الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

خاتمة المطاف

القسم الأول

الاجتهاد

(١)

تعريفه

* الاجتهاد لغة واصطلاحا

* الاجتهاد بمفهومه العام

* أخذ الظن في تعريفه ومناقشته

* أخذ العلم فيه ومناقشة التعريف

* الاجتهاد بمفهومه الخاصّ

٥٤١
٥٤٢

الاجتهاد لغة واصطلاحا :

الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد ، وهو بذل الوسع للقيام بعمل ما ، ولا يكون إلا في الأشياء التي فيها ثقل ، فيقال : اجتهد فلان في رفع حجر ثقيل ، ولا يقال : اجتهد في حمل ورقة مثلا.

وهو في الاصطلاح مختلف في تحديده ، والّذي يبدو أن لهم فيه اصطلاحين مختلفين أحدهما أعمّ من الآخر.

الاجتهاد بمفهومه العام :

أما الأول منهما وهو الاجتهاد بمفهومه العام ، فقد اختلفت كلماتهم في تحديده اختلافا كبيرا ، والّذي عليه الآمدي والعلاّمة الحلّي وابن الحاجب هو أخذ الظن في تعريفه.

أخذ الظن في تعريفه ومناقشته :

فقد عرّفه الآمدي ب : «استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النّفس العجز عن المزيد عليه» (١).

وعرّفه كل من العلاّمة الحلي والحاجبي ب «استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي» (٢).

وجرت على هذا النحو كثير من التعريفات. والّذي يرد على هذه التعاريف ان الاقتصار على ذكر الظن فيها ، يجعلها غير جامعة تارة وغير جامعة ولا مانعة

__________________

(١) إرشاد الفحول : ص ٢٥٠.

(٢) كفاية الأصول : ص ٥٢٨. ط. جامعة المدرسين ـ قم.

٥٤٣

أخرى ، لأن الظن إن أريد منه خصوص ما قام على اعتباره دليل من شرع أو عقل ، كانت التعاريف غير جامعة وذلك :

١ ـ لخروج العلم بالأحكام عنها لبداهة انها ليست بظن.

٢ ـ وخروج ما لم يفد الظن مما قام عليه دليل بالخصوص.

وان أريد به الأعم من الظن المعتبر وغيره كما هو الظاهر من إطلاق التعبير ، كانت بالإضافة إلى ذلك غير مانعة لدخول الظنون غير المعتبرة في هذه التعاريف ، مع اتفاقهم ـ ظاهرا ـ على عدم اعتبارها من أدلة التشريع.

وقد حاول بعض أساتذتنا ـ فيما نسب إليه ـ ان يصحح هذه التعاريف على مذهب الآخذين بالظنون القياسية والاستقرائية والاستحسانية ظانا ان هؤلاء انما يعملون بها لأنها ظنون فحسب لا لأنها ظنون معتبرة عندهم بقيام الدليل عليها ، مع ان لهم أدلة يذكرونها على حجيتها ، وقد سبق عرضها في المباحث السابقة عند التعرض لهذه الأقسام في الباب الأول من هذا الكتاب.

والّذي يبدو ان ذكر الظن هنا غير ذي موضوع لعدم وجود أية خصوصية له تبرر ذكره في التعريف ، لأن المدار على ما قامت عليه الحجة أفاد الظن أم لم يفده.

وكأنه لذلك عدل غير واحد من الأصوليين عن ذكره واكتفوا بأخذ العلم فيه.

أخذ العلم فيه ومناقشة التعريف :

فقد عرفه الخضري ب : «بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة» (١). وجرى على ذلك جملة من أعلام الأصوليين.

والّذي يرد على هذا النوع من التعاريف : ان العلم هنا إن كان قد أرادوا به الأعم من العلم الوجداني والتعبدي ، وأرادوا بكلمة الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري ، كانت هذه التعاريف سليمة نسبيا لاندفاع المؤاخذات

__________________

(١) أصول الفقه للخضري : ص ٣٥٧.

