرّه من الالتزام بالتخطئة والمصلحة السلوكية ، فالذي يقتضيه الالتزام به هو القول بعدم الإجزاء لاعترافه بأن المصلحة السلوكية لم تصنع شيئا أكثر من تعويض المكلف عما يفوته من المصلحة بسبب سلوك ما جعله الشارع له من الطرق والأمارات.

اما الواقع فهو على حاله غير مزاحم بشيء نهائيا ، ومع خطأ الطريق الاجتهادي لم يفت المكلف أكثر من مصلحة الوقت في الموقتات مثلا ، وقد عوض عنها بالمصلحة السلوكية.

ولكن مصلحة الواقع ـ مع إمكان تداركها ـ باقية لم يفت منها على شيء ، وعليه الإتيان بها على كل حال.

ومن هنا تتضح القاعدة على رأي المخطئة ، إذ مع التزامهم بوجود الأحكام الواقعية وانكشاف خطأ الاجتهاد الأول وعدم تنازل الشارع عن حكمه لعدم جعله في الطرق والأمارات والأصول أكثر من الطريقية أو الحجية ، وهي لا تفيد غير المنجزية عند المصادفة للواقع والمعذرية عند عدمها. ومع هذا الفرض فلا بدّ من القول بعدم الاجزاء.

هذا كله من حيث القاعدة ، وهي لا تفرق بين المقامين : مقام العمل والإفتاء ، ومقام القضاء وفض الخصومة ، كما لا تفرق بين الأحكام الوضعيّة والتكليفية.

٦٠٦

الخلاف في المسألة :

ولكن بعض العلماء فرقوا بين مقامي الحكم والإفتاء فالتزموا بعدم جواز النقض في الأول وجوازه في الثاني كالغزالي وغيره (١).

كما فرق الشيخ النائيني قدس سرّه فيما يبقى له أثر ـ بعد انكشاف الخطأ بالاجتهاد الثاني ـ بين العبادات من الأحكام التكليفية وغيرها كالأحكام الوضعيّة ، فالتزم بالاجزاء بالنسبة إلى العبادات وعدمه بالنسبة إلى غيرها (٢).

وهناك من أطلق القول من الأعلام ـ فيما يبدو ـ بالإجزاء استنادا إلى أدلة خاصة ذكروها.

أدلة القائلين بالإجزاء في مقام العمل والإفتاء :

وقد ذكروا لذلك أدلة أربعة هي :

١ ـ أدلة نفي الحرج :

أمثال قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٣).

بدعوى أن مقتضى لسانها هو حكومتها على الأدلة الأولية ، بتضييق نطاقها عن شمول ما كان حرجيا من الأحكام. وبما أن الحكم بعدم الإجزاء هنا حرجيّ ، فهو غير مجعول على المكلفين في هذا الحال.

ويرد على هذا الاستدلال : أن هذه الأدلة إنما تتم حكومتها في المقام إذا كان مفادها هو نفي الحرج النوعيّ ، وإلا لكانت أضيق من المدعى ، لبداهة ان القول بعدم الإجزاء لا يستلزم الحرج الشخصي في جميع مسائله.

ومفاد هذه الأدلة ـ كما هو التحقيق فيها ـ هو رفع الحرج الشخصي لا النوعيّ

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١٢٠ ، والخضري في أصول الفقه : ص ٣٦٨.

(٢) أجود التقريرات : ١ ـ ٢٠٦.

(٣) سورة الحج : الآية ٧٨.

٦٠٧

ـ وهو الّذي تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع ـ وعليه فلا تصلح هذه الأدلة لتأخير القاعدة إلا في موارد الحرج الشخصي ، وهي قليلة نسبيا.

٢ ـ دعوى ان الاجتهاد الأول كالثاني :

فلا موجب لرفع اليد عنه بالاجتهاد الثاني ، والقول بعدم الإجزاء لا يتم إلا برفع اليد عن الاجتهاد الأول.

ويرد على هذه الدعوى : انها إنما تتم إذا كان كلا الاجتهادين حجة ، وهذا ما لا يعقل ان يكون ، لأن معنى اجتهاده الثاني هو قيام الحجة لديه على بطلان اجتهاده الأولى لاكتشافه خللا فيه ، كأن يكون قد أفتى أولا ـ استنادا إلى إطلاق أو عموم ـ ثم عثر بعد ذلك على مقيد أو مخصص له ، وليس من الممكن ان يبقى العام على حجيته حتى مع العثور على المخصص أو المقيد ، أو يكون قد استند في اجتهاده السابق على رواية كان يعتقد صحتها ثم تبين له كذب راويها ، وهكذا.

