الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

وهكذا إلى غير نهاية.

فإذا كان احتمال الضرر الأخروي لا يستتبع جعل الاحتياط الشرعي على وفقه ، فمن الواضح أن قاعدة «وجوب دفع الضرر المحتمل» لا تكشف عنه ـ أعني الاحتياط ـ لعدم إمكان جعله من قبله ، فهي لا تصلح ان تكون بيانا شرعيا له ، فقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» تبقى قائمة ومع قيامها يقطع بعدم الضرر الأخروي ، فلا يبقى مجال لوجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ لا احتمال للضرر حتى يجب دفعه.

وإذن فالقاعدتان لا تعارض بينهما ولا تناقض في حكم العقل.

وعلى هذا فقاعدة «وجوب دفع الضرر المحتمل» إنما تختص في المواقع التي يمكن للشارع ان يجعل تكاليفه عليها ، ولو كانت التكاليف احتياطية.

وهي لا تشمل غير قسم من الاحتمالات لأضرار دنيوية بالغة ، يعلم من الشارع بغض وقوعها من العبد ، وما عداها فقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» تبقى قائمة ، وهي هادمة بقيامها للقاعدة الأخرى لتحصيلها القطع بالمؤمّن الرافع لاحتمال العقاب.

نعم في الموارد التي لا تصلح للمؤمّنية فيها ، كما في موارد الشبهات البدوية قبل الفحص ـ بالتقريب الّذي ذكرناه سابقا ـ تجري هذه القاعدة ـ أعني قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ـ لعدم المؤمّن العقلي ، كما هو واضح.

البراءة العقلية وظيفة عقلية لا حكم :

وكونها وظيفة لا يحتاج إلى حديث لبداهة افتراضها عند اختفاء الأحكام الشرعية ، وليس فيها جنبة نظر للواقع ولا حكاية عنه ، بل ليس فيها ما يكشف عن رأي الشارع حتى في هذا الحال لاستحالة ذلك ، ومن هنا قلنا : إنها وظيفة عقلية لا شرعية.

٥٠١
٥٠٢

الباب الرابع

القسم الثاني

الاحتياط العقليّ

* تحديد الاحتياط العقلي : دليله

* الشبهة البدوية قبل الفحص

* العلم الإجمالي : قابليته لتنجيز متعلقه ، منشأ تنجيزه

* إمكان جعل المرخص وعدمه ، وقوع ذلك الجعل وعدمه

* حل العلم الإجمالي* الشبهة محصورة وغير محصورة

* الشبهة غير المحصورة وحكمها

* دوران الأمر بين التعيين والتخيير

* الخروج من عهدة التكليف المعلوم

* الاحتياط وظيفة عقلية

٥٠٣
٥٠٤

تحديد الاحتياط العقلي :

وهو حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المنجز إذا كان ممكنا.

وغرضنا من ذكر قيد الإمكان إخراج بعض صور العلم بالتكليف ، كما في بعض صور دوران الأمر بين المحذورين مما لا يمكن الجمع بينهما بحال ، وسيأتي الحديث عنها.

ويدخل ضمن هذا التحديد أقسام ثلاثة :

١ ـ الشبهة البدوية قبل الفحص.

٢ ـ العلم الإجمالي بتكاليف إلزامية إذا كان الاحتياط ممكنا ولو بالإتيان بجميع المحتملات أو تركها.

٣ ـ العلم التفصيليّ بتكليف مّا ، والشك في الخروج عن عهدته بالامتثال لبعض الجهات.

دليله :

ودليله هو القاعدة التي تطابق عليها العقلاء من ان شغل الذّمّة اليقيني يستدعي فراغا يقينيا.

ولبيان استيعاب الدليل لجميع ما انتظم في هذا التعريف ، ثم لتحديد صغريات ما يمكن ان تنتظم في الكبرى الكلية المستفادة منه. يقتضينا ان نقف عند كل واحدة منها فنتحدث عنها بشيء من الإيجاز ، ونحيل في استيعابها حديثا وصورا

٥٠٥

إلى الموسوعات الشيعية (١) لتوفرها على بحث هذه المواضيع.

١ ـ الشبهة البدوية قبل الفحص :

ووجوب الاحتياط في الشبهات البدوية قبل الفحص سبق أن ذكرنا أدلته في مبحث «الاستصحاب» ، ولعل أهمها العلم الإجمالي المنجز بوجود تكاليف إلزامية ، وبهذا المعنى فإنها تكون من صغريات مسألة العلم الإجمالي القادمة والحديث فيه يأتي.

