الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

الصحابة في المسائل.

فإذن لا يشترط إلا ان يكون على بصيرة فيما يفتي ، فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري ، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري ، فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري» (١).

وهذا الكلام غير واضح لديّ وجهه لغرابة مضمونه ، إذ العالم الّذي يعرف القياس وليست له الخبرة في علم الحديث ، كيف يسيغ لنفسه ان يستنبط حكما واحدا من قياسه وينسبه إلى الشارع المقدس؟ مع انه يحتمل ان يكون في الأحاديث التي يتوقف تصحيحها على علم الرّجال وفهمها على توفر وسائل الظهور ، وتقديمها على غيرها عند المعارضة على المرجحات السندية أو الجهتية ، وتشخيص رتبتها على أصول الجمع بين الأدلة والحجج على اختلافها. أقول : مع انه يحتمل ان يكون في هذه الأحاديث ما يوقف الأخذ بهذا القياس.

وما يقال : من إمكان فرض اجتهاده في البعض ، والرجوع في البعض الآخر إلى غيره من المجتهدين فيها لالتماس موقعها من الأصل ، أو القاعدة التي يريد الاجتهاد فيها ، لا يجدي في اعتباره مجتهدا ، لبداهة ان النتيجة تتبع أخس المقدمتين ، وما دامت بعض مقدماته التي اعتمدها في مقام الاستنباط مأخوذة عن تقليد ، فالنتيجة لا تخرجه عن كونه مقلدا ، والعلم في دفع تأثير بقية الأدلة الّذي يكون منشؤه غير الاجتهاد لا يجعل صاحبه مجتهدا بداهة.

على أن في هذا النص خلطا بين الاجتهاد كملكة وإعمال الاجتهاد ، والأمثلة التي ضربها كلها تنتظم في مجالات إعمال الملكة لا في تكوّن أصلها.

الخلاف في تجزي الاجتهاد وعدمه :

وعلى أي حال ، فقد اختلف العلماء ، في إمكان كل من الاجتهادين وعدمه

__________________

(١) المستصفى : ٢ ـ ١٠٣.

٥٦١

على أقوال بها لا تكاد تلتقي. فالذي يبدو من بعضهم إحالة الاجتهاد المطلق والأكثرون على إمكانه.

إحالة الاجتهاد المطلق :

وكأن وجهة نظر هؤلاء ما يلاحظونه من قصور البشر بما له من طاقات متعارفة عن استيعاب جميع الأحكام المجعولة لأفعال المكلفين على اختلاف مواضعها ، حتى المستجدة منها ، ومثل هذا الاستيعاب ممتنع عادة على البشر.

وقد فهموا من الاجتهاد المطلق ـ فيما يبدو ـ اعتبار فعلية الاستنباط فيه وفعلية الاستنباط لجميع الأحكام ممتنعة ، بينما يرى القائلون ب :

إمكان الاجتهاد المطلق :

انه من قبيل الملكة ، التي توفر له القدرة على الاستنباط الأحكام وهي غير ممتنعة عادة.

وعلى هذا ، فالنزاع بينهما مبنائي وكلاهما ـ في حدود مبناه ـ على حق ، وإنما الخطأ واقع في أحد المبنيين ، وسيتضح ان اعتبار فعلية استنباط في مفهوم الاجتهاد ، لا وجه له.

إمكان التجزي ووقوعه :

أما التجزي فالأكثر ـ فيما يبدو من العلماء ـ هو القول بإمكانه ووقوعه ، وهو الّذي تبناه الغزالي وقد مر رأيه ، وابن الهمام (١) والرازي (٢) وجملة من أساتذتنا المتأخرين.

__________________

(١) المراغي في رسالة الإسلام : س ١ ـ ٣ ـ ٣٥٢.

(٢) سلم الوصول : ص ٣٤٢.

٥٦٢

وقد نسب الحجة الرشتي في شرحه للكفاية القول بعدم إمكانه إلى الشذوذ (١).

لزوم التجزي :

وقد تفرد صاحب الكفاية ـ فيما نعلم ـ بالقول بلزوم التجزي فضلا عن إمكانه ووقوعه ، قال في الكفاية : «وحيث كان أبواب الفقه مختلفة مدركا ، والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة عقلية ونقلية مع اختلاف الأشخاص في الاطلاع عليها ، وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها ، فرب شخص كثير الاطلاع وطويل الباع في مدرك باب بمهارته في العقليات أو النقليات ، وليس كذلك في آخر لعدم مهارته فيها وابتنائه عليها.

وهذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة مدركه ، ولمهارة الشخص مع صعوبته مع عدم القدرة على ما ليس كذلك ، بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزي للزوم الطفرة» (٢).

القول بعدم الإمكان وسببه :

ولعل وجهة نظر القائلين بعدم إمكان التجزي هو أخذهم الملكة أو الاستنباط في تعريفه والتزامهم ببساطتهما وعدم إمكان التجزئة فيهما.

وقد أجيب على وجهة النّظر هذه بأن المراد «هو التبعيض في أجزاء الكلي لا التبعيض في أجزاء الكل ، إذ كما ان كل حكم من الأحكام الشرعية في مورد مغاير للأحكام الاخر في موارد اخر ، فكذلك استنباطه مغاير لاستنباطها ، فملكة استنباط هذه المسألة فرد من الملكة ، وملكة استنباط تلك المسألة فرد آخر منها ، وبساطة الملكة أو الاستنباط لا تنافي التجزي بهذا المعنى كما هو ظاهر.

__________________

(١) حاشية الرشتي على الكفاية : ٢ ـ ٣٥٠.

(٢) كفاية الأصول : ص ٥٣٣ ط. جامعة المدرسين ـ قم.

٥٦٣

وحيث ان مدارك الأحكام مختلفة جدا فرب حكم بهذا المعنى يبتني استنباطه على مقدمات كثيرة فيصعب استنباطه ، ورب حكم لا يبتني استنباطه إلا على مقدمة واحدة فيسهل استنباطه ، ومع ذلك يمكن ان يقال : ان القدرة على استنباط حكم واحد لا تكون إلا مع القدرة على استنباط جميع الأحكام.

وبالجملة ، حصول فرد من الملكة دون فرد آخر منها بمكان واضح من الإمكان لا يحتاج تصديقه إلى أكثر من تصوره.

ولعل القائل بالاستحالة لم يتصور المراد من التجزي في المقام ، واشتبه تبعيض أفراد الكلي بتبعيض أجزاء الكل ، فإن الثاني هو الّذي تنافيه البساطة ولا دخل له في المقام» (١).

والّذي يبدو لنا من خلال تصورنا لمختلف وجوه المسألة هو :

أقربية القول بعدم الإمكان :

لا لما ذكروه من بساطة الملكة وعدم بساطتها ليقال : «إن التجزئة هي في مصاديق الكلي ، لا في أجزاء الكل ، أو يقال بان الملكة توجد ضيقة على قدر استنباط بعض الأحكام ، ثم تتسع بعد ذلك تدريجا» (٢) بل لما قلناه في مدخل البحث : من ان حقيقة الاجتهاد هو التوفر على معرفة تلكم الخبرات أو التجارب على اختلافها ، فمع توفرها جميعا توجد الملكة ، ومع فقد بعضها تنعدم ، لا أنها توجد ضيقة أو يوجد بعض مصاديقها ، كما يبدو ذلك من كلام الغزالي السابق.

ولست إخال أن أحدا من الأساتذة يلتزم بأن المجتهد في خصوص مباحث الألفاظ ـ مثلا ـ مجتهد متجزّئ لحصوله على بعض مصاديق ملكة الاجتهاد ، لأن الملكة التي تحصل من دراسة مباحث الألفاظ لا تكون اجتهادا اصطلاحيا ما لم

__________________

(١) مصباح الأصول : ص ٤٢١ وما بعدها.

(٢) الرشتي في شرح الكفاية : ٢ ـ ٣٤٢.

٥٦٤

تنضم إليها بقية الملكات ، فالاجتهاد في الحقيقة هو الوحدة المنتظمة لجميع تلكم الملكات.

وكل واحدة من هذه الملكات أشبه ما تكون بجزء العلة لملكة الاجتهاد ، فما لم تنضم إليها بقية الأجزاء لا يتحقق معلولها أصلا ، ومع انضمام البقية تتحقق الملكة «مطلقة» وإن لم يستنبط صاحبها مسألة واحدة.

وصعوبة الاستنباط لابتناء بعض المسائل على مقدمات لا تنافي حصول الملكة في أولى مراتبها المستلزمة للقدرة على استنباط هذه الأحكام جميعا.