ومع هذا الحال كيف يلتزم بعدم ترجيح الاجتهاد الثاني في صورة معارضته له مع انه لا يعدو ـ في واقعه ـ باب التعارض بين الحجة واللاحجة لا التعارض بين الحجتين؟ ومن المعلوم لزوم الأخذ بما هو الحجة منهما بالضرورة.

٣ ـ القول بأن القضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين :

وهو الّذي نسب إلى صاحب الفصول (١). والّذي يؤخذ به عدم وضوح منشأ المفارقة التي سجلها بهذا القول. فهو ان أراد منها ان القضية لا تتحمل اجتهادين مع بقاء حجيتهما للزوم التناقض وشبهه في مدلوليهما ، فهو وان كان صحيحا ، إلا أن القائلين بعدم الاجزاء لا يلتزمون ببقاء الحجية لهما معا ، لبداهة انكشاف الخلل في اجتهاده الأول المانع من حجيته.

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ ـ ٢٠٥.

٦٠٨

وان أراد ـ كما هو ظاهر كلامه ـ ان طبع القضية الواحدة يأبى ورود اجتهادين عليه من مجتهد واحد ، فهو وإن كان مع وحدة الزمان صحيحا أيضا ، إلا أنه خارج عن الفرض لافتراضهم تأخر الاجتهاد الثاني عن الأول زمانا. ومع تعدد الزمان لا تأبى القضية الواحدة ألف اجتهاد ، وما أكثر ما تتبدل آراء المجتهدين في المسألة الواحدة.

٤ ـ دعوى الإجماع على الإجزاء :

وقد حكاه شيخنا النائيني قدس سرّه (١) ، واستند إليه في القول بالإجزاء في خصوص العبادات باعتبار القدر المتيقن من مورده ، وجزم بخروج الأحكام الوضعيّة عن المورد لاعتقاده ان فتوى جماعة في الإجزاء فيها «إنما هي لأجل ذهابهم إلى كون الإجزاء هو مقتضى القاعدة الأولية لا لأجل الإجماع على ذلك» (٢).

وقد نوقشت هذه الدعوى بإنكار وجود إجماع تعبدي في جميع صور المسألة ، «والقائل بالإجزاء انما ذهب إليه لدلالة الدليل عليه باعتقاده. وعليه فلا مقتضى لرفع اليد عما تقتضيه القاعدة الأولية من لزوم الإعادة والقضاء في العبادات بعد انكشاف الخلاف ، ولزوم ترتيب جميع آثار انكشاف الخلاف في المعاملات» (٣).

وبهذا يتضح ان تفصيل شيخنا النائيني رحمه‌الله لا يمكننا الالتزام به ورفع اليد عن القاعدة إلا إذا تم الإجماع ، والقضية تحتاج إلى الفحص في كل مسألة فقهية ، لا الحكم فيها ككل.

القول بالإجزاء في مقام الحكم :

أما مقام الحكم وفض الخصومات ، فقد يضاف إلى تلك الأدلة على عدم جواز

__________________

(١) فوائد الأصول : ١ ـ ١٤٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) أجود التقريرات (هامش) : ١ ـ ٢٠٦.

٦٠٩

النقض ما تشعر به بعض الروايات من ان الحكم الحاكم موضوعية إذ اعتبرت الراد عليه رادا على الله «وهو على حد الشرك بالله» (١) من دون ان تفرق بين كون الرد ونقض الاجتهاد مبنيا على اجتهاد أو غيره.

ويرد على هذا الاستدلال : ان إثبات هذا الإطلاق لا يخلو من صعوبة لعدم إحراز كونه في مقام البيان من هذه الجهة ، بل قد يقال بعدم إمكان شموله له عادة ، إذ مع استكشاف المجتهد ان حكمه الأول كان بغير ما أنزل الله ، فكيف يحتمل وجوب قبوله وحرمة رده ويكون الراد عليه رادا على الله؟ مع ان رده هذا كان أخذا بحكم الله بحسب عقيدته.

على ان استفادة الموضوعية لحكم الحاكم لا تتجاوز في تلك الروايات حدود الإشعار لا الظهور ، بينما يبدو من صحيحة هشام ان حكم الحاكم لا يسري إلى الواقع فيغيره عما هو عليه ، يقول هشام ـ بسنده ـ :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما أقضي بينكم بالبينات والإيمان ، وبعضكم ألحق بحجته من بعض ، فأيما رجل اقتطعت له من مال أخيه شيئا فقد قطعت له به قطعة من النار» (٢).