أما إذا فرض أن هذا الدليل غير تام وأخذنا بالأدلة الباقية ، فإن قاعدة «شغل الذّمّة اليقيني» لا تكون دليلا على وجوب الاحتياط فيها ، لبداهة عدم اليقين فيها إذ ذاك بالشغل لتكون نتيجة للقاعدة المذكورة ، ولا بد من الاستدلال عليها بأدلة أخرى أهمها القاعدة السابقة «وجوب دفع الضرر المحتمل» لا لاكتشاف الجعل الشرعي له من هذه الطريق لانحصار الاكتشاف باحتمال الأضرار الدنيوية البالغة منها ، والشبهات البدوية ليست مختصة بهذه الاحتمالات دائما ، بل لعدم وجود المؤمّن ، وذلك لعدم جريان البراءة الشرعية فيها لقصور أدلتها عن شمولها لكونها مقيدة عرفا بما بعد الفحص ، كما سبق تقريبه ، ولأن البيان الواصل المأخوذ في موضوع البراءة العقلية ـ أعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان واصل ـ لا يراد به فعلية الوصول بداهة ، بل يراد به معرضية الوصول لما مر شرحه من أن الشارع غير مسئول عن إيصال التكاليف إلى كل واحد من المكلفين ، وانما عليه أن يبلغ بالطرق المتعارفة وعليهم السعي إلى معرفتها.

فدليل الاحتياط العقلي فيها هو هذه القاعدة ، إذ لا دافع هنا لاحتمال الضرر ليلجأ إليه.

__________________

(١) راجع : حقائق الأصول : ٢ ـ ٢٣٨ وما بعدها ، وفوائد الأصول ٣ ـ ٢٣٩ وما بعدها ، والدراسات ، وغيرها ، (مباحث الاحتياط).

٥٠٦

٢ ـ العلم الإجمالي :

والحديث حوله يقع في جهات متعددة أهمها جهتان :

١ ـ قابليته لتنجيز ما تعلق به ، وما يتفرع من بحوث عليها.

٢ ـ حل العلم الإجمالي.

قابليته لتنجيز متعلقه :

والمراد بالقابلية هنا صلوحه لأن يكون بيانا يتكل عليه الشارع في إيصال تكاليفه ـ من دون حاجة إلى جعل منه ـ وحاله حال العلم التفصيليّ في تنجيز متعلقه.

والّذي يبدو ان القول بقابليته موضع اتفاق الجميع ، وإن ذكرت بعض الوجوه لنفي القابلية ، إلا انه لا قائل بها ، وغاية ما قرب به نفي القابلية من أنه «ربما يقال انه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى ان يكون المكلف حين العمل عالما بالمخالفة تفصيلا ، وأما الإتيان بأمور لا يعلم حين الإتيان بكل واحد منها بمخالفته للمولى ، ولكن بعد الإتيان بالجميع يعلم بتحقق المخالفة في الخارج ، فلا يحكم العقل بقبحه.

وبعبارة أخرى : القبيح مخالفة التكليف الواصل ، لا تحصيل العلم بالمخالفة» (١).

وأجيب على هذا التقريب بأن فيه «مغالطة ناشئة من الخلط بين الوصول والتمييز ، فإن وصول التكليف الفعلي هو الموضوع لحكم العقل بقبح المخالفة ، ولا ربط لهذا بتمييز المكلف به أصلا ، ولذلك لا ريب في حكم العقل بقبح ارتكاب جميع أطراف العلم الإجمالي دفعيا كالنظر إلى امرأتين يعلم بحرمة النّظر إلى إحداهما كما في ارتكاب المحرم تفصيلا ، مع ان موضوع التكليف الواقعي غير مميز

__________________

(١) الدراسات : ٣ ـ ٥٢.

٥٠٧

فلا يعتبر في القبح إلا وصول التكليف الفعلي ، وهو متحقق في محل الكلام» (١).

فالشبهة في قابليته للتنجيز شبهة في مقابل البديهة ، وهي لا تستند ـ كما يقول أستاذنا الخوئي قدس سرّه ـ على غير المغالطة ، ولذا لا نجد عاقلا من العقلاء يقدم على شرب إناءين يعلم إجمالا بوجود السم في أحدهما بدعوى عدم تمييزه للإناء الّذي وجد فيه السم من بينهما.