ونحن لا ننكر ان ملكة الاجتهاد ذات مراتب تقوى وتضعف تبعا لدرجة إعمالها كأية ملكة أخرى ، ولكننا نؤمن ـ مع ذلك ـ بأن أدنى مراتبها بعد خلقها بتوفر أسسها ومعداتها كافية لصدق الإطلاق عليها لقدرة صاحبها على استنباط أية مسألة تعرض عليه ، وان كان الاستنباط في بعضها لا يخلو من صعوبة على المبتدئ لابتنائه على مقدمات طويلة يحتاج استيعابها والتأمل فيها إلى جهد كبير.

والّذي أظنه ان الخلط بين الملكة وإعمالها هو الّذي سبب الارتباك في كلمات بعضهم. والتجزي في مقام إعمال الملكة يكاد يكون من الضروريات ، بل لا يوجد في هذا المقام اجتهاد مطلق أصلا.

ودعوى امتناعه ـ أعني الاجتهاد المطلق ـ بهذا المعنى لا تخلو من أصالة لاستحالة إعمال الملكة في جميع المسائل ، حتى التي لم توجد موضوعاتها بعد ، فاستيعاب جميع مسائل الفقه أمر متعذر على بشر عادي بداهة.

وحتى مع فرض إمكان الاجتهاد المطلق ، فالتزام صاحب الكفاية بلزوم القول بالتجزي ووجوب وجوده عادة لا يخلو من وجه لامتناع إعمال الملكة دفعة واحدة في جميع المسائل ، بل لا بد في مقام استيعابها من التدرج فيها.

وإذا تمت هذه التفرقة بين الاجتهاد كملكة ، والاجتهاد في مقام إعمالها ، اتضح

٥٦٥

الجواب على كل ما استدل به في هذا المورد ، كاستدلال الأستاذ عمر عبد الله على لزوم التجزي بقوله : «لو لم يتجزأ الاجتهاد للزم ان يكون المجتهد عالما بجميع الأحكام ، وذلك باطل قطعا ، فقد سئل كثير من المجتهدين عن مسائل ، فأجابوا عن بعضها ولم يجيبوا عن البعض الآخر» (١).

وهذه الملازمة انما تتم إذا أراد من الاجتهاد إعمال الملكة ، ومن العلم بجميع الأحكام فعلية العلم ، وإلا فمع الالتزام بكون الاجتهاد ملكة لا يلزم المجتهد العلم بمسألة واحدة فضلا عن جميع المسائل ، والطبيب ـ بعد تخرجه ـ طبيب وإن لم يداو واحدا من المرضى.

وكذا لو أراد من العلم شأنية العلم ، إذ لا مانع من ان يكون لصاحب الملكة شأنية العلم بجميع المسائل.

ومع تمامية الملازمة فاللازم لا يكون باطلا لما ذكره من سؤال بعض المجتهدين وعدم إجابتهم للجهل بما سئلوا عنه ، لجواز ان يتسرب الشك إلى اجتهادهم قبل ان يتسرب إلى القاعدة ، فالأنسب تعليل بطلان اللازم بامتناع الإحاطة بجميع الأحكام عادة.

والغريب ان يقع بعض القائلين بامتناع التجزي بنفس المفارقة من الخلط بين الملكة وإعمالها ، فالأستاذ خلاف في الوقت الّذي يعلل فيه عدم التجزي بقوله : «لأن الاجتهاد ـ كما يؤخذ مما قدمناه ـ أهلية وملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص واستثمار الأحكام الشرعية منها ، واستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ، فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد وتكونت له هذه الملكة لا يتصور ان يقتدر بها في موضوع دون آخر» (٢) ، يعود فيقع في المفارقة نفسها عند ما يتم دليله فيقول :

__________________

(١) سلم الوصول : ص ٣٤٢.

(٢) علم أصول الفقه لخلاف : ٢٦٢.

٥٦٦

«وقد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأ أو تعليلا تقرر في أحكام البيع ، فلا يكون مجتهدا إلا إذا كان على علم تام بأحكام القرآن والسنة حتى يصل من مقارنة بعضها ببعض ومن مبادئها العامة إلى الاستنباط الصحيح» (١).

وموضع المفارقة ان العلم بأحكام القرآن أو السنة إنما يحتاج إليه المجتهد في مجالات إعمال الملكة لا مجالات تكونها.