عدم النقض والتسلسل :

وقد استدل الغزالي وتابعه غيره على عدم جواز النقض في الحكم بقوله : «ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد ان خالع الزوج ثلاثا ، ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ، ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم ، فإنه لو نقض الاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل» (٣).

__________________

(١) الكافي : ١ ـ ٦٧ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠. مستمسك العروة الوثقى : ١ ـ ٥٧.

(٢) التهذيب : ٦ ـ ٢٢٩ ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح ٣. مستمسك العروة الوثقى : ١ ـ ٧٥.

(٣) المستصفى : ٢ ـ ١٢٠.

٦١٠

ويرد على هذا الاستدلال :

١ ـ ان امتناع التسلسل إنما يتم إذا تمت الملازمة بينهما وكانت واقعة في سلسلة العلل والمعلولات ، لكنها هنا غير تامة لبداهة ان فعلية نقض الاجتهاد الأول لا تستلزم فعلية نقض النقض لجواز أن يثبت عليه المجتهد ـ أي النقض ـ إلى الأخير ، ولو استلزمتها فهي من قبيل الملازمات الاتفاقية ـ إن صح تسميتها ملازمة ـ لوضوح ان نقض الاجتهاد الأول لا يكون علة لنقض النقض ولا معلولا له ، ومع عدم العلية والمعلولية بينهما لا يلزم التسلسل الباطل.

وما يقال عن فعلية النقض ، يقال عن إمكانه لو أراد الملازمة بين الإمكانين ، لا بين النقضين الفعليين ، فيكون معنى قوله : «لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض» انه لو جاز نقض الاجتهاد لجاز نقض النقض ، إذ التلازم بين الجوازين بالبداهة ليس منشؤه العلية والمعلولية بينهما ، فلا يكون باطلا.

٢ ـ ورود هذا الإشكال عليه نقضا لالتزامه بجواز النقض في مقام الإفتاء ، يقول : «اما إذا نكح المقلد بفتوى مفت ، وأمسك زوجته بعد دور الطلاق وقد نجز الطلاق بعد الدور ، ثم تغيّر اجتهاد المفتي ، فهل على المقلد تسريح زوجته؟ وهذا ربما يتردد فيه ، والصحيح أنه يجب تسريحها كما لو تغير اجتهاد مقلده عن القبلة في أثناء الصلاة ، فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى ، كما لو تغير اجتهاده في نفسه» (١) ، مع أن لزوم التسلسل ـ على مبناه ـ فيه واضح لجواز أن يقال : لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل ... إلخ.

وقد وقع بالمفارقة نفسها بعض المتأخرين ، كالأستاذ الخضري (٢).

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١٢٠.

(٢) أصول الفقه : ص ٣٦٨.

٦١١

الاستدلال بقول عمر بن الخطاب :

وقد استدل البعض على عدم جواز النقض بما أثر عن عمر بن الخطاب في المسألة الحجرية المعروفة في علم الميراث «وهي ما إذا وجد مع الاثنين فأكثر من أولاد الأم أخ شقيق فأكثر بالانفراد ، ومع أخت شقيقة فأكثر ، واستغرقت الفروض كل التركة بأن وجد مع هؤلاء زوج وصاحبة سدس كالأم والجدة الصحيحة» (١) حيث قضى «بعدم توريث أولاد الأبوين ، ولما عرضت عليه المسألة مرة أخرى قضى بإشراكهم مع أولاد الأم في فرضهم الثلث ، ولما قيل له : سبق ان قضيت بعدم إشراكهم ، قال : ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي» (٢).

وهذا الاستدلال لا يتم :

١ ـ لمعارضته بما أثر عن عمر نفسه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة : «ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك وهديت فيه إلى رشدك ان ترجع إلى الحق ، فان مراجعة الحق خير من التمادي على الباطل» (٣).

٢ ـ ان الاستدلال بقول عمر لا يكون حجة لما قلناه من ان إثبات الحجية لقول الصحابي لا تتم لعدم تمامية الدليل عليها ، وقد سبق ان عرضنا الأدلة التي استدل بها على كونه من السنة (في مبحث سنة الصحابة) (٤) وناقشناه ، كما عرضنا أدلة من يريد إثبات الحجية له على أي حال (في مبحث مذهب الصحابي) (٥) وناقشناها هناك.