ولكن ـ بعد ثبوت القول بالقابلية ـ يقع الكلام في منشأ المنجزية فيه ، فقيل : ان منشأها ذاتي في كل ما يتصل به ، وحاله حال العلم التفصيليّ في كونه علة تامة لتنجيز متعلقه ، وقيل : ان العلم الإجمالي ليس فيه أكثر من اقتضاء التنجيز ، وتنجيزه موقوف على عدم جعل المرخص في أطرافه ، وعلى كلا القولين فقد وقع الكلام في إمكان جعل المرخص على خلافه كلا أو بعضا وعدمه ، وعلى تقدير الإمكان فقد اختلفوا في الوقوع وعدمه أيضا.

فالكلام إذن يقع في مسائل ثلاث :

أ ـ منشأ تنجيزه.

ب ـ إمكان جعل المرخص على خلافه وعدمه.

ج ـ وقوع مثل ذلك الجعل وعدمه على تقدير إمكانه.

أ ـ منشأ تنجيزه :

وقد ذكرنا أن في المسألة قولين : قولا بالعلية وقولا بالاقتضاء ، ولعل وجهة نظر القائلين بالعلية هو ان العلم الإجمالي كالعلم التفصيليّ في كشفه عن الواقع ، فإراءته له إراءة كاملة لا قصور فيها ، بل هو في الحقيقة علم تفصيلي بوجود التكليف ، ولما كان العلم التفصيليّ علة تامة لتنجيز متعلقه لما سبق في بحوث

__________________

(١) الدراسات : ٣ ـ ٥٣.

٥٠٨

التمهيد ، كان العلم الإجمالي كذلك ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة أصلا.

والتردد في مقام تطبيق الحكم على كل من الأطراف لا يسري إلى التردد في أصل الحكم ، فأصل الحكم واصل على كل حال.

أما القائلون بالاقتضاء ، فوجهة نظرهم مبنية على ان هذا التردد في مجال التطبيق يضعف تأثير العلم الإجمالي ، وينزل رتبته عن العلم التفصيليّ ، فهو لا يزيد على ان يكون فيه اقتضاء التأثير ، وتأثير المقتضي فيه موقوف على عدم وجود المانع ، أي عدم وجود المرخص من قبل الشارع في ارتكاب الأطراف.

وعلى هذا فالتنجيز عند هؤلاء الأعلام يتضح من وجهة نظرهم في المسألة التالية من إنكار إمكان جعل المرخص في الأطراف كلا أو بعضا.

ب ـ إمكان جعل المرخص وعدمه :

أما على مبنى من يذهب إلى علية العلم الإجمالي للتنجيز ، فاستحالته واضحة للزوم الترخيص في مقطوع المعصية إذا جعل في تمام الأطراف أو الترخيص في محتملها إذا جعل في بعضها دون بعض ، ويستحيل على الشارع المقدس ان يرخص في مقطوع المعصية أو محتملها مع تنجيز التكليف بالعلم لقبح ان يصرح بجواز معصيته بالضرورة ، وان جاز له ان يعفو بعد صدور المعصية من العبد ، على ان شئون الإطاعة والعصيان راجعة إلى العقل كما سبق بيانه ، وليس للشارع دخل في وضعهما أو رفعهما بداهة.

وأما على مبنى من يقول بأن فيه اقتضاء التنجيز في كل من الأطراف ، فكذلك فيما يلزم منه المخالفة القطعية ، ولكن بملاك آخر غير ذلك الملاك.

والملاك الّذي ينتظم جميع أنواع ما يقع به الترخيص سواء كان أمارة أم أصلا ، هو ان جعل الشارع الترخيص في تمام الأطراف يلزم منه الترخيص في مقطوع المعصية لانتهائه إلى جواز المخالفة القطعية ، وقد سبق ان قلنا أن التصريح بجواز

٥٠٩

المعصية من قبله قبيح ينزه عنه سبحانه ، وجعله في بعض الأطراف دون بعض ترجيح بلا مرجح.

وذهب بعضهم إلى إمكان جعله في الجميع على أن يقيد كل مرخص منها بصورة عدم ارتكاب الطرف الآخر فينتج التخيير بينهما. وهذا النوع من التقييد مستحيل أيضا ، لانتهائه إلى التعبد بهما معا عند ارتكابهما ـ أي إلى الترخيص في مقطوع المعصية ـ لتوفر الشرط في كل منهما ، وهو عدم الارتكاب.

بالإضافة إلى أن الإطلاق والتقييد إنما هما من قبيل الملكة والعدم ، فالمحل الّذي لا يكون قابلا لأحدهما لا يكون قابلا للآخر ، وحيث افترضنا استحالة الإطلاق في مقام الثبوت فلا بد أن يكون التقييد مستحيلا فيه أيضا ، فالترخيص على هذا في جميع صوره لا يمكن جعله في مقام الثبوت.