٥٤٤

السابقة عنها ، إلا انها تبقى ـ كسابقتها ـ محتاجة إلى ضميمة كلمة الوظائف ، لتشمل كل ما يتصل بوظائف المجتهد من عمليات الاستنباط ، وهذه المؤاخذات واردة على جل الأصوليين حتى المتأخرين منهم كالأستاذ مصطفى الزرقا حيث عرفه ب : «عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في الشريعة» (١). لبداهة خروج عمليات استنباط الوظائف من بعض الأصول ـ كالبراءة ، والاحتياط ، والتخيير ـ عن واقع التعريف ، لأن نتائجها ليست أحكاما شرعية كما مر إيضاحه في بحوثها من هذا الكتاب.

والأنسب ـ فيما نرى ـ ان يعرف ب : «ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية ، شرعية أو عقلية». وهذا التعريف منتزع مما تبنّته مدرسة النجف الحديثة في علم الأصول (٢).

وإنما ذكرنا في التعريف الملكة ، خلافا للتعاريف السابقة جميعا ، لنبعد ما تشعر به كلمات بعضهم من اعتبار الفعلية في الاستنباط ، وذلك لوضوح ان صاحب الملكة يصدق عليه انه مجتهد ، وإن لم يباشر عملية الاستنباط فعلا.

الاجتهاد بمفهومه الخاصّ :

وقد عرفه الأستاذ خلاف ب : «بذل الجهد للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نصّ فيها بالتفكير واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نصّ فيه» (٣).

بينما رادف الشافعي بينه وبين القياس ، فقال : انهما «اسمان لمعنى واحد» (٤).

وفي رأي أبي بكر الرازي ان الاجتهاد يقع على ثلاثة معان : «أحدها القياس

__________________

(١) مجلة حضارة الإسلام : ١ ـ عدد ٢ ـ ص ٧.

(٢) راجع : مصباح الأصول : ص ٤٣٤.

(٣) مصادر التشريع : ص ٧.

(٤) الرسالة : (للشافعي) ص ٤٧٧ طبعة مصر.

٥٤٥

الشرعي ، لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم لجواز وجودها خالية عنه لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب ، فذلك كان طريقه الاجتهاد.

والثاني ما يغلب في الظن من غير علة ، كالاجتهاد في الوقت والقبلة والتقويم.

والثالث الاستدلال بالأصول» (١).

والّذي يتصل من هذه الثلاثة بالاجتهاد بمفهومه الخاصّ لدى الأصوليين هو المعنى الأول ـ أعني القياس ـ أما الثاني فهو أجنبي عن وظائف المجتهدين ، لأن الاجتهاد في تشخيص صغريات الموضوعات الشرعية ليس من وظائف المجتهدين بداهة ، والمعنى الأخير هو الاجتهاد بمفهومه العام. واعتبره مصطفى عبد الرزاق مرادفا للرأي والقياس والاستحسان والاستنباط (٢).

والغريب ان يرادف بين هذه المعاني وهي مختلفة المفاهيم ويجعلها حاكية عن مفهوم واحد. ولست أظن ان الأستاذ عبد الرزاق يريد ان يقول بالاشتراك اللفظي بينها لعدم التعدد في أوضاعها بداهة.

والظاهر ان لفظة الاجتهاد ـ بمفهومها الخاصّ ـ مرادفة لديهم لمفهوم الرّأي والمعاني الأخرى من قبيل المصاديق لهذا المفهوم ، وقد وقع الاشتباه نتيجة للاختلاط في استعماله بين المفهوم والمصداق.

وحديثنا انما ينصب على خصوص الاجتهاد بمفهومه العام ، لدخول الاجتهاد بالمفهوم الثاني ضمن ما يصدق عليه ، وقد سبق ان تحدثنا عن هذه الأقسام من الأصول : القياس ، الاستحسان ... إلخ ، وتعرفنا على ما كان حجة منها من غيره ، فلا ضرورة لأن نخصها بعد ذلك بشيء من الحديث.

__________________

(١) إرشاد الفحول : ص ٢٥٠.

(٢) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية : ص ١٣٨.

