الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

الباب الرابع

القسم الثالث

التخيير العقليّ

* تحديده

* الخلاف فيه

* حجيته

* التخيير وإجراء البراءتين

* التخيير وقاعدة دفع المفسدة

* التخيير والقول بالتخيير الشرعي

* التخيير والإباحة الشرعية

* خلاصة البحث.

٥٢١
٥٢٢

تحديده :

والمراد بالتخيير العقلي ، الوظيفة العقلية التي يصدر عنها المكلف عند دوران الأمر بين المحذورين ـ الوجوب والحرمة ـ وعدم تمكنه حتى من المخالفة القطعية.

وقد ذكروا له فروضا متعددة لا ينطبق على تعريفنا هذا غير واحد منها ، وهي صورة ما إذا كانت الواقعة واحدة غير متكررة وكان التكليف توصّليا.

الخلاف فيه :

والأقوال في هذه الصورة ـ أعني صورة دوران الأمر بين المحذورين ـ خمسة :

١ ـ جريان البراءة عن كل منهما عقلا وشرعا.

٢ ـ تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب بملاك ما قيل من أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.

٣ ـ الحكم بالتخيير بينهما شرعا.

٤ ـ التخيير بينهما عقلا لعدم خلو المكلف تكوينا عن الفعل والترك مع الرجوع إلى أصالة الإباحة الشرعية.

٥ ـ التخيير بينهما عقلا ، مع عدم جريان شيء من القواعد الشرعية فيهما.

والظاهر ان أسدّ هذه الأقوال هو القول الخامس ، إن صح تسميته بالتخيير العقلي ، ولعل تسميته بالتخيير التكويني أولى لأن صدور المكلف عن أحدهما تخييرا لا يحتاج إلى من يرشده إليه ، ما دام المكلف في واقعه لا يخلو عن أحدهما ، ولعل الغرض من تسميته بالتخيير العقلي هو أن العقل بعد أن يسد جميع منافذ الأقوال السابقة ولم يبق إلا هذا المنفذ ، فإنه لا بد ان يوجه الإنسان إلى سلوكه بالذات.

٥٢٣

حجيته :

وتتضح حجيته إذا علمنا السر في عدم جعل شيء من الأمارات أو الأصول الشرعية فيهما مجتمعين أو منفردين في مقام الثبوت.

أما جعل الأمارات بالنسبة إليهما معا فمستحيل لاستحالة التعبد بالمتناقضين وجعلها لأحدهما غير المعين لا أثر له ، والمعين ترجيح بلا مرجح.

والأصول الإحرازية كذلك ـ كما سبق بيانه ـ لما تنتهي إليه من طلب اعتبار غير الواقع واقعا ، مع العلم بالواقع لو جعلت بالنسبة لهما معا ومع جعلها لأحدهما غير المعين ، لا تترتب عليه أية ثمرة ، وللمعين ترجيح بلا مرجح.

وأصالة الحل لا يمكن جعلها لمنافاتها للمعلوم بالإجمال ، وهو الحكم الإلزاميّ ، أما البراءة الشرعية فلأن رفع الإلزام فيها ظاهرا لا يكون إلا في موضع يمكن جعله فيه ، وحيث ان جعل الاحتياط هنا مستحيل لعدم قابلية المحل له فرفعه كذلك.

ودعوى ، ان القدرة على الوضع انما تلحظ بالقياس إلى كل من الحرمة والوجوب مستقلا لا إليهما معا وجعل الاحتياط بالقياس إلى كل منهما أمر ممكن ، ليست واضحة لدي لفرض المسألة في دوران الأمر بين المحذورين وإمكان الجعل في مقام الثبوت ، والكلام انه هل يمكن للشارع ان يضع الاحتياط في هذه الصورة بالذات وهي بمرأى منه ، فإذا لم يمكنه ذلك لم يمكنه جعل البراءة لكل منهما؟ والمانع ليس مانعا إثباتيا ليتمسك بشمول حديث الرفع وإنما هو مانع ثبوتي.