هذا إذا كانت نسبة المرخص إلى الجميع نسبة واحدة ، أما إذا اختلفت النسبة في الأطراف بأن كان بعضها موضعا لأمارة أو أصل دون الباقي ، أمكن جعلها والتعبد بها بالنسبة إلى ذلك الطرف ، ولا محذور في ذلك ، وسيأتي ان هذا القسم من جملة ما يحل به العلم الإجمالي.

هذا كله في مقام الثبوت ، أما في مقام الإثبات فهو متفرّع بالبداهة على مقام الثبوت ، فإذا افترض استحالة الجعل والتعبد بالمرخص فيه ، فإن الأدلة المعبرة عنه لا يمكن أن تكون شاملة لهذه الأقسام بداهة ، لأن التمسك بظهورها في شمول هذه الأقسام إنما يلجأ إليه عند الشك ، ومع العلم بعدم الشمول لا مجال لحجية مثل هذا الظهور.

وإذا كان ولا بد من التغاضي عن مقام الثبوت والتماس ما تقتضيه الأدلة بنفسها.

٥١٠

ج ـ في وقوع مثل ذلك الجعل وعدمه :

ثم مدى ما تدل عليه أدلة الترخيص ـ أمارة أو أصلا ـ فالظاهر ان الحال يختلف فيها باختلاف ما تفيده ألسنة جعلها ، واعتبارها من قبل الشارع.

الأمارة والعلم الإجمالي :

أما الأمارة فالظاهر ان أدلتها غير وافية بالشمول لجميع الأطراف لانتهائها إلى التكاذب ، لأن ما دل على وجود الحكم في كل من الأطراف يدل بالدلالة الالتزامية على نفيه في الآخر للعلم بوحدة الواقعة ، كما هو الفرض ، ومقتضى ذلك تكاذبهما.

فالخمرية المرددة بين إناءين إذا قامت البينة على وجودهما في الإناء الأول فقد دلت بالالتزام على عدم وجودها في الإناء الثاني وتكذيب من يدعي وجودها فيه ، وإذا قامت الثانية على وجودها في الإناء الثاني فقد دلت على عدم وجودها في الإناء الأول بالالتزام ، كما دلت على تكذيب من يدعي وجودها فيه ، ونتيجة ذلك هي التكاذب بينهما ، بالإضافة إلى عدم إمكان الأخذ بهما معا لانتهائهما إلى جمع النقيضين في الإناء الواحد ، أعني وجود الخمر وعدمه.

واعتبار الحجية في إحدى الأمارتين دون الأخرى ترجيح بلا مرجح ، واعتبارها لإحداهما غير المعينة لا تجدي ، لعدم الاستفادة منها في مجالنا الخاصّ ، وتقييد إحداهما بعدم ارتكاب الطرف الثاني مما ينتج التخيير ، غير معقول ، لعدم معقولية الإطلاق ، وهما من قبيل الملكة والعدم ، مع ان لازم ذلك هو جعل الحجية لهما معا عند عدم ارتكاب الطرفين ، كما قدمنا.

وأما الأصول ، فالحال فيها يختلف أيضا ، فإن كانت على وفق المعلوم بالإجمال فلا محذور لدى الأكثر في جريانها في تمام الأطراف ، وترتيب الآثار عليها ثبوتا ، والأدلة شاملة لها.

٥١١

وإن كانت على خلاف المعلوم بالإجمال وكان الحكم المعلوم إلزاميا ، فإن لزم من جريانها مخالفة عملية لم يكن الجريان للزوم الترخيص بالمعصية ، وهو ممتنع عقلا ، والأدلة لا بد من ان تتقيد في غير هذه الصورة في إطلاقاتها العامة ، فلا تكون شاملة لها ، كما لا تكون شاملة لأحدها المعين للزوم الترجيح بلا مرجح ، ولا غير المعين لعدم ترتب ثمرة عملية عليه ، والتخيير غير ممكن لما مر في الأمارة من امتناع التقييد لامتناع الإطلاق.

وأما إذا لم تلزم مخالفة عملية كما في صورة دوران الأمر بين محذورين ، فالظاهر لدى البعض أنه لا مانع من الجريان لعدم تحقق الترخيص في المعصية ، ما دام المكلف ملزما في واقعه بالصدور عن أحدهما والمخالفة الالتزامية التي تكون بسبب جريان الأصلين معا ، والإيمان بالإباحة الظاهرية استنادا إليها وهي مخالفة للمعلوم بالإجمال لا محذور فيها ولا دليل على حرمتها إذا لم تنته إلى عالم تكذيب المعصومين ، فالأدلة تكون شاملة لهذه الصورة.