٥٤٦

خاتمة المطاف

القسم الأول

الاجتهاد

(٢)

أقسامه ومعداته

* تقسيم الاجتهاد بلحاظ طبيعة حججه

* مناقشة هذا التقسيم

* الاجتهاد العقلي

* معدات الاجتهاد العقلي

* معدات الاجتهاد الشرعي

* ما يتصل بنسبة النص لقائله

* ما يتصل منها بمجالات الاستفادة

٥٤٧
٥٤٨

تقسيم الاجتهاد بلحاظ طبيعة حججه :

وقد قسموا الاجتهاد بلحاظ طبيعة طرقه وحججه المأخوذة في مفهومه بتقسيمات لعل أحدثها تقسيم الدكتور الدواليبي له ، يقول : «وتوصلا إلى معرفة الأحكام من النصوص الشرعية يتكلم العلماء بعد ذلك عن طرق الكشف عن الأحكام الشرعية ، ويمكن ان نقسم ذلك إلى ثلاثة طرق :

١ ـ طريقة الاجتهاد البياني ، وذلك لبيان الأحكام الشرعية من نصوص الشارع.

٢ ـ طريقة الاجتهاد القياسي ، وذلك لوضع الأحكام الشرعية للوقائع الحادثة ، مما ليس فيه كتاب أو سنة بالقياس على ما في نصوص الشارع من أحكام.

٣ ـ طريقة الاجتهاد الاستصلاحي ، وذلك لوضع الأحكام الشرعية ، مما ليس فيه كتاب ولا سنة بالرأي المبني على قاعدة الاستصلاح» (١).

مناقشة هذا التقسيم :

ويرد على هذا التقسيم وبعض ما جاء فيه من تحديدات :

١ ـ انه غير جامع لشرائط القسمة المنطقية لعدم استيعابه لأقسام المقسم ، مع انه في مقام استيعابها بقرينة تعقيبه على هذا التقسيم بقوله : «ولم أتكلم في الاجتهاد الاستحساني ، لأن بعض حالاته تدخل في الاجتهاد القياسي وبعضها

__________________

(١) المدخل إلى علم أصول الفقه : ص ٣٨٩.

٥٤٩

الآخر في الاجتهاد الاستصلاحي» (١) لوضوح ان الطرق التي اعتبرها العلماء كاشفة واعتمدوها في مجالات الاستنباط بلغ بها بعضهم تسعة عشر بابا (٢) ، وأكثرها لا ترجع لهذه الطرائق الثلاث.

٢ ـ ان القياس ـ كما سبق بيانه ـ ليس في جميع أقسامه قسيما للاجتهاد البياني بل في بعضها هو قسم منه كالقياس المنصوص العلة ، والّذي يستفاد من عموم أو إطلاق علته عموم الحكم لجميع ما تتعلق به ، والاستصلاح بناء على تعريفه له ـ أعني الدواليبي ـ داخل هو الآخر في الاجتهاد البياني لاستفادته من الأدلة العامة ، أمثال لا ضرر ، وجميع الموارد التي يدعي إعمال الاستصلاح فيها ، إنما هي من مصاديق هذا الحكم الفرعي الشرعي الكلي المستفاد من حديث «لا ضرر» أو قاعدة العدل ، لا إنه في مقابلها ، وقد مضى منا القول في «مبحث الاستصلاح» بأن التماس المصاديق لأحكام شرعية كلية وتطبيق كلياتها عليها لا يخرج هذه المصاديق بعد التطبيق عن كونها من السنة ، وكل أحكام السنة كلية إلا ما ندر منها.

٣ ـ تفرقته بين طريقة الاجتهاد البياني والطريقتين الأخريين ، باعتباره الأولى بيانا للأحكام الشرعية ، والثانية والثالثة (وضعا) لها ، مع ان لازم ذلك اعتبار المجتهد مشرعا ، وهو خروج على إجماع المسلمين بالإضافة إلى مناقضته لنفسه حين اعتبرها جميعا من الكواشف عن الأحكام الشرعية.

نعم ، هذا التعبير لا يلتئم إلا على مبنى من مباني (المصوبة) ، وهو المبنى الّذي ينكر جعل الأحكام الواقعية في حقوق الجاهلين ويعتبرها تابعة لظنون المجتهدين ، إن صح نسبة القول بوضع الأحكام من قبل المجتهدين إليهم ، ولا أظن ان الدكتور

__________________

(١) المدخل إلى علم أصول الفقه : ص ٣٨٩.

