الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

الرّأي والاستقامة في السلوك ، وهم لا يهادنون على ظلم ولا يصبرون على مفارقة ، فأرادت قطع الطريق على تكوين أمثالهم بإماتة الحركة الفكرية من أساسها ، وذلك بسدها لأهم منبع من منابعها الأصيلة وهو الاجتهاد.

أدلة حجيته :

والغريب ان نجد في المتأخرين عن ذلك العصر من يحاول التبرير الشرعي لجملة هذه التصرفات ، بالتماس أدلة توجب هذا الحظر وتلزم باستمراره.

يقول صاحب الأشباه : «الخامس مما لا ينفذ القضاء به : ما إذا قضى بشيء مخالف للإجماع وهو ظاهر ، وما خالف الأئمة الأربعة مخالف للإجماع ، وإن كان منه خلاف لغيره ، فقد صرح في التحرير ان الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة ، لانضباط مذاهبهم وكثرة أتباعهم» (١).

وقد رأينا في المتأخرين من يوافقه على هذا الحكم كالشيخ محمد عبد الفتاح العناني رئيس لجنة الفتيا في الأزهر الشريف وزملائه في اللجنة (٢).

والأدلة التي ذكرها صاحب الأشباه هي :

١ ـ الإجماع.

٢ ـ انضباط المذاهب الأربعة وكثرة أتباعهم.

١ ـ الاستدلال بالإجماع ومناقشته :

وقد نسب ابن الصلاح هذا الإجماع إلى المحققين (٣) لا إلى المجتهدين ، وهذا طبيعي لافتراضه قيام الإجماع بعد انسداد باب الاجتهاد.

وقد ناقش الشيخ المراغي (وهو من دعاة حرية الفكر) هذا الإجماع صغرى

__________________

(١) الاجتهاد في الشريعة للمراغي : ص ٣٥٧ من مجلة رسالة الإسلام : س ١ ـ ج ٣ نقلا عنه.

(٢) عبد المتعالي الصعيدي في كتابه (من أين نبدأ) : ص ١١٤.

(٣) الاجتهاد في الشريعة للمراغي : ص ٣٥٧ من رسالة الإسلام : س ١ ـ ج ٣ نقلا عنه.

٥٨١

وكبرى.

أما مناقشته من وجهة صغروية فقد شكك في إمكان تحصيل هذا الإجماع ، وقال : «ان محققي العلماء يرون استحالة الإجماع ونقله بعد القرون الثلاثة الأولى نظرا لتفرق العلماء في مشارق الأرض ومغاربها ، واستحالة الإحاطة بهم وبآرائهم عادة.

وهذا رأي واضح كل الوضوح لا يصلح لعاقل ان ينازع فيه ، وإذا كان هذا واضحا بالنسبة لإجماع المجتهدين ، وهم أقل عددا بلا ريب من المحققين ، فكيف عرف إجماع المحققين؟» (١).

ثم تساءل بعد ذلك عن قيمة ابن الصلاح ـ مدعي هذا الإجماع ـ ومدى صلاحيته للأخذ برأيه «ابن الصلاح هذا فقيه مقلد ، فكيف يؤخذ برأي فقيه مقلد ليس واحدا من الأئمة الأربعة؟ وكيف ينسخ الإجماع برأي واحد لا يصلح تقليده والأخذ بقوله؟» (٢).

وأما مناقشته من وجهة كبروية فقد انصبت على إنكار الدليل على حجية مثل هذا الإجماع ، يقول : «ليس لإجماع المحققين قيمة بين الأدلة الشرعية ، فهي محصورة : كتاب الله وسنة رسوله ، وإجماع المجتهدين ، والقياس على المنصوص ، ولم يعد أحد من الأدلة الشرعية إجماع المحققين ، فكيف برز هذا الإجماع وأخذ مكانته بين الأدلة ، وأصبح يقوى على نسخ إجماع المسلمين؟» (٣) إلى آخر ما جاء في بحثه القيم من مناقشات لقيمة هذا الإجماع.