ودعوى ، ان الشارع وان لم يكن متمكنا من وضع الإلزام الظاهري بالفعل والترك معا ، لكنه يستطيع وضع كل منهما بخصوصه ويكفي ذلك في قدرته على رفعهما معا ، غير واضحة.

لأن جعل الإلزام الظاهري لكل منهما مستحيل لعدم القدرة على امتثاله ،

٥٢٤

ولأحدهما غير المعين لا ثمرة له ، والمعين ترجيح بلا مرجح كما سبق. فالقول بإمكان الرجوع إلى بعض الأصول في الأطراف لا نملك توجيهه فعلا.

نعم ، إذا كان لبعض الأطراف خصوصية توجب إجراء أصل فيه ، تعين إجراؤه ، وخرجت المسألة عن الفرض لعدم الدوران حينئذ بين المحذورين.

١ ـ التخيير وإجراء البراءتين :

أما القول الأول ـ أعني جريان البراءة في كل منهما عقلا وشرعا ـ فيرد عليه :

أ ـ جمع البراءة العقلية والشرعية على صعيد واحد مع اختلافهما رتبة وعدم إمكان الجمع بينهما ، ولهذا جعلنا أدلة البراءة الشرعية واردة على البراءة العقلية ، ومع فرض قيام أحدهما لا مجال للأخرى.

ب ـ عدم إمكان جعل البراءة الشرعية فيهما ، لما سبق بيانه قبل قليل ، والبراءة العقلية لا مسرح لها لوجود البيان الواصل من الشارع بالعلم ، وكون هذا العلم لا أثر له لعدم إمكان تنجيز متعلقه لا يرتبط بمقامنا هذا ، لأن عدم التنجيز ليس منشؤه عدم وصول البيان المأخوذ في موضوع قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» بل منشؤه عدم القدرة على الامتثال ، وقاعدة «قبح العقاب على التكليف غير المقدور» غير قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» لاختلاف متعلقهما كما هو واضح.

٢ ـ التخيير وقاعدة دفع المفسدة :

ويرد على القول الثاني ، أعني تقديم جانب الحرمة ، لقاعدة «دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة» :

أ ـ المناقشة في القاعدة كبرويا ، لأن العقلاء جميعا يقدمون على ما فيه المصلحة الكبيرة وإن تعرضوا لشيء من المفاسد الصغيرة ، وربما أقدموا على ما فيه احتمال

٥٢٥

المصلحة الراجحة وإن ضحوا في سبيله بالكثير ، فالتجار يسافرون من أجل احتمال الربح الأسفار البعيدة ، وإن كلّفتهم كثيرا من الجهة والمال ، فالقول بأن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ليس صحيحا على إطلاقه.

فالقاعدة ليست قاعدة مسلمة إذن لدى العقلاء في جميع الموارد ، كما لم يقم عليها دليل شرعي لنتعبد بها ، فالمسألة لا تخرج اذن عن كونها من صغريات باب التزاحم ، وقد مر البحث فيها مفصلا في مبحث الاستحسان (١).

ب ـ على أن مسألتنا هذه أجنبية عن القاعدة ، لأن القاعدة ـ لو تمت ـ فإنما هي في المفسدة والمصلحة المعلومتين. أما المفسدة والمصلحة المشكوكتان فلا تجري بينهما هذه الموازنة.

وقد سبق ان قربنا ـ في مبحث الاحتياط الشرعي (٢) ـ أن المرجع في الشبهات التحريمية هو البراءة ، فاحتمال المفسدة في شيء ـ حتى مع القطع بعدم وجود المصلحة ـ لا يقام له وزن في نظر الشارع لأدلة البراءة ، فكيف إذا احتمل وجود المصلحة فيه؟

٣ ـ التخيير والقول بالتخيير الشرعي :

وقد أوردوا على هذا التخيير بأنه إن أريد به التخيير في المسألة الأصولية ـ أعني اختيار أحدهما والإفتاء على طبقه ـ فهو غير سليم لعدم الدليل عليه ، وقياسه على الخبرين المتعارضين قياس مع الفارق ، لوجود النص فيهما وعدمه هنا.