على أن هذا التعميم في العلم لجميع أحكامها لا يحتاج إليه حتى في مجالات إعمال الملكة ، وإلا لتعذر عليه استنباط حكم واحد أو تعسر على الأقل ، وعلى الأخص إذا لاحظنا تشعب كتب السنة صحاحا ومسانيد وسننا.

بل يكفيه منها فحصه عن مواضع الأدلة من الآيات والروايات وغيرهما من كتب الفقه والحديث ، وفحصها على نحو يحصل له العلم بكفاية ما وصل إليه لاستنباط الحكم الّذي يريد استنباطه من أدلته.

خلاصة الرّأي :

وخلاصة ما انتهينا إليه من رأي ، ان التوفر على معدات الاجتهاد جميعا هو الّذي يكوّن الاجتهاد كملكة ، ومع فقد بعضها والتقليد في البعض الآخر فإن صاحبها لا يخرج عن كونه مقلدا لاتباع النتائج أخس المقدمات بالضرورة. فملكة الاجتهاد إذن ، إما أن توجد مطلقة أو لا توجد أصلا.

__________________

(١) علم أصول الفقه لخلاف : ٢٦٢.

٥٦٧
٥٦٨

خاتمة المطاف

القسم الأول

الاجتهاد

(٤)

مراتب المجتهدين

* الاجتهاد ومراتب المجتهدين

* الاجتهاد المطلق

* الاجتهاد في المذهب

* الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها

* اجتهاد أهل التخريج

* اجتهاد أهل الترجيح

* مناقشة هذا التقسيم

* اجتهاد الشيعة مطلق أو منتسب

٥٦٩
٥٧٠

الاجتهاد ومراتب المجتهدين :

وإذا عرفنا حقيقة الاجتهاد والمعدات التي يجب ان تتوفر في المجتهد لتشارك في تكوين ملكته ، أمكننا ان نقيم ما ذكروه من تقسيم الاجتهاد بلحاظ مراتب المجتهدين. وقد ذكروا ان للاجتهاد بهذا اللحاظ أقساما خمسة هي :

١ ـ الاجتهاد المطلق :

أو الاجتهاد المستقل ، وحددوه ب «ان يجتهد الفقيه في استخراج منهاج له في اجتهاده» على نحو يكون مستقلا في منهاجه وفي استخراج الأحكام على وفق هذا المنهاج ، أو هو «كما يعبر العلماء مجتهد في الأصول وفي الفروع» (١).

٢ ـ الاجتهاد في المذهب :

ويريدون به ان يجتهد الفقيه المنتسب إلى مذهب معين في الوقائع على وفق أصول الاجتهاد التي قررها إمام ذلك المذهب. «وقد يخالف الواحد منهم مذهب زعيمه في بعض الأحكام الفرعية ... ومن هؤلاء الحسن بن زياد في الحنفية ، وابن القاسم وأشهب في المالكية ، والبويطي والمازني في الشافعية» (٢).

وقد أطلق الأستاذ أبو زهرة على الفقيه من هذا القسم اسم «المجتهد المنتسب».

٣ ـ الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها :

عن إمام المذهب وفق الأصول المجعولة من قبله ، وبالقياس على ما اجتهد فيها

__________________

(١) الإمام الصادق لأبي زهرة : ص ٥٣٧.

(٢) خلاصة التشريع الإسلامي لخلاف : ص ٣٤٢.

٥٧١

من الفروع ، كالخصاف والطحاوي والكرخي من الحنفية ، واللخمي وابن العربي وابن رشيد من المالكية ، والغزالي والأسفراييني من الشافعية (١).

٤ ـ اجتهاد أهل التخريج :

وهو الاجتهاد الّذي لا يتجاوز «تفسير قول مجمل من أقوال أئمتهم أو تعيين وجه معين لحكم يحتمل وجهين ، فإليهم المرجع في إزالة الخفاء والغموض الّذي يوجد في بعض أقوال الأئمة وأحكامهم كالجصاص وأضرابه من علماء الحنفية (٢).

٥ ـ اجتهاد أهل الترجيح :

ويراد به الموازنة بين ما روي عن أئمتهم من الروايات المختلفة ، وترجيح بعضها على بعض من جهة الرواية أو من جهة الدراية ، كأن يقول المجتهد منهم : «هذا أصح رواية ، وهذا أولى النقول بالقبول ، أو هذا أوفق للقياس أو أرفق للناس ، ومن هؤلاء القدوري وصاحب الهداية وأضرابهما من علماء الحنفية (٣).

