الأصول العامّة للفقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

الأصول العامّة للفقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

محرمة ، وهكذا إلى غير نهاية.

ج ـ على ان أدلة البراءة ـ بعد تماميتها ـ تكون واردة عليها ومزيلة لموضوعها وجدانا.

إذ مع كون هذه الأدلة مؤمنة من العقاب في جميع مواقع اقتحام الشبهات بما فيها التحريمية ، لا يكون اقتحام التحريمية منها تهلكة فهو خارج وجدانا بواسطة التعبد الشرعي.

هذا كله لو أريد من التهلكة العقاب الأخروي ، أما إذا أريد بها التهلكة الدنيوية فالوجدان قاض بان اقتحام الشبه ليس فيه احتمال التهلكة دائما فضلا عن القطع بوجودها ، ولعل ارتكاب أكثر المحرمات المعلومة لا يوجب تهلكة دنيوية وان أوجب ضررا فضلا عن اقتحام شبهها.

أدلتهم من السنة :

وما يصلح للاستدلال به من السنة طائفتان انتظمت عشرات من الروايات ، نذكر لكل طائفة نموذجا منها ونناقشها.

الطائفة الأولى : وهي ما أخذ فيها لفظ الشبهة والوقوف عندها ، أمثال مقبولة ابن حنظلة ، وقد جاء فيها : «إنما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيه فيجتنب ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» (١).

والرواية الأخرى القائلة : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ ـ ١٥٧ ، أبواب صفات القاضي ، باب وجوب التوقف والاحتياط في القضاء والفتوى ، ح ٩.

(٢) المصدر السابق ، وفيه : «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

٤٨١

الطائفة الثانية : ما ورد فيها لفظة الأمر بالاحتياط أمثال :

قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك» (١).

وقوله عليه‌السلام : «خذ بالحائطة لدينك» (٢).

وهذه الروايات (٣) بلغت من الكثرة حدا قربها من التواتر المعنوي ، فلا جدوى في استعراضها ومناقشة أسانيدها وبيان الضعيف منها من غيره.

ويرد على الطائفة الأولى :

١ ـ ان كلمة الشبهة التي أخذت فيها جميعا ظاهرة في الشبهة المتحكمة ، أي التي لم يعرف حكمها الواقعي أو الظاهري ، ولم يجعل لها الشارع مؤمّنات من قبله ، إذ مع قيام حكمها الظاهري أو جعل المؤمّن فيها لا معنى لاعتبارها شبهة ، وتكون من الأمر البيّن الرشد.

وبما ان أدلة البراءة لسانها لسان المؤمّن ، فهي حاكمة عليها ومزيلة لموضوعها تعبدا.

ولذا لم نجد أحدا من الفقهاء منهم توقف في موارد الشبهات الموضوعية أو الحكمية ـ إذا كانت وجوبية ـ اعتمادا على هذه الروايات مع ان لسانها آب عن التخصيص ، مما يدل على تحكيمهم لأدلة البراءة على هذه الأدلة.

٢ ـ ان لسان الأمر بالتوقف وما انطوت عليه من تعليل في بعضها يدلنا على كونها أوامر إرشادية لاتصالها بشئون التحذير من الوقوع في العقاب ، وشئون العقاب والثواب لا تتقبل أوامر مولوية للزوم التسلسل فيها كما سبقت الإشارة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ ـ ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي ، باب وجوب التوقف والاحتياط في القضاء والفتوى ، ح ٤٦.

(٢) المصدر السابق ، ح ٤٢ وفيه : «وتأخذ بالحائطة لدينك».

(٣) لاستقصاء هذه الروايات يحسن الرجوع إلى رسائل الشيخ الأنصاري ، وفوائد الأصول للشيخ محمد علي الخراسانيّ ، وغيرهما من الموسوعات (مبحث الاحتياط). (المؤلف).

٤٨٢

إليه ، فالروايات ـ حتى مع الغض عن المناقشة الأولى ـ غير وافية الدلالة.

ويرد على الطائفة الثانية :

أ ـ انها أمرت بالاحتياط للدين ، وهو لا يكون إلا بعد إحراز موضوعه ، فمع الشك في كون الشيء دينا أو ليس بدين لا تتكفل هذه الروايات إثبات كونه منه ، لما قلناه مرارا من ان القضية لا تثبت موضوعها.

والمفروض في مواقع الشبهات هو الشك في أن متعلقاتها من الدين أو لا ، فلا تكون متناولة لها. نعم إذا أحرز كون الشيء من الدين وجب الاحتياط فيه.