وخلاصة الرّأي في ذلك أنّا قد استقرأنا فيما سبق في (مبحث الإجماع) (٤) أدلة

__________________

(١) الاجتهاد في الشريعة للمراغي : ص ٣٥٧ من رسالة الإسلام : س ١ ـ ج ٣ نقلا عنه.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) راجع : ص ٢٤١ وما بعدها من هذا الكتاب.

٥٨٢

العلماء على حجية الإجماع ، فلم نجد فيها ما يشير إلى حجية إجماع المحققين. فالاستدلال اذن بالإجماع في غير موضعه ، لعدم قيام الدليل على حجية مثله ، على أن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها.

٢ ـ انضباط المذاهب وكثرة الاتباع ومناقشتهما :

وهاتان العلتان ـ سواء أراد بهما التعليل لأصل الحكم أم للإجماع ـ غريبتان عن الأدلة جدا ، إذ متى كانت كثرة الاتباع وانضباط المذاهب من الحجج المانعة عن الأخذ بقول الغير ، وربما كان الغير أعلم وأوصل إلى الحكم الواقعي ، وفتواه موجودة محررة يمكن الحصول عليها ، كما إذا كان معاصرا للمستفتي يمكنه الرجوع إليه بسهولة.

على أني لا أكاد أفهم كيف تكون القابليات المبدعة وقفا على فئة من الناس عاشوا في عصور معينة (ولم يتميزوا في عصورهم بظاهرات غير طبيعية)؟ مع ان طبيعة التلاقح الفكري توجب خلق تجارب جديدة في مجالات الاستنباط ، والعقول لا تقف عند حد ، فكيف يمكن ان يقال لأصحاب هذه التجارب ـ الذين ملكوا تجارب القدماء ودرسوها وناقشوها وأضافوا عليها من تجاربهم الخاصة ـ : ان هؤلاء القدماء أوصل منكم وأعلم ، وعليكم تمجيد عقولكم والأخذ بما يقولون وإن بدت لكم مفارقات ما جاءوا به من آراء؟!

وما أحسن ما قاله الأستاذ المراغي ، وهو ينعى على دعاة الجمود موقفهم من حرية الفكر : «ليس مما يلائم سمعة المعاهد الدينية في مصر أن يقال عنها ان ما يدرس فيها من علوم اللغة والمنطق والكلام والأصول لا يكفي لفهم خطاب العرب ، ولا لمعرفة الأدلة وشروطها ، وإذا صح هذا فيا لضيعة الأعمار والأموال التي تتفق في سبيلها» (١) ، ثم يقول : «واني مع احترامي لرأي القائلين باستحالة

__________________

(١) المراغي في بحثه السابق في رسالة الإسلام : س ١ ـ ج ٣ ص ٣٥٠ وما بعدها.

٥٨٣

الاجتهاد أخالفهم في رأيهم ، وأقول : ان في علماء المعاهد الدينية في مصر من توافرت فيه شروط الاجتهاد وحرم عليه التقليد» (١).

والشيء الّذي لم أملك تماما توجيهه في كلامه ـ بعد هذه الدعوة الهادفة ـ هو قوله : «والواقع أنه في أكثر المسائل التي عرضت للبحث وأفتى الفقهاء فيها لم يبق للمجتهد إلا اختيار رأي من آرائهم فيها ، أما الحوادث التي تجد فهي التي تحتاج إلى آراء محدثة» (٢).

والّذي يوحي به كلامه ، أنه فهم من الاجتهاد انه إحداث رأي جديد ، وهو لا يكون إلا في الأمور المستحدثة لاستيعاب الفقهاء مختلف الأقوال في المسألة المبحوثة غالبا ، ووظيفة المجتهد بالنسبة إليها اختيار واحد منها.

مع أن الاجتهاد ، كما سبق تحديده ، ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف ، سواء كانت موافقة لآراء غيره أم مخالفة.

وكونهم مستوعبين للأقوال في المسألة لا يسقط عنه وظيفة إعمال ملكته في مقابلهم ، حتى ينتهي إلى الرّأي الّذي يراه موافقا للحجة من بينها.