على أن الّذي سبق ان استظهرناه من الأدلة هو عدم تماميتها في إثبات الوظيفة الشرعية حتى في الخبرين المتعارضين ، ولذلك رجعنا إلى القاعدة وهي تقتضي

__________________

(١) راجع : ص ٣٤٥ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٢) راجع : ص ٤٧٧ وما بعدها من هذا الكتاب.

٥٢٦

التساقط فيهما.

وإن أريد به التخيير في المسألة الفقهية «أعني في مقام العمل بأن يكون الواجب على المكلف أحد الأمرين ، تخييرا من الفعل أو الترك ، كما في غير المقام من الواجبات التخييرية ، فهو أمر غير معقول ، لأن أحد المتناقضين حاصل لا محالة ، ولا يعقل طلب ما هو حاصل تكوينا ، إذ الطلب ، ولو كان تخييريا ، إنما يتعلق بأمر مقدور دون غيره. ومن هنا ذكرنا في محله انه لا يعقل التخيير بين الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، فإن أحدهما حاصل بالضرورة ولا يعقل تعلق الطلب بمثله» (١).

٤ ـ التخيير والإباحة الشرعية :

والقول بجريان الإباحة الشرعية فيها ، مبني على شمول أدلتها للشبهات الحكمية وهو موضع خلاف ، والتحقيق اختصاصها بالشبهات الموضوعية كما أفاده كثير من الأعلام.

بالإضافة إلى ما قلناه قبل قليل من أن أصالة الحل لا تجري لمخالفتها للمعلوم بالإجمال.

على أن الحكم الظاهري ـ مهما كان نوعه ـ إنما يجري إذا احتمل موافقته للواقع نظرا لاعتبار الشك في موضوعه ، والمفروض في المقام هو العلم بالإلزام في الواقع ، وان شك في نوعه ، فكيف يمكن الحكم بإباحته؟

خلاصة البحث :

والخلاصة : ان القول بالتخيير العقلي ـ أو التكويني على الأصح ـ هو المتعين في هذه الصورة لبطلان بقية الأقوال ، ومن بطلانها يتضح السر في اعتبارها وظيفة

__________________

(١) الدراسات : ٣ ـ ٢٠٦.

٥٢٧

عقلية لا حكما شرعيا ولا وظيفة كذلك.

أما بقية الصور مما تمكن فيها المخالفة القطعية أو الموافقة ، فهي خارجة عن مجالات التخيير العقلي وملحقة بالأقسام السابقة من البابين على اختلاف في كيفية الإلحاق.

٥٢٨

الباب الخامس

تمحض هذا الباب لبحث (القرعة) ، ولكن عدها من مصادر التشريع وإفرادها بباب مستقل فيه شيء من الغرابة لخروجه على إجماع المؤلفين في علم الأصول.

ولكن نسبة بعض المؤلفين المحدثين ، عدها من المصادر الكاشفة عن الحكم ، إلى بعض الفرق الإسلامية ـ كما توهمه عبارته ـ اقتضانا ان نبحثها على هذا الصعيد ، ونلتمس أدلة تشريعها ورتبتها من الأدلة ورأي من نعثر على رأيه من علماء المذاهب فيها وفق ما قدمناه من نهج.

٥٢٩
٥٣٠

الباب الخامس

القرعة

* تحديد القرعة

* مشروعيتها

* أدلة المشروعية : أدلتها من الكتاب ، أدلتها من السنة

* مجالات القرعة

* الجمع بين أدلتها وأدلة الأحكام الظاهرية

* خلاصة البحث

٥٣١
٥٣٢

تحديد القرعة :

وهي إحالة السهام أو غيرها بين أطراف مشتبهة لاستخراج الحق من بينها.