وقد يقال : ان إحراز كونه دينا يدعو إلى الإتيان به أو اجتنابه ، بما أنه مأمور به أو منهي عنه بالعنوان الأولي ، ولا تصل النوبة فيه إلى الاحتياط إذ لا تعدد في المحتملات ولا تصور لاحتمال الخلاف ليصدق معنى الاحتياط ، فأي معنى لهذه الروايات الآمرة بالاحتياط للدين إذن؟!

والجواب : ان الإحراز يختلف أمره ، فقد يكون بالعلم الإجمالي المنجز وقد يكون بغيره من العلم التفصيليّ أو العلمي ، وإذا لم يكن في الثاني ـ أعني العلم التفصيليّ وما بحكمه ـ تعدد احتمالات ففي العلم الإجمالي موجود ، والروايات اذن تكون منصبة عليه.

٢ ـ هذا ، إذا لم نقل ان هذه الروايات إرشادية إلى حكم العقل ، لأن الاحتياط حسن على كل حال.

مناقشتها ككل :

والّذي يرد على استدلال الأخباريين بهذه الأدلة على لزوم الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية ـ بعد الغض عن عدم تماميتها في نفسها للمفارقات السابقة التي سجلت عليها ـ انها جميعا لا تثبت ما سيقت لإثباته بحال من الأحوال ، وذلك :

٤٨٣

١ ـ لأن هذه الأدلة بمضمونها أعم من مفاد أدلة البراءة ، لكونها شاملة للشبهات البدوية ، والشبهات في أطراف العلم الإجمالي ، والشبهات بعد الفحص ، بينما لا تشمل أدلة البراءة الشبهات قبل الفحص لتقيد أدلتها به ـ كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مبحث الاستصحاب ـ كما لا تشمل الشبهات في أطراف العلم الإجمالي لما يأتي من قصورها عن ذلك.

فهي مختصة إذن بالشبهات بعد الفحص ، ومقتضاه تقديمها على أدلة الاحتياط بالتخصيص بما انطوت عليه من إطلاق وشمول للشبهات التحريمية بعد الفحص.

على أن في أدلة البراءة ما هو صريح الدلالة على الشبهات التحريمية بالخصوص ، كرواية : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١) وهي أخص من أدلة الاحتياط فتقدم عليها.

على أن الّذي يستفيده الغزالي (٢) من جريان استصحاب براءة الذّمّة الثابتة قبل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوجب إخراج أكثر الشبهات موضوعا من هذه الأدلة ، لأن أكثر الشبهات إنما تنشأ من الشك في توجه تكاليف من الشارع بها ، فإذا كان عندنا استصحاب يثبت عدم التكليف بها ، فلا شبهة فيها أصلا.

ولكن الإشكال في جريان مثل هذا الاستصحاب ، وقد مرت الإشارة إلى مناقشته في البحوث السابقة.

وربما استدل لهم على وجوب الاحتياط فيها بالقاعدة المعروفة :

الأصل في الأشياء الحظر :

على أن يتغاضى عما قربت به من أن المراد منها أن الأشياء محكومة بالحظر قبل

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٦ ـ ٢٨٩ ، أبواب القنوت ، باب جواز القنوت بغير العربية مع الضرورة ، ح ٣.

(٢) المستصفى : ١ ـ ١٢٧.

٤٨٤

ورود الشريعة بها ، وهو الّذي ذهب إليه البعض (١) ، وتقرّب بما هو معلوم بالضرورة من أن المكلفين عبيد لله عزوجل وأفعالهم جميعا مملوكة له ، ولا يسوغ التصرف في ملك الغير إلا بإذنه ، فما لم يحرز المكلف الإذن بالتصرف في شيء من أفعاله أو مخلوقاته لا يسوغ الإقدام عليه لعدم المؤمّن.

والجواب : على هذا التقريب : ان هذه القاعدة لو تم الاستدلال بها على الاحتياط الشرعي بهذا التقريب ، فهي محكومة لما دل على ورود الاذن الشرعي في إباحة التصرفات ، أمثال قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(٢).

وليس وراء اللام من (لكم) ما يدل عليه ، بالإضافة إلى حكومة أدلة البراءة السابقة ، ولا أقل من معارضتها برواية : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» وإسقاطها لذلك.

خلاصة البحث :

والخلاصة ، ان هذه الأدلة غير تامة في نفسها أولا ، وهي غير مجدية لو أمكن إتمامها في إثبات دعوى الأخباريين في الرجوع إلى الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية دون غيرها ثانيا ، اللهم إلا إذا تمت قاعدة الحظر.