ولما ذا يختار رأيا من آرائهم؟ ألأنه يعتقد ان أولئك السابقين أوصل منه وأعرف؟ كيف وأصولهم ومبانيهم بيده ، وفيها ما لا يرتضيه لعدم قيام الحجة عنده عليه ، ولما ذا يفضّل رأيا على رأي إذا لم يعمل اجتهاده في مقام التفضيل؟

الشيعة وفتح باب الاجتهاد :

فالحق ـ كما ذهب إليه الشيعة ـ هو فتح باب الاجتهاد المطلق ، وهو الّذي تقتضيه جميع الأدلة التي ذكروها على وجوب المعرفة عقلية ونقلية. وهذه الاعتبارات التي ذكروها لعدم الحجية لا تصلح لإيقاف تلكم الأدلة ونسخها.

__________________

(١) المراغي في بحثه السابق في رسالة الإسلام : س ١ ـ ج ٣ ـ ص ٣٥٠ وما بعدها.

(٢) المصدر السابق.

٥٨٤

خاتمة المطاف

القسم الأول

الاجتهاد

(٦)

أحكام المجتهد

* حجية رأيه بالنسبة إلى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته

* التفصيل بين المتجزئ وعدمه

* جواز إفتائه على وفق ما يرتئيه وعدمه

* جواز رجوعه إلى الغير مع عدم إعمال ملكته وعدمه

٥٨٥
٥٨٦

أحكام المجتهد :

والحديث حول أحكامه يقع في مواقع ثلاثة :

١ ـ حجية رأي المجتهد بالنسبة إلى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته.

٢ ـ جواز إفتائه على وفق ما يرتئيه وعدمه.

٣ ـ جواز رجوعه إلى الغير ـ فيما يبتلى به من المسائل ـ مع عدم إعمال ملكته وعدمه.

١ ـ حجية رأيه بالنسبة إلى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته :

والّذي يبدو لي ـ في حدود ما رأيت ـ ان كلمة الأعلام تكاد تتفق على حجية رأيه ولزوم العمل به ، وعدم جواز رجوعه إلى الغير في الجملة ، وذلك باستثناء ما مر من آراء ابن الصلاح ومن تبعه.

والسر في ذلك واضح بعد ما اتضح من بحوثنا السابقة مفهوم الحجية وكونها من اللوازم العقلية القهرية لطريقية العلم. إذ المجتهد ـ بناء على ما انتهينا إليه من مفهوم الاجتهاد ـ إذا أعمل ملكته وانتهى إلى رأي ، فهو إما عالم بالحكم الواقعي علما وجدانيا أو علما تعبديا ـ بواسطة جعل الشارع للطريقية أو الحجية ـ أو يكون عالما بإحدى الوظيفتين الشرعية أو العقلية على نحو ترتبها السابق.

ومع فرض حصول العلم لا يبقى مجال للتصرف الشرعي ، فلا يمكن ان يقال للمجتهد العالم بالمسألة : إنك لا يسوغ لك ان تعمل بعلمك وعليك الرجوع إلى الغير واستشارته فيما تراه حاصلا لديك من الواقع. نعم للشارع ان يرفع بعض الحجج الموقوفة على جعله أو إمضائه فيذهب عليه المستند إليها. أما مع بقائها

٥٨٧

وبقاء علمه المستند إليها ، فإن الشارع لا يمكن له ان يتصرف فيها لأنها كما سبق بيانه غير واقعة تحت تصرفه كمشرع ، وان وقعت تحت قبضته كخالق ومكوّن.

ومع هذا الفرض وتماميته لم نعد بحاجة إلى التماس أدلة على الحجية.

وربما استدل على جواز تقليده لغيره في هذه الصورة بشمول أدلة التقليد له.

ويرد على هذا الاستدلال خروجه عن هذه الأدلة بالتخصص لبداهة ان موضوعها قد أخذ فيه عدم العلم (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١). والسيرة العقلائية إنما قامت على رجوع الجاهل إلى العالم لا العالم إلى مثله.