__________________

(١) سلم الوصول : ص ٣٤٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) راجع : ص ١٢٧ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٥) راجع : ص ٤٢٣ وما بعدها من هذا الكتاب.

٦١٢

نتيجة البحث :

والنتيجة ان القاعدة تقتضي عدم الإجزاء في الجميع ، ولا يخرج عنها إلا بدليل خاص ، ولو وجد فهو خاص في مورده. أما الأدلة العامة فليس فيها ما يصلح لتعطيل القاعدة في جميع الموارد.

٦١٣
٦١٤

خاتمة البحث

القسم الثاني

التقليد

(١)

مفهومه وحجيته

* تحديده لغة واصطلاحا

* الخلاف في حجيته

* رأي الحشوية والتعليمية

* رأي علماء حلب والقدرية

* حجية جواز التقليد

* الغزالي واستدلاله

٦١٥
٦١٦

تحديده لغة واصطلاحا :

التقليد في اللغة جعل القلادة في العنق ، ومنه التقليد في حج القرآن ، أي جعل القلادة في عنق البعير.

وقد عرف في اصطلاح الأصوليين والفقهاء بتعاريف متعددة ، ربما التقت جملة منها في بعض الخطوط العامة له.

ففي المستصفى انه «قبول قول بلا حجة» (١) ، وفي أحكام الأحكام «عبارة عن العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة» (٢) ، وفي العروة الوثقى «هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين وإن لم يعمل بعد» (٣) ، وفي مستمسك العروة الوثقى هو «العمل اعتمادا على رأي الغير» (٤).

وهذه التعاريف وما يشبهها مختلفة سعة وضيقا ، فالغزالي والآمدي أخذا فيه قيد عدم الحجية ، بينا أطلق الباقون لتعم تعاريفهم ما قامت عليه الحجة وما لم تقم ، وربما استفيد من بعض التعاريف تقييدها بقيام الحجة عليها ، فتكون مباينة لتعريفي الغزالي والآمدي.

على ان الاختلاف في هذه التعاريف لم يقتصر على هذه الناحية ، فقد أخذ في بعضها الالتزام بقول الغير في مفهومه ، بينما اعتبر البعض الآخر العمل فيه اعتمادا على رأي الغير.

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١٢٣.

(٢) أحكام الأحكام : ٣ ـ ١٦٦.

(٣) العروة الوثقى : ص ١٨ ، ط. قم.

(٤) مستمسك العروة الوثقى : ١ ـ ٨.

٦١٧

وقد حاول بعض الأعلام الجمع بينها لاعتقاده رجوع بعضها إلى الآخر واعتبار المراد منها جميعا هو خصوص العمل. ولكن هذا الجمع غير ظاهر ، ويأباه ما ذكروه لاختلاف المفهومين من ثمرات فقهية. ومنها ما لو التزم بقول مجتهد ولم يعمل بعد ثم مات المجتهد ، فهو على أحد التعريفين مقلد لالتزامه بالعمل على قوله ، وعلى الآخر ليس بمقلد لعدم عمله بما التزم به. فلو كنا ممن يقول بلزوم البقاء على تقليد الميت ، لكان علينا ان نلزم هذا المكلف بالبقاء على تقليد صاحبه ـ بناء على المفهوم الأول ـ لصدق عنوان التقليد على التزامه ونلزمه بتقليد الحي ـ بناء على المفهوم الثاني ـ لعدم صدق التقليد على التزامه ، وذلك لعدم اقترانه بالعمل على وفق آرائه. ولكن النزاع إنما يكون له ثمرة لو كان للفظ التقليد موضع من لسان الأدلة ليقال بأن المراد منه أي شيء هو.

ولكن هذا اللفظ لم يرد ـ فيما يقال ـ إلا في رواية ضعيفة لا تصلح لأن تكون مستندا لحكم شرعي (١).

والّذي يستفاد من الأدلة هو لزوم التماس المنجز أو المعذر في كل ما يصدر عنه المكلف من فعل أو ترك ، فإن حصل المنجز أو المعذر بجهده أجزأه ، وإلا لزم عليه الرجوع إلى الغير إذا كان عالما والاعتماد على قوله.

وربما ناسب هذا المعنى تحديد اللغويين له ، وكأن المنشأ في تسمية عمل العامي تقليدا هو ما ينطوي عليه من جعل أعماله قلادة في عنق من يرجع إليه وتحميله مسئوليتها ، وهذا المعنى أجنبي عن الالتزام.