وغاية ما تثبته بعد الجمع بينها وبين أدلة البراءة ، هو اختصاصها في خصوص الشبهات قبل الفحص والشبهات في أطراف العلم الإجمالي. وهي بذلك منسجمة مع الدليل العقلي من ضرورة الاحتياط فيهما ، وربما كانت إرشادا له.

وسيأتي في مبحث الاحتياط العقلي ما يشير إليه.

__________________

(١) المستصفى : ١ ـ ٤٠.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٩.

٤٨٥

الاحتياط الشرعي وظيفة :

وبهذا يتضح أن الاحتياط الشرعي ـ لو تمت أدلته ـ فهو لا يعدو كونه وظيفة مجعولة من قبل الشارع عند الشك في الحكم الواقعي ، لبداهة أن الاحتياط لا يؤخذ به بما انه حاك عن واقع أو مثبت له ، لافتراض الجهالة بوجود مثل هذا الواقع ، وإنما جعل للمحافظة عليه لو كان ، فهو لا يزيد على كونه وظيفة فجعل الاحتياط لا يكشف عن مصلحة في المجعول ليكون من الأحكام.

٤٨٦

الباب الثالث

القسم الثالث

التخيير الشرعي

* تحديده

* التخيير الشرعي وظيفة

* التخيير والواجب المخير

* التخيير ومقتضى الأصل

* أدلة التخيير ومناقشتها

* خلاصة البحث

٤٨٧
٤٨٨

تحديده :

ويراد به جعل الشارع وظيفة اختيار إحدى الأمارتين للمكلف عند تعارضهما وعدم إمكان الجمع بينهما ، أو ترجيح إحداهما على الأخرى بإحدى المرجحات التي عرضناها سابقا.

التخيير الشرعي وظيفة :

وكون التخيير الّذي نتحدث عنه وظيفة شرعية لا حكما شرعيا ، يتضح أمره إذا علمنا ان جعل التخيير ، عند تعارض الأمارتين ، لا يكشف عن وجود مصلحة في متعلق الجعل ليكون من سنخ الأحكام ، وإنما جعل لرفع الحيرة فقط ، واختيار المكلف لإحداهما لا يسري إلى الواقع فيغيره عما هو عليه.

التخيير والواجب المخير :

وهذا التخيير غير الواجب المخير الّذي سبق التحدث عنه في بحوث التمهيد ، لأن ذلك من الأحكام لبداهة ان كلا من فردي التخيير هناك ـ وهو الّذي وجه إليه التكليف على سبيل البدل ـ فيه مصلحة توجب جعل الحكم على وفقها بخلافه هنا ، فإن كلا من فردي التخيير لا يعلم وجود المصلحة فيه ، وإنما المصلحة في متعلق إحدى الأمارتين فحسب ، لافتراض التناقض بينهما ، وصدور واحدة منهما دون الأخرى ، والمصلحة إنما هي في نفس الجعل لا في المتعلق ، وهي لا تتجاوز مصلحة التيسير.

٤٨٩

التخيير ومقتضى الأصل :

وجعل التخيير هنا على خلاف مقتضى الأصل ، لاقتضائه التساقط في المتعارضين. لأن دليل الحجية بالنسبة للخبرين المتعارضين لا يخرج عن أحد ثلاثة فروض :

١ ـ ان يفترض شموله لهما معا ، وهذا مستحيل بالبداهة ، لاستحالة ان يتعبدنا الشارع بالمتناقضين.

٢ ـ ان يفترض شموله لأحدهما دون الآخر ، وتعيينه بالذات ترجيح لأحد المتساويين على الآخر من دون مرجح.

٣ ـ ان يقال بعدم شموله لهما معا ، وهذا هو الّذي يتعين الأخذ به.

وادعاء أن أحدهما حجة واقعا لحكايته عن الواقع لا يخلو من مغالطة ، لأن المدار في الحجية على العلم بها ، لأن العلم مقوم للحجية ، كما سبق بيانه ، لا على وجودها الواقعي.

ومع فرض جهالتنا به من بينهما لا يكون حجة علينا حتما ، وقد تخيل بعض الأصوليين : «ان مقتضى الأصل عند التعارض هو التخيير ، لأن كلا من المتعارضين محتمل الإصابة للواقع ، وليس المانع من شمول دليل الاعتبار لكل منهما إلا لزوم التعبد بالمتناقضين.