ولا يفرق في هذا الحكم بين رجوعه إلى مثله في المعرفة أو الأعم منه ، لأن الأعلمية المفروضة ان أوجبت له تشكيكا في صحة مستنده ، كأن يكون قد اطلع على وجهة نظره فأقرها ، أو أثارت لديه الشكوك ، فهو خارج عن الفرض لعدم وصوله إلى الحكم ، والكلام إنما هو فيمن أعمل ملكته ووصل إلى الحكم من طريقها ، وان لم توجب له التشكيك فيما وصل إليه وبقي مصرا على وجهة نظره ، فهو في الحقيقة يرى نفسه أوصل منه في هذه المسألة ، فكيف يسوغ له الرجوع إليه. فما أوهم هذا التفصيل في كلمات البعض لا يبدو له وجه.

نعم ، هناك تفصيل يذكر بالنسبة إلى المتجزئ وعدمه.

التفصيل بين المتجزّي وعدمه :

والّذي يظهر ان القائلين بالتجزي مختلفون على أنفسهم ، فبعضهم يرى لزوم رجوع المتجزئ إلى غيره من المجتهدين ، كصاحب المعالم قدس سرّه ووالده قدس سرّه وجده قدس سرّه إذا صحت استفادة ذلك من كلامهم ، بينما خالفهم العلامة قدس سرّه والشهيد قدس سرّه وصاحب الكفاية قدس سرّه وغيرهم.

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٤٣.

٥٨٨

وقد استدل صاحب الكفاية بعدم اختصاص أدلة المدارك بالمتصف بالاجتهاد المطلق ، وأضاف الحجة الرشتي على ذلك بأنه «كيف يرفض ظنه ويأخذ بظن المجتهد المطلق مع انه يخطئه في ظنه؟ وهل هذا إلا رجوع العالم إلى الجاهل؟» (١).

والحقيقة انه بعد تسليم إمكان التجزي ووقوعه لا يبقى مجال للقول بعدم الحجية لنفس ما قلناه سابقا من أنه بعد فرض الالتزام بكونه عالما بما قامت عليه الحجة ، كيف يمكن ان يقال له : ان علمك ليس بحجة عليك ، مع ان الحجية من لوازم العلم القهرية؟

والّذي يظهر من إطلاق الاتفاق في كلمات الغزالي ان عدم جواز رجوعه إلى الغير مطلقا مفروغ عنه ، يقول في المستصفى : «وقد اتفقوا على انه إذا فرغ من الاجتهاد وغلب على ظنه حكم ، فلا يجوز له ان يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه» (٢). وكذلك الآمدي (٣).

٢ ـ جواز إفتائه على وفق ما يرتئيه وعدمه :

أما جواز إفتائه على وفق ما وصل إليه من رأي ، فهو أيضا لا يقتضي ان يكون موضعا لإشكال ، لما تقدم بيانه من ان من لوازم الحجية العقلية جواز نسبة مؤدى ما قامت عليه إلى مصدرها من شارع أو عقل. وليس المراد من الفتوى إلا الإخبار عما يراه من حكم أو وظيفة.

والظاهر أن جميع ما ورد من الأدلة على جواز الإفتاء يكون من قبيل الإرشاد إلى هذا اللازم العقلي ، إذ مع فرض كونه من اللوازم العقلية للحجية لا يكون قابلا للوضع أو الرفع.

__________________

(١) الكفاية وشرحها للشيخ الرشتي : ٢ ـ ٣٥١.

(٢) المستصفى : ٢ ـ ١٢١.

(٣) أحكام الأحكام : ٣ ـ ١٥٨.

٥٨٩

٣ ـ جواز رجوعه إلى الغير مع عدم إعمال ملكته وعدمه :

اختلف الأعلام في جواز الرجوع إلى الغير مع جهله بالحكم لعدم إعمال ملكته للوصول إليه.