هذا إذا كان المعلوم بالإجمال حكما إلزاميا ، وأما إذا لم يكن حكما إلزاميا. وكانت الأصول الجارية أصولا مثبتة لحكم إلزامي ، فالظاهر أنه لا محذور من جريانها لعدم لزوم الترخيص في المعصية وليس ما يمنع من أن يجعل الشارع الاحتياط مثلا في محتمل الإلزام ، كما هو الشأن في كل من الطرفين.

والمقياس الّذي ذكرناه في الجريان وعدمه جار في جميع الأصول ، إذا كانت نسبتها إلى الأطراف نسبة واحدة من حيث النفي والإثبات ، ومن حيث عدم وجود خصوصية تستوجب الجريان في أحد الأطراف دون بقيتها.

أما إذا اختلفت في النفي والإثبات ، فإن كان في أحد الأطراف خصوصية تستوجب اختصاصه بجريان الأصل ، فالظاهر أنه لا مانع من الجريان وحل العلم الإجمالي به كما يأتي الحديث في ذلك.

٥١٢

نعم ، ان هناك تفرقة بين الأصول الإحرازية وغيرها ، ذكرها شيخنا النائيني رحمه‌الله ، وفحواها ان الأصول الإحرازية لا تجري في أطراف العلم الإجمالي على كل حال ، إذا كانت قائمة على خلاف المعلوم بالإجمال حتى لو قلنا بجريان غيرها من الأصول سواء استلزم جريانها المخالفة القطعية أم لم يستلزم.

وكأن وجهة نظره ما استفاده من لسان جعل الأصول التنزيلية من اعتبار البناء العملي والأخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع.

وهذا النوع من البناء يستحيل اعتباره في مجموع الأطراف لانتهائه إلى التنزيل على خلاف الواقع مع العلم به.

والظاهر أن ما انتهى إليه متين جدا ، وليس المنشأ فيه هو إثبات لوازمه ليلزم التكاذب في نظره ليقال في رده : ان الأصل إنما يثبت مؤداه في مورده بلا نظر إلى النفي عن غيره ، وغاية ما يترتب على ضم بعض الأصول إلى البعض هو العلم بمخالفة بعضها للواقع ، ولا ضير فيه بناء على عدم وجوب الموافقة الالتزامية.

وإنما المنشأ لديه ـ فيما يبدو ـ هو امتناع جعل الشارع في مقام الثبوت حجية الأصول التنزيلية لجميع الأطراف مع انتهائها إلى طلب اعتبار غير الواقع واقعا ، مع حضور الواقع لدى المكلف بالوجدان.

فكما يستحيل على الشارع أن يقول للمكلف اعتبر غير الواقع واقعا في المعلوم تفصيلا ، كذلك يستحيل في حقه ذلك في كل ما ينتهي إليه.

فالمحذور إنما هو صدور الجعل المستوعب لجميع الأطراف منه وهو عالم بانتهائها إلى طلب اعتبار غير الواقع واقعا حتما لا في إباء الأدلة عن شمولها جميعا للتكاذب.

فالإشكال عليه بعدم إثبات لوازمها ـ أعني الأصول التنزيلية ـ لم يتضح لي وجهه ، والظاهر أن فيه خلطا بين مقامي الثبوت والإثبات ، فالشيخ النائيني رحمه‌الله

٥١٣

ناظر إلى مقام الثبوت ، والإيراد ناظر إلى مقام الإثبات.

والخلاصة التي انتهينا إليها :

ان الأمارات لا تجري في أطراف العلم الإجمالي لتكاذبها ، والأصول الإحرازية لا تجري للمانع الثبوتي ، وبقية الأصول لا تجري إذا لزمت منها المخالفة العملية لتكليف إلزامي معلوم ، وتجري إذا كانت موافقة للمعلوم بالإجمال ، أو لم يلزم فيها إلا المخالفة الالتزامية.

ومن هذا يتضح وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية للحكم الإلزاميّ المعلوم بالإجمال على المبنيين معا.

أما على القول بأن العلم الإجمالي علة تامة في تنجيز متعلقه ، فلأن مقتضى عليته وجوب موافقته وحرمة مخالفته ، إذ ليس وراء وصول الحكم لدى العقل إلا لزوم الإطاعة وعدم العصيان.