مشروعيتها :

والظاهر أن مشروعيتها على سبيل الموجبة الجزئية تكاد تكون موضع اتفاق المسلمين ، يقول العلامة السيد حسين مكي ـ وقد تتبع حكمها في الكتب الفقهية ـ : «فقد رأيت الشعراني في كتابه (الميزان) يتعرض إلى القرعة في باب القسمة وكتاب الدعاوي والبينات ، ونقل عن الأئمة ـ إلا أبا حنيفة ـ جواز الرجوع إلى القرعة في الرقيق ، إذا تساوت الأعيان والصفات ، وعند تعارض البينات نسب إلى الشافعي القول بالرجوع إلى القرعة فراجع (١) ، ونقل ذلك عن الشافعي وغيره الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي في كتابه «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» (٢) المطبوع في هامش «الميزان» ، وكذلك الشوكاني ذكر في كتابه «نيل الأوطار» (٣) رجوع الفقهاء إلى القرعة حيث لا يوجد طريق شرعي يفصل به بين الخصمين» (٤).

والكتب الفقهية الشيعية لا تأبى الأخذ بها في موارد خاصة شخصتها روايات أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

(١) الميزان للشعراني : ٢ ـ ١٩٩.

(٢) رحمة الأمة في اختلاف الأئمة بهامش الميزان للشعراني ٢ ـ ٢٠٢.

(٣) نيل الأوطار : ٨ ـ ٣٠٢ ، باب تعارض البينتين والدعوتين.

(٤) عقيدة الشيعة في الإمام الصادق عليه‌السلام : ص ٣٦٩.

٥٣٣

أدلة المشروعية :

وقد استدل على أصل المشروعية بأدلة من الكتاب والسنة.

أدلتها من الكتاب :

١ ـ قوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(١).

بتقريب ان المساهمة في اللغة هي المقارعة بإلقاء السهام ، والمدحض هو المغلوب. فإذا كان يونس وهو من المرسلين ممن يزاول القرعة ، فلا بدّ ان تكون مشروعة إذ ذاك.

٢ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)(٢).

والآية واردة لحكاية الاقتراع على كفالة مريم ، وقد ظفر بها زكريا ، وهو من الأنبياء وممن شارك في الاقتراع.

والحديث حول تعميم الحجية في هاتين الآيتين ـ وهما حاكيتان عن وقائع صدرت في شرائع سابقة ـ يدعونا ان نتذكر ما قلناه في مبحث (شرع من قبلنا) من الخلاف في حجية الشرائع السابقة ، فمن ذهب إلى نسخها جملة لا يصلح له الاستدلال بهما.

ومن ذهب إلى بقائها جملة ـ إلا ما ثبت فيه النسخ ـ ساغ له الاستدلال بهما.

وعلى مذهب جمهور علماء الحنفية ـ وهو الّذي أكدناه سابقا واعتبرنا الأدلة ناهضة به ـ يسوغ الاستدلال بهما أيضا لإثباتها في الجملة ، لأن نفس حكاية القرآن لهما يوجب العلم بوقوع مضمونها وعدم تحريفه ، وما صح من مضامين

__________________

(١) سورة الصافات : الآيات ١٣٩ ـ ١٤١.

(٢) سورة آل عمران : الآية ٤٤.

٥٣٤

الشرائع السابقة حجة على رأيهم يجب الأخذ بها ما لم يثبت النسخ.

على أن أدلتها القادمة من السنة تدل على إقرار مضامين هاتين الآيتين في ثبوت أصل المشروعية لها.

أدلتها من السنة :

والأدلة من السنة كثيرا جدا ، وقد عقد لها البخاري بابا في جزئه الثاني أسماه باب : (القرعة في المشكلات) (١) ، وإقراع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين نسائه ـ عند ما يريد السفر لأخذ من يخرج سهمها معه ـ معروف لدى المؤرخين.

وفي روايات أهل البيت عليهم‌السلام نصوص كثيرة تدل على مشروعيتها ، يرجع إليها في مظانها من كتب الفقه والحديث.

مجالات القرعة :

وإذا كانت القرعة مشروعة في الجملة ، فان مشروعيتها ليست محددة في مجالات العمل بها على ألسنة الفقهاء ، واستقراء مواقع استعمالها لديهم لا يخرجها عن الموضوعات أو عن قسم منها ، بل لا يخرجها عن موارد النصوص ووقائعها الخاصة ، على أن في بعض نصوصها تعميمات لكل مجهول أو مشتبه سواء كان المجهول حكما وضعيا أم تكليفيا ، ومع ذلك لم يأخذوا بهذه العمومات.