(٢) رسالة الطوفي : ص ٩٠.

٥٥٠

ممن يؤمنون به ، بل لا أعرف في علماء الإسلام اليوم من يؤمن به ، وستأتي مناقشته.

وإذا لم يتم هذا التقسيم فالأنسب التركيز ـ في مجال القسمة لأبوابه ـ على ما كنا قد استفدناه من اختلافها ـ من حيث الطريقية أو الحجية ـ بالذاتية والجعل الشرعي ، فنقسمه استنادا إلى ذلك إلى قسمين :

١ ـ الاجتهاد العقلي :

ونريد به ، ما كانت الطريقية أو الحجية الثابتة لمصادره عقلية محضة غير قابلة للجعل الشرعي ، وينتظم في هذا القسم كل ما أفاد العلم الوجداني بمدلوله كالمستقلات العقلية وقواعد «لزوم دفع الضرر المحتمل» و «شغل الذّمّة اليقيني يستدعي فراغا يقينيا» و «قبح العقاب بلا بيان» وغيرها.

٢ ـ الاجتهاد الشرعي :

ونريد به كل ما احتاج إلى جعل أو إمضاء لطريقيته أو حجيته ـ من الحجج السابقة ـ ويدخل ضمن هذا القسم : الإجماع والقياس والاستصلاح والاستحسان والعرف والاستصحاب ، وغيرها من مباحث الحجج والأصول العملية ، مما يكشف عن الحكم الشرعي أو الوظيفة المجعولة من قبل الشارع عند عدم اكتشافه.

وإذا صح هذا التقسيم ، فإن علينا ان نبحث كل ما يتوقف عليه من معدات تيسيرا لطالبي الاجتهاد في بلوغ مراتبه.

معدات الاجتهاد العقلي :

ويتوقف الاجتهاد العقلي على خبرة بالقواعد الفلسفية والمنطقية ، وبخاصة تلك التي ترتكز عليها أصول الأقيسة بمختلف أشكالها ، لأن فيها وفي بقية قواعد

٥٥١

المنطق ـ كما يقال ـ العصمة عن الخطأ في الفكر ، شريطة ان يتعرف عليها في منابعها السليمة في أمثال معاهد النجف الأشرف من المعاهد الإسلامية التي عنيت بالدراسات المنطقية والفلسفية ، وإدخال الإصلاحات عليها ، لا مما أخذ وترجم حديثا عن الغرب لكثرة ما رأينا فيه من الخلط في المفاهيم ، وتحميلها لوازم غريبة ينشأ أكثرها من عدم فهمهم لقسم من المصطلحات ، وتحديد مداليلها بكل ما حفلت به من قيود وشروط (١).

معدات الاجتهاد الشرعي :

أما الاجتهاد الشرعي فهو متوقف على الإحاطة بعدة خبرات ، وهي مختلفة باختلاف تلكم الطرق المجعولة أو الممضاة من قبل الشارع المقدس ، فبالنسبة إلى الطرق غير المقطوعة أسانيد أو دلالة ، أو هما معا ، نحتاج إلى عدة خبرات يتصل بعضها بتحقيق النص وصحة نسبته لقائله ، ويتصل بكيفيات الاستفادة من النص في مجالات التماس الحكم أو الوظيفة منه بعد تصحيح نسبته.

أ ـ ما يتصل منها بنسبة النص لقائله :

أما ما يتصل منها بالقسم الأول فمعداته كثيرة وأهمها :

١ ـ ان يكون على علم بفهرست كل ما يرتبط بهذه النصوص وتبويبها ومعرفة مظانها في كتبها الخاصة ، أمثال الصحاح والمسانيد والموسوعات الفقهية ، ليسهل عليه التماس ما يريد استنباط الحكم منه من بينها على نحو يوجب له الاطمئنان بعدم وجود ما يخالفها أو يضفي بعض الأضواء عليها.