وأما على المبنى الثاني ـ أعني دعوى وجود اقتضاء التنجيز فيه ـ فلأن العقل لا يسوغ الخروج على هذا المقتضي إلا بوجود مؤمّن وهو مفقود هنا ، ومع عدمه فالعقل يلزم بالإتيان به ولا يسوغ مخالفته ، فوجوب الموافقة وحرمة المخالفة حكمان عقليان يجريان في رتبة واحدة ، وهما من آثار منجزية العلم الإجمالي ، فما ذهب إليه بعض المشايخ العظام من ترتب وجوب الموافقة على حرمة المخالفة لا ملزم به.

حل العلم الإجمالي :

ومما ذكرناه تبين ان المقياس في تأثير العلم الإجمالي هو احتمال انطباق التكليف المعلوم على كل واحد من الأطراف ، على نحو لو انطبق عليه لكان مولدا للتكليف فيه.

ولذا لو قدر انطباق المعلوم على بعض الأطراف التي لا يتولد فيها تكليف ،

٥١٤

انحل العلم الإجمالي وفقد تأثيره ، ولم ينجز مدلوله على من قام لديه.

والسر في ذلك هو : ان العلم الإجمالي لا يزيد في منجزيته على العلم التفصيليّ ، فلو قدر توجه شك إلى ذلك العلم التفصيليّ على نحو يسري إليه لفقد ذلك العلم تنجيزه لمتعلقه وإيصاله إلى المكلف بداهة.

وعليه فمع عدم وصول التكليف بالعلم أو العلمي هنا لا مانع من جريان الأصول في بقية الأطراف ، إذ العلم بالتكليف على هذا التقدير غير واصل لاحتمال انطباقه على ذلك الطرف الّذي لو قدّر له الانطباق عليه لما ولد تكليفا فيه.

ونظرا لهذا ، فقد اعتبر العلماء الأمور التالية من موجبات حل العلم الإجمالي وهي :

١ ـ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء كما لو فرض العلم بتوجه تكليف إلزامي باستعمال دواء ما ـ مثلا ـ مردد بين دواء متداول في السوق وآخر موجود في دولة أخرى لا يمكن وصول المكلف إليه ، فمثل هذا المعلوم لو انطبق على ذلك الخارج عن محل الابتلاء لما ولد تكليفا باستعماله لعبثية مثل هذا التكليف بعد فرض تعذر وصول المكلف إليه ، والدواء الآخر غير معلوم الانطباق عليه ، واذن فلا علم بتكليف ملزم للمكلف على كل حال ، وحيث لا علم ، فان جريان الأصول في الشبهات التي لا تكون طرفا له لا محذور فيها ولا معارض لها.

٢ ـ الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف أو الإكراه عليه أو خروجه عن القدرة ، وبما ان هذه الأمور رافعة للتكليف لو كان موجودا ، فانطباق المعلوم على ذلك الطرف لا يولد تكليفا على وفقه فيذهب العلم بتوجه التكليف به ، ويتحول إلى شك بالنسبة للطرف الآخر بالضرورة ، وعندها تجري الأصول بلا معارض أو محذور.

٣ ـ ان لا يكون بعضها محكوما قبل مجيء العلم الإجمالي ، أو عند مجيئه بحكم

٥١٥

على وفقه ، إذ لا يولد تكليفا في ذلك الطرف لو قدر له الانطباق عليه فيفقد تنجيزه ، وهكذا.

هذا كله في طروّ هذه الأمور عند مجيء العلم الإجمالي أو قبله ، أما لو طرأت بعد تنجز العلم الإجمالي ووصول التكليف به ، كأن يكون قد طرأ على أحدها ما يخرجه عن محل الابتلاء أو تولد اضطرار للمكلف إليه ، فمثل ذلك لا يوجب انحلال العلم الإجمالي لعدم المؤمّن في ارتكاب الأطراف الأخرى ، أما على مبنى علّية التنجيز فواضح ، إذ لا مجرى للأصل في تلكم الأطراف بعد تنجز التكاليف بالعلم ، وأما على المبنى الآخر فلسقوط الأصول بالتعارض ، ومع سقوطها فلا مؤمّن للمكلف في جواز الارتكاب.

بينما لا يتأتى هذا المعنى قبل تنجز العلم ، لأن وجود أحدها مانع من تنجز التكليف ابتداء ، فلا مسقط لجريان الأصول في الأطراف المشكوكة.

وعلى هذا المقياس من حل العلم الإجمالي ركز بعض الأعلام تحديده للشبهات غير المحصورة ، ولأهمية البحث فيها نتحدث عنها بشيء من الكلام.