ومع غض النّظر عن هذه الجهة فالمتبادر من لفظ التقليد عرفا هو المحاكاة للغير في عمله أو تركه لا العمل وحده ولا الالتزام. والأمر هين ما دام لم يرد لفظ

__________________

(١) وهي الرواية المأثورة عن تفسير العسكري : (فللعوام ان يقلدوه) والتفسير المذكور مرمي بالضعف لجهالة روايته عن الإمام عليه‌السلام. (المؤلف).

٦١٨

التقليد في الأدلة المعتبرة.

الخلاف في حجيته :

والغريب ان تتعاكس فيه الآراء إلى درجة تشبه التناقض. فالحشوية والتعليمية يذهبون «إلى ان طريق معرفة الحق التقليد وان ذلك هو الواجب ، وان النّظر والبحث حرام» (١) «وقال قوم من القدرية يلزمهم النّظر إلى الدليل» (٢) وهو الّذي نسب إلى علماء حلب (٣) أيضا.

وأكثرية المسلمين من الشيعة والسنة على وجوبه تخييرا على اختلاف في اعتبار بعض الشرائط في المفتي سنعرض لها بشيء من الحديث.

رأي الحشوية والتعليمية :

وربما وافقهم ابن الصلاح ومن تبعه في عهود التقليد من السنة ، وقد سبق الحديث منا في مناقشة ما ساقوه من الأدلة على لزوم حظر الاجتهاد والرجوع إلى خصوص الأئمة الأربعة.

أما أصل مبنى الحشوية في حظر الاجتهاد مطلقا في جميع العصور ، فلم أعثر على توجيه له. والّذي يبدو من عرض الغزالي له في مسألة التقليد الّذي عرفه بقبول قول الغير بلا حجة أنهم يحظرون الاجتهاد حتى في مسألة وجوب التقليد عينا ليكون قولهم بلا حجة ، وقد أطال في رده في غير طائل ـ بعد افتراضه انه قول بلا حجة ـ وكان حسبه في رده ان يقول ان لا دليل على حجيته.

ومثل هذا التقليد ـ بالإضافة إلى عدم قيام الحجة عليه ـ قيام الأدلة القاطعة على الردع عنه ، وحسبك ما صرح به الكتاب العزيز من ذمه للمقلدين الذين

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١٢٣.

(٢) المصدر السابق : ٢ ـ ١٢٤.

(٣) القوانين : ٢ ـ ١٦١.

٦١٩

اعتمدوا أقوال وأعمال آبائهم كمصدر للسلوك وصدروا عن محاكاة له وتقليد ، مع ان آباءهم كانوا لا يملكون من المعرفة شيئا. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١) ، ورجوع الجاهل إلى الجاهل هو عين هذا النوع من التقليد.

رأي علماء حلب والقدرية :

وإذا كان ما نسب إلى التعليمية من حظر الاجتهاد والنّظر ، مبعث استغراب فإن ما نسب إلى القدرية وعلماء حلب من لزوم الاجتهاد عينا وحرمة التقليد لا يقل غرابة عن ذلك إذا حمل على ظاهره ، وكأنهم أخذوا بظواهر الآيات الرادعة عن التقليد واعتبروها مصدرا لهم.

ويرد على هذا الرّأي :

١ ـ ان الآيات منصبة على الردع عن التقليد من غير حجة ، أي عن رجوع الجاهل إلى الجاهل ، لا رجوع الجاهل إلى العالم ، بدليل ما ورد فيها من التبكيت (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) فكأن منشأ المفارقة الّذي اقتضى كل هذا التأنيب هو رجوعهم إلى من لا يعلم ، أي رجوعهم إلى الجهّال ، والتقليد الّذي نذهب إليه هو التقليد الّذي يكون عن حجة ملزمة ، أي الّذي يكون وليد اجتهاد في أصله وقطع بحجيته.

٢ ـ إن فرض الاجتهاد العيني على جميع المكلفين لا يمكن ان يصدر من الشارع المقدس لما يلزم منه من اختلال النظام وشل الحركة الاجتماعية ، وما رأيك في أمة تنصرف جميعا إلى التماس الاجتهاد وأعماله في جميع مجالات حياتها؟ هل يمكن أن تستقيم أمور دنياها بحال من الأحوال؟ ولا أقل من لزوم العسر والحرج

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ١٠٤.

٦٢٠