٢ ـ ان تكون له خبرة بتحقيق النصوص والتأكيد من سلامتها من الخطأ أو

__________________

(١) للتعرف على أوجه الكثير من هذه المفارقات التي حلفت بها الفلسفات الغربية على اختلافها ، يحسن الرجوع إلى كتاب (فلسفتنا) للسيد محمد باقر الصدر قدس سرّه ، فهو من خيرة الكتب التي عالجت هذه الجوانب إدراكا ومناقشة. (المؤلف).

٥٥٢

التحريف ، وذلك بالبحث عن نسخها الخطية على اختلافها أو المطبوعة على اختلاف طبعاتها ومقارنة بعضها ببعض واختيار أصحها وأسلمها عند الشك في سلامة النص.

٣ ـ التأكد من سلامة رواتها ووثوقهم في النقل بالرجوع إلى الثقات من أرباب الجرح والتعديل.

٤ ـ التماس الحجية لها من قبل الشارع ، باعتبارها من أخبار الآحاد التي توجب قطعا بمضمونها ، وقد عرضنا ما يتصل بهذا الجانب في (مبحث السنة) من هذا الكتاب.

٥ ـ ان تكون لنا خبرة بالمرجحات التي جعلها الشارع أو أمضاها عند التعارض بينها.

ب ـ ما يتصل منها بمجالات الاستفادة :

وهي كثيرة أيضا وأهمها :

١ ـ أن تكون لنا خبرة لغوية تؤهلنا لأن نفهم مواد الكلمات ونؤرخ لها على أساس زمني ، لنتمكن من ان نضعها في مواضعها الطبيعية لها ، ونفهمها على وفق ما كانوا يفهمون من معانيها في زمنها.

ولا يشترط فينا أن نكون مستحضرين لمعاني جميع ما ورد في الكتاب أو السنة من الألفاظ اللغوية ، بل تكفينا القدرة على استخراجها من مظانها في أمثال كتاب «مفردات الراغب الأصفهاني» في غريب القرآن و «مجمع البيان» للطبرسي و «التبيان» للشيخ الطوسي في التفسير و «مجمع البحرين» للطريحي و «النهاية» لابن الأثير في لغة الحديث.

٢ ـ أن نكون على علم بوضع قسم من الهيئات والصيغ الخاصة ، كهيئات المشتقات ، وصيغ الأوامر ، والنواهي ، والعموم ، والخصوص ، والإطلاق ،

٥٥٣

والتقييد ، والهيئات الدالة على بعض المفاهيم ، وما إليها من الهيئات التي عنيت ببحثها كتب «أصول الفقه» القديمة ، ولم تعن بها كتب اللغويين عناية هامة.

٣ ـ ان نحيط معرفة بمسائل النحو والتصريف ، بالمقدار الّذي يؤهلنا لتمييز حركات الإعراب ، وما تكشف عنه من اختلاف المعاني.

أما الغوص على استقراء العلل النحوية والآراء المختلفة فيها ، فهذا ما ليس له أية ضرورة بالنسبة إلى وظيفتنا ، كطلاب اجتهاد.

٤ ـ أن نكون على درجة عالية في فهم أساليب العرب من وجهة بلاغية وتقييمها وإدراك جملة خصائصها.

وهذا ما لا يتأتى لنا في الغالب من دراسة كتب البلاغة التقليدية ، لانشغالها عن مهمتها الأساسية بمماحكات لفظية تتصل أكثر ما تتصل بتكثير المصطلحات وتنويعها وإثارة النقاش حولها. أما التماس النصوص البليغة ودراستها وتقييمها ، فهذا ما لا يتفق أن تعني به إلا نادرا.

وربما ان أهم مصادر التشريع عندنا هما : الكتاب والسنة ، وهما في أعلى مستويات البلاغة وبخاصة القرآن الكريم ، معجزة الإسلام الخالدة ، فإن فهمهما مما يحتاج إلى حس بلاغي لا يتوفر إلا في القليل من البلغاء ممن تكوّن لديهم ذلك الحس ، بفضل تتبع واستظهار وتقييم كثير من النصوص البليغة في عصر القرآن وغيره.