مناقشة التقسيم :

ويرد على هذا التقسيم :

١ ـ خروجه على أصول القسمة المنطقية لخلطه بين قسم من الأقسام وبين مقسمها بجعلها قسيما لمقسمها ، والأنسب توزيعها ـ من وجهة منطقية ـ إلى قسمين : مطلق ومقيد ، والمقيد إلى الأقسام الأربعة الأخرى لوجود قدر جامع بينها وهو الاجتهاد ضمن إطار مذهب معين.

٢ ـ ان تسمية هذه الأقسام الأربعة بالاجتهاد وجعلها قسما منه في مقابل

__________________

(١) خلاصة التشريع الإسلامي : ص ٣٤٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٥٧٢

الاجتهاد المطلق لا يلتئم مع الواقع الّذي سبق ان ذكرناه من ان الاجتهاد ملكة لا توجد لصاحبها إلا بعد حصوله على تلكم الخبرات والتجارب ، ومعرفتها معرفة تفصيلية ، أو كما قلنا ان الاجتهاد في الحقيقة لا يعدو الاجتهاد في أصول الفقه مع توفر بقية المقدمات ، وهو مناط جملة أحكامه الآتية من حرمة التقليد بالنسبة إلى المجتهد ونفوذ قضائه ، وجواز رجوع الغير إليه في التقليد أو لزومه أحيانا.

ومن الواضح ان المجتهد المقيد ليس مصداقا للمجتهد بهذا المفهوم ، لعدم حصول المعرفة التفصيلية لأصول الفقه لديه واجتهاده فيها.

إذ مع اجتهاده فيها وقيام الحجة لديه عليها ، كيف يسوغ له التقيد بأصول مذهبه والسير ضمن إطاره الخاصّ ، وربما اختلف مع إمام المذهب في أصل من الأصول ، وكان لديه مما لا يصلح الاحتجاج به؟ وما الّذي يصنعه إذ ذاك؟ أيخالف إمام مذهبه فيخرج عن الانتماء إلى ذلك المذهب أم يخالف رأيه فيعمد إلى العمل بغير حجة؟

٣ ـ ان جميع ما ذكروه للاجتهاد من تعاريف لا ينطبق على أي قسم من أقسام المقيد ، لأخذهم العلم أو الظن بالحكم الشرعي أو الحجة عليه على اختلاف في وجهة النّظر في مفهومه.

والمجتهد المقيد بأقسامه الأربعة لا ينتهي باستنباطه ـ إن صح إطلاق كلمة الاستنباط على عمل قسم منهم ـ إلى الحكم الشرعي ، وغاية ما ينتهي إليه هو رأي إمامه فعلا أو تقديرا في كون ما انتهى إليه حكما شرعيا ـ بحكم ما أعمل من قواعد هذا الإمام وأصوله.

أما العلم أو الظن بكونه حكما شرعيا أو وظيفة كذلك ، فإن هذا لا يحصل إلا لمن قامت لديه الحجة التفصيلية على ذلك ، وهي لا تكون إلا لإمام ذلك المذهب نفسه ، لا للمستنبط وفق قواعده وأصوله.

٥٧٣

والحقيقة أن هذا التقسيم أشبه بتقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره ، وما أحسن ما صنعه الأستاذ خلاف حين عدّ هذه الأقسام الأربعة في فصل عهد التقليد من كتابه «خلاصة التشريع الإسلامي» وإن كان قد أطلق كلمة الاجتهاد عليهم تسامحا (١).

اجتهاد الشيعة مطلق أو منتسب :

من رأي أبي زهرة ان اجتهاد الشيعة ليس من قبيل الاجتهاد المطلق ، وإنما هو من قبيل الاجتهاد المنتسب لاعتقاده بأنه «رسمت له المناهج من بيان أحكام النسخ والعموم ، وطريق الاستنباط والتعارض بين الاخبار وحكم العقل ، وإن لم يكن نصّ ، وكل هذا يقتضي ان يطبق في اجتهاده لا أن يرسم ويخطط ، فهو يسير في اجتهاده على خط مرسوم لا يعدوه ولا يبتعد عنه يمنة ولا يسرة ، وبهذا النّظر يكون في درجة المجتهد المنتسب» (٢).