والّذي يقتضينا ـ ونحن نريد التقيد بحدود ما تدعو إليه الأدلة ـ ان نفحص السر في عدم أخذهم بهذه العمومات ونقيمه على ضوء ما انتهينا إليه في بحوثنا الأصولية السابقة.

الجمع بين أدلتها وأدلة الأحكام الظاهرية :

يقول أستاذنا الخوئي قدس سرّه ـ فيما حكاه بعض مقرري بحثه ـ : «والّذي يستفاد من

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الشهادات.

٥٣٥

مجموع الروايات في القرعة ومواردها انها جعلت في كل مورد لا يعلم حكمه الواقعي ولا الظاهري ، وهذا المعنى هو المراد من لفظ المشكل في قولهم : «ان القرعة لكل أمر مشكل» وان لم نعثر على رواية بهذا اللفظ.

وهو المراد أيضا من لفظ المشكل المذكور في متون الكتب الفقهية ، فإن المراد من قولهم : هو مشكل أو فيه إشكال ، عدم العلم بالحكم الواقعي ، وعدم الاطمئنان بالحكم الواقعي والظاهري لجهة من الجهات ، لا عدم العلم والاطمئنان بالحكم الواقعي فقط ، إذ الإشكال بهذا المعنى موجود في جميع الأحكام الفقهية سوى القطعيات.

وبالجملة مورد القرعة ، نظرا إلى مورد الروايات الواردة فيها ، هو اشتباه الحكم الواقعي والظاهري ، فالمراد من المجهول في قوله عليه‌السلام في رواية «كل مجهول ففيه القرعة» (١) هو المجهول المطلق ـ أي المجهول من حيث الحكم الواقعي والظاهري ـ ثم يقول : وظهر بما ذكرناه انه يقدم الاستصحاب على القرعة تقدم الوارد على المورود ، إذ بالاستصحاب يحرز الحكم الظاهري فلا يبقى للقرعة موضوع بعد كون موضوعه الجهل بالحكم الواقعي والظاهري ـ على ما ذكرناه ـ بل يقدم على القرعة أدنى أصل من الأصول ، كأصالة الطهارة وأصالة الحل وغيرهما مما ليس له نظر إلى الواقع ، بل يعين الوظيفة الفعلية في ظرف الشك في الواقع ، إذ بعد تعيين الوظيفة الظاهرية تنتفي القرعة بانتفاء موضوعها» (٢).

وهذه الاستفادة متينة جدا لو كان لفظ المشتبه موجودا في الروايات. ولكن الموجود فيها «كل مجهول ففيه القرعة» وهي من حيث أخذ الجهل في موضوعها أشبه بأدلة الوظائف الشرعية كالبراءة والاحتياط ، لأخذ عدم العلم فيها ، وهذه

__________________

(١) التهذيب : ٦ ـ ٢٤٠ ، ح ٢٤. والفقيه : ٣ ـ ٩٢ ، ح ٣٣٨٩.

(٢) مصباح الأصول : ص ٣٤٢ وما بعدها.

٥٣٦

الأدلة ، لو كانت تامة الدلالة لكانت وظيفة من الوظائف التي يجب الرجوع إليها عند العجز عن تحصيل الحكم الواقعي.

وعلى هذا ، فإن تمت استفادة أستاذنا في أن المراد من المجهول هو الأعم من الحكم الواقعي والظاهري ، ولو بمعونة القرائن المستفادة من الموارد الخاصة التي وردت فيها روايات القرعة ، كانت هي المتعينة وإلا فلا بدّ من جمع آخر.

والظاهر أن الجمع بينها وبين ما دل على الرجوع إلى الأصول عند الشك يختلف من حيث مفاد الأدلة.

فأدلة الأصول الإحرازية ، نظرا لاعتبارها المشكوك متيقنا ، تكون حاكمة عليها ومزيلة للجهل الّذي أخذ في موضوعها تعبدا ، وحسابها حساب أدلة البراءة بالنسبة إلى الاستصحاب.