وهذا المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق دليل الاعتبار بالنسبة إلى كل منهما بتقييده بترك الأخذ بالآخر» (١).

وأجيب على هذا بأن الأخذ بكل منهما عند ترك الآخر لا يرفع محذور التعبد بالمتناقضين ، لأن لازم جعل الحجية لكل منهما عند ترك الآخر هو جعل الحجية لهما عند ترك الأخذ بهما معا لصدق القيدين ، ومقتضاه هو التعبد بهما بما ينطويان

__________________

(١) مصباح الأصول : ص ٣٦٦.

٤٩٠

عليه من التناقض.

وهناك توجيه آخر للتخيير فحواه دعوى إمكان تقييد الحجية في كل منهما بالأخذ به ، ونتيجة ذلك هو التخيير لتمكنه من الأخذ بأيهما شاء.

ولكن لازم هذا التوجيه ان لا يكون كل منهما حجة عند عدم الأخذ بهما ، وهو ما لا يلتزم به الموجه حتما.

على ان علمنا بكذب إحدى الأمارتين بحكم ان الواقع الواحد لا يتحمل صدق حكايتين متناقضتين يحول التخيير إلى تخيير بين حجة ولا حجة ، لو صح صدق التعبير بالحجة في هذا المجال.

أدلة التخيير ومناقشتها :

ولكن القائل بالتخيير استند إلى روايات عدة جلها أجنبي عن مقام التعارض المصطلح ، على ان قسما منها مناقش فيه سندا ، نذكر نماذج منها :

١ ـ ما رواه أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ، عن الحسن بن الجهم ، «عن الرضا عليه‌السلام قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيهما الحق. قال عليه‌السلام : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» (١).

ودلالة هذه الرواية وافية جدا إلا أنها مرمية بالضعف لإرسالها.

٢ ـ ومثلها مرسلة الكافي «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» (٢) استدلالا وجوابا.

٣ ـ ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد ، عن العباس بن معروف ، عن علي بن مهزيار قال : «قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى

__________________

(١) التحفة السنية : ص ١٤ ، وراجع : مصباح الأصول : ص ٤٢٣.

(٢) الكافي : ١ ـ ٦٦ ، باب اختلاف الحديث ، ح ٧.

٤٩١

بعضهم : صلهما في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلهما إلا على الأرض ، فوقّع عليه‌السلام : موسع عليك بأية عملت» (١).

وهذه الرواية لا دلالة لها على أكثر من التخيير في افراد الكلي ، لأن كلا من الصلاتين صحيحة ومحققة للغرض ، والتخيير بين أفراد الكلي سواء كان عقليا أم شرعيا لا محذور فيه ، والمطلقات كلها من هذا القبيل.

وإن شئت أن تقول ان هذه الأنواع من الروايات ليست متعارضة في واقعها ، وإن تخيلها الراوي كذلك ، والإمام لم يصنع أكثر من تنبيهه على إمكان الجمع بينها بمفاد (أو) ، والكلام إنما هو في الروايات المتعارضة.

٤ ـ ما رواه الكليني بسنده عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بالأخذ والآخر ينهاه ، كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» (٢).

وهذه الواقعة المسئول عنها من قبيل دوران الأمر بين المحذورين (يأمر وينهى) والمكلف بواقعه لا بد ان يصدر عن أحدهما ، فالتخيير بينهما تخيير تكويني ، والتعبير بالسعة مساوق للتعبير بإسقاطهما ، والصدور عن أحدهما بحكم ما يقتضيه واقعه التكويني ، وربما سمي هذا النوع من التخيير بالتخيير العقلي ، فتكون الرواية إرشادا له ، وسيأتي الحديث عنها.

خلاصة البحث :

والخلاصة ان أدلة التخيير ـ وهي لا تخرج عن الطوائف التي عرضنا نماذج منها ـ بين صحيح لا يدل بمضمونه ، ودال لا يصح سندا ، فهي لا تنهض بإثبات ما

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ ـ ٢٢٨ ، ح ٩٢. مصباح الأصول : ص ٤٢٤.

(٢) الكافي : ١ ـ ٦٦ ، ح ٧. وراجع : مصباح الأصول : ٢٢٤ ، ويحسن الرجوع إليه للتوسع في هذا البحث.

٤٩٢

سيقت له.

على أن الحق يقتضينا ان نسجل ان القائلين بالتخيير لم نعرف لأحد منهم فتوى فقهية مستندها ذلك ، وربما وجدت في الموسوعات وضيعها علينا نقص الفحص.