فالجبائي لا يسوغ الرجوع لغير الصحابي ، ويرى ان تقليده مع ذلك خلاف الأولى ، وبه قال الشافعي في رسالته القديمة وجوز بعضهم الرجوع إلى الصحابة والتابعين دون من عداهم (١) ، وفصّل محمد بن الحسن بين الأعلم وغيره ، فأجاز تقليد الأعلم دون غيره ممن هو دونه أو مثله ، كما فصّل قوم بين ما يخصه وما يفتي به ، فأجازوا في الأول ومنعوا في الثاني ، وهناك تفصيل آخر فيما يخصه بين ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد ، وما لا يفوت حيث أجيز في الأول ومنع في الثاني (٢) ، بينما أطلق الجواز كل من : أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، والثوري ، ولأبي حنيفة روايتان (٣).

والعمدة في هذا المجال التماس أدلة جواز التقليد والنّظر في عمومها أو إطلاقها لشمول مثله.

وعمدة الأدلة كما يأتي بناء العقلاء الممضى قطعا من قبل الشارع ، ولعل في أمثال آيتي النفر (٤) وسؤال أهل الذّكر (٥) ، ما يكفي لإثبات ذلك الإمضاء.

والظاهر ان بناء العقلاء ، إنما يفرق بين خصوص القادر على إعمال ملكته وعدمه. فالقادر على إعمالها لسعة الوقت وتوفر أدوات البحث لا يرى معذرا له في ترك إعمالها لعدم انطباق عنوان الجاهل عليه ، وهو إنما يقر رجوع الجاهل إلى

__________________

(١) اقرأ هذه الأقوال في الأحكام للآمدي : ٣ ـ ١٥٨.

(٢) اقرأ هذه التفصيلات في المستصفى : ٢ ـ ١٢٢.

(٣) الآمدي في الأحكام : ٣ ـ ١٥٨.

(٤) (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[سورة التوبة : الآية ١٢٢].

(٥) (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[سورة النحل : الآية ٤٣].

٥٩٠

العالم لا غير. ولكنه يجيز لغير القادر ذلك ، فالطبيب الّذي يصاب ببعض العوارض ويخشى على نفسه من فوات الفرصة فيما لو أراد ان يعمل ملكته لفقده بعض أدوات عمله ، يرجع عادة إلى استشارة طبيب آخر يثق بمعارفه. وهكذا بالنسبة إلى المتدرج في إعمال ملكته ولنفرضه جديد عهد بالملكة.

فلو قدر لمثل هذا ان لا يصدر إلا عن هذه الملكة ، لتعذر عليه استيعاب جميع تكاليفه ، وبخاصة إذا كان هو لا يرى جواز الاحتياط في بعض المسائل ، أو كانت مما يتعذر فيها الاحتياط.

فالذي يقتضيه بناء العقلاء على هذا الرجوع إلى الغير لتحصيل المؤمّن فيما يقدم عليه أو يتركه من إعمال.

وممن اختار هذا التفصيل المحقق القمي قدس سرّه صاحب «القوانين المحكمة» حيث قال ـ بعد ان عرض رأي المانعين مطلقا ـ : «ودليل المانع وجوب العمل بظنه إذا كان له طريق إليه إجماعا ، خرج العامي بالدليل وبقي الباقي ، (وفيه) منع الإجماع فيما نحن فيه ، ومنع التمكن من الظن مع ضيق الوقت ، فظهر ان الأقوى الجواز مع التضييق ، واختصاص الحكم به» (١).

والظاهر من الجواز هنا الجواز بالمعنى العام في مقابل المنع لا الإباحة ، لتعين الرجوع إلى الغير في هذا الفرض.

وإذا صح هذا اتضحت أوجه المناقشة في جميع تلكم الأقوال ، إذ لا دليل عليها ، وغاية ما يدل عليه دليل الجواز هو هذا المقدار وليس في الأدلة كل هذه التفصيلات التي ذكروها ، فلا حاجة إلى الإطالة بردها.

__________________

(١) القوانين المحكمة : ٢ ـ ١٦٣.