٥ ـ ان تكون لنا إحاطة تاريخية بالأزمان التي رافقت تكوّن السنة وما وقع فيها من أحداث ، لنستطيع ان نضع النصوص التشريعية في موضعها الزمني ، وفي أجوائها وملابساتها الخاصة. ومعرفة الملابسة قد تغير دلالة نصّ بأكمله ، وما أكثر ما تنطوي الملابسات على قرائن يصلح بعضها لصرف ذلك النص عن ظاهره أو تقييده في حدود تلكم الملابسة.

٥٥٤

وبهذا نرى أنفسنا في أمسّ الحاجة إلى معرفة أسباب النزول في الكتاب العزيز ، والبواعث لتبليغ التشريع في السنة ـ إن كانت ـ لما يلقيان من أضواء على طبيعة الحكم.

والّذي نرجوه ان لا يفهم من كلامنا هذا أننا نؤمن بأن المورد أو السبب مما يخصص الوارد أو يدعو إلى تقييده في حدود موارده أو بواعثه ، فإن الّذي أردنا ان نقوله ان المورد أو الباعث ربما يكشف عن طبيعة الوارد ونوع ما يعمم له من المصاديق.

وأظن اننا سندرك حاجتنا الكبيرة إلى هذه الخبرة في مجال المقارنة الفقهية القادمة ، عند ما نعرض لجملة من الفتاوى المتناقضة ونلتمس أسبابها ، فنجد أهواء الحاكمين من وراء هذا التناقض.

وبهذا ندرك قيمة ما أرسله الإمام الصادق عليه‌السلام من جعله مخالفة العامة من أقسام المرجحات (١).

وبخاصة إذا تذكرنا ما قلناه في (مبحث الاستحسان) من أن المراد من العامة أولئك المرتزقة الذين يسيرون دائما في ركاب حكامهم ويفتون على حسب ما يريدونه منهم ، ولعل الدعوة إلى سد باب الاجتهاد كان من بواعثها الخيرة غلق الطريق على أمثال أولئك من المتطفلين على موائد الإفتاء ممن كانوا بيد السلطان كالدمى يحركونها كيف ما شاءوا وشاءت لهم سياساتهم الخاصة لتضليل الرّأي العام.

ومن هنا نرى كثيرا من السلطات تحفل بأمثال هؤلاء ، وتشتري عواطفهم بالمناصب الكبيرة والكثير من الأموال ، وحتى في عصورنا المتأخرة ـ مع الأسف الشديد ـ لا نعدم الأمثال الكثيرة على ذلك.

وإذا لم تكن لنا تلك الخبرة التأريخية ، فانا لا نستطيع ان نقيم تلك الأخبار

__________________

(١) الكافي : ١ ـ ٦٧ ـ ٦٨ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠.

٥٥٥

المتعارضة ونعرف ما خالف العامة منها مما وافقها ، وعلى الأخص إذا تم ما قربناه من ان الأساس في هذا التقييم لم يكن موجها نحو أرباب المذاهب المعروفة اليوم ، لعدم وجود بعض أربابها إذ ذاك ، والموجود منهم لم يكن ـ على درجة من كثرة الأتباع ـ تخول إطلاق كلمة العامة عليهم ، بل لم يكن بعضهم على اتصال بالسلطة الزمنية ، كما هو المعروف من تاريخهم.

٦ ـ ان تكون لنا خبرة بأساليب الجمع بين النصوص كتقديم الناسخ على المنسوخ ، والخاصّ على العام ، والمطلق على المقيد ، وكالتعرف على موارد حكومة بعض الأدلة على بعض أو ورودها عليها.

٧ ـ ان نكون على ثقة ـ بعد اجتياز المرحلة السابقة وتحصيل ظهور النص ـ بحجية مثل هذا الظهور.

هذا كله بالنسبة إلى الطرق الكاشفة عن الكتاب والسنة سواء ما يتصل بالسند بالنسبة إلى السنة أم الدلالة بالنسبة إليهما ، أما الطرق الأخرى الكاشفة عن الحكم أو الوظيفة من غير طريقهما ، فحسب الفقيه ان يحيط منها بما حرر في كتب الأصول الموسعة ليعرف الحجة منها من غير الحجة ، ويعرف موارد جريانها وأصول الجمع بينها ، ولا يقتصر في ذلك كله على الأخذ برأي فريق دون فريق ، بل يمحصها جهده ويكوّن لنفسه رأيا ، لأن التقليد في أصول الفقه محق للاجتهاد من أساسه ، بل الاجتهاد في واقعه لا يعدو معرفة هذه الحجج وموارد تطبيقها معرفة تفصيلية.