ثم ان هذه الأدلة ـ لو تمت دلالتها ـ فهي لا تتعرض إلى أكثر من التعارض بين الأخبار ، ولا صلاحية فيها لاستيعاب أبواب التعارض كلها ، فالدليل إذن أضيق من المدعى.

ولذا لم نعرف من عمم أدلة التخيير إلى جميع الأبواب ، فالقاعدة تبقى محكمة ، ومقتضاها التساقط إلا في الأخبار ، بناء على تمامية هذه الأدلة.

٤٩٣
٤٩٤

الباب الرابع

القسم الأول

البراءة العقليّة

* تحديدها

* دليلها

* قبح العقاب بلا بيان

* مناقشة القاعدة

* وجوب دفع الضرر المحتمل ومعارضتها لها

* التوارد بين القاعدتين

* الرّأي الأخير

* البراءة العقلية وظيفة عقلية لا حكم

٤٩٥
٤٩٦

تحديدها :

ويراد بها الوظيفة المؤمّنة من قبل العقل عند عجز المكلف عن بلوغ حكم الشارع أو وظيفته.

دليلها :

وقد استدل لها بالقاعدة العقلية المعروفة بقاعدة :

«قبح العقاب بلا بيان واصل من الشارع».

بدعوى أن العقل يدرك قبح عقاب الشارع لعبيده إذا لم يؤذنهم بتكاليفه وخالفوها ، أو آذنهم بها ولم تصل إليهم مع فحصهم عنها واختفائها عنهم مهما كانت أسباب الاختفاء ويأسهم عن بلوغها.

وهذه القاعدة مما تطابق عليها العقلاء على اختلاف مللهم ومذاهبهم وتباين أذواقهم ومستوياتهم وتشعب أزمانهم وبيئاتهم.

وقد عبر عنها بعض المشرعين المحدثين بقوله : «لا عقاب بغير قانون». وبالطبع ان مراده بالقانون هو خصوص القانون المبلغ بوسائل التبليغ المتعارفة ، وإلا فإن التشريع وحده لا يكفي في إيقاع المواطنين تحت طائلة العقاب.

وربما كان غرض القائلين بأن «الأصل براءة الذّمّة» هو الإشارة إلى هذه القاعدة العقلية.

مناقشة القاعدة :

وقد نوقشت هذه القاعدة بألسنة قسم من الفقهاء ، بكونها غير تامة لمعارضتها

٤٩٧

بقاعدة عقلية أخرى ، تفرض الإلزام بالمحتمل والقاعدة هي «وجوب دفع الضرر المحتمل» :

وجوب دفع الضرر المحتمل ومعارضتها لها :

وهي كسابقتها مما تطابق عليها العقلاء بتقريب ان العقل متى احتمل الضرر في شيء مّا ألزم بتجنبه ، واستحق صاحبه اللائمة لو أقدم عليه وصادف وقوعه فيه.

وموقع التعارض بينهما ان القاعدة الأولى مع احتمال التكليف وعدم تنجّزه بالوصول تنفي العقاب من الشارع وتمنعه ، والأخرى لا تمنعه بل تصحح صدوره منه وتلقي التبعة على المكلف ان قصر في امتثاله ، فالأولى مؤمّنة من الضرر ، والثانية غير مؤمنة وموضوعهما واحد.

وأشكل على هذه المناقشة ان التعارض في الأحكام العقلية مستحيل ، لأن العقل لا يتناقض على نفسه بإصدار حكمين متناقضين على موضوع واحد ، فلا بدّ من التماس محاولاتهم لرفع هذا التناقض.

التوارد بين القاعدتين :

وقد ذهب بعضهم إلى أنهما ـ أعني القاعدتين ـ مختلفتان في الرتبة ، وقيام إحداهما يكون مزيلا لموضوع الأخرى ، وبهذا جعلوا «قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل» واردة على «قاعدة قبح العقاب بلا بيان» لادعائهم ان هذه القاعدة تصلح ان تكون بيانا يمكن للشارع ان يعتمد عليه ، ومع فرض كونها بيانا من قبله ، فقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» لا يبقى لها موضوع.

والجواب على هذه الدعوى :

١ ـ ان الالتزام لها مساوق لإنكار قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» إذ لا يبقى لها موضوع دائما ، لأن العقل إنما اعتبرها عند الشك في التكليف ، ومع الشك فيه فإن احتمال الضرر قائم حتما ، ومع قيامه تقوم القاعدة المرتكزة عليه فيزول موضوع

٤٩٨

تلك القاعدة ، وقد افترضنا في القاعدة انها مما تطابق عليها العقلاء ، فهل تطابق العقلاء على قاعدة من دون موضوع؟!