٥٩١
٥٩٢

خاتمة المطاف

القسم الأول

الاجتهاد

(٧)

التخطئة والتصويب

* الخلاف في مسألة التخطئة والتصويب

* القول بالتصويب والخلاف فيه

* التصويب الأشعري ومناقشته

* التصويب المعتزلي ومناقشته

* القول بالتخطئة وحجيته

* القول بالمصلحة السلوكية ومناقشته

٥٩٣
٥٩٤

الخلاف في مسألة التخطئة والتصويب :

وقد اختلفوا في ان المجتهد مصيب دائما في كل ما تنهي إليه حججه ، أو انه قابل للخطإ. والأقوال في التخطئة والتصويب ثلاثة : قول بالتصويب ، وقول بالتخطئة ، وثالث أخذ منهما معا بعض جوانبها.

١ ـ القول بالتصويب والخلاف فيه :

والمصوّبة اختلفوا على أنفسهم ، فالذي عليه محققو المصوبة كما يقول الغزالي : «انه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه ، وهو المختار وإليه ذهب القاضي وذهب قوم من المصوبة إلى ان فيه حكما معينا يتوجه إلى الطلب ، إذ لا بد للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلف المجتهد اصابته ، فلذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين الّذي لم يؤمر بإصابته ، بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه» (١).

وقد عرف القسم الأول من التصويب على ألسنة بعض الباحثين من الأصوليين بالتصويب الأشعري ، كما عرف القسم الثاني بالتصويب المعتزلي (٢).

التصويب الأشعري ومناقشته :

وقد أطال الغزالي بتقريبه ودفع ما أورد عليه من الشبه ، وكل ما جاء به لا

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١٠٩.

(٢) فوائد الأصول : ١ ـ ١٤٢.

٥٩٥

يخلو من خلط بين الأحكام في مرحلة الجعل والأحكام في مرحلة التبليغ وبينهما وبين الأحكام في مرحلة الفعلية.

كما وقع في مفارقة ان أحكام الشارع هي خطاباته ، مع ان الخطابات إحدى مبرزات أحكامه لا انها عين الأحكام ، ولا منافاة بين ان يكون هناك حكم ولا يكون خطاب به.

وبهذا ندرك أوجه المفارقة في كلامه الّذي لخص به وجهة نظره حيث قال : «والكلام الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو أنّا نقول : المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نصّ وإلى ما لم يرد.

أما ما ورد فيه نصّ ، فالنص كأنه مقطوع به من جهة الشرع ، لكن لا يصير حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه ، أو كان عليه دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه ، فهذا مطلوب المجتهد وطلبه واجب ، وإذا لم يصب فهو مقصر آثم.

أما إذا لم يكن إليه طريق متيسر قاطع ، كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر ، فقد بينّا ان ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه ، لكنه عرضة ان يصير حكما فهو حكم بالقوة لا بالفعل ، وإنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه ، فمن قال : في هذه المسائل حكم معين لله تعالى ، وأراد به انه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه ، وقبل البلوغ وتيسر الطريق ليس حكما في حقه بالفعل بل بالقوة فهو صادق ، وإن أراد به غيره فهو باطل.

أما المسائل التي لا نصّ فيها فيعلم انه لا حكم فيها ، لأن حكم الله تعالى خطابه ، وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه‌السلام أو سكوته ، فإنه قد يعرفنا خطاب الله من غير استماع صيغة ، فإذا لم يكن

٥٩٦

خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم؟ فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراما فمعنى تحريمه انه قيل فيه لا تشربوه ، وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطبا ، والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون ، ولا بد ان يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين ، ومتى خوطبوا ولم ينزل فيه نصّ ، بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق ، فإذن لا يعقل خطاب لا مخاطب به ، كما لا يعقل علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ، ويستحيل ان يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل» (١).

ولإيضاح مواقع المفارقة في كلامه هذا نضرب المثل في القوانين التي تشرعها الدول والمراحل التي تمر بها وهي ثلاث :

١ ـ مرحلة التشريع ، وهي المرحلة التي ينتزع فيها القانون شرعيته بتصديق البرلمان أو أية جهة مسئولة عنه ، وربما اقتضت المصلحة تأجيل تنفيذه وإبلاغه للمواطنين.