ويرد على هذا الرّأي الّذي تبناه ـ وربما شاركه فيه غيره من الأعلام ـ ما ينطوي عليه من تغافل عن وظيفة الإمامة لدى الشيعة ، فالذي يبدو أن الأستاذ أبا زهرة كان يرى في أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، انهم مجتهدون في كل ما يأتون به من أحكام ، وحسابهم حساب بقية أئمة المذاهب ، مع ان الشيعة لا يرون في أئمتهم ذلك ، وإنما يرونهم مصادر تشريع يرجع إليها لاستقاء الأحكام من منابعها الأصيلة ، ولذلك اعتبروا ما يأتون به من السنة ، وقد سبق أن عرضنا أدلتهم على ذلك في (مبحث السنة) فهم من هذه الناحية كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفارق أن النبي يتلقى الوحي من السماء ، وهؤلاء يتلقون ما يوحى به إلى النبي من طريقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم منفردون بمعرفة جميع الأحكام.

__________________

(١) راجع : ص ٣٢٤ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٢) الإمام الصادق : ص ٥٤٠.

٥٧٤

فأقوال أهل البيت عليهم‌السلام إذن مصدر من مصادر التشريع لديهم ، وهم مجتهدون في حجيتها كسائر المصادر والأصول. ولا أقلّ من اعتبار أولئك الأئمة الأطهار ، من قبيل الرّواة الذين لا يتطرق إليهم الريب في الرواية ، وما أكثر تصريحاتهم ـ أعني الأئمة عليهم‌السلام ـ بكون ما يأتون به من أحكام «فإنما هو من أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي لا يعدونها بحال وبعضه بإملائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبخط علي عليه‌السلام» (١).

وعلى هذا ، فالأصول التي خططوها ـ إن صح هذا التعبير ـ فإنما هي من تخطيطات الإسلام نفسه ، وقد وصلت إليهم من طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي بعض هذه الأصول تصريح بذلك.

أما بقية أئمة المذاهب فهم لا يعدون كونهم من المجتهدين الذين يجوز عليهم الخطأ ، ولذا كان ما يأتون به من أصول قابلا للنظر فيه ، فلا يكون حجة على الغير. على أن أدلة الشيعة على الحجج ـ على اختلافها ـ لم تقتصر على أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ـ وهم عدل الكتاب ـ بل تجاوزتها إلى الكتاب العزيز ، والسنة النبوية ، والسيرة القطعية ، وبناء العقلاء ، وحكم العقل ، وغيرها ـ على اختلاف في صلوح بعضها ـ للاستقلال بالدليلية أو الانتظام ضمن غيره من الأصول.

وقد مرت علينا نماذج من أصولهم وأدلتهم عليها في هذا الكتاب ، وليس في الكثير منها قول للإمام لتصح نسبة تخطيطها إليه.

ولهذا نرى ان مجتهدي الشيعة لا يسوغون نسبة أي رأي يكون وليد الاجتهاد إلى المذهب ككل ، سواء كان في الفقه أم الأصول أم الحديث ، بل يتحمل كل مجتهد مسئولية رأيه الخاصّ.

نعم ما كان من ضروريات المذهب يصح نسبته إليه. والحقيقة ان تسمية الشيعة مذهبا في مقابل بقية المذاهب لا أعرف له أساسا ما داموا لا يعتبرون ما

__________________

(١) راجع : رجال النجاشي : ص ٤٥٥ ترجمة محمد بن عذافر. (المؤلف).

٥٧٥

يأتي به أئمتهم عاكسا لآرائهم الخاصة ، وإنما هو تعبير عن واقع الإسلام من أصفى منابعه ، فهم في الحقيقة مجتهدون ضمن إطار الإسلام ، وهو معنى الاجتهاد المطلق.

وإنكار أبي زهرة لهذه الصفة في أئمتهم ، ومناقشته لبعض ما جاءوا به من أدلة على عصمتهم ، وكونهم من مصادر التشريع لا يخرج مجتهدي الشيعة عن كونهم مجتهدين مطلقين ـ حتى مع فرض الخطأ فيهم ـ كمجتهدين ـ لأن اختلاف أبي حنيفة ـ مثلا ـ مع الشافعي في بعض أصوله لا يخرجه عن كونه مجتهدا مطلقا ، ما دام أبو حنيفة مؤمنا بمصدره التشريعي.