٢ ـ إمكان عكس الدعوى عليهم ، والنقض بورود القاعدة الأولى على الثانية.

بتقريب : ان قاعدة «قبح العقاب بلا بيان واصل» بنفسها مؤمّنة ورافعة لاحتمال الضرر ، فمع قيامها لا احتمال للضرر ليلجأ إلى القاعدة الثانية ، وبهذا يتضح ان قيام القاعدة الأولى يكون رافعا لموضوع القاعدة الأخرى وواردا عليها. فالقاعدتان اذن متواردتان ، والإشكال يبقى قائما ينتظر.

الرّأي الأخير :

والرّأي الّذي نراه أقرب إلى حل المشكلة هو الرّأي الّذي تبناه بعض مشايخنا العظام على غموض نسبي في أداء بعض مقرري بحثه.

والظاهر انه يريد هذا المضمون في دفع الإشكال ـ فإن لم يكنه فهو قريب منه في أكثر خطوطه ـ وهو اعتبار القاعدتين منفصلتين عن بعضهما موردا ، ولكل منهما مجال.

وفي هذه الحدود لا التقاء بينهما ليلزم التعارض ، وبشيء من التحديد للمراد من كلمة الضرر يتضح هذا المعنى.

يطلق الضرر ويراد به النقص الّذي يدخل على الإنسان بسبب عمل أو ترك شيء مّا سواء كان روحيا أم ماديا ، وهو على قسمين : دنيوي وأخروي ، ولكل من هذين القسمين حساب بالنسبة إلى موضع بحثنا.

١ ـ احتمال الضرر الدنيوي.

وهذا الاحتمال إذا كان على درجة من الأهمية كبيرة ، وكان الضرر مما لا يتسامح فيه عادة ، يمكن ان يدرك العقل لزوم الاحتياط على وفقه ، ومنه يدرك

٤٩٩

رأي الشارع بإلزامه به ـ أعني الاحتياط ـ إبعادا للمكلف عن الوقوع فيما يبغضه.

وقد سبق ان قلنا ان للشارع ان يجعل الاحتياط للمحافظة على بعض التكاليف التي يعلم مبغوضية فعلها من قبل المكلف على درجة لا يريد وقوعها في الخارج بأية كيفية كانت ، كما هو الشأن في الدماء والفروج والأموال على قول.

وفي مثل هذا الحال صححنا جعل الاحتياط الشرعي من قبله ، وقلنا ان العقاب إذ ذاك ـ على تقدير مخالفة الاحتياط وعدم مصادفة الواقع ـ انما هو على التجرّي أو ما يعود إليه ـ بناء على حرمته ـ لا على مخالفة التكليف لعدم مصادفته الواقع كما هو الفرض.

وعلى هذا ، فقاعدة «وجوب دفع الضرر المحتمل» قائمة هنا ، ومنها يكتشف البيان الشرعي ، فتكون واردة على قاعدة «قبح العقاب بلا بيان واصل» إذ لا تبقى لها موضوعا ليرد الحكم العقلي عليه.

٢ ـ احتمال الضرر الأخروي ـ أي العقاب ـ.

وهذا الاحتمال لا يستتبع جعلا شرعيا للاحتياط على وفقه ، لبداهة أن كل ما يتصل بشئون الإطاعة والعصيان مما هو في طول التكاليف لا تكون أوامره ـ لو وجدت ـ من قبيل الأوامر المولوية ، لاستحالة صدور هذا النوع من الأوامر عنه.

وقد سبق أن تحدثنا في مبحث «دليل العقل» (١) عن أن بعض الأحكام العقلية لا تستتبع أوامر شرعية لوجود موانع عقلية عن ذلك ، وضربنا المثل بأوامر الإطاعة.

وما قلناه هناك نقوله هنا ، لأن احتمال العقاب ـ بل القطع به ـ لا يستطيع أن يوجه الشارع نهيا عن الوقوع فيه فضلا عن جعل الاحتياط ، كأن يقول لك : لا تقع في العقاب للزوم التسلسل الواضح ، بداهة ان مخالفة هذا النهي إما ان توجب عقابا فهي مردوع عنها ، وهذا الردع إن أوجبت مخالفته العقاب فهو مردوع عنه ،

__________________

(١) راجع : ص ٢٦٣ وما بعدها من هذا الكتاب.

٥٠٠