أما أدلة الوظائف الشرعية ـ براءة أو احتياطا ـ فنسبتها إليها نسبة المخصص لبداهة ان لسان أدلة القرعة وهو : «كل مجهول ففيه القرعة» يعم الجهالة بالأحكام الإلزامية وغيرها ، والجهالة بالأحكام الوضعيّة والتكليفية مهما كان منشأ الجهل ، وأدلة البراءة إنما تتعرض لخصوص الأحكام التي فيها كلفة ، سواء كانت الشبهة فيها موضوعية أم حكمية ، فهي أخص من أدلة القرعة فتقدم عليها بالتخصيص وكذلك أدلة الاحتياط.

وعلى هذا فأدلة القرعة تبقى قائمة في كل ما لم يعرف حكمه الواقعي أو الظاهري ، أي فيما لا مجال لمعرفة رأي الشارع فيه مطلقا حكما أو وظيفة لو لا شبهة إسقاطها بكثرة التخصيص.

وبهذا يظهر ان «ما هو المعروف في ألسنتهم من ان أدلة القرعة قد تخصصت في موارد كثيرة ، وكثرة التخصيص موجبة لوهنها ، فلا يمكن الأخذ بها» (١) لا يخلو

__________________

(١) مصباح الأصول : ص ٣٤٢.

٥٣٧

من أصالة.

كما يظهر أيضا ان ما نبه عليه الأستاذ أبو زهرة ـ من «ان في الفقه الإمامي رأيا فيه غرابة ، وهو انه عند اشتباه الحلال بالحرام في موضع ، اما لتعارض الأدلة أو لعدم وجود دليل ، يعمل بالقرعة» (١) ـ لا أساس له على جميع مباني مجتهدي الشيعة ، لأن المرجع في الجميع منها هو البراءة أو الاحتياط على اختلاف في وجهة النّظر في ذلك وهي اما الورود أو التخصيص.

نعم ، لا شبهة في أخذهم ـ شيعة وسنة ـ بالقرعة في خصوص الموارد المنصوصة والتقييد بنصوصها وهي لا تتجاوز مسائل معينة ، كمسألة اشتباه الغنم الموطوءة في قطيع وأمثالها مما وردت في الباب الّذي عقده البخاري لها في صحيحة (٢) وغيره من كتب الحديث.

وقد كنا نحب للأستاذ أبي زهرة ان يذكر لنا موردا واحدا من غير الموارد المنصوصة التي أثارت استغرابه في اعتبار الشيعة القرعة مصدرا من مصادرهم عند تعارض الأدلة ، ولم يرجعوا فيها إلى الأصل العملي أو الوظيفة ، ليبرر لنفسه ذلك الاستغراب.

خلاصة البحث :

وخلاصة ما انتهينا إليه من بحث ان القرعة ليست موضعا لشبهة في أصل مشروعيتها ، إلا ان العمل بها إنما يقتصر على خصوص مواردها المنصوصة ، وليس عندنا من الأدلة ما يرفعها إلى مصاف ما عرضناه من مصادر التشريع سواء ما كان مجعولا لاكتشاف الحكم الشرعي أم الوظيفة على اختلافها ، وبخاصة بعد ان كانت أدلتها العامة فاقدة الاعتبار لوهنها بكثرة التخصيص.

__________________

(١) الإمام الصادق : ص ٥٠٦.

(٢) صحيح البخاري : كتاب الشهادات ، باب القرعة في المشكلات.

٥٣٨

خاتمة المطاف

رأينا ان نتعرض في هذه الخاتمة إلى المهم من مباحث (الاجتهاد والتقليد) لا للأخذ بما جرى عليه الأصوليون من تقليد فحسب ، بل لما في إثارتها من ثمرات تعود على الفكر الإسلامي اليوم بأعظم الفوائد ، بالإضافة إلى صلوحها لأن تكون نماذج تطبيقية لما درسناه من تلكم الأصول ، وقد آثرنا ان ندرسها على أساس مقارن تحقيقا للنهج الّذي رسمناه لهذه البحوث في مدخل الكتاب.

٥٣٩
٥٤٠