وفي المبحث اللاحق سنلقي ببعض الأضواء على هذا الجانب لإيضاحه.

٥٥٦

خاتمة المطاف

القسم الأول

الاجتهاد

(٣)

تجزي الاجتهاد وعدمه

* ملكة الاجتهاد ومنشؤها

* الاجتهاد المطلق

* الاجتهاد المتجزئ

* الخلاف في تجزي الاجتهاد وعدمه

* إحالة الاجتهاد المطلق

* إمكان الاجتهاد المطلق

* إمكان التجزي ووقوعه

* لزوم التجزي

* القول بعدم الإمكان وسببه

* أقربية القول بعدم الإمكان

* خلاصة الرّأي

٥٥٧
٥٥٨

ملكة الاجتهاد ومنشؤها :

وقد تبين لنا مما تقدم ان ملكة الاجتهاد إنما تنشأ من الإحاطة بكل ما يرتكز عليه قياس الاستنباط سواء ما وقع منه موقع الصغرى لقياس الاستنباط ، كالوسائل التي يتوقف عليها تحقيق النص وفهمه أو كبراه ، كمباحث الحجج والأصول العملية.

وسالك طريق الاجتهاد لا يمكن ان يبلغ مرتبته حتى يمر بها جميعا ليكون على حجة فيما لو أقدم على إعمال هذه الملكة.

فالذي يعرف ـ مثلا ـ وسائل تحقيق النص وفهمه دون ان يجتهد في معرفة بقية الحجج والأصول على نحو يكوّن لنفسه فيها رأيا لا يتداخله الوهم أو الشك ، لا يسوغ له ادعاء الاجتهاد ولا استنباط حكم واحد لعدم المؤمّن له من قيام حجة يجهلها من الحجج الأخرى على خلاف ما استفاده من النص ، وقد تكون سمة هذه الجهة المجهولة لديه سمة الحاكم أو الوارد على ذلك النص.

وإذا صح هذا عدنا إلى ما ذكروه حول إمكان تجزي الاجتهاد وعدمه ، والضوابط التي جعلوها لكل منهما ، أعني المجتهد المطلق والمتجزي.

الاجتهاد المطلق :

وأرادوا به «ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد التي يظفر فيها بها» (١).

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ٥٢٩ ـ ٥٣٠ طبعة جامعة المدرسين ـ قم.

٥٥٩

وهذا التعريف قريب من تعريفنا السابق عدا مؤاخذات شكلية لا تستحق التنبيه عليها.

الاجتهاد المتجزئ :

وقد عرفه في الكفاية بقوله : «ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام» (١).

وربما أوضح كلام الغزالي في المقام ما يمكن ان يراد به من أمثال هذا التعريف حيث قال ـ بعد ان استعرض العلوم التي يراها ضرورية للمجتهد ، وهي قريبة في بعض خطوطها مما ذكرناه في معدات الاجتهاد ـ : «واجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الّذي يفتي في جميع الشرع.

وليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ ، بل يجوز ان يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض.

فمن عرف طريق النّظر القياسي فله ان يفتي في مسألة قياسية ، وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث ، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه ان يكون فقيه النّفس ، عارفا بأصول الفرائض ومعانيها ، وإن لم يكن قد حصل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي ، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ، ولا تعلق لتلك الأحاديث بها ، فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصا؟ ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه ، فما يضره قصوره عن علم النحو الّذي يعرف قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(٢)؟ وقس عليه ما في معناه.

وليس من شروط المفتي ان يجيب عن كل مسألة ، فقد سئل مالك رحمه‌الله عن أربعين مسألة ، فقال في ستة وثلاثين منها : لا أدري ، وكم توقف الشافعي رحمه‌الله بل

__________________

(١) كفاية الأصول : ص ٥٣٠.

(٢) سورة المائدة : الآية ٦.

٥٦٠