٢ ـ مرحلة التبليغ ، أي مرحلة مخاطبة المواطنين به وإلزامهم بالسير على وفقه.

٣ ـ مرحلة الفعلية ، أي مرحلة وصول القانون إليهم وتبلغهم به.

ومرحلة تنجز التكاليف التي عرض لها القانون هي مرحلة الفعلية ، وعلى أساسها يكون الثواب والعقاب ، وإلا فمرحلة التشريع أو التبليغ إذا لم يصل الحكم إلى المكلف مع فحصه عنه وعجزه عن العثور عليه ، لا تستوجب العقاب لما مرّ بيانه من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل ، وهي قاعدة تطابق عليها العقلاء جميعا ، وإذا تم هذا المثل ، عدنا إلى تطبيقه على أحكام الشارع ، فالحديث القائل بما مؤداه : «ما من واقعة إلا ولله فيها حكم حتى أرش الخدش» (٢) ، تشير

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١١٦.

(٢) الكافي : ١ ـ ٢٤١ ، ح ٥ ، وفيه : «وليس من قضية إلاّ وهي فيها [الصحيفة الجامعة] حتى أرش الخدش».

٥٩٧

إلى مقام الثبوت ، أي إلى المرحلة الأولى.

ومن البديهي ان جميع افعال المكلفين حاضرة لديه تعالى وعالم بما فيه المصلحة منها مما ليس فيه ، ومع حضورها لديه في مقام الثبوت ، فلا بدّ وان يكون قد جعل لها حكما.

ومرحلة بعث الرسل مرحلة تبليغ لما هو مشرع في مقام الثبوت ، وقد تقتضي مصلحة التدرج في التبليغ تأخير تبليغ بعض الأحكام كما وقع ذلك في أول البعثة.

أما مرحلة الفعلية فهي مرحلة وصول التكاليف.

وبهذا يتضح ان ظنون المجتهدين ـ لو تمت حجيتها ـ فهي لا تتعدى دور تنجيز الأحكام وإيصالها إلى المكلفين ، أي إعطاء الأحكام صفة الفعلية والوصول ، لا أن الشارع يخلق أحكاما على وفقها كما يريد ان يقول الغزالي.

ومن هنا تتبين أوجه المفارقة في كلامه ، فقوله : «إن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه» ، إذا أراد به الحكم في مرحلة الفعلية فهو صحيح ، وإن أراد به ـ كما هو ظاهر كلامه ـ الحكم بما هو حكم صادر من الشارع في مرحلة التشريع فهو مستحيل لاستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه ، للزوم الدور لبداهة ان العلم يستدعي معلوما سابقا في الرتبة عليه ، إذ لا يعقل ، كما يقول هو ، ان يكون علم لا معلوم له ، فإذا افترضنا ان العلم موقوف على وجود معلومه ، وهو الحكم ، وافترضنا ان الحكم لا يوجد إلا بعد بلوغه ـ أي بعد العلم به ـ لزم الدور بداهة لتوقف كل منهما على الآخر المستلزم لتوقف الشيء على وجود معلومه ، وهو الحكم ، وافترضنا ان الحكم لا يوجد إلا بعد بلوغه ـ أي بعد العلم به ـ لزم الدور بداهة لتوقف كل منهما على الآخر المستلزم لتوقف الشيء على نفسه ، وذلك بإسقاط المتكرر منهما. فقولنا : العلم موقوف على الحكم ، والحكم موقوف على العلم به ، ينتج بعد إسقاط المتكرر ان العلم موقوف على العلم ، أو الحكم موقوف على الحكم. ومن هنا قالوا باستحالة تقييد الأحكام بخصوص العالمين بها.

وما يقال عن العلم يقال عن الظن ، لأن الظن يستدعي افتراض مظنون سابق

٥٩٨

في الرتبة عليه ، فإذا افترض ان الحكم لا حق له كما افترضه الغزالي ـ حين قال : «ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظن بالحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه» ـ لزم الدور بنفس التقريب السابق.