الشبهة محصورة وغير محصورة :

وقد اختلفوا في تحديد كل منهما ، ومن استعراض أقوالهم في الشبهة غير المحصورة يتضح تحديد المحصورة أيضا بحكم المقابلة.

الشبهة غير المحصورة وحكمها :

وأهم ما ذكروا لها من تحديدات ثلاثة ، وربما رجعت بقية التحديدات إليها :

١ ـ ان تكثر أطرافها كثرة يعسر معها العد ، ومثل له في العروة الوثقى بنسبة الواحد إلى الألف (١) ، وربما رجع إلى هذا المعنى ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سرّه

__________________

(١) العروة الوثقى : ١ ـ ٤١ (فصل : الماء المشكوك نجاسته المسألة ٢).

٥١٦

من ضعف انطباق الاحتمال على كل واحد منها لكثرة الأطراف (١).

٢ ـ ما اختاره المحقق النائيني رحمه‌الله : «من ان الميزان في كون الشبهة غير محصورة ، عدم تمكن المكلف عادة من المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف ، ولو فرض قدرته على ارتكاب كل واحد منها» (٢).

ومن هنا تختص الشبهة غير المحصورة لديه بخصوص الشبهات التحريمية أما الوجوبية منها فإن الأطراف ، وإن بلغت كثرتها ما بلغت ، فإن المكلف يتمكن من مخالفتها بتركها جميعا.

٣ ـ أن يكون بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء ، أو تكون الأطراف مما يعسر مخالفتها جميعا ، أو يكون المكلف مضطرا إلى بعضها ، إلى غير ذلك مما يوجب انحلال العلم الإجمالي.

وقد تبنّى صاحب الكفاية رحمه‌الله (٣) هذا الرّأي وجلاه وأكد عليه بعض أساتذتنا الأعلام.

وهذا الرّأي ، وإن انطوى على إنكار الشبهة غير المحصورة لشموله حتى للشبهة ذات الطرفين ، إذا كان واحدا منهما خارجا عن محل الابتلاء أو كان مضطرا إلى ارتكابه ، إلا ان التعبير بالشبهة غير المحصورة ليس من التعبيرات الشرعية الواردة على لسان المعصوم حتى يتقيد بمدلوله.

والظاهر أن غرض أساتذتنا الذين تبنّوا هذا الرّأي بيان أن العلم الإجمالي إذا كان متوفرا على عوامل تنجزه فإنه يؤثر اثره ، سواء كانت الأطراف قليلة أم كثيرة ، وان لم يتوفر عليها فهو منحل قلّت أطرافه أو كثرت ، والمقياس هو التنجيز وعدمه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ٤٣٤.

(٢) الدراسات : ص ٢٤٢.

(٣) كفاية الأصول : ص ٤٠٨ ط. جامعة المدرسين ـ قم.

٥١٧

وإلا فإن ضعف الاحتمال ـ وهو الّذي تبناه التحديد الأول ـ لكثرة أطرافه لا يصلح لرفع اليد عن العلم الإجمالي المنجز ، ما دمنا نحتاج إلى المؤمّن في ارتكاب أي طرف وان كان موهوما ، وكون العقلاء لا يعتنون بالاحتمالات الضعيفة لا نعرف له مأخذا ، على انه محتاج إلى إقرار من الشارع لو كان مثل هذا البناء موجودا لما قدمناه من أن البناء وحده لا يصلح للدليليّة.

والمؤمّن هنا غير متوفر لما سبق بيانه من عدم جريان الأصول في أطراف العلم أو جريانها وتساقطها.

ومبنى شيخنا النائيني رحمه‌الله هو الآخر غير واضح لابتنائه على ان يكون وجوب الموافقة القطعية وليد حرمة المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لعدم تمكن المكلف منها لم تجب الموافقة القطعية لعدم ما يوجبها ويلزم بها ، وقد سبق ان قلنا ان العلم الإجمالي بالنسبة إليهما لا يختلف حاله ، فكما يمنع من المخالفة القطعية فانه يوجب الموافقة القطعية وكلاهما بالنسبة إليه في رتبة واحدة ، كما تقتضيه علّية تنجيزه أو اقتضاؤه مع فقد المؤمّن بالنسبة إلى جميع الأطراف.

على ان ارتكاب بعض الأطراف لو كان ممكنا لاحتاج إلى مرخّص من أصل أو غيره ، وإجراء الأصول أو غيرها بالنسبة إلى بعض الأطراف دون بعض ترجيح بلا مرجح ، فالقول بعدم وجوب الموافقة القطعية فيه لا يعرف له وجه.