٥٧٦

خاتمة المطاف

القسم الأول

الاجتهاد

(٥)

الاجتهاد بين الانسداد والانفتاح

* سد باب الاجتهاد

* بواعثه وعوامله

* أدلة حجيته

* الاستدلال بالإجماع ومناقشته

* انضباط المذاهب وكثرة الاتباع ومناقشتهما

* الشيعة وفتح باب الاجتهاد

٥٧٧
٥٧٨

سد باب الاجتهاد :

وأرادوا به حظر الاجتهاد بعد ان تم غلق أبوابه ـ على يد بعض السلطات على جميع المكلفين ـ وحصر الرجوع إلى خصوص المذاهب الأربعة.

بواعثه وعوامله :

وقد أرجع الأستاذ عبد الوهاب خلاف ذلك إلى عوامل أربعة (١) نشير إلى أهم خطوطها وهي :

١ ـ انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك ، وتناحر ملوكها ووزرائها على الحكم مما أوجب انشغالهم عن تشجيع حركة التشريع ، وانشغال العلماء تبعا لذلك بالسياسة وشئونها.

٢ ـ انقسام المجتهدين إلى أحزاب لكل حزب مدرسته التشريعية وتلامذتها ، مما دعا إلى تعصب كل مدرسة لمبانيها الخاصة أصولا وفروعا وهدم ما عداها «حتى صار الواحد منهم لا يرجع إلى نصّ قرآني أو حديث إلا ليلتمس فيه ما يؤيد مذهب إمامه ولو بضرب من التعسف في الفهم والتأويل.

وبهذا فنيت شخصية العالم في حزبيته ، وماتت روح استقلالهم العقلي ، وصار الخاصة كالعامة أتباعا ومقلدين» (٢).

٣ ـ انتشار المتطفلين على الفتوى والقضاء ، وعدم وجود ضوابط لهم ، مما ادى إلى تقبل سد باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع وتقييد المفتين والقضاة بأحكام

__________________

(١) خلاصة التشريع الإسلامي : ص ٣٤١ وما بعدها.

(٢) المصدر السابق.

٥٧٩

الأئمة حيث عالجوا الفوضى بالجمود.

٤ ـ شيوع الأمراض الخلقية بين العلماء والتحاسد والأنانية «فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد فتح على نفسه أبواب التشهير به ، وحط أقرانه من قدره ، وإذا أفتى في واقعة برأيه قصدوا إلى تسفيه رأيه وتفنيد ما أفتى به بالحق وبالباطل ، فلهذا كان العالم يتقي كيد زملائه وتجريحهم بأنه مقلد وناقل ، لا مجتهد ومبتكر ، وبهذا ماتت روح النبوغ ولم ترفع في الفقه رءوس وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم وثقة الناس بهم» (١).

وهناك عامل خامس ، كاد أن يسد باب الاجتهاد عند الشيعة الإمامية بالخصوص في القرن الخامس الهجري ، وهو عظم مكانة الشيخ الطوسي وقوة شخصيته التي صهرت تلامذته في واقعها ، وأنستهم أو كادت شخصياتهم العلمية ، فما كان أحد منهم ليجرؤ على التفكير في صحة رأي لأستاذه الطوسي أو مناقشته.

وقد قيل : ان ما خلفه الشيخ الطوسي من كتب الفقه والحديث كاد أن يستأثر في عقول الناس فيسد عليها منافذ التفكير في نقدها ما يقارب القرن (٢).

وقد كان لموقف ابن إدريس ـ وهو من أكابر العلماء لدى الإمامية ـ فضله الكبير في إعادة الثقة إلى النفوس وفسح المجال أمامها لتقييم هذه الكتب ونقدها والنّظر في قواعدها.

ولو لا موقفه المشرف إذ ذاك ، لكان الاجتهاد إذ ذاك ضحية من ضحايا التقديس والفناء في العظماء من الناس.

وهذه العوامل التي ذكرها الأستاذ خلاف ، وإن كان أكثرها لا يخلو من أصالة ، إلا انها لا تقوى على تكوين العلة التامة لهذا الحظر.

والظاهر ان سياسة تلكم العصور كانت تخشى من العلماء ذوي الأصالة في

__________________

(١) خلاصة التشريع : ص ٣٤٢.

(٢) محمود الشهابي ، مقدمة فوائد الأصول.

٥٨٠