كما تتضح أوجه المفارقة بقوله : «أما المسائل التي لا نصّ فيها فيعلم أنه لا حكم فيها ، لأن حكم الله خطابه» وذلك لأن مرحلة الخطاب ليست هي مرحلة الجعل ، وإنما هي مرحلة إبراز للمجعول.

والحقيقة ان دعوى ان أحكام الله تابعة لظنون المجتهدين دعوى لا يمكن تقبلها بحال إذا أريد منها ظاهرها ، وحسبها ـ بالإضافة إلى ما قدمناه ـ نسبة تبني كل ما يقع فيه المجتهدون من تناقضات في الأحكام إلى الله عزوجل واعتبارها أحكاما مجعولة من قبله ، على ما في الكثير منها من البعد عن المصالح أو المفاسد الواقعية التي تخطئها ظنون المجتهدين في الكثير من الوقائع عادة.

التصويب المعتزلي ومناقشته :

وهو الّذي نسب إليهم في المصدر السابق (١) كما نسب إلى الشافعي في المستصفى حيث يقول : «أما المصوبة فقد اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى إثباته ، وإليه تشير نصوص الشافعي رحمه‌الله ، لأنه لا بد للطالب من مطلوب ، وربما عبرو عنه بأن مطلوب المجتهد الأشبه عند الله تعالى والأشبه معين عند الله» (٢) ، «لكن المجتهد لم يكلف بإصابته ، فلذلك كان مصيبا وان أخطأ ذلك المعين الّذي لم يؤمر بإصابته» (٣).

وقد وجهت هذه الإصابة بان الأمارة عند ما تقوم على حكم تخلق في متعلقه

__________________

(١) فوائد الأصول.

(٢) المستصفى : ٢ ـ ١١٦.

(٣) أصول الفقه للخضري : ص ٣٣٦.

٥٩٩

مصلحة مزاحمة لمصلحة الواقع أو مفسدة كذلك ، وتتغلب عليها على نحو يرتفع حكم المصلحة الواقعية للمزاحمة ، ويبقى الحكم الناتج عن الأمارة ، ويكون مفاد الحجية المجعولة للأمارة هو اعتبارها سببا في تبديل الواقع المستلزم لتبدل الحكم تبعا له.

وهذا القول ـ بناء على هذا التوجيه ـ يرجع إلى القول الأول لانتهائه إلى القول بعزل الأحكام الواقعية من طريق المزاحمة.

ويرد عليه :

١ ـ ان الأمارة يستحيل ان تكون سببا في خلق مصلحة في متعلقها ، لأن الظنون ـ وهي من الحالات النفسيّة ـ لا تسري إلى الواقع الخارجي فتغيره لاختلاف مجاليهما ، وليس الظن أكثر من العلم ، والعلم بالأشياء ـ إذا لم يصب الواقع ـ لا يبدل من حقيقة ما قام عليه ، فعلمي بعدم وجود زيد مثلا لا يجعله غير موجود إذا كان في واقعه موجودا ، وكذا الظن بوجود مفسدة في شيء لا يجعلها موجودة إذا كانت في واقعها غير موجودة ، وهكذا.

٢ ـ ان أدلة الطرق والأمارات ـ كما سبق فحصها ـ لا تفيد أكثر من اعتبارها بمنزلة العلم من حيث ترتيب الآثار عليها ، والعلم لا يزيد في نظر العقلاء عن كونه كاشفا عن متعلقه ، وفوائد جعلها لا تتجاوز المنجزية أو المعذرية.

٢ ـ القول بالتخطئة وحجيته :

وهو الّذي ذهب إليه الشيعة وجمهور من المسلمين من غيرهم ، وربما كان هو الرّأي السائد اليوم.

وفحواه ، ان الأحكام الواقعية المجعولة من قبل الشارع لما كانت مستوعبة لجميع أفعال المكلفين ـ وكانت الطرق والأمارات والأصول المحرزة المجعولة من

٦٠٠