وعلى هذا فتقسيم الشبهة إلى محصورة وغير محصورة لا أساس له ما دام المقياس في تنجيز العلم الإجمالي متوفرا فيهما معا ، ومع عدم توفره فالعلم الإجمالي منحل كثرت أطرافه أو قلت ، وتسميته بالعلم إذ ذاك لا تخلو من تجوز ومسامحة.

ولقد أثيرت حول توفر هذا المقياس من التنجيز وعدمه أحاديث في قسم من مسائل العلم الإجمالي ، لعل أهم ما يتصل منها بأحاديثنا المقبلة مسألة :

٥١٨

دوران الأمر بين التعيين والتخيير :

وذلك فيما إذا علم إجمالا بتوجه تكليف وشك في كونه معينا أو مخيرا بينه وبين غيره.

وصور هذه المسألة ثلاثة :

أولاها : ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في أصل الشريعة ومرحلة الجعل في الأحكام الواقعية ، كأن يفرض صدور تشريع من الشارع ويجهل أمره في أنه كان معينا على المكلف أو كان مخيرا بينه وبين غيره.

ثانيتها : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع في الأحكام الظاهرية ، أي دوران الأمر في ان تكون الحجة المجعولة معينة أو مرددة ، كالشك في ان حجية جواز الرجوع إلى المجتهد هل هي مختصة بخصوص الأعلم من المجتهدين ، أو هي عامة له ولغيره على نحو يكون المكلف مخيرا بين الرجوع إليه وإلى غيره من المجتهدين ممن يفضلهم في الخبرة بأصول الاستنباط؟

ثالثتها : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مجالات الامتثال كما في صور باب التزاحم المأموري ، وهو ما لو كان كل من المتزاحمين مصداقا لتكليف فعلي ، واحتمل وجود الأهمية في أحدهما.

وقد وقع الخلاف بين الأعلام في بعض هذه الصور ، وذكرت لها تشقيقات كثيرة ربما يعود تحقيق أكثرها إلى صميم البحوث الفقهية ، ومجالات الاستفادة من الأدلة في مواقعها المخصوصة ، والّذي يرتبط ببحوثنا هذه هو خصوص القسم الثاني ، أعني ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في جعل الحجية لبعض الأحكام الظاهرية.

والظاهر هو الاتفاق على ان المرجع فيه هو الاحتياط ، أي الأخذ بمحتمل التعيين ، وذلك لما مرّ تأكيده أكثر من مرة من أن الشك في الحجية كاف للقطع

٥١٩

بعدمها.

ولما كان محتمل التعيين مقطوع الحجية ـ اما لأنه هو الحجة المعينة وحدها ، أو لأنه طرف في التخيير ، والطرف الآخر مشكوك الحجية لاحتمال ان تكون الحجة هي خصوص المعين ، أعني تقليد الأعلم في المثال ـ فانه يتعين الأخذ بمقطوعها ، وترتيب الآثار عليه ، وترك ما كان مشكوك الحجية لعدم قاطعية العذر فيه ، وعدم إحراز كونه مبرئا للذمة ، وشغل الذّمّة اليقيني يستدعي فراغا يقينيا ، كما مر الحديث فيه.

٣ ـ الخروج من عهدة التكليف المعلوم :

وهذا أظهر موارد الاحتياط ، فمن علم تفصيلا بتوجه تكليف إليه ، وشك في تحقق الامتثال بما أتى به ، وليس لديه محرز لتماميته من أمارة أو أصل ، فالعقل يحكم بضرورة الإتيان به من باب الاحتياط لقاعدة الشغل ، وإلا فلا معذورية له لو أقدم على مخالفة الاحتياط وأخطأ الواقع وكان مستحقا للعقاب بنظر العقل.

الاحتياط العقلي وظيفة عقلية :

وبهذا يتضح ان الاحتياط هنا لا يتجاوز عن كونه وظيفة جعلت من قبل العقل تحرزا من مخالفة أحكام المولى المنجزة ، وليس فيه حكاية عن واقع شرعي ، ولا وظيفة مجعولة من قبله لتكون حكما أو وظيفة شرعية ، إذ المصدر فيها «قاعدة الشغل» أو «قاعدة دفع الضرر» وهما قاعدتان ناظرتان إلى عوالم استحقاق العقاب وانهما لا يستتبعان حكما شرعيا ولا يكشفان عنه ، لما قلناه غير مرة من أن شئون الثواب والعقاب لا يمكن ان يتعلق بها حكم شرعي للزوم التسلسل ، فهي إذن وظيفة عقلية لا غير.

٥٢٠